إلى شارع إسماعيل صبري
إذا أردنا استعراض حياة الإنسان — أي إنسان — أو تلخيصها، فإن التعبير الأنسب لها هو «الذكريات». حياة الإنسان قِوامها الذكريات، الأمة تتذكر أمجادها. نبتعد عن وطننا، أو موطننا، فنتذكره، ونحِنُّ إليه. الأحياء يتذكرون الراحلين، الصبي يتذكر طفولته، الشاب يتذكر صباه، الكهل يتذكر شبابه، المتزوج يحن إلى أيام العزوبة. يعلق بالذاكرة ما تستعيده من الأحداث والصور والملامح والقسمات. أُهمِل ما ترفضه الذاكرة، لا أحاول استعادته بنبش الدماغ.
قد يكتسب الحدث/الذكرى أهميته من مدى ارتباطه بحياتنا، تأثيره فينا، وانعكاسه على تطوراتها.
الحياة التي تخلو من التذكر لم تكن، التذكر هو الذي يعطي لحياتنا معناها، وأحيانًا يحزنني اقتصار إطلالات الذاكرة على مناطق محددة، لا يجاوزها.
لحظات الميلاد، وما بعدها بأشهر، تظل في ذاكرة الآخرين، هم الذين يَرْوُون ما حدث لأنهم شاهدوه. الأمر نفسه بالنسبة للحظات الموت، لأنه يكون قد مات. الميلاد أو الموت ذكرى للآخرين، لكنها ليست كذلك للمرء نفسه.
قد يتذكر المرء ما ينتمي إلى أحداث الطفولة الباكرة. أنا شخصيًّا يومض في ذاكرتي ما يعود إلى العامين الأولين من حياتي.
أذكر — من بدايات وعيي — قاعة منعزلة عن الدنيا، أقف فيها بمفردي، وبيدي عصًا أنقر بها على طست نحاسي. عرفت — فيما بعد — أن القاعة أسفل بيت خالي المطل على ترعة، ومن حوله أشجار تدلت أغصانها في قلب المياه. لا أذكر ما سبق تلك اللحظة، ولا ما لحقها، كأنها اقتُطعت من المشهد الكلي، أو من السياق. ظني أنها في المرحلة العمرية نفسها التي صحوت فيها على خلو شقتنا في بحري، وكان الجميع خارج البيت يشاهدون فيلم عبد الوهَّاب «يوم سعيد»، وهو ما سأعود إليه في فقرة تالية.
صادقت النسيان منذ سن باكرة. لا أذكر متى تعرفت إليه للمرة الأولى، وإن ألفت مداعباته ومشاكساته التي أوقعتني في مآزق، نجوت منها بالظروف الحسنة، وبدعاء الوالدين. أنا دائم النسيان لأشياء تصعب الحياة بدونها: سلسلة المفاتيح، النظارة الطبية، صفحة الكتاب التي توقفت قراءتي عندها، حبة الدواء؛ هل تناولتها في موعدها؟ هل أغلقت مفتاح البوتاجاز؟ هل تركت جهاز التكييف مفتوحًا قبل أن أسافر؟
وحتى لا أنسى مواضع الأشياء التي أحملها، فقد جعلت لكل شيء موضعه الخاص: المحمول في جيب الجاكت الأيمن، المفاتيح في الجيب الأيسر، المحفظة في الجيب الداخلي من اليمين، قلم الحبر في الجيب الداخلي من اليسار. أتحسس الجاكت قبل الخروج من البيت، أطمئن إلى وجود كل شيء في موضعه، أو أبحث عنه.
على الرغم من أن قراءة التاريخ — في عصوره المختلفة — في مقدمة اهتماماتي، فإني أنسى التواريخ تمامًا. ذاكرتي بصرية، تجيد الالتقاط و«التخزين»، أذكر كل شيء؛ الوقائع بتفصيلاتها الدقيقة، سير الأعلام منذ الميلاد إلى الممات، لكنني لا أذكر التواريخ. أعرف — مثلًا — كل ما يتصل بمصطفى كامل؛ خطبه ورحلاته ورسائله … إلخ، ولا أذكر يوم ميلاده، ولا يوم وفاته، وهو العيب الذي أعانيه في لعبة الأرقام، فأنا أنسى كل الأرقام؛ أرقام التليفونات والبيوت، والمناسبات العامة والخاصة. حاولت أن أعمل بالنصيحة: «من لا ذاكرة له فليصنع ذاكرة من الورق»، لكنني كنت أنسى ذاكرة الورق، أكتب وأكتب، أدس الورق في كتاب، ثم لا أذكر أين وضعته!
أحيانًا، أتصل بصديق هاتفيًّا، وأنسى بمن اتصلت فور إدارة قرص الهاتف، أُضطر إلى القول للطرف الآخر على الهاتف: «أنا فلان». ولأن كل الأهل والأصدقاء يعرفون صداقتي الحميمة للنسيان، فإنهم يقولون من خلال ضحكاتهم: «وهذا بيت فلان.»
ثمة ذكريات تظل ساكنة، ثم تتحرك — لسبب ما، أو دون سبب — وتقفز إلى الذاكرة. قد أتذكر، ثم أنسى ما أتذكره، وأنسى بلا سبب كذلك، صور سريعة وامضة، ما تلبث أن تختفي. أحاول استعادة ما ومض في ذهني فلا أُوفَّق. أرجئ الأمر إلى لحظة قد تأتي، وقد تغيب تمامًا.
الأسوأ أني قد أحادث صديقًا عزيزًا، ثم أنسى اسمه فجأة. أقول: يا … ثم أتلعثم، ويدرك الصديق المأزق، فيهمس لي باسمه!
ذاكرتي — كما قلت — بصرية، أنسى الأرقام والأسماء، لكنني لا أنسى الملامح والفضاءات. أكلم نفسي: هذا المكان زرته من قبل، هذا الفيلم شاهدته من أعوام بعيدة، هذا الوجه أعرفه. إذا سئلت عن أرقام تتصل باستدعاءات الذاكرة، بدت الإجابة صعبة، أو مستحيلة.
أذكر أني التقيت في أحد شوارع القاهرة بصديق قديم من مدينتي الإسكندرية، كنت أتذكر ملامحه جيدًا، لكنني نسيت ما عدا ذلك. فطن الصديق لما أعانيه، وبذل جهدًا — قدَّرته له! — في تذكيري بنفسه، بصداقتنا القديمة، لكنني ظللت أهز رأسي بغباء لا أُحسد عليه!
ذات يوم، كنت عائدًا من العاصمة الأردنية. أنهيت معاملتي في المطار، ودخلت صالة السفر، أنتظر الطائرة، ثم فوجئت باستعلامات المطار تدعوني إلى «كاونتر» الجوازات باسمي الثلاثي. ضربت أخماسًا في أسداس، وذهبت — متوجسًا — إلى كاونتر الجوازات، لأفاجأ بجواز سفري في يد الضابط الذي دفعه لي قائلًا: نسيته!
وفي عودتي من مسقط — عملت هناك ما يقرب من التسع سنوات — قدت سيارتي إلى بيت صديق، ليقلني إلى مطار السيب.
كان الليل في آخره، والظلمة تلف كل شيء. نقلت حقائبي إلى سيارة صديقي، وانطلقنا نحو المطار. قبل أن أخطو إلى باب الدخول، تبينت أن حقيبة أوراقي ليست في يدي. وهرعت إلى سيارة صديقي، فلم أجد الحقيبة. كانت تحوي نقودي وأوراقي الشخصية.
لاقتراب موعد إقلاع الطائرة، فقد اضطررت إلى التوجه للسلَّم. وكنت قد نسيت — في جيبي — جواز السفر.
انتظرت في القاهرة نتائج بحث صديقي عن الحقيبة، وتسلمت الحقيبة بعد أيام، ومعها قصة ضياعها: وضعت الحقيبة على الأرض لأنقلها — مع غيرها — إلى سيارة صديقي، لكنني نسيتها في موضعها، وركبت سيارة الصديق، وانطلقنا إلى المطار. عثر عامل هندي على الحقيبة فأخذها إلى بيته، رآه هندي آخر، فأخبر الشرطة التي تحركت ببلاغ صديقي. عثر رجال الشرطة على الحقيبة أسفل سرير الهندي، وعلموا أن الرجل أعد نفسه للعودة بما تحويه الحقيبة إلى بلاده، في اليوم نفسه. الريالات العُمانية القليلة تعني — في الهند — ثراءً ووجاهة ومكانة اجتماعية.
الغريب أني لم أَضق بصداقة النسيان يومًا. تحملت مداعباته ومشاكساته، لأن صداقتنا تبدأ منذ الصغر، ولأن الأهل والأصدقاء ألِفوا كذلك ملازمة النسيان لي، فهم يعذرون ويُقدِّرون، ويتمنون لي طول العمر في رفقة صديق، يريحني — بدأب — من تذكر أي شيء!
قد يصبح النسيان نعمة عندما يُسقِط من ذاكرتي واقعة سخيفة، أو مؤلمة. يظل في بالي — أحيانًا — تألمي لتصرفٍ ما من صديق، وإن كنت لا أتذكر التصرف.
أذكر أن صديقة شاعرة تصرفت بما ضايقنا — زينب العسال وأنا — فأزمعنا خصامها. وفي اليوم التالي، لمحتها سائرة في الطريق، ناديتها من سيارتي، وعرضت اصطحابها إلى المكان الذي تقصده.
همست لي زينب: ألم نتفق على خصامها؟
قلت في صدق: نسيت.
كُثر هم الذين يمرون على حياتنا دون أن يخلفوا ذكريات، تشحب الملامح حتى تتلاشى تمامًا، كأنها لم تكن.
ميزة الوثائق أنها تنشط الذاكرة، تستعيدها على نحو أو آخر، أعود — بتأمل الصورة — إلى أيام خلت، تذكرني بصداقة قديمة غابت ملامحها.
أذكر — لعل التعبير يفتقد الدقة — اثنين، كانا قريبين مني، جرَّدا ذاكرتي من مراحل كثيرة في حياتي، تبدأ بالطفولة، وتنتهي بما لا أعرف؛ رسائل وصور وبيانات وشهادات وأسماء وعناوين، حصلا على ذلك كله، وأضاعاه بلا سبب. أنفي بغياب السبب لأنه يغيب عني بالفعل. لم يكن ما حصلا عليه يساوي أية قيمة مادية، لكنه — بالنسبة لي — كان يساوي الكثير، يساوي الذاكرة التي أصل بها ما كان، بالحاضر، باستشرافات المستقبل.
•••
إذا كان الماضي ينتمي إلى الذكرى، فإن هذه الذكرى تظل حاضرة، إن سُجلت في كلمات.
هذا الكتاب لا يندرج داخل أي جنس من الأجناس الأدبية المعروفة، فهو ليس سيرة ذاتية، ولا رواية، ولا مجموعة قصصية، ولا ترجمة، ولا أدب رحلات، ولا دراسة أدبية … لكنه خليط من ذلك كله.
نحن نحتفظ بالصور الفوتوغرافية لأنها تستعيد حياتنا، تذكِّرنا بما قد ننساه، نسد بها الفجوات التي — ربما — يصنعها توالي الأعوام. وعلى حد تعبير «رولان بارت» فإن الصور الفوتوغرافية تكاد تعيد الموتى إلى الحياة.
هذه استعادة — بقراءة صور فوتوغرافية — لما عشته بالفعل، نسيت معظمه، وأتذكر أقله، لكن التفصيلات تعود بالصور المعلقة على الجدران، تحت زجاج المكتب، في الألبومات بتعدد أحجامها، ما نشرته الصحف والدوريات، كأنها مفاتيح الذاكرة لحجرات بعدد الصور. في داخلها ما لا حصر له من الأشخاص والرؤى والتجارِب والخبرات والأحلام. أحاول المزاوجة بين ما أتذكره، وما تذكرني به الصور، لأسباب تتصل بالنسيان، بشحوب الذاكرة، أهملت الكثير من المواقف والأحداث والشخصيات التي كان لها تأثيرها في حياتي.
قراءة الصور تأتي بالماضي إلى الحاضر، تصبح حاضرًا.
نحن نحتفظ بالصور الفوتوغرافية لأنها تستعيد حياتنا، تذكرنا بما قد ننساه، نسد الفجوات التي — ربما — يصنعها توالي الأعوام.
أضع الصور على الأرض، أنشرها في أكبر مساحة، أتأملها، أستعيد العلاقة بيني وبين أصحاب الصور، بيني وبين ما مضى من أحداث. أحيانًا تبطئ ذكريات الصور في استدعاءاتي لها، وقد تأتي غير مترابطة، وتتحرك في الذهن بسرعة خاطفة، كأنها الومضات.
قد تكذب الكلمات، لكن الصور لا تكذب، الصور الحقيقية التي لم تُزوَّر، أو التي تُجرى فيها رتوش.
أهملت الرسائل والمذكرات والوثائق العائلية والسجلات والأوراق الرسمية والعقود والبيوع وكتابات الصحف، لا أُبقي أمامي سوى الصور الفوتوغرافية، هي مرجعي الوحيد، أفردها، أنظر إليها، أتأملها، أخلصها من الظلال والشحوب، أستعيد ما كان، بتفصيلاته، أو بما بقي منه. ثمة صور أنساها بعد أن أنظر إليها، تعجِز عن أن تصبح جزءًا من الذكريات التي قد أعود إليها، تنقطع صلتي بها تمامًا، أتذكر صورًا تسبقها، وصورًا تلحقها، تسقط — بلا سبب — الصور التي قد تحمل ما ينبغي تذكره.
أحيانًا، تمتزج التواريخ والشخصيات والأحداث. تبدو الصور ضبابية أو غائمة الملامح. وربما تجمدت اللحظة في صورة وحيدة، لا تسبقها، ولا تليها، صور أخرى تتصل بالمناسبة نفسها.
لم أتعمد — في قراءاتي لهذه الصور — تسلسلًا من أي نوع. أنظر إلى الصورة، أتأملها، أستعيد ما يدفعني إلى الكتابة. قد ألجأ إلى تفكيك الأحداث، وإعادة تركيبها، لا تبدو الصورة — في النهاية — على ما كانت عليه، تختلط فيها الذكريات، والغائب مما كنت أتذكره، يصنع الذهن صورًا أخرى جديدة.
والحق أني لم أعتمد على الذاكرة، ولا الصور، وحدها، وإنما عدت إلى الكثير من الكتب والكتيبات والصحف والنشَرات، وما ذكَّرتني به الصحف.
بالطبع، فإن ما نتذكره ليس هو ما حدث تمامًا، تستكمل مخيلتنا بعض التفصيلات التي تلاشت من الذاكرة، تسد الفجوات بأحداث قد لا تكون دقيقة أو حقيقية، يوهمنا التخيل أن ذلك هو ما حدث بالفعل، ربما لأن عمليتي التذكر والتخيل — على حد تعبير «إيزابيل الليندي» — متطابقتان في الدماغ.
•••
لماذا يتذكر المرء حادثة قد تكون تافهة، وينسى حادثة صنعت تأثيرًا مهمًّا في حياته؟ لماذا التذكر؟ ولماذا النسيان؟
ثمة الكثير من الصور تطفو — ربما بلا مناسبة — على سطح الذاكرة. ألتقط طرف خيط من خيوط كثيرة، أَكُرُّه حتى النهاية، أو حتى ترهقني الذاكرة.
أحاول أن أعود إلى زمن بعيد، شحب فيه الوعي، أو أنه لم يكن قد تشكل بعد.
ربما أقنعت نفسي أني رويت ما حدث، لكن من الصعب أن يكون ذلك كذلك، الخيال يتدخل، ولو لمداراة النسيان، أو لإغفال ما قد يسيء إلى أعزاء.
عندما نكتب عن الطفولة، فنحن لا نكتب عما حدث، لكننا نكتب عن المتخيل، نكتب عن الطفولة التي نتذكرها، ولأن الغربال الذي تنفذ منه ذكريات الطفولة واسع الثقوب، فقد ينفذ منها ما هو غير حقيقي، وما ينتسب إلى الخيال، أو الخبرات التالية، أو خبرات الآخرين، وقد يتحول الغربال إلى فلتر لا تنفذ منه سوى الذكريات الجميلة. أذكرك بمقولة يحيى حقي: «الماضي مهما كان مرًّا، فهو حلو.»
أتذكر استيقاظي — مفزوعًا — على صوت تقيؤ ودعوات وهمسات تشي بالخوف. ثمة قروانة في أرضية الحجرة، في بيت جدي بدمنهور، تتقيأ فيها أمي كميات هائلة من الدم (عرفت — فيما بعد — أنها كانت مريضة بالقلب، وماتت به، لكنني لم أعرف الصلة بين طبيعة مرضها والتقيؤ دمًا!)، وأنا أصعد سلم بيتنا — جريًا — من الطابق الأول إلى شقتنا في الطابق الثالث، أبلغها بشفائي من «الحصبة»، وأن عليها أن تطهو لي أرنبًا لا يشاركني فيه أحد، جلستي إلى سائق الأوتوبيس ما بين الإسكندرية ودمنهور، معدتي القلقة — منذ مولدي — تثور لاهتزاز السيارة فأتقيأ، يستجيب أبي لنصائح الركاب، فأجلس إلى جوار السائق لأفيد من هبات الهواء.
أذكر — فيما يشبه الومَضات السريعة الشاحبة — جلستي على كتف عم إبراهيم، زوج مربيتنا دهب (مرض أبي الدائم حرمه، في أحيان كثيرة، من أن يُرضي أبوته) أشاهد من فوق الرءوس، مواكب الصوفية، والمظاهرات الهاتفة بسقوط الملك وأحزاب الأقلية، والاستقبالات الشعبية للعائدين إلى البلاد من الشخصيات المهمة.
يغمرني شعور بالإعجاب وأنا أرقب السيارة المندفعة أمام المدرسة، تميل إلى الطُّرْقة المسفلَتة، المواجهة لسور المدرسة الحديدي، المتداخل بأغصان الياسمين. أشفقت لاندفاعها ناحية الجراج المغلق، تصورت الكارثة التالية، لكن الإعجاب غلب على ما عداه من مشاعر، حين أوقف السائق سيارته أمام الباب تمامًا، لحظة مثيرة مفعمة بالتوتر والخوف. تكرر الأمر في الأيام التالية، فاعتدته.
قد يجد القارئ فيما يقرؤه ذكريات قديمة، لكنها حية في وجداني، لم تغادره، كأنها جرت بالأمس، بل إنها — على نحو ما — تتصل بما أحياه الآن. بمعنًى آخر، فإن الأيام تتداخل وتختلط. التصور يُخضع الماضي للحاضر بما يفوق القدرة على التأليف، يقفز في بالي كأنه جرى منذ لحظات، توجهي إلى شارع الميدان، أشتري ما طلبه أبي من حافظ الحلواني، أو عتريس السماك على ناصية وكالة الليمون، أو المعلم إبراهيم العلاف أسفل مسجد الشوربجي. أجلس على رصيف الكورنيش، أتطلع إلى أفق البحر، أعجب لتصوري أن البوصة والسنارة — تلك الصديقة القديمة — إلى جانبي، تمتد يدي — بعفوية — أضع الطُّعم في السنارة، وأقذف به في الموج، المرأة اللَّحيمة الجالسة على ناصية الشارع، وراء «المنشة» الممتلئة بالجبن القريش والزبدة والبيض، لعبي الكرة مع الأولاد في الشارع الخلفي، نافذة الطابق الأرضي في البيت المقابل، تطل السيدة التركية الجميلة من شيشها الموارَب، سوق العيد بزحامه وصخبه في ميدان الخمس فوانيس، جلوة المولد النبوي القادمة من شارع رأس التين، الحاوي، ونافخ النار، ونداء الغجرية: «أدق وأطاهر.»
ثمة الكثير مما تستعيده الذاكرة بلا صور، ما يشبه التكوينات في داخل الذهن، تحل — لفترات تطول أو تقصر — وتبتعد؛ بيت الطفولة — كما يصفه باشلار — هو «البيت الذي وُلدنا فيه، المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكَّل فيه خيالنا.» سطح بيتنا في شارع إسماعيل صبري، يطل على المدينة من الجهات الأربع، المياه من ثلاثة جوانب والأسطح والبنايات العالية، تصل اليابسة بالبحر في جانب وحيد، يمتد إلى منطقة الرمل، مكتبة البلدية بشارع منشة. أقرأ بلا خطة محددة، فقط أستجيب إلى شهوة غول القراءة الصاخب في داخلي، شارع علي تِمراز الخلفي، وألعاب كرة الشراب والجري و«شَكَل للبيع» و«أولها إسكندراني»، و«أولها سنُّو»، والبِلْي، والدوم، والطائرات الورقية، و«غديوة» فتحي ابن عم أحمد الفاكهاني تحت صندوق العربة، صحن المرسي أبو العباس بأعمدته الرخامية ومقرنصاته والنجفة الكريستال الهائلة، المتدلية من السقف.
أبو العباس هو الدائرة التي تتجه إلى مفارق وتقاطعات وامتدادات، تشمل أحياء الإسكندرية. حديقة قصر رأس التين، أبدِّل أوقات المذاكرة بين خضرتها المتسعة وظلال أشجارها، وبين حجرتي المطلة على شارع «علي تِمراز»، وصحن «أبو العباس». ربما اخترت مواضع أخرى، مثل سور الكورنيش، أو ضفة ترعة المحمودية، لكنني ظللت مطمئنًّا إلى تلك الأماكن الثلاثة.
تتميز حديقة رأس التين باجتذابها لرؤًى كثيرة في السماء من فوقي، وفي البنايات المطلة على امتداد الطريق، وفي أفق البحر، مشاهد ترفض السكون، وتلح في استدعاء التحديق ومعاودة النظر. «قهوة فاروق»، على ناصيتي شارع إسماعيل صبري والتتويج، أستعيدها إذا تناهت — من موضع ما — أغنيتا عبد الوهَّاب «الجندول» و«الكرنك». كان فونوغراف القهوة يكرر تقديمهما في أوقات متقاربة، يرتبط سماعي للأغنيتين بأعوام الطفولة حوالي الحرب العالمية الثانية. لم يعد تقديم الأسطوانات مقصورًا على الفونوغراف. انتشرت أجهزة التسجيل القديمة، لكن كليوباترة عبد الوهَّاب وجندوله ظلَّا في موضعهما داخل الذاكرة.
القاعدة الجرانيتية أسفل تمثال سعد زغلول، كم كنت أجلس إليها مع صديقي سعد البنا، نتناقش، ونعاني شبق المراهقة، ونحلم.
زاوية الشرفة الموصلة بين شقتَي الطابق الأول في بيتنا، تمنت طفولتي أن أجلس فيها، لا أعرف كيف، ولا أعرف العمل الذي سأخلو فيها إليه. كورنيش المينا الشرقية في اتجاه نظراتي إلى الموضع البعيد المطْلَخِمِّ بالسحب والأمطار والعواصف، لا قعود، ولا مارَّة، ولا مرئيات في امتداد الأفق.
لا حدود ولا فواصل بين شقتنا في الطابق الثالث، وبين شقق الطوابق الست الأخرى، لا حدود ولا فواصل بين بيتنا في شارع إسماعيل صبري وبين بقية بيوت الشارع.