صور للمرأة
المرأة في حياة المبدع — والإنسان بعامة — هي الأم والزوجة والابنة، تتداخل الشخصيات والمواقف والأحداث، فيُسقط الغِربال كل شيء، عدا الشخصيات الثلاث المؤثرة، التي تمثل بعدًا ثابتًا، ليس في مجرد ذكريات المرء، وإنما في تكوينه المعرفي والنفسي، وفي نظرته إلى الأمور.
«إن أي رجل أو امرأة يكتب الحقيقة عن حياته، سيكتب عملًا رائعًا، لكن لا أحد دفعته الجرأة لأن يكتب الحقيقة عن حياته.»
•••
لعل رحيل أمي هو أول ما أذكره من أيامها بيننا (أشرت إليه في العديد من لوحات السيرة الذاتية، والقصص القصيرة، وفي فصول سيرتي الذاتية). قالت الجدة في شقة الطابق الرابع، إنها كانت تجلس بجوار أمي، تعودها، لمَّا انتفضت أمي — فجأة — وأشارت إلى ما لم تتبينه العجوز، وهتفت: «ابعدوه من هنا!»
ثم سكت صوتها، وجسدها.
أمرني أبي بالنزول إلى الطبيب الأرمني في الطابق الأول. صعِد الطبيب السلم بخطوات متباطئة. وكان يقف، في كل طابق، أمام النافذة المطلة على الشارع الخلفي، ربما ليسترد أنفاسه. وكنت أدعوه — بيني وبين نفسي — إلى الإسراع في الصعود، كي ينقذ أمي.
أطال الطبيب تأمل الجسد الساكن. كانت العينان جاحظتين، والبطن منتفخًا بصورة ملحوظة، والجسد بكامله متصلبًا، كأنه وُضع في قالَب. مال الرجل على صدر أمي، وباعد بإصبعيه بين الجفنين، وضغط بقبضة يده على البطن المنتفخة، ثم هز رأسه في أسًى: «ماتت!»
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان رحيل الأم في سن باكرة، سببًا يصعب إهماله في غياب المرأة عن معظم إبداعاتي. كانت المرأة غائبة بالفعل، أو أنها عانت شحوبًا في أعمالي الأولى.
كان لغياب أمي عن حياتي في سن باكرة تأثيره بالنسبة لي على المستويين الشخصي والإبداعي. وقد اتسعت مساحة ذلك التأثير — فيما بعد — في مجموع أعمالي، بحيث تبين المرأة — كما أتصور — عن ملامح يصعب إهمالها.
•••
وافقتُ على اقتراح أخي الأكبر بأن نشتري قطعَ «جاتوه» بنقود العيدية التي أعطاها لنا خالي، ووضعتها أمي في درج «الكومودينو».
قالت أمي: هل أذنت لكم؟
قال أخي: إنها فلوسنا!
ألقت على الأرض ما كانت تحمله، وسحبت من فوق الدولاب حبلًا كانت تخصصه لعقابنا. لفته حول أقدامنا، وتوالت ضرباتها بالشماعة حتى أجهدها التعب.
ويومًا، شارك أخي أبناء الجيران معاكساتهم لعم سيد ساكن الشقة العلوية: «يا راجل يا عجوز … مناخيرك قد الكوز!»
ومع أني عزفت عن المشاركة — ربما لأني كنت أتوقع عقاب أمي — فقد شكا الرجل الطيب لأمي «أولادها»، وبهمَّة غير منكورة، قيدَتْ سيقاننا — أخي وأنا — بحبلٍ واحد، ثم انهالت بعصا «التنفيض»، لا تأبه بتوسلاتنا ولا صرخاتنا، حتى أنقذنا — باستثارة أمومتها — جارنا الأعز «عبده فرج الصبروتي».
•••
ماتت أمي، وكبِرتُ أنا، وتزوجت، وأنجبت. وكان من الطبيعي أن تعود الذكريات، وتنشأ المقارنة، وتتوضَّح معانٍ كانت غائبة، من بينها إشفاق الأبوين على مستقبل أبنائهما، والفارق بين التدليل والإفساد، والتعويد على الحياة السهلة، أو تلك التي تحرص على القيم. كان الإشفاق والحنان والخشية من الانحراف، هو الباعث وراء الإيذاء المتواصل من أمي.
أدركت ذلك متأخرًا، وبعد فوات الأوان.
كنت أغادر مدرستي الفرنسية الأميرية في شارع المأمون، بدلًا من الاتجاه إلى محطة الترام، أميل إلى الشارع الخلفي، أخترق الشوارع حتى ترعة المحمودية، أهبط المنحدر الترابي إلى حافة الترعة، أجلس على بقايا الكورنيش الحجري، المتآكل، المياه تجري في أسفل، وفي المواجهة مصانع وعربات نقل وعمال يدخلون ويخرجون، يطول تأملي للمشهد الذي لا أراه في بحري، اختلاف المشهدين يغريني بالتأمل، ومراقبة المراكب القادمة بالغلال والطوب والبلاليص، والنسوة المنشغلات بغسل الأوعية على الحافة، والأولاد الذين يعبرون ما بين الضفتين سباحة، أو يغسلون البهائم.
أول حب التقيته — مصادفة — في جلستي على كورنيش المحمودية. فاجأني الصوت الأنثوي: المعدية من هنا؟
التفت خلفي. بدت في حوالي الرابعة عشرة، ترتدي فستانًا بسيطًا وحذاء مفتوحًا تطل منه أصابع مقصوصة الأظافر.
أشرت إلى الناحية التي تقف فيها المعدية: هناك.
فاجأتني بالسؤال: لماذا تجلس هنا إذن؟!
أمسكت عن الرد الخشن، قلت في لهجة مداعبة: أنتظرك.
تواصل اقتحامها المفاجئ بجلوسها جانبي، تكلمنا، شرَّقنا وغرَّبنا. تعمل في أحد المصانع المقابلة، ركبَتِ المعدية — للمرة الأولى — من حيث يقع البيت والمصانع، إلى الناحية المقابلة. أنهت عملًا في وسط المدينة، وعادت.
عرفت موعد دخولها المصنع، وخروجها منه. ألِفتُ انتظارها في مرسى المعدية، نسير إلى حديقة النزهة، ونعود. نتكلم فيما يفد إلى خواطرنا، أجد في مجرد الكلام، والأخذ والرد، ما يسعدني، أو ما يشبه اللذة، أتمنى أن يستمر سيرنا إلى ما لا نهاية، يغيب عن بالي أن أدعوها إلى مكان نستكمل فيه كلامنا، لكن صحيح التصرف لم يغب — فيما يبدو — عن بالها.
انتظرتها — ذات عصر — في مرسى المعدية. غادرَت المصنع، فتهيأتُ للقائها، لكنها واصلت السير في امتداد الطريق، ولوحت لي مودعة.
رويت لزميل في المدرسة ما حدث؛ الحكاية من البداية المقتحِمة إلى الوداع المفاجئ: لماذا أنهت البنت علاقتنا؟
سألني: ألم تدْعُها للجلوس في أي مكان؟
– خشيتُ أن ترفض.
– ربما قطعَت العلاقة لهذه الخشية اللعينة.
وعلا صوته مؤنبًا: هل صادقَتْكَ لتمزق حذاءها؟!
•••
أمضيت في بيت عمتي وديدة بالمنيرة إجازة صيف كاملة. أنزل من الترام على ناصية شارع المواردي، ترافقني أُلفة المكان، فأعبر تقاطع شارع المنيرة إلى شارع فهمي على الناصية التالية.
البيت من طابقين، تسكن عمتي الطابق الأول، بينما استأجرت الطابق الأرضي أُسرٌ من أبناء النوبة، أذكر من أبنائها طفلًا صار لاعبًا شهيرًا، هو «فاروق جعفر».
كنت أتصور أن تعبيرات الأيدي في خُفية عن نظر عمتي، لكنها فاجأتني بالقول وهي تُعِد لنفسها فنجان القهوة: اوعى يا وله تكون فاكر اني مش شايفة اللي بتعمله انت وليلى!
وربتت ركبتي: شوف مذاكرتك أحسن! الثقافة شهادة صعبة!
وكان أهم ما طرأ على علاقتي الرومانسية بليلى دخول «رقيَّة» على الخط، وهي فتاة لم يكد يخرطها خرَّاط البنات. كانت شرفتها على ناصية الزقاق الذي ينتهي ببيت ليلى، تتوسطه شرفة بعرض الشقة. لاحظت رقيَّة تعبيرات الأيدي وحركات الشفاه الصامتة، وحرص ليلى أن ترتدي حذاءها وتنزعه في داخل الشرفة، فهي تمد الساقين، وتثنيهما، بحيث يتاح لي رؤيتهما.
وفاجأتني رقيَّة بالقول ذات مساء: «أنا أحلى منها!»
قارنت — أو وازنت بلغة النقد — بين الفتاتين، ودفعتني الجرأة لأن أطلب من رقيَّة أن تعرض بضاعتها، وببساطة — أذهلتني — عرت صدرها عن ثديين كليمونتين، ولأن تلك كانت المرة الأولى التي يتاح لي أن أشاهد — على الطبيعة — ما لم أكن عرفته من جسد الأنثى، فقد أحدث ما شاهدت تأثيرات ملحة سيطرت على جسدي، لم تتركه إلا بعد أن استجلبت يدي النشوة في الحمام المغلق!
لعلي — بالمناسبة — أشير إلى ميل عمتي إلى المبالغة فيما كانت ترويه، ما يتصل بعائلة جبريل على وجه التحديد، تهمل ظروفي المادية التي تعرفها جيدًا، وتتحدث عن الفيلَّا التي أمتلكها والخدم والحشم والسائق الخاص، وكنت — بالطبع — ألزم صمتًا أجد فيه عين الحكمة!
•••
«أمل» هي ابنتي الوحيدة. اعتبرتها — منذ طفولتها — صديقة، فهي ترافقني إلى رحلات ومحاضرات وندوات. تبدي الرأي — بتنامي وعيها — فيما يثور أمامها من مناقشات، تسأل وأجيب، نتفق ونختلف، أتعرَّف إلى عالمها الذي تتشكل ملامحه بالتدريج، أُهمل ما قد لا يتصل بطبيعة سنها، أو ما يشوب آراءها من سذاجة. الهدف هو أن تُحسن المتابعة، والإنصات، ومحاولة التعبير عن قناعات شخصية.
كم كان يسعدني سؤال صديق حين أشارك في أحد المؤتمرات: أمال فين أمل؟!
يتوقع مرافقتها لي، لا تترك يدي، وتحرص أن تجلس في الكرسي المجاور، أتابع حواراتها مع أصدقائي من المثقفين، يسعدني ذكاء أسئلتها أو أجوبتها. لم أمنعها من إلقاء الأسئلة، مهما اتسمت بالسذاجة، ولا نهرتها لأنها أجابت بما قد يغضب صاحب السؤال، هي طفلة في سِنِي وعيها الأولى، ومن المهم أن يتشكل هذا الوعي دون ضغوط ولا إملاءات.
حتى الآن فإني أختلف مع أمل في بعض قضايانا السياسية والاجتماعية، لها رأيها الذي أناقشه، أعلن موافقتي، أو أبدي ملاحظات، لكنني لا أرفض ولا أسخِّف، لا شأن للأبوة ولا اعتبارات السن بالرأي الذي يطرح ما يستحق المناقشة. كان «سعيد العدوي» — حتى رحل — و«حسين عبد ربه» و«جلال العشري» و«حسين جمعة» و«عطية السيد» و«محمد يوسف»، وغيرهم، كانوا حريصين على أن يتحركوا في مساحة حوار بينهم وبين أمل، لا تجاوز سنها الصغيرة، أو وعيها.
عدت إلى البيت ذات مساء. نظرت أمل إلى الحقيبة الجلدية في يدي، وقالت في نبرة مستاءة: كتب؟!
حاولت — في الأيام التالية — أن أجتذبها إلى القراءة، أن أجعل من الكتب — والقراءة بعامة — عوامل مشوِّقة في تكوينها المعرفي. وضعت بين يديها كتب صديقي الراحل «عبد الحميد السحار» عن قصص الأنبياء، وقصص آل البيت والصحابة، و«أيام طه حسين»، و«عمرون شاه» لفريد أبو حديد، وكتب كامل كيلاني، والطبعة المبسطة من «ألف ليلة وليلة»، و«موال عشان القنال» لصلاح جاهين، … وغيرها.
أذكر ملاحظتها على قول الشاعر: «يا ولاد بلدنا توت … هاتوا قوام نبوت … نموت البرغوت … إيدن خلاص حايموت.»
قالت أمل: ماذا فعل الرجل لكي يقتلوه!
– المعنى هنا هو قتل سياسة الرجل.
استطردت موضحًا: كان الرجل رئيسًا لوزراء بريطانيا عندما شاركت فرنسا وإسرائيل في الاعتداء على مصر عام ١٩٥٦م.
أحسست بأن ما زرعته يوشك على الإثمار حين رأيت أمل تقلِّب في مكتبتي. تلتقط كتابًا — لعله «تاريخ المقريزي» — وتبدأ في قراءته. حدثتني — في الأيام التالية — عن التاريخ المصري والعربي الذي يبدو شاحبًا في معظم الكتابات المدرسية.
أشرت عليها بقراءة «جمال حمدان» و«ابن إياس» و«ابن تَغري بَردي» و«شفيق غربال»، و«حسين فوزي»، عُنيتْ بقراءة بعض ما كتبوا، وناقشتني فيه.
اتسعت مساحة قراءاتها فيما بعد، وتنوعت، وانعكس ذلك ليس على مجرد التحصيل المعرفي فحسب، وإنما على دِعامات تكوينها المعرفي نفسه، فقد حرصتْ على تقوية لغتها العربية، كما أخلصت في دراسة اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقرأتْ في القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة.
تلك هي — فيما أقدر — وسيلة تربية أبي لإخوتي، ولي. أذكر تدخلي في مناقشاته مع أصدقائه حول قضايا ربما لا يتيح فهمها وعي المرحلة السِّنِّية. وأذكر ملاحظاتي السلبية حول حادثة كوبري عباس التي أصدر فيها رئيس الوزراء السعدي «محمود فهمي النقراشي» أمره بفتح كوبري عباس على الطلاب المتظاهرين.
ولأن التربية — في بعض أبعادها — مَثَل أعلى وعدوَى وتأثُّر، فقد حاولت أن أفيد من تجرِبة أبي في صداقتي لأمل، أتعرف إلى اهتماماتها — بصرف النظر عن سذاجتها آنذاك — وأحاول أن أضيف إلى ما أجده إيجابيًّا في تلك الاهتمامات.
•••
أصارحك أني كنت سببًا مباشرًا في تحول أمل عن الطريق الذي اختطته لنفسها. كانت تحلم بالعمل الوظيفي الذي يحتاج إلى إتقان العديد من اللغات. الخطأ الذي ارتكبته ابنتي أنها لم تحاول السعي إلى الوظيفة المناسبة، تركت لي الأمور، تصورتْ أن أباها يمتلك العلاقات التي تتيح لها تلك الوظيفة، لكن الأب لم يكن يؤمن بالواسطة، ولا حتى لابنته. حاولتْ أن تعتمد على شهادتها، وما تجيده من لغات، طال ترقُّبها للوظيفة، ثم لجأت إلى العمل الحر، ولم يكن ذلك — رغم نجاحها — هو الطريق الذي اختارته لنفسها.
•••
لعل فشل تجرِبة زواجي الأول (تزوجت مرتين!) مبعثه — على حد تعبير همنجواي — أن العمل يستغرق معظم وقت الكاتب، بحيث لا يستطيع أن يكون رفيقًا أو شريكًا جيدًا لزوجة طيلة الوقت. لذلك — ربما — حرصت أن أطمئن إلى «تفهم» زينب العسال طبيعة العمل الذي قد يمتص غالبية وقتي، ثم قدمت عرضي لها بالزواج.
اكتفت زوجتي بالتلميح في البداية، الدنيا من حولي تدور والأصدقاء يحسنون التعامل مع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة، في حين ألزم حجرتي، لا أغادرها إلا لضرورة. وجاوزتْ زوجتي التلميح — يومًا — إلى القول: انتهى السد العالي، وأنت لم تنه هذا الذي يأخذ وقتك!
وكان قبولي السفر إلى الخليج بإلحاحٍ من صديقي الراحل «الداخلي طه»: حصلت على فوزك الشخصي بجائزة الدولة التشجيعية، يبقى أن تحصل أسرتك على مستوى الحياة الأفضل!
الغريب — والمؤسف — أن رحيلي إلى الخارج، والراتب الأعلى الذي حصلت عليه خلال ما يقرب من الثماني سنوات قد تبدد في سخافات لم تكن من صنعي، ولا شاركت فيها، لم يعد انشغالي بكتابي طريقًا وحيدًا إلى النهاية، تخلقت طرق أخرى كثيرة، تلاقت جميعها في البحث عن بقعة ضوء بين جدران أُحكِمَ إغلاقها، فسادت فيها الظلمة!
«زارتني في مكتبي بجريدة «الوطن» بصحبة صديقة لي خبيرة في وزارة الشئون الاجتماعية العُمانية، اجتذبني إليها ما لم أستطع تحديده على نحو مؤكد.»
حين تعرفت إلى «نجيب محفوظ» — للمرة الأولى — في «خان الخليلي» قلت بلا تردد: هذا هو الروائي الذي يجب أن أحتفي به. وتعرفت إلى «يوسف إدريس» و«يوسف الشاروني» — في تباين إبداعاتهما — فطالعني حض على الدهشة والتأمل، واستفزاز للمبدع في داخلي. أيقنت — من القراءة الأولى — أن «نجيب محفوظ» هو كاتب الرواية العربية الأقرب إلى نفسي، وأن إدريس والشاروني هما كاتبا القصة القصيرة الأقرب إلى نفسي. وأيقنت أن «زينب العسال» — حين رأيتها للمرة الأولى — ستدخل حياتي، وتظل فيها. لحظة الاكتشاف المغايرة، لا تتصل بما سبق، وتَعِد في الآتي برؤى باهرة. النداء السحري يفتح المغارة المغلقة، اللقاء المفاجأة، لم تتهيأ له، ولا تصورتَ نفسك طرفًا فيه، وإن تيقظ الإحساس في داخلك بأنك كنت ترجوه، وتترقبه.
قلت لصديقي «حسين مرسي» مدير الإعلانات بالجريدة: هذه الفتاة ستزور الجريدة مرات تالية.
سأل بالدهشة: لماذا؟
أغمضت عينيَّ، كأني أجمع نفسي المبعثرة: لا تطلب تفسيرًا … لكنها غيرت في داخلي أشياء.
كنت أعاني ظروفًا أسرية قاسية. زارتني أحلام وكوابيس وخواطر مدمرة، بدا الأفق مثقلًا بالسحب السوداء المتكاثفة. تعالت الأمواج، وتوالت، فغاب الأفق. لم يعد — في كل الاتجاهات — ما يشي بالرُّسُوِّ.
لما قالت «زينب العسال» إنها مدرسة اللغة العربية في مدرسة للبنات، عرضت عليها أن تعمل — ساعتين كل يوم — في أرشيف الجريدة. صَدمتْ سمعَها كلمةُ «الأرشيف»، فاعتذرتْ. أسرفتُ في التأكيد أن الأرشيف هو البداية والأساس في العمل الصحفي. لجأتُ إلى تزويقات ورتوش وعبارات باهرة. كنت أريد أن تعود إلى «الوطن».
تفاقمت — في أثناء عملها — مشكلاتي الأسرية، تساقطت من أذني النصائح، والوصايا التي لا تدرك حقيقة ما أعانيه، والآراء الباردة. بدا الطلاق منفذًا وحيدًا.
تبينت في كلمات زينب تفهمًا لما أعانيه، شدَّني حياد آرائها وتصرفاتها، تجيب عن أسئلة خنقني حصارها، تهمل التفصيلات، وما قد يبدو شخصيًّا، أو سرًّا، ثم تنصرف إلى عملها في «الأرشيف» الذي خلقته خلقًا.
بدت لحيرتي منفذًا وحيدًا، مقابلًا. وتزوجتها.
كانت «زينب العسال» — في بداية تعرفي إليها — مدرسة للدين واللغة العربية بمدرسة الزهراء الثانوية للبنات بمسقط. تبادلنا القراءات، وإن فاجأتني اهتماماتها الإبداعية عندما وضعت على مكتبي — بعد أشهر — تحقيقًا صحفيًّا عن التعداد السكاني في سلطنة عُمان، شاركت فيه مع عشرات المدرسات المغتربات بالسلطنة.
أتاحت زينب لتشجيعي لها على العمل الصحفي، ثم الكتابة الإبداعية والنقدية فيما بعد، أن ينطلق إلى مداه. تأففَتْ من إصراري على أن تبدأ بتنظيم الأرشيف، ثم أظهرتْ موهبتها الإبداعية فور أن طالبتُها بالمعاونة في صحيفة يشرف عليها، ويتولى تحريرها وإدارتها، شخص واحد. وكالعادة، تحول التشجيع الذي قد لا يرجو الكثير، إلى مطالبة بالمزيد من الكتابات، وجدت فيها — أعترف — إضافة مهمة إلى ما أبذله من جهد شبه فردي.
وبعد أن ظلت زينب — إشفاقًا على عينيها — ترفض القراءة في وسائل المواصلات العامة، فإنها الآن تجاورني في المقعد، كل منا يقرأ كتابًا بين يديه، يجري بالقلم الرصاص على العبارات التي تستوقفه، ونتبادل الملاحظات.
أتابع الآن خطوات «زينب العسال» الواثقة، في حياتنا الإبداعية والنقدية. حصولها على العديد من الدبلومات في التربية والمسرح والفن الشعبي والأدب العربي، ثم حصولها على الماجستير، فالدكتوراه، وتوالي إصداراتها في النقد، وفي الكتابة للطفل. أجد لنفسي في ذلك كله دورًا أعتز به، مثلما تعتز به زينب العسال، أو أكثر!
•••
أدركت «زينب العسال» أن الفن هو حبي الأول، أنام عليه، وأصحو له، وآكل، وأشرب، وأقرأ، وأتأمل، من أجله. يعادل — إن لم يَفُق — حبي للأعزاء.
أذكر أن أمل ووليد كانا قد أسرفا في الدلال — أو هو التدلل! — فقالت لهما زينب، وأنا جالس أعاني: والدكما يحبكما أكثر من نفسه، لكن حبه لهذا المكان (وأشارت إلى طاولة الطعام التي أكتب فوقها) يفوق حبه لكل إنسان، ولكل شيء!
لم يكن المعنى صحيحًا في إطلاقه، فحبي للغالِيَين بلا أسوار، لكنهما — في ظني — فهما المعنى كما أرادته زينب تمامًا!
العبارة التي ألِفتُ ترديد زينب لها — في فترات متقاربة أو متباعدة: أنت تكتب، أنا آسفة.
تبدي ملاحظة، أو تطلب رأيًا، أو تعرض مشكلة، تتبين ما يدفعها إلى تكرار القول: أنا آسفة!
ولعله يجدر بي أن أضيف أن «زينب العسال» لم تنظر إلى الكتب التي امتلأ بها البيت باعتبارها كراكيب، ذلك ما عاناه العديد من الأصدقاء، ضاقت الزوجات بسطوة الكتب، وأبدين رفضًا مضمرًا، ومعلنًا، وكان أحد هؤلاء الأصدقاء يتصل بي، وبالصديق الراحل «علي شلش»، يطلب أن نزوره خلال ساعات، لنحصل على ما نستطيع حمله من كتبه، بعد أن هددته الزوجة بالقول: «يا أنا … يا الكتب!» وكان الصديق — عقب كل تهديد — يختار الزوجة!
كانت «زينب العسال» — عندما تعرفت إليها — تحب القراءة، وكان أول علاقتنا تبادل الكتب، أعيرها الكتاب، فتقرأه وتعيده، ربما تأخرت في إعادته، بحيث أجد في ذلك فرصة للمرور على بيت الحبايب، وكان بيت الحبايب هو سكن المدرسات في منطقة «رُوِي» بمدينة مسقط.
أضافت زينب إلى حصيلتها المعرفية بجهد أكاديمي، بدأ بالدبلومات المتخصصة، وانتهى بالدكتوراه، وكانت قد اختارت النقد الأدبي طريقًا جديدًا، بدلًا من تدريس مادة اللغة العربية والدين، وإن أَردفتْ إلى إسهاماتها النقدية — فيما بعد — عملها الأكاديمي في الجامعة.
لم يعد ضيق زينب بمكتبتي، التي تضخمت واتسعت، واردًا، ولعلها كانت سعيدة وهي تحمل كتبًا مما تحصل عليه، من خلال موقعها القيادي بهيئة قصور الثقافة، وتضيف إلى كُومات الكتب في البيت كُومات أخرى.
من هنا، فقد أهملت الانشغال بمصير مكتبتي: هل أهديها إلى واحدة من هيئاتنا الثقافية، أو أتركها لباعة الروبابيكيا، ولباعة اللب والفول السوداني والفلافل. أعرف جيدًا من ستتولى أمر المكتبة.
•••
قد تَهَبني شخصية هامشية من الخبرات أضعاف ما أحصل عليه من شخصية اختزنت المعرفة، فظلت ساكنة في داخل الذهن والوجدان، دون تأثير حقيقي عليها، وعلى من يخالطونها. وبتعبير آخر، فإن التأثر والتأثير لا صلة لهما بمعرفة ولا ثقافة ولا مرحلة سِنِّية. وأزعم أني أفدت من رحلة أمي القصيرة في حياتي، ومن رُفقة زوجتي «زينب العسال» الناصحة، المشفقة، المتدبرة، ومِن تمازج الطفولة والوعي في ابنتي أمل بما لم تبدله الأعوام.
التأثر والتأثير علاقة تبادلية. من الصعب أن تتحدد الإيجابية من طرف واحد، والسلبية من طرف مقابل. الأب يهب خبرته لأبنائه، ولمن هم أقل سنًّا ومعرفة وتجرِبة، لكنه يفيد — في المقابل — من تلك الخبرات الأدنى بالقياس إلى خبراته.
أذكرك برحلة «تشيخوف» إلى جزيرة سيخالين، يحاول الإفادة من الحياة مع مرضى الصدر الذين كانوا يعيشون داخل الجزيرة، يتأمل أحوالهم، ويناقشهم فيها، ويستشرف معهم آفاق مستقبل تَرِين عليه الضبابية، وهو ما انعكس في العديد من أعماله الإبداعية، مثلما عكست حكايات العجائز رصيدًا مهمًّا في تجرِبة تشيخوف الإبداعية.
ومما يرويه نقاد الأدب ودارسوه أيام روسيا القيصرية — التي شهدت ذروة تألق الأدب الروسي قبل أن تتشوه ملامحه في الفترات التالية — أن «تشيخوف» كان يعطي العجوز شلنًا، مقابلًا لتجرِبته التي يحاول الفنان تضمينها — بوسيلة فنية أو أخرى — أعماله الإبداعية.
تزوجت خادمتنا «دهب»، واستقلت بحياتها، لكنها ظلت على صلتها الأسرية بنا، تزورنا، وتسأل عن أحوالنا، بالذات بعد أن رحلت أمي، واضطُر أبي — بتأثير المرض — إلى لزوم البيت، والاعتذار عن غالبية الأعمال التي عُرضت عليه — وكان مترجمًا — وعانينا ظروفًا بالغة القسوة. صارحَنا أبي — ذات يوم — أن «دهب» عرضت عليه مبلغًا نجاوز به ظروفنا، وأرفق أبي شكره باعتذار مؤدب، فقد كان — كما قال لنا — يعرف ظروف دهب جيدًا!
لعلي أذكر أيضًا زوجة عم أحمد الفكهاني في الشارع الخلفي الواصل بين بيتنا وجامع سيدي «علي تِمراز». كانت أشد منا حرصًا على «الغدِّيوة» التي نقيمها كل بضعة أيام، ابنها فتحي وأخي وأنا. تفسح لها أسفل عربة الفاكهة الصندوقية الشكل، تضيف إلى ما نأتي به ثمار فاكهة، وطبق سلطة خضراء، وخبزًا ساخنًا من الفرن القريب، تظل طيلة جلوسنا في ظل العربة، توصينا بأنفسنا، وبالمذاكرة، وتدعو الله أن يفتح لنا أبواب المستقبل. شخصية الأم المصرية في مثالها المكتمل!
الأمثلة — بالطبع — أكثر من أن يتسع لها هذا المجال.
فليكن ما أشرت إليه مجرد نماذج من أمثلة.