الكتابة وحدها
الصور متعددة لي وأنا أكتب.
أثق أن الكتابة خُلقتْ لي، مثلما خُلقتُ أنا للكتابة. لم أتصور نفسي طبيبًا ولا نجارًا ولا سباكًا ولا كهربائيًّا ولا حلاقًا ولا مهندسًا. لم أتصور نفسي في عمل آخر غير القراءة والتأمل والكتابة. هذا هو العالم الذي لا أذكر متى كان تعرفي إليه، لأن البداية تتصل بمرحلة الطفولة، منذ اكتشفت القراءة في مكتبة أبي.
أتذكر قول الإسباني «غونثالو تورنتي»: «إذا كانت مصائر البشر تتحدد في طفولتهم، وتتشكل من خلال اصطدامهم بالأقدار، فلا بد أن تكون مهنتي ككاتب قد تخلقت منذ اللحظات الأولى في حياتي، منذ أعوام الصغر التي عشتها منغمسًا في عالم الفانتازيا وأطياف الحقائق.»
لم أستغرق وقتًا طويلًا في التعرف إلى هواياتي. كنت موزعًا بين هوايتين: الكتابة الأدبية ولعبة الجمباز. وانتصرت الكتابة الأدبية بأسرع مما كنت أتوقع. تصورت ابتسامة أبي وهو يقرأ اسمي «محمد لطفي جبريل-أديب» ملصقًا فوق اللافتة النحاسية التي تحمل اسمه على باب الشقة.
أثق أنني خُلقت لكي أكون كاتبًا.
اتخذت في حياتي الكثير من القرارات، لكن تظل «الكتابة» هي القرار الأهم في حياتي كلها، الكتابة تعطيني — في ذاتها — متعة شخصية، الأدق أنها تعمِّق إحساسي بالحياة، بواسطة القراءة والتأمل والتعرف على الخبرات، والإفادة من الأحداث والشخصيات — أو خلقها — في صياغة عمل إبداعي. إن توقفي عن الكتابة يعني توقفي عن الحياة نفسها، عن التقاط الأنفاس، وإعادتها، الكتابة تعويض عن عزلتي الاجتماعية، إنها وسيلتي للتواصل مع الغير. ولعلي أذكر قول كافكا: «الأدب هو حياتي، ولا أريد، ولا أقدر أن أكون غير ذلك.»
لكن العزلة تفرضها ظروف عملي، بأكثر من أن تكون تعبيرًا عن نفسٍ مُحبة للعزلة، وحين أقود سيارتي، فإن انشغالي يتحدد في القيادة، النظر إلى الطريق، وتوقع أخطاء الغير. ركوب المواصلات العامة يتيح لي القراءة، أو تأمل حركة الطريق، وربما الدخول في مناقشة مع رفيق الرحلة الذي لا أعرفه. قيادة السيارة الخاصة تعني العيش في عزلة، أما ركوب الأوتوبيس، أو المترو، أو حتى التاكسي، فيعني العيش في الجماعة.
حاولت أن تكون لي هواية؛ لا أعني هوايات الرياضة، فأنا أتابع مباريات كرة القدم وكرة السلة وكرة اليد والمصارعة ورفع الأثقال وغيرها، أضيف إلى مشاهدتي: حفظي للقوانين، حدود الصواب والخطأ، كيفية احتساب النقاط. طالت جلساتي أمام «عبد الفتاح الجمل»، بيننا لعبة الطاولة، يعلمني النرد والقشاط والزهر والشيش بيش والشيش جهار وخانة اليك، أعرف ما ينبغي فعله، ألعب — بالكاد — دورًا كاملًا، أُهْزم فيه بسهولة، أو أُظهر براعة تمد الوقت حتى يطوي الجمل طاولته في النهاية. ثم تبينت أن الطاولة في ذاتها لعبة لا أحبها، وأن دهشة — وربما إثارة — التعرف، لا تلبث أن تذوي، ليحل — بدلًا منها — شعور بالرتابة والسأم وهدر الوقت.
حتى الكوتشينة، أجدت ألعابها المختلفة في محيط الأسرة والجيران: البصرة، الكومي، الشايب، شلَّح، الكونكان، وغيرها. أذكرك بالبنت اليهودية التي تركتُ لها فرصة الفوز في لعبة الشايب، فعاقبتني بقبلة!
وحين أردت إظهار براعتي أمام صديق، طالبني — في هدوء مستخف — أن أفعل مثلما فعل، فأعيد أوراقي إلى الطاولة.
همست بالدهشة: أريد أن ألعب.
– لكنك لا تعرف اللعبة.
أضاف في هدوئه المستخف: من يلعب الكوتشينة لا يكشف أوراقها أمام خصمه!
جاوزت المشكلة مجرد عدم الفهم إلى ما يشبه الرفض. ثمة ما لا أفهمه في داخلي يرفض، القراءة هواية وحيدة، أكتفي في ألعاب المقاهي بالفرجة، لا أتحول إلى المشاركة، ولو بمحاولة الفهم.
أنا أحب القراءة، تمثل لي تحريضًا على الكتابة، حبي للقراءة هو المدخل لحب الكتابة. كتبت لأني قرأت، حاولت المحاكاة، ثم حاولت أن أعبر عن ذاتي على مستوى التجرِبة والخبرة والتقنية.
ولعل أخطر ما عانيته في محاولة القراءة الإيجابية، تصوري أن المعنى الذي أكتشفه قد غاب عن الآخرين، يعلو صوتي — ولو في داخل النفس — بصيحة الاكتشاف.
كان ذلك — على سبيل المثال — هو الدافع الذي كتبت — بتأثيره — عن بداية الاشتراكية في حياتنا. لم أكن قد قرأت بما يكفي لأعرف أن الاشتراكية تناولتها أقلام واجتهادات، قبل أن يكتب عنها صالح حمدي حماد في «مذكرات الأميرة يراعة».
ومقابلًا لرأي يحيى حقي بأن «زينب» هي الرواية المصرية الأولى، فقد اعتبرت أن رواية محمود طاهر حقي «عذراء دنشواي» تسبق رواية هيكل. ومع أن حقي ثنَّى على رأيي في حديث منشور، فإن الخطأ الذي تنبهت إليه، أنه كان يجب قراءة عشرات الأعمال الروائية التي صدرت حوالي تلك الفترة، قبل أن نعلن أيها أسبق من حيث الفنية وتاريخ الصدور.
وأقنعتني الحماسة التي كتب بها السحار روايته «قلعة الأبطال» أن تناوله لشخصية الخديو إسماعيل هو الصواب، وما ذكره الرافعي في تأريخه لأعوام ما قبل الاحتلال البريطاني وما بعدها، هو الخطأ، وتبينت — في قراءات موسعة، تالية — أن عصر إسماعيل لم يكن شرًّا كله، ولم يكن خيرًا كله أيضًا، ولعل نيات إسماعيل الصادقة ترجح كفة الخير في حياته.
أصارحك باستيائي للمكان الذي يقف فيه — الآن — تمثال الخديو إسماعيل. تمنيت — لأني قد عرفت! — لو أن التمثال — بعد أن نُقل من موضعه السابق إلى ما هو أهم منه بالفعل، وهو ضريح الجندي المجهول — لو أنه وضع في ميدان مهم، وليكن ميدان محطة الإسكندرية.
إن الخديو إسماعيل — في الاجتهادات الوطنية — هو باني مصر الحديثة.
ولغياب كل تلك المعلومات، فقد أخضعنا سيرة الرجل لاجتهادات ساذجة، منها — على سبيل المثال — أنه جلس — وهو الشيعي — إلى عمود في الأزهر يفقِّه في مسائل الدين!
دلتني القراءة المتعمقة كذلك على الرائدين المصريين العظيمين: «حسن العطار» و«رفاعة الطهطاوي»، وأن الفكر المصري — وربما العربي — الحديث يبدأ بهما، لا أقلل من تأثير الأفغاني في حياتنا السياسية منذ أواخر عهد إسماعيل إلى نهايات عهد توفيق، لكن التحفظ يفرض نفسه — وفق وثائق وسير وتراجم — بما لا يجعل النقلية مصدرًا وحيدًا يملي علينا اجتهاداتنا.
•••
ظلت أمنيتي أن أتفرغ تمامًا للقراءة والكتابة.
لم أكن أحلم بالمجد ولا بالمال، لسبب بسيط، هو أني كنت أكتب ما أومن به فعلًا. ليس ثمة تناقض بين ما أومن به، وما أحاول التعبير عنه. كانت أحلامي كبيرة، ومشروعاتي تحتاج إلى أعوام طويلة، وكنت أتذكر قول أحمد بن طولون لابنه العباس: «لا تُلق بهمَّتك على صغار الأمور بأن تسهل على نفسك تناول يسيرها، فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشتغل بما يقل قدره، فلا يكون فيك فضل لما يعظم قدره.»
لعلي أجيد الكتابة أفضل مما أجيد الكلام الشفاهي. أتذكر قول كافكا: «لا أكون جسورًا، مقدامًا، قديرًا، منفعلًا بشكل مدهش، إلا عندما أكتب.»
كانت الآلة الكاتبة تبتلع وقتي بصورة قاسية. إن أخطأت — بصرف النظر عن بساطة الخطأ أو ضخامته — أو بدت الصفحة غير منضبطة، نزعتها من الآلة، وأعدت كتابتها. وكنت ألجأ — أحيانًا — إلى موسى الحلاقة، أو «الكُرِّيكتور»، لتقويم الأخطاء، أو إزالتها.
معظم جلوسي للكتابة على طاولة الطعام، أكتب، ثم أنقل ما كتبته على الآلة الكاتبة (الكومبيوتر فيما بعد)، لكنني أكتب حين تواتيني الكتابة، لا أتعمد زمانًا محددًا، ولا مكانًا بذاته، تلح الفكرة فأكتب حيث أكون، أكتب بإفاضة، أو مجرد خطوط أولية، أرفض طريقة السيناريو السينمائي في الكتابة الروائية، أرفض الرسم المسبق للشخصيات والأحداث، فلا يبقى شيء للتلقائية.
لا أميل إلى الكتابة ما لم أكن في صحة نفسية جيدة، إذا فقدت الاقتناع أو الحماسة أو التركيز، فإني أتوقف عن الكتابة حالًا، حتى تواتيني الرغبة في لحظة تالية، أتوقعها، وأنتظرها.
قد ينتهي عمل ما على نحو مغاير، ربما إلى حد التباين، مع الفكرة التي كانت تشغلني. تحل شخصيات، وتختفي شخصيات، وتظهر أحداث بدلًا من أخرى، تصورتها، يأخذ العمل الإبداعي — في أثناء كتابته — طريقًا لم أكن تعرفت إلى ملامحها. وأحيانًا، تتسع الرؤية، وتَبِين الملامح والقسمات، فأشاهد من التقيت بهم في مراحل عمري المختلفة، وأستمع إلى أحاديثهم، وأناقشهم.
•••
من حولي شبان في مثل سِنِّي، كتبت في ظهر الصور: مع عدد من القراء. كانوا أصدقاء، ولم يكونوا على معرفة بأحلامي الإبداعية، لكن الطموح — أملاه، فيما يبدو، أفق البحر — انطلق إلى أقصى مداه، تصورت نفسي كاتبًا، وله قراء، أستعيد حكاية صديقي في المدرسة الثانوية. كان يطلعنا — في أوقات أحاديثنا العاطفية، وما نقتحمه من مغامرات، حقيقية، أو موشَّاة بالمبالغة، أو متخيلة — على صورة فتاة في مثل سنه، أو أكبر منه بسنوات قليلة، هي فتاته التي أخلصت لحبه، مثلما أخلص لحبها. ولما زار أحد الطلاب صديقنا المشترك، فوجئ بأن فتاة صديقي فتحت له الباب.
لم أطمئن إلى أن السماء حرمتني ملكة الشعر، فأحاول العمل والمثابرة — كما فعل ثربانتس — لاجتلاء موهبتي الشعرية، توقفت عن كتابة الشعر، وإن حاولت أن أضع طاقتي الشعرية في كتابة السرد القصصي (أوافق إيزابيل الليندي على أن إدمان السرد القصصي مرض لا شفاء منه!). أحببت في النثر صوت الكلمات، المفردة، الجملة، التعبير، الجمال في اللغة.
ولأن جاد أفندي مدرس الفصل بالبوصيري الأولية — إلى جانب إشرافه على الفصل — كان مدرسًا للرسم، فقد حاول أن يردف إلى موهبتي الأدبية محاولات في فن الرسم. ومع تعدد محاولاتي، فقد ظل الرسم أشبه بالأمنية المستحيلة، وحتى الآن فإن العجب يأخذني، وأنا أتأمل لوحات الفن التشكيلي: كيف واتت الفنان هذه القدرة؟!
ومع أن المشهد التمثيلي الذي دعاني ناظر المدرسة لتقديمه أمام مفتش التعليم، كان ضمن مقرر اللغة العربية، فإن جاد أفندي هو الذي اختاره من الكتاب، وكلف مجموعة تلاميذ — كنت واحدًا منهم — بأدائه.
وأذكر أن الأستاذ عطية مدرسي في الإسكندرية الثانوية، كان يختلف — في طريقة تدريسه — عن جاد أفندي، فهو لم يكن يقصر اهتمامه على مجرد إجادة اللغة، لكنه كان يناقشنا في القراءات التي اجتذبتنا، سواء كانت دواوين شعر أم روايات، أو مسرحيات، وفي العروض السينمائية والمسرحية التي أتيحت لنا مشاهدتها. وكانت محاولتي الأولى في النقد السينمائي بتحريض من الأستاذ عطية، عندما حثني على تحليل الشخصيات والأحداث في فيلم «ريا وسكينة» الذي حقق نجاحًا لافتًا.
•••
لا أذكر اسم الإصدار الأول الذي أزمعت نشره، هو — في الأغلب — قصص قصيرة مما كتبته أعوام دراستي بالفرنسية الأميرية بمحرم بك.
للتغلب على مشكلة التكاليف، فقد اقترح زميل — أذكر من اسمه «رشاد» — أن نغطي التكاليف بطريقة الإيصالات، الإيصال بعشرة مليمات، يغطي مجموعها تكاليف المجموعة.
قال لنا صاحب مكتبة في شارع محرم بك (تبدَّل نشاطها مثلما تبدل الكثير من ملامح الشارع): «دعوا لي أمر صياغة الإيصال، فأنا أدرى به!»
في اليوم التالي، تسلمنا دفتر الإيصالات بعنوان «هكذا يكون الرجال».
ما كنت كتبته مجموعة قصصية، ولم يكن الاسم الذي اختاره الرجل ذا صلة على أي نحو بما كتبت، لكن الرجل قصر الإيصالات على معناها المادي، فهي وسيلة لجمع تكاليف إصدار الكتاب.
من أجمل ما أحتفظ به — حتى الآن — ذلك الإيصال القديم، يعلن دفع عشرة مليمات قيمة اشتراك في كتاب «هكذا يكون الرجال»، تأليف «محمد لطفي جبريل».
أذكر قول «بورخيس»: «أشياء قليلة حدثت لي، وأشياء كثيرة قرأتها.» القراءة هنا أفادت من كتابات الآخرين.
لاحظ «عبد الفتاح الجمل» انشغالي بما سماه «المشروعات الكبيرة»، سألني: لماذا؟
قلت بعفوية وصدق: لا أعرف!
لم يكن السؤال يشغلني، شغلني أن أكتب عملًا كبيرًا — أكرر التعبير! — يمثل إضافة للمكتبة العربية على نحو ما!
وحتى الآن، فإن وحدة الفنون — أو تفاعل الأنواع، على حد تعبير «زينب العسال» — هو حرصي في كل أعمالي، سواء كانت روايات أم قصصًا قصيرة. إذا كنت قارئًا متابعًا لأعمالي، فلعلك ستلحظ هذا المعنى في مجموع ما كتبت.
والحق أني جاوزت في السرد الروائي قضية هجرة الشباب — وهي قضية اجتماعية خالصة — إلى إعادة طرح القضية التي تدخل في نسيج مشروعي الإبداعي، وهي قضية الوطن: ما الوطن؟
حفَلت الرواية بالبشر الذين تتباين طموحاتهم وتطلعاتهم، وبمخلوقات البحر، وأحوال البحر وجزره وصخوره، وناقشت — في تعدد الأصوات — معنى الوطن، وموضعه في داخل النفس، سواء انتمى الصوت إلى الواقع أو الخرافة.
مع ذلك، فلعله يجدر بي أن أشير إلى البيان الذي وقعه أوهان باموق وعدد من المثقفين الأتراك: «إن ضمير المواطن التركي ليرفض انعدام الشعور بالمسئولية إزاء الكارثة الكبيرة التي تعرض لها الأرمن، كما يرفض إنكار وقوع الكارثة المذكورة. إنه يرفض هذا الظلم الجائر، ويشارك الإخوة الأرمن في مشاعرهم المريرة، ويقدم لهم خالص اعتذاراته.»
•••
للمستشار الألماني الأسبق «كونراد أديناور» مقولة: «إذا أردت أن تستولي على محطة سكة حديد، فعليك أولًا أن تقطع تذكرة»؛ بمعنى أنه على المرء أن يبدأ من البداية فيما ينوي القيام به. وحين بدأ «بيكاسو» في رسم لوحاته التجريدية فإنه كان قد درس التشريح، وهضم المدارس الفنية المختلفة.
ألقيت السؤال على نفسي، بعد أن غادرت «السمارة» و «السنبلاوين» كلها: لماذا كان ذلك الحرص الغريب على أن أخالف نصائح مأمور المركز والعمدة وشيوخ العائلات، وألتقي «محمد أبو عبده»، أو «ابن بمبة»؟
لم أكن أبحث عن مغامرة مثيرة، كان ذلك أبعد من أن يفد إلى خاطري، إنما هو تصور بأن الحياة في كل أبعادها واجب الفنان ليفرز معطيات تعانق الصدق، الصدق هو الفرق بين الكتابة عن صورة وردة في كتاب، وتأمل وردة حقيقية، وتَشمُّم رائحتها.
•••
«سيد فيات»، تعرفت إليه في مسقط. كان يعمل سائقًا لسيارة نقل، ثم عاد إلى دكانه في ميدان النعام بالقاهرة سروجيًّا للسيارات، بعد أن اشترى لنفسه سيارة فيات. من هنا أطلقنا عليه التسمية. كنت — وما زلت — حريصًا على صداقتنا، أزوره، وأجالسه، في المقهى القريب، وأتعرف إلى أصدقائه من حرفيي الحي والمترددين عليه، وأتعرف إلى مشكلات، وتعبيرات، وحياة متجددة. أنفذ إلى الواقع، وأحاول التعبير عنه، مستفيدًا مما يتيحه لي الخيال. أرفض مجرد استنساخ الواقع، أو محاكاته، أو حتى إدراكه. أذكر قول يوسا: «لم تعد الرواية في خدمة الواقع، لكنها تستخدم الواقع.»
إذا كان «لوكاتش» يرى في ضياع الشخصية وانقراضها النهائي، مضمونًا فعليًّا للرواية الجديدة، فإن ما أكتبه يصعب — بهذه النظرة — أن ينتسب إلى الرواية الجديدة، لأن الشخصية، البطل، موجودة وواضحة القسمات، ولها كينونتها في إعمالي.
باختصار، فإن معظم شخصياتي من البسطاء، يبحثون دائمًا عن الحقيقة، عن أية قيمة معنوية أو مادية، لا يكتشفون إلا مؤخرًا، أن كل القيم في داخلهم: الخير والشر والكمال والنقص والحب والكره، كل شيء في داخلهم، وبيدهم، بيدهم وحدهم، إبراز الخير على الشر، أو العكس، وهكذا. وهم مؤمنون بالله، بتلك القوة الخفية الجبارة التي تسيطر على كل شيء، وإن كانوا لا يأبهون كثيرًا بالشعائر الدينية. إيمانهم بالله لا يُستمد فحسب من الكتب السماوية، وأحيانًا هو لا يُستمد منها، إنما هو شيء ينبع من داخل النفس، سمِّه قوة خفية، أو سمِّه حقيقة مسيطرة، سمِّه أي شيء، لكنه يسيطر على الكيان جميعًا.
ثمة مَن قد يجاهر برفض الإيمان، لكن أعماقه تنبض بهذا الإيمان. الله موجود في منطقة اللاوعي، لأنهم يتصرفون بدوافع عملية، يحكمها منطق المصلحة المادية المباشرة.
والعديد من شخصيات أعمالي الأدبية يحسون بالضياع، يريدون تأكيد وجودهم بأية وسيلة، بأي تصرف، يريدون الإحساس بأنهم يشغلون الفراغات التي تملؤها أجسادهم بالفعل، يريدون الإحساس بأنفسهم كآدميين، وأن لهم دورًا في الحياة.
قد تبدو بعض الشخصيات سلبية، فهي نماذج ضعيفة، متخاذلة، أمام ضغوط الحياة. تتجنب أية رغبة جادة في تغيير الواقع الاجتماعي، لكن هذا الرأي يبدو غير صحيح في تولد الإيجابية من السلبية، والمقاومة من السكون.
الفارق بين البطل الأسطورة والبطل الإنسان أن الثاني يحلم ويتعذب ويعاني النقائص مثل كل البشر، لكنه يتفوق على سواه من البشر بأنه يحاول التغلب دومًا على نقائصه، وتغليب الإيجابيات على السلبيات، وصهر الخاص في بوتقة العام.
في بيتي، أشعر بالاطمئنان والهدوء، لا يشغلني إلا القراءة والكتابة والتأمل. أنفض عن رأسي صور الرداءة التي تطالعني بمجرد أن أنزل إلى الطريق، وأنا أقود السيارة، في الأوتوبيس، في لقاءات العمل والصداقة … الصداقة … تصور! في كل ما ألتقي به.
أنا لا أحتاج إلى أقنعة من أي نوع، ولا لأي سبب، رتبت نفسي للكتابة في أي وقت، وفي أي طقس، لا أشترط هدوءًا، لا إضاءة عالية، أو خافتة. أفادتني سِنِي العمل في جريدة «الوطن» العُمانية في القراءة في ضوء شمعة، وأفادني جو الصخب في جريدة «المساء» على الكتابة دون تقيد بالهدوء من عدمه.
أتصور — أحيانًا — أن تكويني النفسي تأثر بالصورة التي يبدو عليها البيت الذي وُلدت، ونشأت فيه، تفردُّها دون بنايات ملاصقة، وإطلالتها — في الوقت نفسه — على تقاطعات شوارع ثلاثة وامتداداتها، أَمِيل إلى العزلة والبعد عن الحياة الاجتماعية.
مع ذلك، فإني أحلم بامتلاك البلورة السحرية، أو بساط الريح، أو طاقية الإخفاء، أو لو أن طائر الرُّخ حملني بين جناحيه، حينئذ سأرى العالم، ما يصعب أن تتيح لي الظروف رؤيته.
•••
ظللت — لأعوام طويلة — أشعر أنني صبي في ورشة، أسطواتها هم: «ديستويفسكي» و«بلزاك» و«فلوبير» و«المازني» و«يحيى حقي» و«نجيب محفوظ» و«ديكنز» و«كافكا» و«مارسيل بروست» و«كامي» وغيرهم. وكنت أتلمس التعلم في إنجاز كل واحد من هؤلاء المبدعين، الأسطوات: اللغة، التقنية، إجادة التقاط التفصيلات، … إلخ.
والآن، فإن قلة من أدباء الأجيال السابقة — عربًا وأجانب — من كان لهم تأثير حقيقي على كتاباتي، أو غيروا نظرتي إلى العالم، أو إلى تقنية الكتابة الروائية، من أثَّروا فيَّ — لفرط إعجابي بهم — تأثيرًا حاسمًا.
أحب الإبداع الذي يغيِّر نظرتي إلى الأمور، يثير في داخلي الأسئلة، والملاحظات، والمعاني التي ربما كانت غائبة (مع وفرة قراءاتي، فإنه من الصعب أن أتحدث عن كتاب ما بأنه حدد مسار حياتي، أو بدَّل هذا المسار). ولعله يجدر بي أن أشير إلى قول «جان جاك روسو»: «إن الكاتب الذي يفكر بعقله هو لا بعقل غيره، هو رجل حر.» المعنى نفسه — تقريبًا — تذهب إليه «آسيا جبار» بقولها: إن «الحرية هي إمكانية كتابة ما نستطيعه، وما نريده.»
الأصل في الإبداع هو الحرية، وإن أشار البعض إلى أنه عندما يدور الصراع في داخل الفنان بين حرية الإبداع وأخلاقيات المجتمع، فإنه يجب أن ينتصر للخيار الثاني. الفنان فرد كمبدع، لكنه — كمواطن — عضو في مجتمع يصعب أن يهمل معتقداته وتقاليده وأعرافه.
أنا أكتب أعمالي كما لو أني — للأسف — لست مواطنًا عربيًّا، كما لو أني لا أحيا في الوطن العربي، العفوية التي أحرص عليها — في أثناء عملية الكتابة — توازيها حرية في التفكير والمقولة، لا أتعمد الرمز أو التصريح، كل عمل يفرض نفسه على النحو الذي يختاره، ولعلي أُفضِّل أن يكتب العمل نفسه، فأنا أبدأ كتابته وخاطري مشغول بفكرة أو رؤية أو تفصيلات غير محددة. وقد يغلف ذلك كله هلاميات لا تهب ملامح محددة، فيكتسب العمل — أثناء كتابته — ملامحه وتفصيلاته، وتتخلق شخوص وأحداث، ربما لم تكن في بالي حين بدأت الكتابة.
ثمة قصص كثيرة وروايات طال احتفاظي بها في الدرج، لأني كتبتها بجرأة الفنان، وترددت في نشرها بقلق المرء الذي ينتمي إلى مجتمع له قيمه ومُثُله. أتفهم قول «الطاهر بن جلون»: «باريس أشعرتني بأن كل المجالات مفتوحة.» أن يشعر المبدع بأن كل الأبواب مفتوحة، وكل النوافذ مفتوحة، وأن المخبرين والبصاصين والرقباء وغيرهم من أصحاب المهن السيئة السمعة، يغيبون حتى عن خاطره، فلا تشغله إلا الكتابة في حرية، لا بد للإبداع أن يرتبط بالحرية، لا قيمة للإبداع ولا معنى له، ما لم يتحرك في مساحة بلا آفاق تنتهي إليها.
المقولة، الدلالة، تهمني في أي عمل أكتبه، تهمني متعة الكتابة في ذاتها أيضًا، لذة النص التي يشعر بها القارئ في أثناء القراءة هي لذة النص التي يشعر بها الكاتب في وقت الإبداع.
مع ذلك فلعلي أحب أن يتأمل المبدع تجرِبته، ينوع على نغماتها، يحيل كل تجرِبة إلى مرحلة لها سماتها الفنية واللغوية. ذلك ما فعله «بيكاسو» في مراحله المتعاقبة، وذلك ما فعله «نجيب محفوظ» منذ مجموعته «همس الجنون» إلى «أحلام فترة النقاهة»، مرورًا بالروايات الفرعونية، ومرحلة الواقعية الطبيعية، فالمرحلة الرمزية، ثم مرحلة الواقعية النقدية. من المهم أن يمضغ المبدع تجرِبته، ولا يبتلعها.
أنا أحب الخيال، التخيل، أعوض به ما لم تتيحه لي التجرِبة الشخصية، ما لم أره، أو ألمسه، أو أشمه، أو أتذوقه. إذا لم يجتذبني الكلام الذي أنصت إليه، أتبين فيه من الأهمية والجدوى ما أهبه انتباهي، فإني أنتقل — بعفوية خالصة — إلى جزر يصنعها الخيال، خيالي، تختلط ملامحها كما في الأحلام، ناس أعرفهم، وآخرون لم أتعرف إليهم من قبل، وأحداث كما في الواقع، وأخرى تلفها الغرائبية.
ربما أستمع إلى عمل إبداعي؛ قصيدة، أو قصة قصيرة، أتابعها — لجمالها — حتى النهاية. وربما قفزتُ — بعد السطر الأول — إلى جزيرتي الغامضة، أحيا فيها مع الملامح الأليفة والمختلطة. حتى الفيلم السينمائي أطالب من يتابعونه معي أن يركزوا على أحداثه جيدًا، لوصل الخيط الذي يقطعه الشرود، والحياة في الجزر المجهولة.
أحب الخيال، التخيل، لكني أحرص على معايشة الواقع، تأمله، الاقتراب — ما أمكن — من تجارِبه، التعامل معه. حين أكتب عن شخصية ما غير موجودة في الواقع، فأنا — في الحقيقة — أكتب عن العديد من الشخصيات الموجودة في الواقع، الخيال المطلق يعني أن هذه الشخصية لا وجود لمثيل لها في الواقع، وأنها مخترعة تمامًا، وهذا غير صحيح، لأن الفن يتحدث عن شخصيات تتكلم، وتصمت، وتحلم، وتتطلع، وتعاني الإحباط والعقد النفسية، وتنام، وتأكل، وتشرب، وتسير، وتمارس كل ما يفعله إنسان هذا العالم.
أوافق «كافكا» على قوله: «إن العمل الذهني يفصل المرء عن الجماعة الإنسانية، لكن العمل اليدوي يقود الإنسان إلى الناس.» مع ذلك، فقد حاولت — دومًا — أن أقترب من الناس، أن أحيا مشكلاتهم وما يعانون. «جارثيا ماركيث» يعلن أن رواياته لا تضم سطرًا واحدًا لا يستند إلى الواقع، الواقع لا يهبنا فحسب ما ألِفت العين رؤيته، إنه يحفل بالكثير مما يبدو غرائبيًّا وغير مألوف. أذكرك بالرجل الذي أُوقفَ تنفيذ حكم الإعدام فيه، بعد أن وُضعت حول رقبته أنشوطة المشنقة!
•••
لحظة الإبداع ليست هي لحظة الجلوس للكتابة، للإبداع فترة اختمار قد تمتد أيامًا، أو شهورًا، لكن الإبداع ليس وليد اللحظة، ولا وليد المصادفة.
مكان الكتابة نسبي. ثمة مكان يمثل — لسبب ما — حافزًا على الكتابة، الهدوء (ربما أدرت الراديو أو التليفزيون، لكني أهمل الانتباه)، الضوء، النظافة. ثمة — في المقابل — مكان للجلوس، للراحة أو مجالسة الأصدقاء، لا تشغلني فكرة الكتابة.
لاحظت أن مكان القراءة عندي تحدد — منذ سنوات — في الأوتوبيس، أفيد من طول المسافة بين بيتي في مصر الجديدة ووسط البلد. إذا أردت أن أستكمل قراءة كتاب ما، فإني أسأل زوجتي: هل لديك مشوار في البلد؟ ليس المشوار — الذي لا أعرف طبيعته — ما يهمني، إنما هي الرغبة في وصل ما سبق، في استكمال ما كنت بدأت قراءته.
أما مكان الكتابة فهو — في الأغلب — طاولة المائدة في البيت، أفضل أن أجلس إلى الطاولة للكتابة، تتهيأ أمامها نفسيتي ومزاجي وقدراتي، ربما لو أني جلست إلى مكان آخر سيزول ذلك التهيؤ. لا أذكر متى، ولا كيف، تحددت هذه الأماكن، لكن ذلك صار كذلك بالفعل.
لعلي أنفق الكثير من الوقت فيما يمكن تسميته الإعداد، أو التهيؤ للكتابة، أنشغل بأشياء لا قيمة لها وتافهة، تجرِبة القلم، مسح ما على الطاولة أو المكتب، من غبار أو أوساخ، لملمة الأشياء المبعثرة. وبمعنى آخر، فإني أرش الماء أمام الدكان، وأنظفه جيدًا قبل أن أبدأ في مزاولة نشاطي.
أصعب اللحظات عندما أضع الأوراق البيضاء أمامي، أحاول الكتابة فلا تواتيني الفكرة، بل ولا تواتيني القدرة على الكتابة، تختلط اللحظات والمعاني والكلمات، فهي لا تتصل، ولا تتسق. لولا شعور يداخلني — على نحو ما — بأن العمل الذي أعد لكتابته أفضل من الأعمال التي سبقته.
ربما تواتيني فكرة ما، أحاول البدء في كتابتها فلا أُوفَّق، أعاود المحاولة أكثر من مرة فيواجهني الفشل، أُزمِع أن أنسى الفكرة تمامًا، لكنها — في لحظة ما — تلح في أن تكتب نفسها، فلا أترك القلم والورق حتى أتم مُسوَّدتها الأولى! (أصارحك بأني أفكر — منذ تعرفت إلى الكتابة — في اللحظة التي لا يجد فيها القلم ما يكتبه، وتظل الأوراق بيضاء. أخشى اللحظة التي يخبو فيها الإبداع، تغيب الرؤى والتصورات والأحداث والشخصيات واللغة والأسلوب والتقنية، وكل ما يشكل عملًا إبداعيًّا). تأتي لحظة الإبداع — في لحظة لا أتوقعها — كالانبثاق المفاجئ، كالومضة، لعلي أكون منشغلًا بفكرة أو أخرى، أو عمل آخر، تمامًا، ربما تعاودني الفكرة، تقتحمني وأنا أجالس أصدقاء، أو أخوض حوارًا في قضية ما، أسلم نفسي للشرود، للحياة مع الفكرة التي تلح على ذهني، وإن هززت رأسي في تظاهر بأني أُنصت.
لاحظت أن معظم الأفكار تواتيني وأنا في اللحظات بين الصحو والنوم، بل إن قصتي «هل» — كما رويت لك — تخلقت في ذهني قبل أن أصحو من نوم القيلولة. لم أفعل — حين جلست إلى مكتبي — إلا نقل ما كان قد كتب نفسه في الذاكرة. ربما تنبثق الفكرة في أثناء القراءة، قراءات منوعة لا صلة لها بالفكرة التي تنبثق فجأة. أتناساها، أو أرجئ التفكير فيها، تعاودني، أو أنساها، تفرض إلحاحها في اللحظة نفسها، فأنحي كل ما بيدي، وأبدأ في الكتابة. أواصل الكتابة دون أن ألحظ انقضاء الوقت، أكتب بسرعة شديدة، لا أُعْنَى بتحسين الخط، وإنما تشغلني الكتابة ولو بخط أعجِز — شخصيًّا — عن قراءته.
ما أريد كتابته أسرع دائمًا من عملية التسجيل، من جري القلم على الورق. وبالطبع، فإن الفكرة ربما تكون قد شغلتني من قبل كثيرًا، أتأملها، أقلِّبها، أحاول استكناه الأحداث والنفسيات والدلالات، ثم أنصرف عن ذلك كله إلى فكرة أخرى، أو عمل آخر، لكن الفكرة الأولى ما تلبث أن تعود. أنشغل بها ثانية، ثم أنساها، وهكذا. وعمومًا، فإني أفضل أن أكتب بدلًا من أن أتكلم.
في بالي قول «همنجواي»: «عندما أتكلم فلن يعدو الأمر مجرد كلام، أما عندما أكتب فإني أعني ما كتبته دومًا.»
أحاول — مع ذلك — أن أستدعي ما يُسمى بالإلهام، ولا أجلس في انتظاره. أشفق على ذلك الفنان الذي جلس — ساكنًا — أمام حامل اللوحة، وفي يده الفرشاة ساكنة كذلك، مترقبًا أن يهبط عليه الإلهام. معظم شخصياتي مبعثها الخيال، لكنها تتحول — في أثناء تخلق العمل — إلى شخصيات حقيقية، أتوهم أنها حقيقية! لا أحب التوقف بين الجمل، الجملة التي تستعصي على الكتابة، يقفز القلم فوقها، وأتركها لمحاولة استعادة المواقف، وما يجب أن أضعه في موضع النقاط، أو المساحة البيضاء، بين جملة وأخرى (أنا ممن يفضلون أن يبدي أصدقائي — ليسوا جميعًا أدباء بالضرورة — آراءهم في مُسوَّدات أعمالي قبل أن أدفع بها للنشر، أفيد من الملاحظات التي تناقش المعلومة، وتكشف ما قد يتسم بها من أخطاء، مبعثها الحرص أن تكتب القصة، الرواية، نفسها. لا ملفات مسبقة، ولا بيانات شخصية، أو ملامح أو أحداث، تشكل قِوامًا للعمل الإبداعي).
لا أذكر أني مارست لعبة وقت الفراغ، فأنا أحاول أن أفيد من كل لحظة. أكتب، أو أقرأ، أو أنظم أرشيفي، أو أتأمل. ربما انشغلت بشيئين في وقت واحد. إذا أجهدني التعب، أو تعكر مزاجي لأي سبب، انصرفت إلى استخلاص القصاصات التي تهمني من الصحف.
أنا أكتب، لا أكف عن الكتابة مهما تكن الظروف قاهرة، والأحوال معتمة، على حد تعبير «خوسيه ساراماجو». ولعلي أذكر قول «كارلوس فوينتس»: «لن أستحق شيئًا إلا إذا عملت بلا هوادة في سبيله، بإرادة حديدية، وبشكل يومي.»
«الكسل خطيئة، وإذا لم أجلس أمام آلة طباعتي كل يوم في الثامنة صباحًا ليوم عمل مكون من سبع إلى ثماني ساعات، فإنني — بالتأكيد — سأذهب إلى جهنم.»
توليت — في عملي الصحفي — مراجعة بعض التحقيقات، أو التقارير، كنت أفضل أن أعيد كتابتها، أقرأ ما كُتب جيدًا، ثم أنحيه، وأبدأ كتابتي الخاصة، أضمِّنها ما يحزنني تنازلي عنه — طواعية — لآخرين، تشبيهات ومجازات وتقنيات سردية، أشعر أني ظلمت فني. أني ظلمت نفسي.
الفن ليس لحظات عمل بين ساعات، أو أيام، استرخاء، إنه يتطلب المداومة والاستمرار، يذكرنا «يحيى حقي» بقول عازف الكمان «باجانيني»: «إذا انقطعت عن التمرن على العزف ثلاثة أيام متتالية، تبين قصوري للجمهور، فإذا انقطعت يومين تبين للناقد الحساس. أما إذا انقطعت يومًا واحدًا، فلن يتبين قصوري إنسان سواي.»
أصف — في الأجندة اليومية — يومًا ما مضى من حياتي، بأنه يوم بلا عمل، يمثل — بالنسبة لي — يومًا ضائعًا، جهدًا كان يجب أن أبذله، ولم أفعل. أكره قضاء الوقت في أي شيء، عدا التأمل والقراءة والكتابة. إذا ابتعدت — لظروف العمل — عن القلم والأوراق، فإن ما أكتبه، ما بدأت في كتابته، يناوشني، تتحرك في وجداني شخصياته وأحداثه، حين أعود إلى ما كنت أكتبه، تسبقني اللهفة إلى ما فات، وإلى تعميق الملامح والقسمات.
أحيانًا، يناوشني السؤال: هل سيذكرني أمل ووليد مثلما كان «جارثيا ماركيث» يتصور أن أبناءه سيتذكرونه به، وهو الحياة في غرفة صغيرة، تائهًا في دخان السجائر الأزرق، «الرجل الذي نادرًا ما لاحظهم، يظهر فقط في أوقات تناول الطعام، ويجيب عن أسئلتهم بطريقة غامضة وهو شارد الذهن.»
أجد نفسي في هذا الوصف، في معنى الوصف، فلا صلة لي بدخان السجائر الأزرق، لأني لا أدخن السجائر، وإن ألِفت العزلة، والخلو إلى قلمي وأوراقي وكتبي وتأملاتي، هذه هي حياتي منذ الصبا وحتى الآن.
أشرت — في مناسبة سابقة — إلى ملاحظة الصديق الراحل «محمود الشنيطي» حول انغماسي (هذا هو التعبير الذي يحضرني) في ثالوث القراءة والتأمل والكتابة. قال: «هذا انعكاس فترة المراهقة، ما نتعوده في تلك الفترة يظل بعض تكويننا إلى نهاية العمر: حب القراءة، حب الإبداع الأدبي أو الفني، دراسة التاريخ، إلخ.» تلك كانت ملاحظة الشنيطي في شبابي الباكر، وأظن أنها ملاحظة صحيحة تمامًا.
الروائي راهب — المعنى وليس العمل — محب للعزلة، يميل للتأمل، منضبط، يحرص على النظام، يهمل وقت الفراغ، أو وقت الفسحة، يستنيم إلى الدافع الرومانسي. هذه هي الصفات التي يرى النقاد أنها لا بد تتوافر في الروائي، لكي ينظم وقته وأوراقه وتأملاته وأفكاره، ويجوِّد كتاباته. ما يهمني هو التركيز على القراءة والكتابة، لا يشغلني ما قد يحيط بذلك من مظاهر وظواهر، الإجادة — وحدها — هي الوسيلة والهدف.
مع ذلك، فإني أتمنى — أحيانًا — في انصرافي إلى القلم والأوراق، أن يقطع عزلتي صديق قدم لزيارتي، أعتبر زيارة الصديق فرصة للابتعاد عن جو القراءة والكتابة، جوٍّ تَلبَّسني، فلا أستطيع أن أرفع رأسي إلا إذا انتُزعت منه. أيًّا كان إقبالي على عمل ما، انطلاقًا من حبي له، فلا بد من لحظات يحل فيها السأم، ساعة أو اثنتين أو ثلاثًا، ثم أتوقف، أشعر بحاجتي إلى فعل شيء مغاير، ويبدو لي كل شيء سخيفًا وبلا معنى.
قد أعاني — بعد فترة من التوقف — شعورًا بالخوف يبلغ حد التصور أني لن أستطيع الكتابة. أعرف أن موتي الحقيقي يوم أكف عن الكتابة، الأمر يجاوز التمني في قول «نجيب محفوظ»: «إنني أتمنى أن يكون موتي في اليوم نفسه الذي أشعر فيه بفقدان القدرة على مواصلة الكتابة.»
توقُّف المبدع في داخلي — القراءة والتأمل وملاحظة الناس والأشياء ومحاولات الكتابة — يساوي — بالضبط — توقُّف الأنفاس في جسدي، يساوي الموت الجسدي.
لعلي أضيف أن العمر في النازل، وما أريد أن أعبر عنه يحتاج إلى أكثر من حياة.