الواﻗﻊ … والخيال
«الخيال … يا له من شيء عجيب.»
«إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال.»
تُعَد مشكلة الفن والواقع قديمة متجددة، سبق إلى تناولها ليسنج وديدرو وبيلينسكي وغيرهم، ولا تزال تجد اهتمامًا لافتًا عند النقاد المعاصرين.
يجيب جيورجي جاتشيف على السؤال: ما الفن؟ أهو تفكير فني، أم معرفة، أم هو نشاط وإنتاج؟ يجيب بالقول: «إن جوهر المسألة كلها يكمن في أن الفن يحوي في ذاته هذين الشكلين من أشكال الوجود الإنساني في وقتٍ واحد، ولكن من البديهي أن الفن — في مختلف مراحل تطوره، وفي شتى أنواعه وأجناسه — يعطي المقام الأول لجانبه التربوي التغييري تارة، ولجانبه المعرفي الانعكاسي تارة أخرى … الفن يقدم للناس مرآة يستطيعون بواسطتها أن يرَوْا أنفسهم في الآخرين، والآخرين في أنفسهم» (ت. نوفل نيوف). ويقول أرنولد كيتل: «إن لب أية رواية هو ما تقوله عن الحياة»، أو أنه «خلاصة رؤيته لما يحاول معالجته من الحياة» (ت. لطيفة عاشور).
مع أن الفن — على حد تعبير جاتشيف — لا يحتاج للاعتراف بمواده على أنها واقع، فإن القارئ — في العمل الإبداعي — يتوقع صورة للحياة، أن يكون العمل مطابقًا للواقع، والمبدع — في المقابل — مطالَب بأن يهب القارئ ما يمكن تسميته بالإيهام بالواقع. وكما يقول الإسباني ثونثو نيغي «فلكي تكون روائيًّا، فإن عليك امتلاك القدرة على التخيُّل.» ويضيف كونراد إن حرية الخيال يجب أن تكون أقرب ما يملكه الفنان إلى نفسه. واللافت أن جائزة بلانتيا الإسبانية تعنى بالجانب الخيالي في الإبداع.
إن الصدق الفني لا يعني النقل من الواقع، فالخيال يضيف ويحذف ويقتطع ويشوِّه، لِيَهَبنا في النهاية ما وراء الحقائق الظاهرة. الإبداع يهبنا الواقع، لكنه — بقدر تميُّزه — يشعِرنا أن ما قرأناه هو الواقع. وبتعبيرٍ آخر، فإن الإبداع يضاهي الواقع، وإن لم يكن هو الواقع. عناصر الخيال ليست — بالتأكيد — عناصر الواقع، وعالم الفن — مهما يسرف في استلهام الواقع — ينتمي — في الدرجة الأولى — إلى الخيال. ثمة فارقٌ بين الحقيقي في الحياة، والحقيقي في الأدب؛ الكتابة لا تنقل الواقع بحذافيره، بقدر ما تنقل اختيارها، القسمات والملامح والأماكن والشخصيات والأحداث التي تجسد العمل الإبداعي وتثريه وتضيف عليه، واقعها الخاص بها. الواقع الحياتي تصنعه الأقدار، أو المصادفة، أما الواقع الفني فهو ينتقي ويختار ما يتطلَّبه العمل الإبداعي، دون زيادات ولا نتوءات ولا إضافة غير مبرَّرة، أو حذف غير مبرَّر. العمل الأدبي ليس هو الواقع، ليس تقليدًا ولا محاكاة للواقع، وإنما هو إعادة صياغة للواقع، وبتعبير أشد تحديدًا هو خلق واقع جديد. أوافق جمال الدين بن الشيخ على أن «الواقعية لا تعني أن يحاكي أثر أدبي ما، الواقعي، بل تعني أن يصيِّره» (ت. محمد برادة وآخرين). الفنان الفنان هو الذي يستطيع تحويل الأشياء العادية، الأحداث اليومية التافهة، المَشاهِد التي نعبرها، الثرثرات الحياتية البسيطة … الفنان الفنان هو الذي يستطيع أن يخلق من ذلك كله إبداعًا حقيقيًّا. الفنان الفنان هو الذي يعتمد على موهبته، وليس على المادة التي يطوِّعها لعمله الإبداعي، هو الذي يحيل الواقعة التافهة عملًا ينبض بالحيوية والفنية العالية. الفنان الفنان هو الذي يلتقط أية مادة — مهما تكن تافهة — فيحيلها إبداعًا يستحق القراءة.
•••
قيمة الخيال أنه حر؛ يحلِّق، ويهبط، ويسير، ويقيم العلاقات، ويصادق الإنس والجان والحيوان والطير ومخلوقات البحر، ويتحدى المستحيل. إن حركته بلا آفاق، بلا سدود من أي نوع. ما يبدو مناقضًا للواقع هو في الخيال غير ذلك، هو واقع يتقبَّله المتلقي، ويتفاعل معه، ويحاوره، ويستكنه منه الدلالات. بل إن التكنولوجيا — مهما تتقدم معطياتها — لن تجعل من كل خيال حقيقة، ولا جميع أشكال اليوتوبيا ممكنة الحدوث. معنى ذلك — كما يقول الإسباني كونكيرو — أن العالم سيوصَد أمام صوت الخيال، مما يفقده إلهامه، فيظل جاهلًا بسحر الأشياء. حتى أينشتاين يؤكد في كلمات حاسمة أن الخيال أهم من العِلم.
ظللتُ أحلم — وأتمنى — أن أكتب حكايات مشابهة لما كنت أستمع إليه من جدي وأمي، وما زلت أذكر معجزة الإسراء والمعراج كما قرأتها في مجلة «الإسلام» التي كانت تضمُّها مكتبة أبي، وأغنية أم كلثوم عن النيل، من شِعر شوقي وموسيقى السنباطي. كان الخيال يذهب بي إلى جزر بعيدة، مأهولة بالسحر والفانتازيا والأسطورة. العفاريت والساحرات والجنيات والمعجزات والشياطين والنفوس التي تسعى لتبين عالم الغيب وطلاسم الآفاق التي تغلِّفها الضبابية. وما زلت أذكر حكايات جدي وأمي عن الرجل الذي «حمل» في سمانة رجله، والست ستنا «اللي قصرها أعلى من قصرنا، ومطالبتها بعنقود عنب لشفاء مريضنا الذي يعاني داءً عضالًا»، وحكايات صندوق الدنيا المرافقة لتوالي الصور الثابتة … ثم أطلقت العنان للخيال في «إمام آخر الزمان» وما تلاها من إبداعات وظَّفت التراث.
•••
العمل الأدبي عمل محاكاة بالمعنى الموسع. إنه يحاكي فعلًا، وأيضًا يحاكي موقعًا متخيَّلًا. عالم الخيال الأدبي — كما يقول إنريكي أندرسون — «هو العالم الوحيد الذي يمكن أن نقول عن الراوي فيه إنه قادر على معرفة كل شيء» (القصة القصيرة، النظرية والتقنية، ٨٠). ويقول هنري جيمس: «إن بيت العمل الخيالي ليس له نافذة واحدة، بل مليون نافذة، وعدد لا حصر له من النوافذ الممكنة» (ت. حامد أبو أحمد). يضيف كيتس: «إنني أشعر كل يوم أكثر فأكثر، عندما يقوى خيالي، أنني لا أعيش في هذا العالم وحده، وإنما في ألوف من العوالم.» ويقول ميشيل فوكو: «إن العملية الإبداعية تولِّد الخيال، وترتبط به بطريقة مركَّبة، فهي تنتظر منه دعمًا ودحضًا على السواء. إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة.» (محمد علي الكردي، ألوان من النقد الفرنسي المعاصر، ص٧٨). وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتي، فإن الأدب يجد إمكانيته في التخييل.
وإذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء إلى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة، فإن دانتي وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة.
يقول بورخيس: «إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال.» وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين، الشعراء وكُتَّاب المسرح والرواية والقصة القصيرة، بأنهم «صانعو العوالم الخيالية من كل نوع، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى الحياة والتجربة البشرية.» وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية. فضَّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أي نوع. الفيلم السينمائي يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان، من آفاق الحركة.
الراوي العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه. من الصعب على الراوي أن يكون عليمًا بكل شيء، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه. فهو إذن لا بد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها.
إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب، لكنها تقول شيئًا عن الحياة، فهي تكشف عن نمطٍ أو مغزى معين في الحياة. إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد في المائة من الناس والأحداث حوله، وهو لا يعي ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبِّر عمَّا وعى وفهم، وأحسَّ، بأكثر من واحد في المائة.
بديهي أن الخيال يبدأ من الواقع، أو أن الواقع هو البداية في أي عمل فني. أختلف مع الرأي في أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه، وهو ما يذهب إليه وليم بليك في قوله: «نحن نجد في الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقي» العكس — في تقديري — صحيح. إن الواقع أشد واقعية من الفن، مهما يخلص الفنان في تصوير الواقع. وعلى حد تعبير أندريه موروا، فإن أكثر شخصيات العمل الروائي تعقيدًا، هو — في المحصلة النهائية — أقل تعقيدًا من أبسط شخصية إنسانية.
الواقعية ليست نقلًا عن الواقع، لكنها اختيار فني من الواقع. يبدأ من الزاوية التي يلتقط منها الفنان «الكادر»، قيمة الصورة الفوتوغرافية في الانتخاب، الاختيار، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة. الواقع، وليس الخيال، هو النبع الذي يستمد منه الفنان إبداعه، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تمامًا. يقول ماركيث: «ينبغي أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعًا، فقدرنا — وربما مجدنا كذلك — هو أن نقلده بتواضعٍ، وبشكلٍ أفضل، في الإطار المتاح لنا» (حامد أبو أحمد، في الواقعية السحرية، ص١٤٥). إحدى ميزات الرواية — والقول لروجر ب. هينكل — أنها تتفوق على الحياة الحقيقية في القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعي الناس الذين قد لا نجد سبيلًا آخر لفهمهم فهمًا كاملًا. وإذا كانت مثالية ديستويفسكي — على حسب تعبيره — أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكي في آن. أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث: «هناك شيء غالبًا ما ننساه نحن الروائيين، وهو أن الحقيقة لا تزال حتى الآن أبرع قالب أدبي.» المعنى نفسه — تقريبًا — يذهب إليه ميشيل بوتور في قوله: «إن الرواية تقرير علمي عن شيء أهم من مجرد الأدب، إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة.»
إن الصدق في التاريخ، وفي العلم، هو الصدق في الواقع. أما الصدق الفني فهو الصدق في الإمكان، بمعنى أن الصدق في العمل الفني هو انعكاس لما يمكن أن يحدث في حياة الإنسان. والصدق في الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز في العواطف الإنسانية، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات. بل إنه ليس كل ما يجري في الواقع يحتمله العمل الفني، أو يبدو صادقًا في مرآته. أذكِّر بقول سومرست موم: «إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه؛ ملامح معينة استرعت انتباهه، أو عبارة أثارت خياله. فهو يبدأ من ثَمَّ في تشكيل شخصيته — أو شخصياته — دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة، محتملة الوجود، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة. وكما يقول هنري جيمس، فإن العمل الفني وحدة مترابطة حية، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب. إنها شيء حي، متكامل، متصل، مثل أي كائن حي، وبالقدر الذي تكون حية، بالقدر الذي نجد في أي جزء من أجزائها شيئًا من كل الأجزاء الأخرى.»
أوافق أرسطو أن المحتمَل في الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالًا في السياق الفني من الواقع نفسه، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال. مع ذلك فإني أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة، الواقع، يموتون — أحيانًا — فجأة، ربما بلا تبرير، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها. أما أبطال الفن فإن وفاتهم لا بد أن تكون خيوطًا في نسيج العمل ككل، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة، وإلا تقوَّض العمل من أساسه، وفَقَدَ استمراره وتواصُله. وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية «بداية ونهاية» بوفاة العائل، فقد يرفض الواقع الفني وفاة الأب لو أنه مات في تنامي الرواية. حتى بطل قصة تشيكوف «العطسة القاتلة» لم يمت فجأة. ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك: «إننا نجد في الخيال حياة حقيقية، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقي» فبماذا نفسر رفض المتلقي تقبُّل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وُضِع الحبل في العنق فعلًا، مع أن الواقعة — بنصِّها وفصِّها — حدثت في الحياة المعاشة؟! أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن «حب وإعدام» الذي رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة في اللحظة الأخيرة، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة، وكان بطلها مواطنًا من شبرا، استشكل محاميه — واسمه، فيما أذكر، فاروق صادق — وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم، وهو ما أفلح فيه المحامي قبل أن يجذب عشماوي يد المشنقة!
الواقع في العمل الإبداعي ليس إلا واقعًا افتراضيًّا، واقعًا نتصور حدوثه، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل. من هنا يأتي تحفظي على قول الإسباني خوان مارسيه «يهمني الواقع قليلًا، وعلى نحو نسبي، أهدف إلى واقع متقن الصنع. إنني لا أستنكر نظرية ستندال في الرواية، لكنني لست مستنسخًا للحكايات؛ إنني أخلقها، أعشق الحقيقة المخترعة» (الرواية الإسبانية المعاصرة، ص٢١٨).
•••
يقول ماركيث: «لا يوجد في رواياتي سطر واحد ليس له أساس من الواقع» (في الواقعية السحرية، ص١٤٦)، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته، لا ينقله كما هو، وإنما هو — على حد تعبير توفيق الحكيم — يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع. الواقع يخلو من البِنية الفنية، ولكي تتشكَّل تلك البِنية، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية. وكما يقول لوكاش: «العمل الإبداعي ليس الواقع نفسه، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه.» حين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات: «عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه، بعد أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة» قرر ماركيث أن يصبح كاتبًا.
للعمل الإبداعي مَنْطِقه الخاص الذي يختلف عن منطق الواقع. إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقًا، يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعي. ما يهمني هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة، زمن الرواية لا زمن الحياة، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التي يفرزها الواقع. الفن — على حد تعبير تشارلس مورجان — ليس دواء لشفاء عصر ما، لكنه نبأ عن الواقع، متمثلًا في رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة … والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتي بغير منطقه، منطق الفن نفسه. هناك شخصيات مبتكَرة بشكلٍ كاملٍ — والقول لكونديرا — خلقها الكاتب وهو مستغرق في تفكيره الحالِم. هناك تلك الشخصيات التي يستلهمها عن طريق نماذج بشرية. في بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. هناك تلك الشخصيات التي تُخلَق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحِظَت في شخصية ما، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب، لمعرفته لذاته. إن العمل الناجم عن الخيال يحوِّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جدًّا، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها (الطفل المنبوذ، ص٢٤١). وبالنسبة لي فأنا لا أنقل الشخصية كما هي في الواقع، وإنما أحذف منها، وأضيف إليها، وأدمجها — أحيانًا — في شخصيات أخرى، بحيث تتخلَّق الشخصية الفنية. وقد أوزِّع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة. يغيظني من يتصور أن الشخصية الروائية — أو فلنقل القصصية — هي شخصية المبدع نفسه. قد يكون في الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع، لكنها تظل شخصية روائية، شخصية فنية، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه. أذكر بعد أن قرأ ابن عم لي قصتي القصيرة «نبوءة عراف مجنون» اتصل بي محتجًّا: كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة؟ والصورة التي احتج عليها ابن العم هي الأب الذي يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول. وبالطبع، فلم تكن شخصية الأب في القصة تقترب من شخصية أبي في قليل ولا كثير، لكنها شخصية قصصية، فنية، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية، وتأخذ من الخيال أيضًا! من هنا، يأتي تحفظي على قول إنريكي أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيُّل، وأنها تعرض حدثًا لم يقع أبدًا، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية، وإن ركزت بصفة أساسية على البُعد الجمالي أكثر من الحقيقة (القصة القصيرة، النظرية والتقنية، ٦).
•••
كان رأي العقاد أن خلْق العمل الفني من الواقع، أصعب بكثير من صُنعه من الخيال. وقد وافقه الحكيم على ذلك (تحت المصباح الأخضر، ص٨٢). وقد كتب كافكا روايته «أمريكا» من خلال الصورة التي كوَّنها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية، فهو لم يزرها إطلاقًا، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان. وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشي يفضِّل اللجوء إلى خياله، بدلًا من السفر: «إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة. فلماذا أرهق نفسي، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالي ما هو أجمل مما سأراه؟» ولعلَّنا نذكر قول ماريو يوسا إن الإطار المكاني لقصص همنجواي هو حلقة الملاكمة، أما بورخيس فإن إطار قصصه المكاني هو المكتبة. والدلالة — بالطبع — واضحة؛ همنجواي يعتمد على الموهبة، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء. أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة، وإن رأى في عدم الواقعية شرطًا ضروريًّا للفن.
وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أي حظ من الخيال، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أيًّا من المظاهر الفنية التي أغْدِق بها على غيرهم من الشعوب. كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال، وهو ما يراه أيضًا أحمد أمين، وإن قصر رأيه على البدو. ثمة رأي — في المقابل — يرى في «رسالة الغفران» و«حي بن يقظان» إطلاقًا للخيال في آماد بعيدة، وأن «ألف ليلة وليلة» عكس كل الأحكام التي قيلت عن العقلية العربية، فهي تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفني الكامل، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلْق، وعلى إعادة الخلق من جديد.» وكان حرص الراوي في حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه — الحكايات — موصولًا بسماع المتلقين، ومتابعتهم له، دافعًا لأن يلجأ إلى الخيال، يضفِّر منه وقائع وأحداثًا وأصنافًا من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيَّلة والجماد، عالمًا من الأسطورة والسحر والفانتازيا، كان هو الأرضية التي تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية.
الغريب أن الإبداع عندما يلامس — أو يقتحم — مناطق الخيال الأسطورة، الفانتازيا، الخرافة، الغرائبية، العجائبية … إلخ، التسميات كثيرة، فإننا نحيله إلى أدب الطفل، نعتبره نصًّا يقرؤه الطفل. تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة — المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية — مجرد حكايات للأطفال، مع أنها ليست كذلك.
الخيال — خيالي وخيال كل قارئ للنص — هو الذي يعتق النص من ماديَّته وجموده، هو الذي يجسِّده. يقول ماركيث: «الخيال هو في تهيئة الواقع ليصير فنًّا.» وتضيف هالي بيرنت: «عندما تلتمع الفكرة في الذهن، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة، بحيث لا يبقى أمام المبدع — في لحظات الكتابة — إلا أن يكتب ما يمليه عليه خياله.» وكما يقول ديهاميل فإن أي منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال في عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر (دفاع عن الأدب، ص٥٢).
أحيانًا يشدني عمل إبداعي بخيال جميل منطلق، جواد فن يمضي في طريق بلا آفاق. ثم يئد الفنان انطلاقة خياله، حين يتذكر أنه كاتب، وأنه يكتب إلى قارئ، وأن هذا القارئ لا بد أن يجد في العمل الإبداعي ما يغريه بالمتابعة، ويتجه العمل — بالغصب — إلى طرقٍ غاب فيها الخيال، ونعاني التكرار إلى حد الملل!
•••
يقول روجر ب. هنكل إن أتمَّ تصوير روائي للمجتمع، هو ذلك التصوير الذي يُشعِرنا أننا نوشك أن نكون جزءًا من بناء ذلك المجتمع (قراءة الرواية، ص١٠٦).
ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكُتَّاب — كما يقول سترندبرج — في أنه هو الذي يبحث في معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التي يعتبرها الكاتب الواقعي شذوذًا. تلك المثيرات التي تتوارى وراء حُجُب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية (الأدب ومذاهبه، ص١٣١). أذكر قول إيزابيل الليندي «إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى.» لكن الواقع الفوتوغرافي، الواقع الكربوني، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع في تصوير التحول الذي يطرأ على الأشياء. إنه يحمل الواقع، ويحيله إلى شيء ثابت لا يتحرك، فهو يسلبه حريته، ويعمل على قتله. وكما تقول إيزابيل الليندي فإن الصورة هي خلاصة الواقع مضافًا إليها حساسية المصوِّر. «زقاق المدق» — مثلًا — تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية في أدب نجيب محفوظ. «السراب» تتناول مشكلة فردية، و«خان الخليلي» كذلك، و«بداية ونهاية» تعنى بمشكلة أسرة، و«الثلاثية» تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه. أما «الزقاق» فهي لا تتناول مشكلة فردية محددة، ولا صورة اجتماعية بانورامية، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها في طريق الحياة. ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفًا في ذاته، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصري: المحبَط، والشاذ، والمعقد، والمشوَّه، والمتصوف، والمجذوب … إلخ، كانوا صورة مختزلة، وربما متشائمة، للمجتمع المصري آنذاك، ولكن، ألم تكن هذه صورة المجتمع المصري فعلًا؟!
المبدع يختلف عن الآخرين، حتى في أوقات الصمت، في أوقات السكينة. فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكفُّ عن الفعل، بينما العمل الإبداعي، أو الشخصية، أو الحدث، يتخلق في داخله، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن. ويقول ميلان كونديرا: «هناك شخصيات مبتكَرة بشكلٍ كاملٍ، خلقها الكاتب وهو مستغرق في تفكيره الحالم. هناك تلك الشخصيات التي يستلهمها عن طريق نماذج بشرية. في بعض الأحيان يتم ذلك بشكلٍ مباشر، أو بشكلٍ غير مباشر. هناك تلك الشخصيات التي تُخلَق من مجرد تفصيلة منفردة لوحِظَت في شخصية ما، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب، ولمعرفته لذاته. إن العمل الناجم عن الخيال يحوِّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جدًّا، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلَّق بها» (الطفل المنبوذ). وكما يقول سارتر، فإن الخيال هو الأداة السحرية التي يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعي. إنه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمي، ويصنع العالم الخاص، المتميز، والمتفرد. إن واجبه — والتعبير لبيرسي لوبوك — هو أن يبدع الحياة.
أنا أخضِع خيالي لخيال العمل الإبداعي، أخضع قراءاتي وخبراتي ورؤيتي للفضاء الذي تتحرك فيه القصة طولًا وعرضًا وعمقًا. الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال، أشبه بالمزاوجة بين العِلم والفن. الحقيقة ليست مطلقة، والخيال يمكن أن يرتدي ثوب الحقيقة. العالِم الذي يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة، يذكِّرنا بالفنان الذي كاد يحطم تمثاله لأنه لم ينطق. والفنان الذي يعتقد أنه يعيش في الخيال فحسب، يعاني وهمًا باعثه التبلد.