لاسلكيًّا
«أغنية كاسبر» في «كتابات مختارة»
•••
•••
قال السيد شينور وهو يسعل بقوة: «إنه شيء مضحك، هذا الأمر المتعلق بماركوني، أليس كذلك؟ لا يبدو أن أي شيء يشكل فارقًا بالنسبة إليه، حسبما قالوا لي — العواصف والتلال أو أي شيء؛ ولكن إذا كان هذا الأمر صحيحًا، فسنعرف قبل حلول الصباح.»
أجبته وأنا أخطو خلف طاولة البيع: «إنه صحيح بالطبع. أين السيد كاشيل العجوز؟»
«كان عليه أن يخلد للنوم بسبب إصابته بنوبة أنفلونزا. لقد قال إنك من المرجح جدًّا أن تزورنا.»
«أين ابن أخيه؟»
«يجهزُ الأشياء بالداخل. أخبروني أنهم، في آخر مرة جربوا فيها هذا الأمر، قد وضعوا القطب على سطح أحد الفنادق الكبرى هنا وأن البطاريات قد كَهربت كل إمدادهم من المياه، و…» ثم ضحك وأردف قائلًا: «إن السيدات قد صُعقن حينما استحممن.»
«لم أسمع بذلك أبدًا.»
«ما كان للفندق أن يُعلن عن الأمر، أليس كذلك؟ إنهم يحاولون الآن، وفقًا لما أخبرني به السيد كاشيل، إرسال الإشارات من هنا إلى بلدة بول، مستخدمين بطاريات أقوى من سابقاتها. ولكن، كما ترى، نظرًا لكونه ابن أخي المدير وما إلى ذلك (وكون الأمر سيُنشر في الصحف أيضًا) فلا يهم ما إذا كانوا سيُكهربون الأغراض في هذا المكان أم لا. هل ستتابع هذا الأمر؟»
«بالطبع، فأنا لم أرَ هذه اللعبة من قبلُ على الإطلاق. ألن تذهب لتنام؟»
«نحن لا نغلق قبل الساعة العاشرة مساءً في أيام السبت، كما أن الأنفلونزا منتشرة جدًّا في البلدة أيضًا وستأتينا عشرات من طلبات الوصفات الطبية قبل الصباح. إنني عادةً ما أنام على الكرسي هنا؛ فهذا أدفأ من القيام من الفراش كل يوم صباحًا. فالبرد قارس، أليس كذلك؟»
«إن الثلوج تتساقط بشدة. يؤسفني أنَّ سعالك قد صار أسوأ.»
«أشكرك. ليس لديَّ مشكلة كبيرة مع البرد، لكن الرياح هي ما تؤذيني بشدة.» سعل مرة أخرى سعالًا شديدًا ومتقطعًا، في حين دخلت سيدة عجوز للحصول على عقار الكينين الممزوج بالأمونيا. عَدَّلَ السيد شينور صوته وعاد للنبرة المهنية قائلًا: «لقد نفدت للتوِّ الزجاجات المعدَّة مسبقًا منه يا سيدتي، ولكن إذا انتظرتِ دقيقتين، فسأعدُّه لكِ، يا سيدتي.»
كنت قد اعتدت الذهاب إلى الصيدلية منذ فترة طويلة وتحولت معرفتي السطحية بمالكها إلى صداقة. كان السيد كاشيل هو من كشف لي عن الهدف من «جمعية الصيادلة» وعن مدى قوتها حينما ارتكب أحد الزملاء الكيميائيين خطأً في إعداد إحدى الوصفات الطبية التي كنت قد طلبتها وكذب ليغطي على تراخيه وإهماله، وحينما أُثير أمر كذبته ووُوجِهَ بخطئه بوضوح، رد برسائل جوفاء.
قال الرجل الرفيع ذو العينين الهادئتين بانفعال بعد دراسة الأدلة: «إنه عارٌ على مهنتنا. إن إبلاغك عنه لجمعية الصيادلة هو أفضل خدمة قدمتها للمهنة.»
فعلت ذلك، وأنا لا أعلم تبعات ما أفعله، وكانت النتيجة اعتذارًا حثيثًا كاعتذار شخص أمضى ليلته تحت تعذيب شديد. حازت جمعية الصيادلة على عظيم احترامي والسيد كاشيل على بالغ تقديري، وهو رجل مهني يتَّقد بالحماس ويقدِّس رسالته. لم يتفق مساعدَا السيد شينور حتى عودته من الشمال مع ما فعله السيد كاشيل على الإطلاق. قال: «إنهم ينسون، قبل كل شيء، أن من يقومون بتركيب ومزج الأدوية هم رجال طب، وأن سمعة الطبيب تعتمد عليهم؛ فهم يحملونها حرفيًّا بين أيديهم، يا سيدي.»
ربما لم يكن أسلوب السيد شينور على نفس القدر من التهذيب الذي يتمتع به العاملون بمتجر البقالة والمتجر الإيطالي الكبير المجاورَين، ولكنه كان يحب عمله الصيدلي بشدة ويُلِمُّ بكل تفاصيله. وحتى في وقت راحته، بدا أنه لم يكن يغادر عالم الأدوية الذي كان مولعًا به بشدة — كل ما يتعلق باكتشاف الأدوية، وإعدادها للتعبئة والنقل — إلا أن هذا قاده إلى اكتشاف هذا العالم بكل جوانبه وما يخصه حتى منتهاه، وقد التقينا حول هذا الموضوع وموضوع دستور الأدوية ونيكولاس كولبيبر، الذي يُعَدُّ أكثر الأطباء الموثوق فيهم.
بدأت أعلم بعض الأشياء عن بداياته وآماله شيئًا فشيئًا؛ عن والدته التي كانت معلمة في مدرسة بإحدى المقاطعات الشمالية، وعن أبيه الأصهب الذي كان صاحب إصطبل صغير لتأجير الخيول في كيربي مورز والذي مات حينما كان طفلًا، وعن الاختبارات التي اجتازها وعن صعوبتها المتزايدة والفائقة، وعن أحلامه الخاصة بامتلاك متجر في لندن، وعن كراهيته للمتاجر التعاونية التي تبيع السلع بأسعار بخسة، وعن موقفه الفكري تجاه الزبائن، وهذا هو الأمر الأكثر إثارة للاهتمام.
حدثني قائلًا: «تستطيع أن تُطوِّر طريقةً تخدمهم بها بكل حرص وأدب، كما آمُلُ، دون أن تُوقِف ما تفكِّر به. كنت أقرأُ كتاب كريستي «النباتات التجارية الجديدة» طوال هذا الخريف، وأستطيع أن أخبرك بأنه يحتاج إلى تركيز شديد. يمكنني أن أتذكر ما يقارب نصف صفحة من كتاب كريستي، ما دامت لا تدور بالطبع حول وصفة طبية، وفي نفس الوقت أبيع كل ما بنافذة العرض هذه مرتين دون أن أخطئ في حساب بنسٍ واحد. أما بالنسبة إلى الوصفات الطبية، فأعتقد أنني يمكنني أن أُرَكِّب الأنواع المألوفة منها وأنا شبه نائم.»
لأسباب خاصة بي، كنت مهتمًّا للغاية بتجارب ماركوني في بدايتها بإنجلترا، وقد كان من المتوقع من السيد كاشيل الذي يمتاز بالمراعاة الدائمة للآخرين — بعد أن تولَّى ابن أخيه الكهربائي إدارة المنزل بغرض تركيب أحد الأجهزة البعيد المدى — أن يدعوني، كما قلت، لرؤية النتيجة النهائية.
أخذت السيدة العجوز دواءها ورحلت، وأخذت أنا والسيد شينور نضرب بأقدامنا على الأرضية المُبَلَّطَة خلف طاولة البيع لنحافظ على شعورنا بالدفء. كان المتجر يبدو وكأنه منجم ماس باريسي نتيجةً للأضواء العديدة التي كانت تضيء أرجاء المكان؛ إذ كان السيد كاشيل يؤمِنُ بجميع طقوس مهنته؛ فقد كانت ثلاث أوعية زجاجية مبهرة تتألق، واحد أحمر والآخر أخضر والثالث أزرق — كانت من النوع الذي دفع روزاموند (بطلة القصة القصيرة «الوعاء الأرجواني» لماريا إيدجوورث) للتخلِّي عن حذائها في مقابل الحصول عليها — في نافذة العرض الزجاجية العريضة، وتعبَّأ الهواء بخليط من رائحة نبات السوسن، وأفلام كوداك، والفولكانيت، ومسحوق تنظيف الأسنان، والأكياس المعطرة، وكريم اللوز. زَوَّدَ السيد شينور موقد المتجر بالفحم، واستحلبنا أقراص الفلفل الأحمر الحريف وأقراص المنتول. ونتيجة للرياح الشرقية القاسية، خلت الشوارع من الناس، في حين كان يسير المارة القليلون وأعينهم شبه مغلقة. وبالمتجر الإيطالي الكبير المجاور، مال بعض حيوانات الصيد والطيور المكسوة بالريش الزاهي، المعلقة على خطاطيف، بفعل الرياح، وتدلت باتجاه الحافة اليسرى من إطار نافذة العرض خاصتنا.
قال السيد شينور: «يجب عليهم أن يضعوا هذه الحيوانات بالداخل بدلًا من أن يضرب بعضها بعضًا هكذا. ألا يجعلك هذا تشعر بالضيق الشديد؟ انظر إلى هذا الأرنب البرِّي العجوز! إن الرياح على وشك أن تنزع عنه فراءه.»
رأيت فراء بطن هذا الحيوان يتمزق ويطير والرياح تعصف به حتى ظهَر الجلد المائل للزُّرقة الذي يوجد تحته. قال السيد شينور وهو يرتعد: «بردٌ قارس. إنه لمن دروب الخيال الخروج في ليلة كهذه! أوه، ها هو السيد كاشيل الشاب.»
فُتِحَ باب المكتب الداخلي الذي يقع خلف طاولة البيع، ودخل رجلٌ نشيطٌ ذو لحية مدبَّبة وهو يفرك يديه.
تحدَّث قائلًا: «أريد القليل من ورق الألومنيوم، يا شينور.» وأضاف: «مساء الخير، أخبرَني عمي أنك قد تأتي.» كان هذا ما قاله لي، قبل أن أبدأ في توجيه أول سؤال له من بين مائة سؤال أخرى.
أجابني قائلًا: «لقد رتبت كل شيء. إننا فقط ننتظر حتى نتلقى اتصالًا من بلدة بول. اسمح لي بدقيقة. يمكنك أن تدخل وقتما شئت، ولكنني أفضِّل أن أكون بجانب الأجهزة. أعطني ورق الألمونيوم هذا، شكرًا.»
وبينما كنا نتحدث، دخلت فتاة إلى المتجر وكان واضحًا أنها ليست زبونة، فتغيَّر وجه السيد شينور وطريقته. انحنت بثقة على طاولة البيع.
«ولكنني لا أستطيع.» هكذا سمعته يهمس بتوتر، وقد توردت وجنتاه بلونٍ أحمر باهت وأشرقت عيناه وكأنها عثة مضيئة. ثم أضاف: «لا أستطيع، إنني وحدي هنا في هذا المكان.»
«لا، لست وحدك. مَن «هذا»؟ دعه يعتني بالمكان لمدة نصف ساعة. سيكون بعض المشي السريع مفيدًا لك. حسنًا، هيا الآن يا جون.»
«ولكنه ليس …»
«لا أكترث. أريدك أن تفعل ما أطلبه منك، سنتجول فقط حول كنيسة القديسة أجنيس. إذا لم تفعل …»
خطا إلى حيث كنت واقفًا في ظل طاولة البيع وبدأ يتمتم بالاعتذار حول شيء يخص إحدى الصديقات.
قاطعتْه قائلةً: «نعم. تولَّ أنت أمر المتجر لمدة نصف ساعة، هلَّا صنعت لي هذا الجميل؟»
كان لها صوت جزل وناعم يتناسب مع هيئتها.
أجبت قائلًا: «حسنًا، سأفعل. ولكنك من الأفضل أن ترتدي ملابس ثقيلة، يا سيد شينور.»
«أوه، سيفيدني بعض المشي السريع، سنتجول فقط حول الكنيسة.» وبينما كانا يخرجان معًا سمعته يسعل بشدة متألمًا.
أعدت تزويد الموقد بكمية كبيرة أخذتها باستهتار من فحم السيد كاشيل، فَحَلَّ بعض الدفء في المتجر. استكشفت العديد من الأدراج ذات المقابض الزجاجية التي كانت تصطف على الجدران وتذوقت بعض العقاقير المريبة، وصنعت شرابًا جديدًا قويًّا بمزج القليل من بذور الحبهان والزنجبيل المطحون وثاني كلوريد الإيثيلين والكحول المخفف، وملأت منه كأسًا قدمته إلى السيد كاشيل، الشاب الذي كان مشغولًا في المكتب الخلفي. ضحك ضحكةً مقتضبة حينما أخبرته أن السيد شينور قد خرج، إلا أن لفافة من السلك الضعيف استرعت انتباهه بالكامل ولم يكلمني؛ إذ كان مشتتًا بين البطاريات والقضبان. بدأ يُسمَعُ صوت البحر الهادر على الشاطئ كلما توقفت حركة المرور في الشارع. أعطاني بعد ذلك باختصار، ولكن بوضوح شديد، أسماء واستخدامات الآلات التي عَجَّت بها الطاولات والأرض.
سألته وأنا أرتشف شرابي من أحد الأكواب الزجاجية المُدَرَّجَة: «متى تتوقع تلقِّي الرسالة من بول؟»
«منتصف الليل تقريبًا، إذا سار كل شيء كما ينبغي. لقد ثبَّتنا جهاز البث ذا القطب على سطح المنزل. لا أنصحك باستخدام أي صنبور أو ما شابه الليلة. لقد صرنا موصَّلين بشبكة المواسير وستكون كل المياه مكهربة.» قص عليَّ مرة أخرى حكاية السيدات اللائي تكهربن بالفندق في وقت تثبيت جهاز البث الأول.
سألته قائلًا: «لكن ما هذا؟ الكهرباء خارج نطاق معرفتي بالكامل.»
«حسنًا، إذا كنت تعرف هذا، فستعرف شيئًا لا يعرفه أحد. إنه ما نسميه بالكهرباء، ولكن السحر، التجليات، الموجات الهيرتزية كلها تنكشف من خلال هذا الجهاز الذي نسميه بكاشف إشارات الراديو.»
التقط أنبوبًا زجاجيًّا لا يزيد سمكه عن سمك الترمومتر، به سلكان فضيان صغيران يكادان يتلامسان وبينهما كمية متناهية الصغر من الغبار المعدني. قال بفخر كما لو كان هو صانع هذه العجائب: «هذا كل شيء. هذا هو الشيء الذي سيكشف لنا عن «القُوى» — أيًّا كانت هذه القُوى — التي تعتمل عبر الفضاء، على بعد مسافات بعيدة.»
حينئذٍ، عاد السيد شينور وحده ووقف على السجادة يسعل بشدة حتى كاد قلبه أن ينفجر.
قال السيد كاشيل الشاب منزعجًا، مثلي تمامًا، من المقاطعة: «هذا ما تستحقه لكونك بمثل هذا الحُمق. لا عليك؛ لدينا الليل بطوله حتى نرى هذه العجائب وهي تتحقق.»
تشبَّث السيد شينور بطاولة البيع وهو يضع منديله على شفتيه، وحينما أزاح المنديل عن فمه، رأيت بقعتين لونهما أحمر فاتح.
قال لاهثًا: «حلقي … حلقي مجروح قليلًا من تدخين السجائر. أعتقد أنني سأجرب بعضًا من نبات الكبابة.»
«من الأفضل أن تأخذ بعضًا من هذا الشراب. كنت أحضره وأنا بالخارج.» أعطيته الشراب.
«هذا الشراب لن يجعلني ثملًا، أليس كذلك؟ فأنا ممتنعٌ عن شرب المسكرات تقريبًا، يا للعجب! إنه لشراب مريح وجيد.»
وضع الكأس الفارغ حتى يسعل مرة أخرى.
«بررر، ولكن كان الجو باردًا بالخارج! لا يهمني ما إذا كنت سأستلقي في قبري في ليلة كهذه. ألم تُصَب بالتهاب في الحلق من قبلُ بسبب التدخين؟» وضع المنديل في جيبه بعد أن نظر إليَّ نظرة سريعة.
«أوه، بلى، أحيانًا.» بينما كنت أتحدث أجبت، وأنا أفكر في مشاعر الرعب التي لا تُحتمل التي كانت ستنتابني إذا ما رأيتُ يومًا علامات الخطر الحمراء الزاهية هذه أسفل أنفي. سعل السيد كاشيل الشاب بصوت منخفض من بين بطارياته معلنًا عن استعداده لمواصلة تفسيراته العلمية، ولكنني كنت ما زلت أفكر بالفتاة ذات الصوت الجزل والفم المرسوم، التي امتثلتُ لطلبها بتولِّي أمر المتجر. وخطر لي أنها كانت تشبه على نحو بعيد، الفتاة المثيرة التي كانت صورتها موضوعة على إعلان ذي إطار ذهبي لأحد أنواع العطور، والتي ألقت عليها الزجاجة الحمراء بنافذة العرض وهجًا زاد من سحرها الآثم. رأيت عيون السيد شينور تميل ناظرةً في نفس الاتجاه، واستدرت لأتأكد من ذلك، فأدركت بالغريزة أن هذا الإعلان المتوهج كان بمنزلة شيءٍ مقدَّس بالنسبة إليه. سألته قائلًا: «ماذا تتناول لعلاج … سعالك؟»
«حسنًا، أنا لا أُومن كثيرًا بفاعلية الأدوية المسجَّلة، على عكس من يأتون إليَّ لشرائها، ولكن توجد سجائر معالجة لمرض الربو وكذلك كرات التبخير العلاجية. لأصدُقك القول، إذا كنت لا تكره رائحةَ كُراتِ تبخيرِ كاتدرائيةِ بلوديت العلاجية التي تشبه رائحة البخور على نحو كبير، كما أظن، ورغم أنني لا أتبع طائفة الروم الكاثوليك، إلا أنها تخفف ألمي أكثر من أي شيء آخر.»
«دعنا نجربها.» أنا لم أسرق صيدلية من قبلُ؛ لذا كنت حذرًا. أخرجنا كرات التبخير العلاجية — وهي عبارة عن أقماع بنِّية صمغية من البنزوين — وأشعلناها ثم وضعناها أسفل إعلان العِطر، فخرجت منها أبخرة حلزونية زرقاء رفيعة.
رد السيد شينور على كلامي قائلًا: «بالطبع، ندفع من مالنا الخاص مقابل ما نأخذه من محتويات المتجر لاستخدامنا الشخصي. فعملية جرد المخزون في مهنتنا هذه هي نفسها تقريبًا التي يقوم بها تُجار المجوهرات، ولا يمكنني أن أقول أكثر من ذلك. ولكننا سنحصل عليها — مشيرًا إلى صندوق كرات التبخير العلاجية — بسعر الجملة.» كان من الواضح أن تبخير صورة الفتاة المثيرة المبهجة ذات الثغر الباسم، التي تتمازج فيها سبع درجات من الألوان، من طقوسه الثابتة التي كانت تُكلفه بعض المال.
«ومتى سنغلق المتجر؟»
«نبقى على هذا النحو طوال الليل؛ فمالك المتجر، السيد كاشيل العجوز، لا يؤمن بالأقفال والمصاريع مقارنة بالمصابيح الكهربائية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا يجذب الزبائن إلينا. سأجلس هنا على المقعد بجوار الموقد وأكتب رسالة، إذا كنت لا تمانع. فالكهرباء ليست من موضوعاتي المفضلة.»
شخر السيد كاشيل الشاب بالداخل، في حين استقر السيد شينور على مقعده الذي وضع فوقه بطانية نمساوية مصنوعة من الخيش ذات لون أحمر وأسود وأصفر، فبدت وكأنها غطاء طاولة أكثر منها بطانية. بحثت وسط نشرات الأدوية المسجَّلة عن شيء أقرؤه، ولكنني حينما لم أجد سوى القليل، عدت إلى تصنيع الشراب الجديد. كان المتجر الإيطالي الكبير قد أنزل حيوانات الصيد المعلقة خاصته وأغلق أبوابه. وعبْر الشارع عكست المصاريع البيضاء أضواء مصابيح الغاز على هيئة بقع من الضوء البارد، وبدا الرصيف الجاف خشنًا مُقشَعِرًّا تحت تأثير عصف الرياح الوحشية، ويمكننا سماع صوت الشرطي من بعيد وهو يشبك بذراعَيْه على صدره ليُبقي نفسه دافئًا. أما بالداخل، فقد نافست رائحة بذور الحبهان وثاني كلوريد الإيثيلين تلك الخاصة بكرات التبخير العلاجية ومجموعة أخرى من العقاقير والعطور وأنواع الصابون. وألقت أضواء مصابيحنا الكهربية، التي كانت موضوعة أسفل نافذة العرض أمام أوعية روزاموند الزجاجية المنتفخة من الوسط، بثلاثة ظلال مخيفة من الضوء الأحمر والأزرق والأخضر التي انعكست على المقابض متعددة الجوانب لأدراج العقاقير، وقنينات العطور الزجاجية المزخرفة، والأجزاء الوسطى من القوارير البراقة، وكوَّنت أضواءً متلألئة متعددة الألوان. وتدفَّق الضوء على الأرضية المكسوة بالبلاط الأبيض مكونًا بقعًا ضوئية فائقة الجمال، وتناثرت ذرات الضوء على حواجز طاولة البيع المصنوعة من النيكل والفضة، وحوَّلت ألواح طاولة البيع المصنوعة من خشب الماهوجني المصقول إلى ما يشبه سطحًا من الرخام المُعَرَّق المتشابك: ألواح من الرخام السُّمَّاقي والمَلكيت. فتح السيد شينور أحد الأدراج وقبل أن يشرع في الكتابة أخرج رزمة صغيرة من الرسائل. من مكاني بجانب الموقد، تمكنت من رؤية الحواف ذات النتوءات المدورة للورق والحروف المنقوشة المبهرة في ركنها، وتسللت رائحة خشب الصندل القوية إلى أنفي. وعند اطلاعه على كل رسالة، كان يستدير لينظر إلى فتاة إعلان العِطر ويلتهمها بعينين بالغتَي اللمعان في اشتهاء. كان قد جذب البطانية النمساوية ووضعها فوق كتفه، وكان يبدو، أكثر من أي وقتٍ مضى، في وسط تلك الأضواء المتصارعة تجسيدًا للعُثَّة: عثة النمر، بحسب اعتقادي.
وضع رسالته في ظرف وختمها بحركات آلية متيبسة ثم وضعها في الدرج. أدركت حينئذٍ وقْع الصمت الذي خيَّم على مدينة عظيمة تغط في النوم؛ الصمت الذي خيم حتى على أصوات الأمواج التي تنكسر على الصخور بطول شاطئ البحر؛ هدوء كثيف واخز لحياة دافئة تحقق في وقته المحدد، وتحركتُ دون وعي في أرجاء المتجر المتلألئ كما يتحرك المرء في غرفة مرضى. كان السيد كاشيل الشاب يضبط بعض الأسلاك التي كانت تُصدر من وقت لآخر صوت فرقعة الشرر الكهربية الشديد الذي كان يشبه صوت طقطقة المفاصل. وفي الطابق العلوي، كنت أستطيع سماع صوت سعال عمه المريض طريح الفراش في الوقت القصير الذي كان يُفتَحُ فيه باب غرفته قبل أن يُغلَق بسرعة.
قلت حينما أصبح الشراب جاهزًا كما ينبغي: «تفضَّل. خذ القليل من هذا، يا سيد شينور.»
ارتعش في كرسيه وهو يجفل بألم، ومد يده ليحصل على الكوب. تجمعت رغوة من الخليط ذي اللون الأحمر الداكن، على سطح الشراب.
قال فجأة: «إنها تبدو، إنها تبدو — هذه الفقاعات — وكأنها عُقد من اللؤلؤ الذي يغمز لك، تمامًا مثل اللؤلؤ الذي يُزيِّن رقبة هذه الفتاة.» استدار مرة أخرى نحو صورة الإعلان الذي كانت تظهر فيه الفتاة المرتدية مشدًّا رماديًّا، التي راق لها أن ترتدي كل لآلئها حتى قبل أن تنظف أسنانها.
حدثته قائلًا: «ليس سيئًا، أليس كذلك؟»
«ماذا؟»
أَخَذَ ينظر إليَّ بعينين زائغتين، وعندما حدقت به، أحسست من الاتساع المتسارع لحدقتَي عينيه أنهما قد خلتا من أي معنًى ووعي. وفقد جسده قوَّته الواضحة، وغاص في مقعده واستقرَّ ذقنه على صدره، وارتخت يداه أمامه، وجلس مستكينًا بعينين مفتوحتين دون أن يُحرِّك ساكنًا.
قلت وأنا أحمل الشراب الطازج للسيد كاشيل الشاب: «أخشى أنني أنا من أوصلت شينور إلى هذه الحالة. ربما كان هذا تأثير ثاني كلوريد الإيثيلين.»
ألقى السيد كاشيل ذو الذقن المدبَّب نظرة خاطفة مشفقة عليه ثم قال: «أوه، إنه بخير. يتعرَّض المصابون بالسلِّ لفقدان الوعي عند تناول مثل هذه الجرعات في الكثير من الأحيان. إنه الإعياء … أنا لست متفاجئًا من هذا. أعتقد أن الشراب سيفيده، إنه عظيم.» احتسى حصته من الشراب بامتنان وأردف قائلًا: «حسنًا، كما كنت أقول — قبل أن يقاطعنا — عن كاشف إشارات الراديو الصغير هذا؛ هذه الحفنة الصغيرة من الغبار، كما ترى، هي برادة النيكل. تنتقل الموجات الهيرتزية، كما ترى، عبر الفضاء من المحطة التي ترسلها، وتتجمع كل هذه الجُسيمات الصغيرة معًا — أي، تتحد، هكذا نَصِفها — فقط طوال المدة التي يمر فيها التيار من خلالها. والآن، من المهم أن نتذكر أن هذا التيار تيار مستحث. هذا، وتوجد أنواع كثيرة من الحَثِّ …»
«أجل، ولكن ما هو الحَث؟»
«يصعب إلى حدٍّ ما شرح هذا الأمر بطريقة غير تقنية، ولكنه باختصار حينما يمر تيار كهربي عبر سلك، تكون هناك مغناطيسية كبيرة حول هذا السلك، وإذا وضعت سلكًا آخر موازيًا له — وداخل ما نسميه مجاله المغناطيسي — ففي هذه الحالة، سيصير السلك الثاني مشحونًا بالكهرباء أيضًا.»
«من تلقاء نفسه؟»
«من تلقاء نفسه.»
«دعنا إذن نرى ما إذا كنت قد فهمت الأمر على النحو الصحيح. على بعد أميال، في بول، أو أينما كان …»
«سيحدث ذلك في أي مكان في غضون عشر سنوات من الآن.»
«لديك سلك مشحون …»
«مشحون بالموجات الهيرتزية التي تهتز، لنَقُلْ، حوالي مائتين وثلاثين مليون مرة في الثانية.» حرك السيد كاشيل الشاب سبابته على نحو ملتوٍ بسرعة عبر الهواء.
«حسنًا، هناك سلك مشحون في بول يرسل هذه الموجات إلى الفضاء، ثم هناك سلكك هذا الموجه إلى الخارج نحو الفضاء — والموجود على سطح المنزل — الذي يُجرَى شحنه على نحو غامض من قبل هذه الموجات الآتية من بول …»
«أو من أي مكان آخر، ولكنه تصادف فقط أن تكون من بول الليلة.»
«وتُشَغِّلُ هذه الموجات كاشف إشارات الراديو تمامًا مثل جهاز التلغراف العادي الذي يُستخدم في مكاتب التلغراف، أليس كذلك؟»
«لا! هنا يخطئ العديد من الناس. لن تكون الموجات الهيرتزية قوية بما يكفي لتُشغِّل جهاز مورس ضخمًا وثقيلًا كجهازنا هذا. يمكنها فقط أن تجعل ذرات الغبار تتحد، وبينما يحدث هذا — لمدة قصيرة ليسجل كتابة النقطة، ولمدة أطول ليسجل كتابة الشرطة — يمكن للتيار الذي تولِّده هذه البطارية؛ البطارية المنزلية (ووضع يده على البطارية) أن يمر عبر طابعة مورس ليسجل النقطة أو الشرطة. دعني أوضح الأمر أكثر. هل تعرف شيئًا عن البخار؟»
«قدرًا ضئيلًا جدًّا، ولكن تابع حديثك.»
«حسنًا، كاشف إشارات الراديو مثل صمام التحكم في توزيع البخار. يمكن لأي طفل أن يفتح صمامًا ويُشغِّل محركًا بخاريًّا لأن تحريكه للصمام بيده يسمح بدخول البخار الأساسي، أليس كذلك؟ والآن هذه البطارية المنزلية المهيأة للطباعة هنا هي البخار الأساسي، وكاشف إشارات الراديو هو الصمام، وهو مُعَدٌّ ليكون قيد التشغيل دائمًا، والموجة الهيرتزية هي يد الطفل التي تُشغِّله.»
«فهمت، هذا مذهل.»
«مذهل، أليس كذلك؟ وتذكَّرْ أننا فقط في البداية، ولن يكون هناك شيء لن نستطيع فعله في غضون عشر سنوات من الآن. أريد أن أعيش لأرى ذلك، يا إلهي، أريد ذلك حقًّا وأريد أن أراه يتطور!» نظر عبر الباب إلى شينور الذي كان يتنفس بهدوء في مقعده، وأردف قائلًا: «يا له من مسكين! ويريد أن يظل برفقة فاني براند!»
«فاني «ماذا»؟» بدا الاسم مألوفًا وذكَّرني بشيء، شيء له علاقة بمنديل ملطخ وبكلمة «شرايين».
«فاني براند؛ الفتاة التي جعلتك تتولى أمر المتجر.» ضحك وأكمل قائلًا: «هذا كل ما أعرفه عنها. لا أفهم إطلاقًا ما يراه فيها شينور جذابًا ولا ما يجذبها إليه هي الأخرى.»
قلت بإصرار: «ألا «يمكنك» معرفة ما يجذبه فيها؟»
«أوه، بلى، إذا كان «هذا» هو ما تعنيه؛ فهي فتاة رائعة ومكتنزة ومغرية وما إلى ذلك. أعتقد أنه متيم بها لهذا السبب. ولكنها لا تناسبه. حسنًا، هذا لا يهم. يقول عمي إنه سيموت قبل نهاية العام. لقد ساعده شرابك على نَيل قسط جيد من النوم على أي حال.» لم يتمكن السيد كاشيل الشاب من رؤية وجه السيد شينور الذي كان متجهًا جزئيًّا نحو الإعلان.
زودت الموقد بالفحم مرة أخرى؛ إذ بدأت الغرفة تصبح باردة، وأشعلت كرة تبخير ثانية. لم يحرك السيد شينور المستقر على مقعده ساكنًا، وأخذ ينظر إليَّ ويتفحصني بعينين واسعتين جامدتين مثل عينَيْ أرنب بري ميت.
قال السيد كاشيل الشاب حينما خطوت إلى الخلف: «لقد تأخروا في بول. سأرسل إليهم رسالة.»
ضغط على أحد المفاتيح في ظلام شبه تام، فقفزت شرارة بصوت فرقعة قوية بين المقبضَين النحاسيَّين، ثم سيل من الشرر، ثم شرارة واحدة أخرى.
قال السيد كاشيل الشاب: «عظيم، أليس كذلك؟ «هذه» هي القوة — قوتنا المجهولة — التي تركل وتصارع حتى تتحرر. ها هي تركل وتركل وتركل في قلب الفضاء، لم أتغلب أبدًا على الشعور بالغرابة حينما أُشَغِّلُ جهاز إرسال — الموجات التي تسافر في الفضاء، كما تعلم. «تي آر» هي رموز رسالتنا، ومن المفترض أن يُجيبوا علينا من بول بالرموز «إل إل إل».»
انتظرنا دقيقتين، ثم ثلاثًا، ثم خمسًا. وفي قلب هذا الصمت الذي لم يقطعه سوى الصوت المنتظم لارتطام الأمواج، سمعت صوت الحبال التي تهزها الريح بقوة على سطح المنزل، فتطرق على جهاز البث ذي القطب.
«ما زالوا غير مستعدين في بول. سأظل هنا وسأناديك حينما يكونون مستعدين.»
عدت إلى المتجر ووضعت كأسي على اللوح الرخامي بلامبالاة، فأصدرت صوت صلصلة. وبينما كنت أفعل ذلك، وقف شينور على قدميه وعيناه مثبتتان مرة أخرى على الإعلان الذي كانت تتحمم فيه السيدة الشابة في ضوء الوعاء الأحمر الذي ألقى ظلًّا ورديًّا مصطنعًا على لآلئها. تحركت شفتاه دون توقف، فتقدمت بالقرب منه حتى أسمعه. قال: «وألقى … وألقى … وألقى.» كرر هذا وارتسمت بحدَّة على كل قسمات وجهه أمارات ألمٍ ملغز.
خطوت إلى الأمام مندهشًا، ولكنه كان حينئذٍ قد وجد الكلمات ونطق بها بملء فمه وبكل وضوح:
وألقى بظلالٍ حمراء دافئة على نهدَيْ مادلين اليانعين.
غادر الألم أساريره وعاد بخفة إلى مكانه وهو يفرك يديه.
على الرغم من أننا قد تناقشنا عدة مرات بغرض التسلية في القراءة والمسابقات التي تقدم جوائز، فإنني لم يخطر ببالي قط أن السيد شينور قد سبق له قراءة شعر كيتس أبدًا، أو أنه يمكنه الاقتباس منه بصورة ملائمة على الإطلاق. كان هناك على أي حال ظلال للزجاج الملون على الصدر المرفوع للسيدة التي تظهر في الصورة المصقولة بشدة التي من الممكن — إذا أطلقنا العنان للخيال — أن تكون هي من قد ألهمته بيت الشعر الذي نطق به، وذلك كما تذكرنا الصور الحجرية الملونة الرديئة، وإن لم تصح المقارنة، ببعض اللوحات الزيتية الرائعة. على ما يبدو، المساء وشرابي والوحدة قد حولت السيد شينور إلى شاعر. جلس مرة أخرى وكتب بخفة على ورق رسائله الرديئة وشفتاه ترتعشان.
أغلقتُ باب المكتب وتحركت خلفه. لم يُبدِ أي إشارة بأنه قد رأى أو سمع أي شيء. نظرت من فوق كتفيه وقرأت بين الكلمات والجمل غير المكتملة والشطب العنيف ما يلي:
رفع رأسه بحدة وعبس باتجاه المصاريع البيضاء لمتجر الطيور التي كانت تظهر بالخارج أمام نافذتنا. ثم كتب بيتًا كاملًا واضحًا يقول:
تحركت رأسه على نحوٍ آليٍّ يمينًا باتجاه الإعلان حيث كانت تفوح الرائحة الكريهة العفنة لكرة تبخير كاتدرائية بلوديت العلاجية. نخر وأخذ يكتب:
قال السيد كاشيل بحذر من المكتب الداخلي وكأنه في حضرة أرواح: «اصمتا! هناك شيءٌ يأتي من مكان ما، ولكنه ليس من بول.» سمعتُ صوت فرقعة الشرر الكهربية وهو يضغط على مفاتيح جهاز الإرسال. وفي دماغي، شعرت بشيء ما يفرقع أيضًا، أو قد يكون شعر رأسي، ثم سمعت صوتي الأجش يهمس بقوة قائلًا: «هناك شيءٌ يأتي من مكان ما إلى هنا أيضًا، يا سيد كاشيل. دعني وشأني حتى أخبرك.»
«ولكنني ظننت أنك قد أتيت لترى هذا الشيء العجيب، يا سيدي.» هكذا قال بسخط في النهاية.
«دعني وشأني حتى أخبرك. اصمت.»
راقبت وانتظرت. وتحت اليد الجافة ذات العروق الزرقاء لشينور المسكين، ظهرت هذه الجملة جليَّةً ودون تعديل:
«وروحي الضعيفة ترفض التفكير كيف أن الموتى لا مفر لهم من التخشب.» ارتعش وهو يكتب، وأكمل:
وهم يقبعون تحت الأرض أسفل فناء الكنيسة.
ثم توقَّف، ووضع القلم، ومال إلى الخلف.
للحظة دامت وكأنها نصف دهر، دار المتجر أمامي في دوامة ملونة بدرجات ألوان قوس قزح، تأملت بداخلها وعبرها روحي بتجرد ووجدتها تصارع وهي يتملكها الخوف. ثم شممت رائحة السجائر القوية التي تفوح من ملابس السيد شينور وسمعت صوت تنفسه المتحشرج الذي كان يشبه صوت البوق المكسور. كنت ما زلت في مكاني ألاحظ ما يجري، كما يراقب المرء طلقة البندقية وهي تتجه عبر مدى هدفها، وأنا شبه محني، واضعًا يديَّ على ركبتَيَّ ورأسي على بُعد بضع بوصات من البطانية ذات اللون الأسود والأحمر والأصفر التي كان يضعها حول كتفه. كنت أهمس مشجعًا ذاتي الأخرى، على ما يبدو، وأتفوه بجملٍ بالطريقة التي ينطق بها الناس الكلام وهم يحلمون.
«إن كان قد قرأ لكيتس، فهذا لا يُثبت شيئًا، وإن كان لم يفعل، فتطابق الأسباب «يجب» أن يؤدي إلى تطابق النتائج؛ لا مفر من هذا القانون. يجب أن «تكون» ممتنًّا أنك تعرف قصيدة «عشية عيد القديسة أجنيس» دون الاطلاع على الكتاب المنشورة فيه، لأنه نظرًا للظروف: فاني براند، على سبيل المثال، التي تُعتبر المفتاح لحل اللغز والتي تُشبه تقريبًا هيئة حبيبة كيتس «فاني براون»، وبأخذ بقع الدم الشرياني الزاهية التي لطخت المنديل بعين الاعتبار والتي كنت تفكر فيها متحيرًا لتوِّك بالمتجر، وبوضع تأثير البيئة المهنية — الذي يتضاعف هنا على نحو مثالي تقريبًا — في الحسبان، فالنتيجة منطقية وحتمية، تمامًا كحتمية عملية الحَث الكهربي.»
ولكن الجزء الآخر من روحي كان ما زال رافضًا للتعزية؛ فقد كان ينكمش رعبًا في إحدى الزوايا الصغيرة وغير الملائمة، على مسافة هائلة مني.
بعد ذلك وجدت أنني قد عدت شخصًا واحدًا مرة أخرى؛ كانت يداي لا تزالان تقبضان على ركبتَيَّ، وعيناي مثبتتان على الصفحة التي أمام السيد شينور. وكما يقبلُ الحالمون بثورة الطبيعة وببعث الموتى ويقدمون لها تفسيرات، مستخدِمين مقتطفات من ترنيمة المساء أو من جدول الضرب، فقد قبلت أنا أيضًا بالحقائق التي لا بد أن أشهدها، أيًّا ما تكون، ووضعت نظرية منطقية ومعقولة بالنسبة إليَّ، تفسرها جميعًا. لا، بل قد كنت أسبق حقائقي نفسها وأنا كلي ثقة بأنها ستناسب نظريتي. وجُل ما أتذكره الآن من هذه النظرية التاريخية هو ما يلي: «إذا كان قد قرأ لكيتس، إذن فهو تأثير ثاني كلوريد الإيثيلين، وإذا لم يفعل، إذن فهو تأثير إما البكتيريا العصوية، أو الموجات الهيرتزية للسل، بالإضافة إلى تأثير فاني براند والوضع المهني الذي — اقترانًا بالتيار الأساسي للاوعي الذي تشترك فيه البشرية بأكملها — قد نتج عنه نسخة مستحثة ومؤقتة من كيتس.»
عاد السيد شينور لعمله وأخذ يمحو ويعيد الكتابة بخفَّة كما كان يفعل من قبلُ. رمى اثنتين أو ثلاثًا من الأوراق الفارغة بعيدًا، ثم كتب وهو يغمغم:
الدخان الضعيف الذي يتصاعد من الشمعة.
«لا.» هكذا غمغم، ثم أردف قائلًا: «الدخان الضعيف … الدخان الضعيف … الدخان الضعيف، ماذا أيضًا؟» دفع ذقنه إلى الأمام نحو الإعلان الذي كانت تلفظ أسفله المبخرة ما تبقَّى من الأنفاس الأخيرة لكرة تبخير كاتدرائية بلوديت العلاجية وقال: «آه!» ثم همَّ يكتب بارتياح:
الدخان الضعيف الذي يموت في ظل الليل البارد.
كان من الواضح أن قوافي أبيات الشعر قد استحوذت عليه؛ فقد أخذ يكتبها ويعيد كتابتها العديد من المرات. تلمَّس الإلهام من الإعلان بالنظر إليه مرة أخرى وكتب البيت الذي كنت قد سمعته من قبلُ دون أن يعدِّله:
وألقى بظلالٍ حمراء دافئة على نهدَيْ مادلين اليانعين.
كانت الكلمة التي استُخدمت في القصيدة الأصلية حسبما أتذكر هي «الجميلين»، وهي كلمة مبتذلة، بدلًا من «اليانعين»، ووجدت نفسي أومئ موافقًا، على الرغم من أنني كنت أدرك أن محاولة إعادة إنتاج البيت الأصلي: «دخانها الضعيف مات في ضوء القمر الشاحب» كانت فاشلة.
وتبِع هذا بدون توقُّف عشرة أو خمسة عشر سطرًا من النثر الخالي من الصور الجمالية، الذي تضمَّن اعتراف هذه الروح الصادقة بتوقها الجسدي لمحبوبتها، والذي يُعَدُّ كلامًا خارجًا، إن جاز لنا أن نصفه بذلك، وغير أخلاقي، ولكنه إنساني على نحو مفرط؛ المادة الخام، كما بدا لي في تلك الساعة وفي ذلك المكان، التي نسج كيتس منها المقطع الشعري السادس والعشرين والسابع والعشرين والثامن والعشرين من قصيدته. من المؤسف أنني لم أشهد هذا التجلِّي المُلهِم، ولكن مخاوفي تبخَّرت مع دخان كرة التبخير.
همهمت قائلًا: «هذه هي! هذه هي الطريقة التي نُظِمَت بها الأبيات! هيا! اكتبها يا رجل، اكتبها!»
عاد السيد شينور لاستخدام الأبيات غير المنظومة التي تُقَفَّى فيها كلمة «جمال» مع رغبته في النظر إلى «ثوبها الخالي». التقط ثنية من البطانية الناعمة المبهجة وفردها على يد واحدة ومسح عليها بحنان مطلق وفكَّر وغمغم وخطَّ كلمات متقطعة لم أتمكن من قراءتها، وأغمض عينيه بتكاسل وهز رأسه وأسقط ما كان ممسكًا به. هنا وجدت نفسي مخطئًا؛ إذ إنني لم أتمكن قبل ذلك من رؤية (مثلما أرى الآن) كيف أن البطانية النمساوية ذات اللون الأحمر والأسود والأصفر قد لونت أحلامه.
وضع قلمه بعد بضع دقائق ووضع ذقنه على يده وتأمَّل المتجر بعينين ألمعيتَين ومستغرقتين، وألقى بالبطانية ونهض ومر أمام صف من أدراج العقاقير، وقرأ الأسماء المدوَّنة على البطاقات بصوت عالٍ. وحينما عاد إلى مكانه، أخذ من مكتبه كتاب كريستي «النباتات التجارية الجديدة» وكتاب كولبيبر القديم الذي كنت قد أعطيته إياه، وفتحهما ووضعهما بعضهما بجانب بعض بأسلوب البائع واختفت كل آثار العاطفة من وجهه، ثم قرأ من أحدهما ثم من الآخر، ثم توقَّف واضعًا القلم خلف أذنه.
قلت في نفسي: «تُرى … ما الرائعة التي ستخرج منه الآن؟»
قال أخيرًا من أسفل جبينه المجعد: «المَن … المَن … المَن؛ هذا هو ما أردته. جيد! والآن! والآن! جيد! جيد! أوه، أقسم أن هذا جيد!» ارتفع صوته وتحدَّث بملء فمه دون تلعثم قائلًا:
كرَّرها مرة أخرى مستبدلًا كلمة «أَرَقَّ» بكلمة «أنعَمَ» في البيت الثاني، ثم كتبها دون أن يعدِّل أي شيء، ولكن هذه المرة (التي لم تغِب فيها عن عيني التي تركزت عليه أي كلمة أو جرة قلم) استبدل بها بعد أن أعاد التفكير مرة أخرى كلمة «أَلْيَنَ» التي أرى أنها اختيار جيد. وهكذا كتبها كما كانت مكتوبة في الكتاب الأصلي تمامًا.
مرت ريحٌ صرصرٌ عبْر الشارع، وفي أعقابها سرَى صوتُ دويِّ تدفُّق المطر.
بعد أن صمت لبرهة وهو مبتسم — وهو ما كان يحق له تمامًا — بدأ في الكتابة من جديد وقذف الورقة الأخيرة من فوق كتفه كما كان يفعل دائمًا:
ثم كتب نثرًا: «إنه صباحٌ باردٌ للغاية، تحمل الرياح معها فيه المطر والثلوج، سمعت صوت الثلوج يضرب على زجاج النافذة بالخارج وفكرت فيكِ يا حبيبتي. أنا دائمًا ما أفكر فيكِ. أتمنى لو كنا نستطيع الهروب كحبيبين في قلب العاصفة والوصول لهذا الكوخ الصغير الذي يطل على البحر الذي كنا نفكر فيه دائمًا يا حبيبتي العزيزة؛ إذ يمكننا حينها أن نجلس ونتأمل البحر أسفل نوافذنا. سيكون عالمنا السحري، عالم لنا وحدنا … بحرٌ سحريٌّ … بحرٌ سحريٌّ …»
توقَّف ورفع رأسه وأنصت. ارتفعت نغمة دندنة القناة التي تمتد بطول شاطئ البحر، والتي كنا نقضي فيها وقتًا طويلًا في صحبة أحدنا الآخر حتى سُمِعَ الصوت المفاجئ لارتفاع موجة كاملة، الذي يشير إلى تغيُّر حال البحر من الانحسار إلى الفيض. ضَرب الموجُ وكأنه صوت وقع أقدام جنود يبدلون خطوتهم — هذا الإيقاع المتجدد للبحر — وملأ آذاننا التي اعتادته حتى لم يعد ملحوظًا.
نخر مرة أخرى بجهد وعض على شفته السفلى. جفَّ حلقي، إلا أنني لم أجرؤ على ابتلاع ريقي حتى أُرطبه، خوفًا من أن أكسر التعويذة التي كانت تُقَرِّبُهُ شيئًا فشيئًا من منتهى التجلي الذي لم يصل إليه سوى اثنين من بني آدم. تذكروا أنه وسط الملايين من الأبيات الشعرية التي أُنشدت لا يوجد سوى خمسة — خمسة أبيات صغيرة — يمكن للمرء أن يقول عنها: «إنها تُعَدُّ سحرًا خالصًا، وتقدِّم رؤًى جليَّة. أما الباقي، فمجرد شعر.» وقد كان السيد شينور يتنقل بين هذين الأمرين ببراعة!
عاهدت نفسي بألا أسمح لأي خاطرة من خواطري اللاشعورية أن تؤثِّر على هذه الروح المسلوبة الإرادة، وحاولت التركيز قدر ما استطعت على الأبيات الثلاثة التالية، وأخذت أكررها وأكررها في نفسي:
ولكن على الرغم من اعتقادي بانشغال عقلي تمامًا على هذا النحو، فإن كل جوارحي كانت معلقة بما تكتبه يده الجافة النحيلة، ذات الأصابع التي اصطبغت باللون البني بسبب المواد الكيميائية ودخان السجائر.
نوافذنا تطل على الزَّبَدِ المُهلك.
هكذا كتب بعد كتابة العديد من الجمل المتقطعة غير المكتملة، ثم أكمل:
وهنا ارتسمت أمارات القلق المتزايد على وجهه، وذلك الإحساس بالفقد الذي رأيته لأول مرة حينما سيطرت عليه القوة المجهولة، ولكن هذه المرة كان الألم أشد عشرة أضعاف وكان يزداد كما يرتفع الزئبق في مقياس الحرارة. لقد أضاء وجهه من الداخل حتى شعرت أن هذه الروح التي لا تخطئ العين عذاباتها، يجب أن تقفز خارجةً من بين فكَّيه غير قادرة على تحمُّل ما ألَمَّ بها من ألَمٍ. سالت قطرة عرق من جبهتي نزولًا إلى أنفي ثم سقطت متناثرة على ظهر يدي.
ارتعد كل جزء فيه؛ من رأسه حتى أخمص قدميه — من نخاع عظامه لباقي أجزاء الجسم — ثم قفز ناهضًا على قدميه ورفع ذراعيه وانزلق بالكرسي عبر الأرضية المُبَلَّطَة مُصدِرًا صريرًا، ثم ارتطم بالأدراج خلفه، ووقع هو وأحد الأوعية. انحنيت دون تفكير لأعيده كما كان.
بينما كنت أنهض، كان السيد شينور يتمطى ويتثاءب براحة.
تحدَّث قائلًا: «لقد غفوتُ قليلًا. كيف أوقعتُ الكرسي هكذا؟ يبدو أنك …»
أجبته قائلًا: «لقد أفزعني صوت سقوط المقعد؛ فقد كان مفاجئًا للغاية في وسط هذا الهدوء.»
كان السيد كاشيل الشاب صامتًا باستياء خلف باب مكتبه المغلق.
قال السيد شينور: «لا بد أنني كنت أحلُمُ.»
أجبته: «نعم. بالحديث عن الأحلام لقد … لقد لاحظت أنك كنت تكتب … قبل …»
تورَّد وجهه خجلًا.
«كنت أريد أن أسألك ما إذا كنت قد قرأت من قبلُ أي شيء لرجل يُدعى كيتس.»
«أوه! ليس لديَّ الكثير من الوقت لقراءة الشعر، وأكاد أجزم أنني لا أتذكر هذا الاسم على وجه التحديد. هل هو كاتب مشهور؟»
«نسبيًّا. ظننت أنك قد تعرفه لأنه كان الشاعر الوحيد الذي كان يعمل صيدلانيًّا، والذي يُطلَق عليه لقب شاعر العُشَّاق.»
«حقًّا! لا بد أن أقرأ له. ما المواضيع التي يكتب عنها؟»
«الكثير من المواضيع. إليك جزء مما كتبه قد يثير اهتمامك.»
حينئذٍ كررتُ بدقة البيت الذي تلفَّظ به مرتين وكتبه مرة واحدة قبل أقل من عشرة دقائق مضت.
«أوه! يمكن لأي شخص أن يرى أنه كان صيدلانيًّا من السطر الذي كتبه عن الصبغات والأشربة. إنه تكريم جميل لمهنتنا.»
قال السيد كاشيل الشاب بأدب وبرود وهو يفتح الباب قليلًا: «أنا لا أعلم إن كنت لا تزال مهتمًّا بتجاربنا التافهة. ولكن إن كان هذا هو الحال …»
جذبته جانبًا وقلت له هامسًا: «كان يبدو أن شينور دخل في نوبة ما حينما تحدثت معك منذ قليل. ظننت، حتى وإن كان ذلك فظًّا، أنه لن يضر أن آخُذك بعيدًا عن أدواتك بينما كان يأتي الهاتف إليه. هل تفهمني؟»
رد بإصرار: «صحيح … صحيح، بمجرد ما طلبت مني، فكرت في أن الأمر قد كان غريبًا بعض الشيء في ذلك الوقت. ألهذا السبب أوقع المقعد؟»
أجبت قائلًا: «آمل أنه لم يَفُتني أي شيء. أخشى ألا أستطيع قول ذلك، ولكنكَ قد أتيت في الوقت المناسب مع نهاية أداء مثير للفضول بشدة. يمكنك أن تدخل أيضًا يا سيد شينور. استمعا وأنا أقرؤها عليكما.»
كان جهاز مورس يدق بغضب. فك السيد كاشيل الشفرة قائلًا: «كيه كيه في. لا يمكنني فهم أي شيء من إشاراتكم.» توقف لوهلة ثم قال: ««إم إم في، إم إم في. الإشارات غير مفهومة. المنشود تثبيت المرساة خليج سانداون. افحص معداتك غدًا.» هل تعلم ماذا يعني ذلك؟ إنهما سفينتان حربيتان تبثان إشارات ماركوني بالقرب من جزيرة وايت. إنهما تحاولان التحدث إحداهما مع الأخرى ولا يمكن لأي منهما قراءة رسائل الطرف الآخر، ولكن جهاز استقبالنا يلتقط كل رسائلهما. إنهما على هذا الحال منذ وقت طويل. ليتك كنت قد سمعتها.»
قلت: «يا للروعة! هل تقصد أننا نسمع سفن بورتسموث وهي تحاول التواصل بعضها مع بعض؛ أننا نسترق السمع على ما يدور عبر نصف جنوب إنجلترا؟»
«بالضبط. جهازا إرسالهما على ما يُرام، ولكن جهازَي استقبالهما معطَّلان؛ ومن ثم فجُلُّ ما يلتقطانه هو نقطة هنا وشرطة هناك؛ لا شيء واضح.»
«ما سبب ذلك؟»
«الرب وحده يعلم، وسيعلم العلم غدًا. قد تكون عملية الحث معيبة، ربما لم يُضبَط جهازا الاستقبال لتلقِّي عدد الاهتزازات التي يبثها جهازا الإرسال في الثانية. ومن ثَم لا يلتقطان سوى كلمة هنا وأخرى هناك، وهو ما يكفي ليعطي القائمون على السفينتين الأمل ولكن لا يحقق مرادهما.»
دبت الحياة في جهاز مورس مرة أخرى.
«هذه واحدة منهما تشكو الآن. أنصت: «هذا مخيب للآمال … مخيب للآمال بشدة.» إنه أمر مثير للشفقة بشدة. هل سبق لك رؤية جلسة تحضير أرواح؟ إنه يذكرني بهذا أحيانًا — مجموعة متفرقة من الرسائل التي تأتي من العدم — كلمة هنا وكلمة هناك، لا تفيد على الإطلاق.»
قال السيد شينور وهو يقف في مدخل الباب ويشعل سيجارة من السجائر المخصصة لعلاج مرض الربو: «لكن كل الوسطاء الروحانيين محتالون. إنهم يفعلون هذا الأمر فقط من أجل الحصول على كل ما يستطيعون من المال. لقد رأيتهم.»
«ها هي بول أخيرًا، إشارتها واضحة بشدة. إل إل إل، لن نستغرق وقتًا طويلًا.» هكذا قال السيد كاشيل وهو يضغط على المفاتيح بسرور. ثم أضاف: «هل لديك أي شيء تود قوله لهم؟»
أجبت قائلًا: «لا، لا أعتقد ذلك. سأذهب إلى المنزل وأنام. فأنا أشعر ببعض التعب.»