صورة على الجدار
أمنيتي — منذ الطفولة — أن أطل من شرفة شقتي — كل صباح — على أفق البحر. كانت شقة إسماعيل صبري تطل على البحر، يسبقها شارعان وبنايات، ما تمنيته أن أطل على البحر مباشرة، لا تفصلني عنه حواجز، ولا تبعدني عنه مسافات لأي سبب. هذه البنايات المتآكلة بتأثير ملح البحر والرطوبة، والممتدة في موازاة الكورنيش الحجري … بدت الإقامة في إحدى شققها وسيلة متفردة لكي أطل على الجنة … البحر هو الجنة.
الصورة المعلقة على جدار الطُّرقة المفضية إلى الحمام والمطبخ. تنبهت إليها حين انشغلت باستدعاء ذكريات الصور، المناسبات التي تتحدث عنها. كورنيش البحر — لعله كورنيش الميناء الشرقية — الرذاذ يتطاير منه إلى الرصيف، اكتفيت بتأملها، دون أن أنزعها من الجدار، ظل تأملي لها في الأيام التالية، أدقق في التفصيلات الصغيرة، تأثيرات العاصفة على الشاطئ الخالي، والسحب الداكنة، وصفير الهواء.
أحيا في دنيا صنعتها لنفسي، يداي تجريان باللذة المحمومة إلى منتهاها، ترافقها نظرات متلفتة إلى أفق الأمواج، ونصف دائرة البنايات في مواجهة الشاطئ. الإثارة تتصاعد من داخلي، تغذِّيها الأخيلة والتصورات، واستعادة ما ثبت في الذاكرة.
أذكر أني تعرفت إلى الجنس — في سِنِي التكوين الأولى — ربما كنت في الخامسة أو السادسة، حين تسللت إلى داخلي مشاعر غامضة غير محددة، لكنني أثق الآن أنها كانت مشاعر حسية. وقبل أن أتنبه إلى تيقظ ذكورتي، فإني لم أكن مارست ألعاب الأطفال ذات الإيحاءات الجنسية، مثل «عريس وعروسة»، والملامسات الملتذة، وغيرها مما تعرفت إليه بالقراءة فيما بعد. وكانت العلاقات الجنسية ضبابية الملامح إلى حد الاستغلاق.
حتى الفوارق الجسدية بين الذكر والأنثى ظلت غائبة إلى مرحلة متقدمة في سِنِي الصبا. لم أكن أتصور لجسد المرأة شكلًا محددًا، لم أره عاريًا، فخيالي يصنع له تصورات، يختلط فيها جسد الذكر — جسدي — وما أتخيله، وراء ملابس المرأة.
لعلي أجد في ترددي على مدرسة البنات بالمسافرخانة إرهاصة بتلك المشاعر الغامضة، المنتشية، فيصعب إهمالها. كنت أبدي ترحيبًا لطلب جاد أفندي مدرس الفصل، أن أحمل رسالة داخل مظروف مغلق إلى ناظر مدرسة البنات.
لم يكن يحدثني عن فحوى الرسالة، لكن الشعور الغامض يلفني، وربما سبق خطواتي إلى المدرسة. أميل من شارع الكناني إلى شارع الحجاري، ومنه إلى المسافرخانة. المدرسة في الشارع الضيق الطويل، الموازي للمسافرخانة.
أعاني ارتباكًا، وأفطن إلى المشاعر الغريبة تتحرك في داخلي، تعمقها أصوات البنات داخل حوش المدرسة، سواء من الحوش، أو من الفصول المطلة عليه، يذوي كل ما أعددته، يتلاشى تمامًا، في لحظة رفع مزلاج الباب الحديدي من الداخل، أجاوز حتى مشاعر الارتباك، يحل خوف، يأخذني من كل ما حولي، لا أحاول التلفت، أبدو مثل بطل الحكاية الشعبية الشهيرة.
لا أعي الكيفية التي مرت بها اللحظات — هي مجرد لحظات، وإن حفلت بما يصعب تذكره — إلا بعد أن تكون خطواتي في طريق العودة إلى مدرسة البوصيري.
ظلت زيارة مدرسة البنات مصدر سعادة لي، أذهب وأعود بمنتهى الهمة، حتى لا يكلف جاد أفندي بالأمر تلميذًا آخر. وعرفت أن انتقال جاد أفندي من المدرسة سيتبعه انتهاء العمل الذي أحببته.
أول اقترابي من عالم التوتر والنشوة والانبساط في بيت أقارب لي بمنطقة اسمها «غيط الصعيدي». أستقل الترام إلى محطة الصينية آخر محرم بك. أمضي في شارع واسع، على جانبيه بيوت قديمة وأشجار، أقرب إلى شوارع المدن الإقليمية. أميل يمينًا، فيسارًا. يطالعني البيت ذو الطابقين والحديقة. تستقبلني قريبتي بنظرة من تتوقع أن أكون قد جاوزت خيبة المرات السابقة، وتعلمت شيئًا. تغلق — كما في كل مرة — باب حجرتها، تهمل ذيل فستانها القصير، يعلو إلى ما فوق ركبتيها، تنطق ملامحها، وتصرفاتها، بالعفوية، وإن لمحت نظرة بجانب عينها، كأنها تحاول التعرف — في عيني — إلى تأثير فعلها، تطيل الكلام في الجنس، لا تجاوز التلميح في كلماتها، لكنها تحرص على ما ينبغي فهمه، تقضي الساعات في الدوران حوله، ليس ثمة ما يستدعي الخوف، أو الرهبة. إنه مثل الحلم الجميل، يتوق المرء (وتغمض عينيها بتصور النشوة) لأن يظل فيه إلى نهاية العمر، تعاني مشاعر متضاربة آخرها اليأس، تمضي به إلى باب الحجرة، تفتحه، وتشيح بيدها مودعة.
أفطن إلى أن عدم الفهم — وحده — هو الذي حال — في البداية — بيني وبين اكتشاف المتعة الحسية، كان الاستمناء متعتي الحسية الوحيدة، البدء والمنتهى، كل صلتي بذلك العالم السحري الغريب، المفعم بالرؤى والتصورات والتخيلات. قرأت عن العادة السرية في مكتبة أبي. تناولَتْها كتب «فائق الجوهري»، إلى جانب مشكلات ومعلومات جنسية أخرى.
حين تعرفت إلى العادة السرية — فيما يشبه الاكتشاف المدهش، العجيب، المذهل — لم أربط بين اكتشافي، وما قرأته، وما تناهى إلى سمعي مما يرويه أصدقائي.
أذهلني ما رواه زميلي في المدرسة الفرنسية الأميرية، أنه تنافس (!) مع شبان — أطفال! — في سنه، في بلوغ الذروة. تكرر الأمر مرة ثانية، وثالثة، حتى قذف دمًا في النهاية.
لا أعرف مدى صحة المعلومة، ولا إن كان ذلك قد حدث بالفعل، لكن المعنى الذي اطمأننت إليه أني لست منفردًا بلذتي الخاصة. ثمة آخرون لهم هم أيضًا لذاتهم التي يسرفون في اللجوء إليها.
كنت — إن صادفت صورة بها الجزء من جسد المرأة الذي أعشقه — أخلو إلى نفسي في دورة المياه، أو في الحمام، أحدق، وأستدعي الخيال، يتلبسني ما يشبه الجنون في انكباب على طقوس العادة الجميلة، المغرية، القاسية. أستدعي ما أحبه، أتخيل مواقف وعلاقات، حتى تتحقق النشوة.
مارست — بالتخيل — علاقات لا نهاية لها، طرفها المقابل بنت الجيران، وممثلات سينما — كم استدعيت هدى سلطان من فيلم «امرأة على الطريق» — وامرأة عابرة، وفتاة من قريباتي، يقتصر الفعل على اللحظة الثابتة، وإن علا صخبها، أشبه بالدوامة العنيفة التي لا تغادر موضعها.
انتبهنا على صُوات في الشارع الخلفي، أطلت صاحبتي من نافذة الحمام، فلاحظَتْ ما يثير القلق. جعلت من حذائها شبشبًا، واندفعت تهبط السلم. رأت فتاتي أمها تصوِّت على باب بيتهم، وعرَفت — وهي تميل في الشارع — أن خالها المقيم مع أسرتها في الشقة قد مات!
كفة ميزان تجارِبي الجنسية الفاشلة ترجح كفة التجارِب الناجحة!