التراث …
لماذا نستلهم
ﻣﻧﻪ قصصنا؟
لما تكوَّنت المدرسة الحديثة في عام ١٩١٧م، وأفرادها شباب الأدباء آنذاك: أحمد خيري سعيد وحسين فوزي ومحمود عزي ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وغيرهم … كان أول ما دعت إليه، رفض التراث العربي كمصدر للإلهام، واعتبار النموذج الأوروبي هو المَثَل الذي يجب أن يتجه إليه الأدباء حين يبدعون أعمالهم.
وقد يبدو غريبًا أن تلك الدعوة رفعت شعارًا هو: «فلتحيا الأصالة، فليحيا الإبداع. فليحيا التجديد والإصلاح.» فالقسمان الأخيران من الشعار مفهومان ومطلوبان في كل حين، أما القسم الأول — وهو التأكيد على إحياء الأصالة — فإنه يبدو غريبًا، وغير مفهوم، في ظل المناداة برفض التراث العربي، وإن كان مما يغفر لذلك الشعار أنه ظهر في وقت لم تكن الشخصية المصرية قد تعرَّفت إلى هويتها الحقيقية بعد … فقد كانت موزَّعة بين عشرات التيارات والاجتهادات، ما بين إسلامية وفرعونية وشرق أوسطية وشرقية وعربية وغيرها، فهي لم تسفر عن ملامحها العربية الواضحة إلا في الأربعينيات من هذا القرن.
ومع أن يوسف إدريس لم يستلهم التراث في قصصه القصيرة، فإنه كان تعبيرًا فعليًّا عن الأصالة، بمعنى أن أعماله كانت قصصًا مصرية خالصة، دون اللجوء إلى التقليد، وربما الاقتباس من الأعمال الأدبية الأوروبية … وهو ما كان يفعله كُتَّاب الفترة، بدءًا بمحمود كامل، مرورًا بمحمود البدوي ويوسف جوهر وابراهيم الورداني وأمين يوسف غراب وإحسان عبد القدوس وغيرهم. ولعله من هنا جاء قول إدريس، إنه اعتبر مهمَّته الأولى خلق أدب مصري حقيقي، بدلًا من التقليد الباهت للأدب الأوروبي المتأنق الذي افترش الساحة الأدبية المصرية في أواخر الأربعينيات.
والحق أنه إذا كانت دعوة المدرسة الحديثة في الاتجاه إلى المثل الأوروبي، بهدف «تدمير الفاسد والرجعي، وإقامة المفيد والضروري»، فإن الرفض المطلَق للتراث العربي، قد عكس تأثيراته السلبية القاسية فيما بعد، من حيث التبعية للاتجاهات الأوروبية، وفقدان الشخصية الفنية المتميزة، بل والنظر إلى أعمالنا — مهما تفوقت — باعتبارها الأدنى بالقياس إلى الأعمال الفنية في الغرب.
ثمة رأي أنه «ليس للرواية العربية تراث، وعلى كل كاتب روائي عربي أن يختار لنفسه وسيلة للتعبير، دون أن يأنس إلى مَن يرشده في ذلك. ولا بد — والحال كذلك — من أن يعْتوِر عمله النقص، ويشوبه الخطأ» (العربي، مايو ١٩٨٤م).
لذلك، فإن الدعوة إلى الارتباط بالتراث، إلى إحيائه، وتحقيق التواصل معه في أعمالنا الفنية المعاصرة، هي دعوة صحيحة وإيجابية، لأنها تمثِّل خطوة مؤكدة في سبيل استرداد الذات، وإعادة اكتشافها. فالأديب المصري ليس مجرد مقلِّد للأعمال الأدبية الغربية — مع بدهية الإفادة المحسوبة من فنيَّاتها — وأذكرك — في المقابل — بإفادة الأدب الغربي من فنيَّات ألف ليلة وليلة، لكنه يجد إرهاصات أعماله، وبداياته الفعلية، في تراث العرب، وفي تراث المصريين القدامى كذلك. ومن هنا تأتي إعادة النظر في التراث الأدبي المصري والعربي. حتى ذلك التراث الذي تصورناه خاليًا من الفنون الأدبية المعاصرة، كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة.
أما المحاولات التي شُغِلت بالتأكيد على وجود تلك الأجناس في أدبنا القديم، فإننا يجب أن نوليها ما تستحقه بالفعل من اهتمام وتقدير.
وبالتأكيد، فإن استلهام التراث هو إعادة اكتشاف للطاقات الفاعلة فيه. العودة إلى التراث لا تعني الانكفاء على الماضي، ولا اعتباره النموذج الأمثل الذي يصلح لكل زمان ومكان، لكنها تعني تَمثُّل هذا التراث، والاعتزاز به كثقافة قومية أصيلة، بهدف الانطلاق إلى المستقبل.
ولعلِّي أضيف أن العودة إلى التراث، باعتباره النموذج الصالح لكل زمان ومكان، تُعَد — على نحو ما — هروبًا من مواجهة المشكلات الملحَّة، والآنية.
أذكر قول أستاذنا شكري عياد: «إن إحدى مشكلاتنا، هي أننا لا نملك حضارة الغرب، ولكننا نعيش على أبوابها كشحاذين، لأننا لا نملك، أو نعتقد أننا لا نملك حضارة سواها. يقول أقوام: بلى، إننا نملك هذه الحضارة. وأقول: أجل، نملك، ولكنها حضارة ماضٍ فقط، فنحن مغتربون، إمَّا في ماضينا الذي نعجز عن وصْله بالمستقبل، وإمَّا في مستقبل ليس مستقبلنا.»
إن عقدة النقص، إزاء كل ما يبدعه الأجنبي، هي ما يجب أن نتخلص منه. والاجتهادات الأجنبية ليست مسلَّمات، ولا هي صحيحة في إطلاقها.
وإذا كان إطلاق الخيال مطلوبًا في الأعمال الأدبية، فإن الإيمان بالركيزة الثقافية، بالتراث، بالتواصل، بالبدايات التي تجد استمرارًا لها — بصورة وبأخرى — في أعمالنا الحالية. ذلك الإيمان هو ما ينبغي أن نحرص عليه، ونؤكده، في كل اجتهاداتنا، سواء على مستوى النقد، أو على مستوى الدراسات الأكاديمية بالجامعات.
وكما يقول ابن خلدون، فإن الماضي والحاضر والمستقبل «كُلٌّ متصل متفاعل، يقود بعضه إلى بعض.» بل إن القول بالعودة إلى التراث قول خاطئ تمامًا، لأن التراث متواصل في الحاضر، وفي المستقبل.
التراث ليس الماضي فقط، لكنه الماضي والحاضر والمستقبل. وهو ليس مقصورًا على النصوص المكتوبة وحدها، لكنه يمتد فيشمل التاريخ والعمارة والعادات والمعتقدات والقيم والتقاليد.
من الصعب أن نفهم التراث في غيبة الواقع، وفي غيبة استشراف المستقبل.
أتفق مع دعوة أستاذنا زكي نجيب محمود لمحاولة «إيجاد تركيبة عضوية، يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربًا ومعاصرين في آن» (تجديد الفكر العربي، ص١٤).
لقد تعددت مسميات الإفادة من التراث، فهي توظيف التراث، واستلهام التراث، واستخدام التراث … إلخ. كما تعددت الدراسات التي تناقش استلهامات التراث في الأعمال الإبداعية المعاصرة، في موازاة الأعمال الإبداعية التي تستلهم ذلك التراث، بما يعني أننا لا نجدف في فراغ، ولا نشكِّل ظلالًا لإبداعات الغرب ودراساته. بل إن عملية البحث عن الهوية، وتأكيد الهوية، هي التي فرضت قضايا من مثل: التراث والمعاصرة، الحداثة والأصالة، الذات والكونية … إلخ.
نحن نحاول أن يكون أدبنا في عمومه تعبيرًا عن الذات، وليس تقليدًا للآخرين. ليس في مجرد التعبير عن مشكلاتنا أو همومنا الآنية، والتعبير عن البيئة التي نحياها، وإنما في خصائص الأدب الذي نقدمه. وهي خصائص لا تقتصر على البُعد المضموني وحده، بل تشكِّل عوالم مستقلة، متميزة، نستطيع أن نصنِّفها، باعتبارها أدبًا عربيًّا، له امتداداته، وتواصُله، وملامحه التي تتفق في مسمياتها مع ما يقدمه الآخرون، لكنها تتفق في تعبيرها عن فنان مختلف، ينتمي إلى بيئة مختلفة.
أدان جارثيا ماركيث أوروبا، لأنها «لا تعي بأن ثمة لغات أخرى، وأنماطًا شتى لشرح الواقع.» وأكد «أن قيمتنا الوحيدة هي أننا أصليون، نعرض ذواتنا كما هي، لا كما يرغب الآخرون أن نكون.»
المعنى نفسه يؤكده الكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، عندما يفسر الظهور — المفاجئ! — لأديب كولومبيا جارثيا ماركيث: «لقد حصل ذلك لأن هذه الرواية — مائة عام من العزلة — قد حققت شخصيتها الخارقة والمتميزة، دون التعكز على روايات أخرى.»
لقد كان توظيف التراث اجتهادًا أساسيًّا في القصة القصيرة والرواية المصرية: تراث فرعوني، وإسلامي، وعربي. النظرة المتأملة للأعمال التي صدرت منذ أواخر القرن الماضي، تبيِّن عن محاولات الإفادة من التراث، بدءًا بأعمال جورجي زيدان، واستمرارًا في أعمال أحمد خيري سعيد ومحمد فريد أبو حديد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسعيد العريان وعبد الحميد السحار ونجيب محفوظ وعادل كامل وسعد مكاوي، وغيرهم، إلى أجيالنا الحالية.
•••
فما صلة التراث بالإصالة إذن؟ لماذا يتلازمان، ليصبحا — في تقدير البعض — شيئًا واحدًا؟!
إن الفنان يتمثَّل التراث، يحيله إلى ذاته، فيصنع منه شيئًا جديدًا. يقول زكريا إبراهيم: «إن العمل الأصيل يستبقي التراث، ويلغيه في آنٍ واحد، أو أنه يحتفظ بهذا التراث بواسطة العمل على تجاوزه» (العربي، مارس ١٩٧٥م).
الأصالة لا تعني مجرد العودة إلى القديم، أو التراث، إنها ليست مجرد دعوة إلى إحياء الماضي، أو كما يقول البعض «تأصيل الجديد في تربة القديم»، لكنها تعني أن يكون الفنان أصيلًا، أي يكون أصل نفسه، فهو لا يصدر إلا عنها في كل ما يعبِّر، بحيث تبدو الفروق الفردية بينه وبين الآخرين. بل إن أصالة كل فنان هي بمدى اختلافه عن سواه من المشتغلين بالإبداع، بما يُطلِق عليه زكريا إبراهيم — بحقٍّ — «الحرية الإبداعية». فالحرية تعني استخدام القدرة الإبداعية إطلاقًا. تعني — كما يقول أندريه جيد — أن ما كان في استطاعة غيرك أن يفعله، فلا تفعله، وما كان في استطاعة غيرك أن يقوله، فلا تقُله، وما كان في وسع غيرك أن يكتبه، فلا تكتبه. إنما تعلَّق في ذاتك بذلك العنصر الفريد الذي لا يتوفر لدى أحد غيرك، واخلق من نفسك — بصبرٍ وأناة، وبتعجُّل ولهفة — ذلك الموجود الوحيد الذي يصعب لأحدٍ غيرك أن يقدم بديلًا عنه.
إن الأصالة لا تكمن في واقعة التمايز، أو الاختلاف، بقدر ما تكمن في عملية الاستقلال الذاتي، أو النشاط الإبداعي.
الأصالة — بمعنى الإفادة من القديم، وتضفيره في أعمال فنية، تعبِّر عن الذات المبدعة — هي السبيل الوحيد لتجاوز الأجيال السابقة. لا تعني الشذوذ، أو الإغراب، أو التفرُّد المطلق، لكنها تعني — بأبسط عبارة — الحرية الإبداعية التي تفيد من الآخرين، تضيف إلى إبداعاتهم، تهضمها، وتفرزها، بما يعبِّر عن ذات الفنان، وعن البيئة التي يصدر عنها، والعالم الذي ينتمي إليه.
الفارق كبير بين الاستلهام، التوظيف، الاستخدام، وبين التقليد.
نحن نحاول توظيف التراث، لكننا لا نحاكيه إطلاقًا، ولا نقلده. وعلى حد تعبير جوتة، فإن ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا، لا بد له من أن يعود فنكسبه من جديد، حتى يصبح ملكًا خاصًّا لنا. بل إن الفنان عندما يأخذ عن القدامى «صورة» العمل الفني، فإن الشخصية الفنية للفنان تظل هي المسيطرة، هي المرتسمة في العمل الفني، تظل هي الشخصية الأوضح، لا تصبح ظلًّا لشخصيات القدامى.
نحن نقرأ التراث لنستلهمه، لا لنعبده. الشعراء الأوروبيون يقرءون هوميروس، يستلهمون أعماله، يتمثَّلون فيها البراءة والصفاء، وهذا هو الإطار الذي يتحدد فيه تعاملنا مع التراث.
نحن لا نستلهم التاريخ ولا السِّيَر والقص الشعبي، بصورة مباشرة، بل نفيد من أسلوب التشخيص التاريخي، أو الأسطوري، أو الملحمي. لا نلجأ إلى صيغ ثابتة، أو مكررة، مما ورد في أعمال سابقة، لكننا نستخدم لغتنا الخاصة، تكنيكنا الخاص، بما يتواءم وطبيعة العصر الذي نحيا فيه، ونعبِّر عنه. أذكِّرك بما كتبه طه حسين ردًّا على رسالة للرافعي: «أمَّا أنا، فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت — مضطرًّا — أن هذا الأسلوب، الذي ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في العصر الحديث.»
في تقديري، أن الأعمال التي توظِّف التراث، إنما تحاول — على نحو ما — تحقيق التواصل بين التراث والمعاصرة، بين الماضي والحاضر، رؤية الواقع من خلال أحداث التاريخ.
أرفض العمل الذي تقيَّد حركته داخل سجن الزمن. توظيفي للواقعة التاريخية، للشخصية التاريخية، لا يعني أني أحيا في زمن غير الزمن الذي أحيا فيه. المادة التراثية تؤدي — أحيانًا — دور القناع الذي يستنطقه النص نيابة عن الحاضر. قد لا يوظِّف التراث شخصية معينة، أو بطلًا من أبطال السِّيَر الشعبية، يحمِّلها بعض الهموم المعاصرة، وإنما هو يفيد من الملاحم والسِّيَر — بشكل غير مباشر — في صياغة شخصيات ليست موجودة في التاريخ، أو في السِّيَر والملاحم، يقدمها على أنها شخصيات حقيقية.
وهذا ما فعلته — على سبيل المثال — في روايتي «قلعة الجبل».
إن عائشة، والسلطان خليل بن الحاج أحمد، والنائب الكافل، وخالد عمار، وعبد الرحمن القفاص، وغيرهم من شخصيات الرواية، لا وجود لهم في الواقع التاريخي، وإن حاولت ألا يكونوا غرباء عن الفترة التاريخية التي تناولتها، وهي فترة حكم المماليك الجراكسة، أو البرجية. بالنسبة للواقعة، أو الوقائع، فليس هدفي أن أحوِّل التاريخ إلى أعمال إبداعية، إلى روايات وقصص قصيرة، لكنني أحاول أن أفيد من التاريخ في الحديث عن الحاضر. أكره كلمة «الإسقاط»، أفضِّل القول — وهذا ما أحاوله بالفعل — استلهام التاريخ، توظيفه، اعتباره مرجعًا حضاريًّا، دلالات للحاضر، والمستقبل.
قد ينتمي السلطان خليل بن الحاج أحمد — تاريخيًّا — إلى سلاطين المماليك البرجية، لكن سلطان قلعة الجبل هو — في الحقيقة — سلطان آخر، نستطيع أن نتعرف إليه في سلاطين عصرنا الحالي.
أما نجاة عائشة من كل المخاطر التي أحاطها بها السلطان خليل، فهي تذكِّرنا بالحماية الإلهية التي ترافق البطل، أو البطلة، في الحكاية الشعبية؛ إنها حماية ترافق البطل فيما يواجهه من مخاطر، فتمنع حدوث الأذى له.
والمثل يتكرر — بصورة وبأخرى — في روايات: «إمام آخر الزمان»، «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، «اعترافات سيد القرية»، «زهرة الصباح»، … وغيرها.
•••
لأستاذنا نجيب محفوظ مقولة مهمة: «ما نريده للرواية العربية الآن، هو أن تكون لها شخصية مميزة أصيلة. أنا عربي لا لبْس في ذلك، وأريد أن نصل إلى رواية ذات شخصية عربية مميزة. كل ما نستطيع أن نفعله الآن، هو أننا عندما نجد أن موضوعنا يحتاج إلى أسلوب استعمله كافكا مثلًا، أن نستعمل هذا الأسلوب بصدق، وأن ندخل عليه من ذاتيتنا، بحيث إن القارئ الذكي عندما يقرأه يقول: هذا كافكا صحيح، لكنه تطور. ما نريده هو تطور كاسح، في هذا المجال.»
أعيب تلك المحاولات التي استهدفت بعث القالب القصصي الروائي، لكنها عادت —كما يقول محمد عابد الجابري — «لتمتح من معين التراث لا لتطويره» (الخطاب العربي المعاصر).
وفي المقابل، فإني أعيب من يجعلون الحداثة الغربية — وحدها — هديًا لهم، يتبعونها، يقلدونها؛ إنهم لا أكثر من نَقَلة. وأذكر أن محمود صبح — وهو من علماء الأندلسيات، ويشغل وظيفة أستاذ الأدب العربي بجامعة مدريد المركزية — روى أن طَلَبته أعجبتهم أبيات من الشعر العربي القديم، وإن غابت معانيها — إلى حدٍّ ما — عن أذهانهم، لأن ذلك الشعر هو الأكثر تعبيرًا عن طبيعة العربي في محيطه. في حين أن هؤلاء الطلاب رفضوا معظم الشعر العربي الحديث المُترجَم للإسبانية. البياتي مثلًا، قالوا إن ما يكتبه ليس شعرًا عربيًّا، لكنه مزيجٌ من ناظم حكمت ونيرودا ورفائيل ألبرتي؛ إنه شعر غير أصيل! (الأنباء ٢٢/ ١١ / ١٩٨٦م).
التراث هو حلقات أولى في السلسلة التي نمثِّل الآن حلقتها الأخيرة، لكننا — بالقطع — لسنا آخر حلقاتها.
نحن نقرأ تراثنا ونستوعبه، ونقرأ تراث الغرب ونستوعبه، لكننا نحرص أن ترتكز إبداعاتنا — في الدرجة الأولى — إلى «نحن» … إلى تراثنا في الدين والعلم والسياسة والاقتصاد والآداب والفنون، وإلى قيمنا ومُثُلنا.
هذا هو الإبداع الخاص بنا، الذي ينبغي ألا نجاوز إطاره المحدد، حتى لا يجرفنا التقليد، فنحاكي الغراب حين قلَّد مِشية الطاووس، وحتى لا ننكفئ على الماضي، نجْتَرُّه، ونرفض الجديد والإضافة، فنرتمي — بإرادتنا — في حضن «الجمود».
نحن نستلهم التراث، ونحرص — في الوقت نفسه — على الانفتاح على تقنيات الرواية الحديثة.
أشير إلى تأكيد الكاتب الروسي سوفرونوف أنه إذا وضع الكاتب عينًا على تراث بلاده، فإن عليه أن يضع العين الأخرى على العالم الذي يتحرك من حوله.
نحن نتمثَّل التراث، نمزجه بثقافتنا وخبراتنا ورؤيتنا للأمور، ثم نحاول أن نصنع من ذلك كله، شيئًا جديدًا. لا نسعى إلى بعث التراث، وإنما نحاول استنطاقه، استلهامه، توظيفه. قُل ما شئت من مسميات، لكن التراث يظل في النهاية تراثًا، والمعاصَر يجب أن يكون تعبيرًا عن الفترة التي صدر فيها، وصدر لها.
التجديد، الحداثة، مسألة مطلوبة لاستمرار أي فن، لعدم جموده أو ذوائه. ولكي يواصل الفن حياته، فإن عليه أن يجدد نفسه بمحاولات، قد ينتسب بعضها إلى الإخفاق، أو الزيف، لكن بعضها الآخر يضيف، ويثري، ويهب الاستمرار.
نحن — في توظيفنا للتراث — نغربله بداية، نفرزه، ننقيه، ثم نتجاوز ذلك كله، فنثري معطياتنا بنصوص غير مقلِّدة، وقادرة على الاجتهاد.
إن من حق — وواجب — كل جيل، أن تكون له تجربته الخاصة، المميزة.
ويقول أستاذنا شكري عياد إن «النص العربي المعاصر يمكنه — بل يجب عليه — أن يجرب تجاربه الخاصة، فلا يكون التجريب دائمًا محاكاة لتجريب الغرب.»
علاقتنا بالغرب علاقة جدلية، وليست علاقة تبعية؛ أو هذا هو المفروض.
وإذا كنا مطالبين بعدم الانكفاء على الذات، والاكتفاء بما خلَّفه الأجداد من موروث ثقافي وحضاري، فإننا مطالبون — في الوقت نفسه — بألا نعتبر كل ما يبدعه الغرب مثلًا يجب أن نحتذيه.
العلاقة الجدلية تفرض الحوار، والموافقة، والرفض، وإبداء الرأي، واتخاذ الموقف الذي يعبِّر عن خصوصية حياتنا، عن عاداتنا وتقاليدنا، ووجوب اتصال ماضينا بحاضرنا، وعن استشرافنا للمستقبل.
من الخطأ أن نرتمي في حضن التراث، كما أنه من الخطأ أن نرتمي في حضن الثقافة الغربية.
نحن نفيد من التراث في تحقيق التواصل، ونفيد من الثقافة الغربية في تحقيق المعاصرة، ونفيد من التراث والثقافة الغربية في آن معًا، في تحقيق شخصيتنا المتفردة، في صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا، وثقافتنا الخاصة عمومًا.
أكرر: من الخطأ أن نكتفي بإحياء تراثنا القديم، باستلهامه، أو توظيفه، أو بالنقل عن الغرب.
الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن، لا نكتفي بالتلقي، بالنقل، أو التلخيص، أو حتى الاستلهام، وإنما يجب أن نضيف إبداعنا الآني، وفكرنا الآني، وتعبيرنا الآني عن صورة حياتنا المعاصرة.