ماذا يريد الكاتب؟
«الفن … مقلق أبدًا، ثوري دومًا.»
«الأدب عالم مغاير.»
«لا توجد وظيفة أكثر نبلًا من وظيفة الكاتب. إنه الكائن الذي يقود، يعمل بريشته، وريشته تصنع الفرق بينه وبين من يمسك بالمجداف.»
«إن الكلمات هي غدارات محشوة.»
«لست إلا أديبًا، ولا أستطيع، ولا أريد أن أكون شيئًا آخر.»
لماذا أكتب؟
لم أعن بتوجيه السؤال إلى نفسي أو مناقشته. نشأت في بيئة تدفع إلى القراءة والكتابة، مكتبة زاخرة بمئات الكتب، وأب جعل القراءة حرفته وهوايته، ومناقشات لا تنتهي في السياسة والاقتصاد والثقافة بين أبي وأصدقائه. أشارك فيها — أحيانًا — بما يدفع الأصدقاء إلى هز رءوسهم بالإعجاب، أو بما يدفع أبي إلى إسكاتي، لسذاجة آرائي.
نشأت وأنا أقرأ وأكتب، فغاب السؤال، لأن الفعل سبق تقصي البواعث. وحين واجهني السؤال، بدأت التفكير في إجابة لم أكن فكرت فيها من قبل، ولا تدبَّرتها، لأني حين بدأت القراءة الأدبية، فالكتابة، لم أكن طرحت على نفسي أسئلة من أي نوع.
والحق أني لا أذكر متى حاولت الكتابة للمرة الأولى. كانت «أيام» طه حسين هي أول ما قرأت من أعمال أدبية. أذكر اليوم والظروف وتأثيرات القراءة. أما بدايتي الأدبية، أول ما كتبت، فإني لا أذكر متى ولا كيف، وهل عرضت محاولتي على آخرين، أو أني لجأت — عقب الكتابة — إلى تمزيقها.
•••
كانت القصيدة الشعرية هي أول ما كتبت، لم أكن تعلمت الأوزان، فلجأت إلى المحاكاة. قصيدة الرثاء التي كتبها شوقي — مثلًا — تتحوَّل إلى قصيدة مناجاة للحبيبة، القصيدة البرمكية الشهيرة: قل للخليفة ذي الصنيعة والعطايا الفاشية … وابن الخلائف من قريش والملوك العالية … إن البرامكة الذين رموا إليك بداهية … صفر الوجوه عليهم حلل المذلة بادية … إلخ، كتبت على منوالها: قل للحبيبة، وكلمات أخرى باعثها التقليد، فبديهي أن ابن الثامنة، أو التاسعة، لن يكون قد تعرَّف إلى حب الجنس الآخر بالمعنى الفرويدي، أو حتى الأفلاطوني.
ثم كتبت العديد من القصص وأنا في المرحلة الأولية، وهو ما أتصور أن الكثير من الأطفال — في المرحلة السنية نفسها — يفعلونه، لا شبهة نبوغ، أو تفرد، القضية هي فيما يلي هلاميات البداية.
كنت أكتب قصصًا مما يبعث به الصغار إلى مجلات الأطفال، فتنشرها بعد أن تهذِّبها، أو تعيد كتابتها، وقرأت محاولاتي لتلاميذ — وأحيانًا: أساتذة — مدرسة البوصيري الأولية. وعجَّل زميلي في الدرج المجاور باحترافي، حين أصر أن أكتب له قصة، فلا يقرؤها سواه، ودفع المقابل مليمين، كنت أسعد الناس بهما، لا للقيمة المادية، بل لأني تقاضيت أجرًا عما كتبته!
•••
كانت الملاك روايتي الأولى، المطبوعة، توليفة مقلدة للمنفلوطي وطه حسين والمازني والسباعي وعبد الحليم عبد الله وغيرهم، تلتها رواية ظلال الغروب. توهَّمت — دون وعي حقيقي — أن الجنس مهم في العمل الفني، فحشوتها بمواقف جنسية زاعقة، وغير مبررة، في حين كان قوام الرواية قصة حب ساذجة بين شاب وفتاة، انتهت بموت الفتاة إثر مرض لم يمهلها. قصة أتيح لي معايشتها، وكانت الفتاة الراحلة هي طرف العلاقة الآخر. ثم كتبت رواية باسم أين الطريق؟ لا أذكر شيئًا من أحداثها ولا شخصياتها، وإن كنت أذكر — بحب — محاولة صديقي المهندس صلاح شاهين — أحد قيادات الإخوان المسلمين بالإسكندرية — طباعتها على نفقته.
إرهاصات، أحتفظ بها في مكتبي، من قبيل الذكرى، ولتلمس خطوات البداية. أما القصة التي أعتبرها بدايتي الحقيقية، فهي «يا سلام»، كتبتها في ١٩٥٦م، ونشرتها ضمن مجموعتي «تلك اللحظة».
حاولت — بالطبع — أن أنشر محاولاتي الباكرة في صحف الإسكندرية. قدمت الفصلين الأولين من روايتي «أين الطريق» إلى رئيس تحرير جريدة «العهد الجديد»، وكانت تصدر كلما توافر لها من الإعلان ما يحقق الربح سلفًا، ونشر الفصل الأول من الرواية في الجريدة، لكن رئيس التحرير دفع بالفصل الثاني إلى جريدة أخرى اسمها «الاتحاد المصري»، فنشرته. وعرفت أن الجريدتين تتبادلان النشر بما يسوِّد بياض الصفحات، ولأن القارئ الذي يتابع كان غائبًا، فقد كانت تكملة نشر مواد إحدى الجريدتين في الأخرى مسألة واردة، المهم أن تصدر الجريدة فور أن تتوافر لها الإعلانات التي تحقق لها الربح المسبق.
بالمناسبة: لقد ضاعت مسودات تلك الرواية الباكرة، ومع أن صديقي صلاح شاهين قد تكفَّل بطباعة الجزء الأكبر من الرواية على نفقته، ولم يطبع الجزء الباقي لتكاسل مني، لا لتقصير منه … مع ذلك، فإن كل ما يتعلق بتلك الرواية الباكرة يبدو في ذاكرتي الآن كالأصداء البعيدة، الاسم وحده هو ما أذكره الآن منها!
•••
الفن — الرواية والقِصة على وجه التحديد — عالمي الذي أُوثِره بكل الود، أتمنَّى أن أُخلِص لهما، تجرِبةً وقراءةً ومحاوَلات للإبداع، دونَ أن تشغلني اهتماماتٌ مغايِرة، لكن الإبداع الروائي والقصصي في بلادنا لا يؤكِّل عيشًا. ربما أتاحت رواية وحيدة في الغرب لكاتبها أن يقضي بقية حياته بلا عوز مادي، فيسافر، ويتأمل، ويقرأ، ويخلو إلى قلمه وأوراقه، دون خشية من الفقر، وما يضمره من احتياجات … لكن المقابل المحدد، والمحدود، الذي يتقاضاه المبدع في بلادنا ثمنًا لعمله، يجعل التفرغ فنيًّا أمنية مستحيلة.
لقد اعترف الروائي الإنجليزي فرانسيس كنج — في بساطة وصراحة — أن السبب الحقيقي في اتجاهه للنقد، هو أنه من الصعب — في بريطانيا — أن يحيا المرء على كتابة الروايات فحسب، ومن ثَمَّ فقد اتجه — وعدد آخر من الروائيين البريطانيين — إلى كتابة النقد والدراسات الأدبية. فإذا كان ذلك هو ما يقدم عليه الروائيون في الغرب — لظروف اقتصادية كما ترى — فماذا تتوقع من الروائيين العرب الذين يتقاضون — مقابلًا لأعمالهم — بما لا يكاد يصل إلى قيمة نقلها على الآلة الكاتبة؟! (هذه الكلمات، قبل أن يستبدل الحاسوب بالآلة الكاتبة، بالإضافة إلى تفشي جريمة الحصول من الأدباء على تكاليف النشر بدلًا من مكافأتهم، ولو ببضع نسخ!).
من هنا، كان اختياري — أو لجوئي — للصحافة، فهي الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته، وهمومه أيضًا. وكنت أتذكر المازني وهو يجد في كل ما يصادفه مادة صحفية، بينما الفن وحده شاغله وهواه، وكتبت فيما أعرفه، واستعنت — بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر — فيما لم أكن أعرفه. ووجدت في حياتي الصحفية — أحيانًا — ما يغري بكتابة عمل أدبي: رواية النظر إلى أسفل مثلًا، ورواية الأسوار، ورواية الخليج، ورواية صيد العصاري، ورواية كوب شاي بالحليب وغيرها، لكن الأدب ظل — بالرغم مني — تزجية فراغ. أحاول الكتابة إن وجدت في أسوار الصحافة منفذًا. لذلك كان ترحيبي — متحسرًا — بالسفر إلى سلطنة عمان، للإشراف على إصدار جريدة «الوطن». وكنت أمني النفس بأن أدخر في الغربة ما يعينني على الإخلاص للفن وحده، لكن الأمنية ظلَّت في إطارها لا تجاوزه. وكان لا بد أن أكتب في موضوعات تقترب من الفن، أو تبعد عنه. وحتى لا أفقد ذاتي في سراديب مجهولة النهاية، فقد فضَّلت أن تكون محاولاتي أقرب إلى ما يشغلني بالفعل، في الفن، وفي الحياة عمومًا. وبصوت هامس — ما أمكن — فإن «مصر»، الموطن واللحظة والماضي والمستقبل، هي الشخصية الأهم في كل إبداعاتي. ذلك ما أحرص عليه، وما لاحظه حتى القارئ العادي. تعمدت أن تكون مصر: تاريخها وطبيعتها وناسها ومعاناتها وطموحها، نبض كتاباتي جميعًا، ما اتصل منها بالصحافة وما لم يتصل، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب، وكانت حصيلة ذلك — كما تعرف — عشرات المقالات التي تتناول شئونًا وشجونًا مصرية، بدءًا بكتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين» إلى كتاب «مصر المكان»، وربما إلى كتب أخرى تالية.
لم تكن الصحافة إذن مدخلي إلى الأدب، لكن الأدب كان مدخلي إلى الصحافة. أحببت الأدب — كما قلت لك — في سن باكرة، لا أستطيع تحديدها تمامًا. ولما حاولت اختيار وظيفة أحيا من راتبها، كانت الصحافة هي المهنة الأقرب إلى اهتماماتي الأدبية. أذكر قول أرسكين كالدويل: «لم يكن لديَّ طموح في أن أجعل الصحافة مهنتي في الحياة، لكن عمل الصحافة هو الكتابة، وكانت الكتابة هي الشيء الذي كنت أريد أن أتعلَّمه» (ت. سيد جاد). أقدمت على العمل في الصحافة وفي خاطري قول همنجواي: «إن العمل الصحفي لن يؤذي الكاتب الناشئ إذا استطاع أن يتخلص منه في الوقت المناسب.» وكنت أدرك — كما أدرك تولستوي دومًا — أن أية مهنة لا يمكن أن تنتزعني من الأدب. عاهدت نفسي — مثلما فعل كالدويل من قبل — على أن أي عمل أشتغل به غير الكتابة، سوف يكون مؤقتًا، لا لشيء إلا من أجل الاستمرار في العيش، والاحتفاظ بسقف فوق رأسي، وبكساء فوق جسدي.
قد تقتل الصحافة موهبة الأديب إن نسي نفسه، وارتمى في أمواجها. اخترت الصحافة لأنها أقرب المهن إلى طبيعة الأديب، وإلى اهتماماته، وحتى لا أصبح مثل جوليان سورل — بطل ستندال — فأواجه دائمًا تلك المشكلة الأليمة التي تتمثَّل في الوجبة التالية، ومن أين آتي بها. إذا كنت قد حاولت الإجادة، فلأني أحاول الإجادة في أي عمل أوافق على أدائه، حتى لو لم أكن أحبه. مع ذلك، فإني أحاول أن أجعل معظم وقتي للأدب، وأقلَّه للصحافة. علَّمتني ذلك تجربة السنوات التسع التي قضيتها مسئولًا عن تحرير «الوطن». وحتى الآن، فإن حلم كافكا يراودني في أن أستطيع الحصول من عمل أكتبه على ما يسد احتياجاتي، لكي أفرغ لكتابة عمل آخر؛ حينذاك تكون كل آمالي في الحياة قد تحققت.
•••
أستعيد — في لحظات انشغالي — قول همنجواي «كلما ازداد الكاتب انغماسًا في عمله، بعد عن أصدقائه، وأصبح وحيدًا.» ومع أن جابرييل جارثيا ماركيث يؤكد أن لحظات السعادة المطلقة، والوحيدة، لم يعشها إلا أثناء الكتابة، فإن الكتابة — في تقديره — أكثر المهن عزلة في العالم، «فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء في كتابة ما يكتب.»
من ناحيتي، فأنا لا أعتزل الناس حتى في لحظات الكتابة، إنهم شاغل ما أكتبه، وسدى كلماته. وإذا كان بوريس بورسوف يؤكد أن أي فنان حقيقي ينطلق في أعماله من تجربته الروحية الذاتية، فالواقع أني لا أكتب لنفسي، لا أكتب لأودع ما أكتبه أحد الأدراج، أو أمزقه بعد أن أنتهي منه، وإنما أدفع به إلى الناشر، سواء في صحيفة أو كتاب. يشغلني أن يرى النور، أن يقرأه الناس، ويفيدوا، أو يستمتعوا به، أو يناقشوه، أو حتى لا يجدوا فيه ما يستحق القراءة. نصحت بيرل باك كُتَّاب الرواية، أو من يريدون كتابة الرواية، بألا يصبحوا ذلك إذا استطاعوا تجنبه. إن تأليف الروايات يستنفد حياة الروائي كلها ووجوده «وإذا لم يضحِّ بحياته ووجوده وهو جذلان، فعليه ألا يقدم على التضحية إطلاقًا» … «لا توطِّن نفسك أبدًا على أنك ستجني مالًا من تأليفك رواية، إنها أكبر مغامرة في العالم، إذا كنت عجوزًا أو قلقًا، بل وإذا كنت قلقًا فقط، أكتب الرواية إذا أحسست بأنه لا بد أن تكتب رواية، لكن اعتبر الأجر مصادفة سعيدة قد لا تحدث. احصل على جزائك من مجرد كتابتك لهذه الرواية، وحاول أن تقنع بهذا» (ملحق «المساء» الثقافي، ٣٠ / ١٢ / ١٩٦٤م).
•••
الكاتب لا يخترع شخصياته. من الصعب أن تكون الشخصيات منبتة عن الواقع تمامًا، بل إن كاتب نفسه ربما تصور أنه اخترع الشخصية، والحقيقة ليست كذلك. إنه لو حلل الشخصية إلى عناصرها الأولى، فلا بد أن يجد فيها ملامح وقسمات من شخصيات عرفها بصورة مقيمة، أو طارئة، وربما قرأ عنها، أو سمع بها، دون أن يتاح له التعرُّف إليها مباشرة. وكما يقول ألبير كامي: فلا يمكن أن تكون إحدى شخصيات العمل الفني هي الفنان نفسه، وإن ظل هناك احتمال بأن يكون الفنان في آن واحد، جميع الشخصيات التي خلقها. إن العمل الأدبي — على نحو ما — يحمل طابع السيرة الذاتية، وعلى حد تعبير الناقد الروسي بوريس بورسوف، فإن «الذي يكتب بشكل حقيقي، هو من يفكر بنفسه، وبكل شيء آخر في آن معًا.»
«أنا مدام بوفاري»، عبارة لفلوبير. وفيما عدا استثناءات قليلة، فإن رواياتي وقصصي — بدرجة أو أخرى — حياتي. لست أزعم — كما قال ألان روب جرييه عن نفسه — إن مذكراتي الحقيقية موجودة في رواياتي، لكن معظم أعمالي — إن لم يكن جميعها — تنطلق من تجربتي الشخصية، وإن صعب القول إنه يمكن اعتبارها سيرة ذاتية حقًّا. ولعلِّي أوافق نجيب محفوظ على أن تجربة الفنان ليس من الضروري أن تحدث له شخصيًّا، لكنها قد تحدث لآخرين ممن أتيح له أن يعايشهم عن قرب (ونتذكر كامل رؤبة لاظ بطل روايته السراب). معظم ما كتبته، وأكتبه، يتناول أحداثًا عشتها، أو تعرفت إليها، بصورة صحيحة. وعلى حد تعبير همنجواي فأنا لا أعرف إلا ما رأيته. أوافق يحيى حقي في أن التصوير الفني لوردة في حديقة، يختلف عنه لوردة في صورة كتاب، تلمس خشونة الأوراق والساق وقطر الندى يختلف عن التعرف إليها في الصورة المسطحة. حتى أعمالي التي حاولت توظيف التراث، أفدت فيها من ملامح وتصرفات شخصيات تعرفت إليها، وعايشتها. وكما وصف كونراد بطل روايته «لورد جيم» بأنه «واحد منا»، فلعلِّي أزعم أن الوصف نفسه ينطبق على معظم الشخصيات التي تناولتها في أعمالي. ولا يخلو من دلالة أن العديد من أبطال رواياتي كانت القراءة شاغلًا أساسيًّا لهم: منصور سطوحي في الصهبة، حاتم رضوان في الشاطئ الآخر، عادل مهدي في المينا الشرقية، المؤرخ في قلعة الجبل، شاكر المغربي في النظر إلى أسفل، محمد إبراهيم مصطفى العطار في قاضي البهار ينزل البحر، رفعت القباني في حكايات الفصول الأربعة، وغيرهم.
وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة هي «جيفرسون» تدور فيها أحداث رواياته، في حين اخترع ماركيث مدينة هي «ماكوندو» تعبيرًا عن خصوصية البيئة في أمريكا اللاتينية، فإني حرصت على الكتابة عن «بحري» باعتباره كذلك. لم أحذف، ولم أضف، إلا بقدر الاختلاف بين الواقع والفن، وكما أشرت قبلًا، فإن الفن ليس نقلًا فوتوغرافيًّا للواقع، لكنه إيهام بذلك الواقع. بحري ليس ماكوندو ماركيث، ليس فردوسًا أرضيًّا وفرصة رائعة أمام الإنسان، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات. أهل بحري يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون، لا أضيف جديدًا لو قلت إن المحلية هي البيئة الحقيقية التي يجدر بأعمالنا الفنية أن تتحرك في إطارها، توصلًا للإنسانية. وإذا كانت المحلية — في اتفاق الجميع — شرطًا أساسيًّا لتحقيق العالمية، فإن المحلية ليست في تلك الحكايات الساذجة، أو الهلاميات، أو الصور التي تفتقد الترابط، بحيث يصعب نسبتها إلى العمل الفني في إطلاقه. وعندما ترجمت — بمبادرات طيبة من لجاننا المختلفة — نماذج من تلك الأعمال التي يمكن القول — بكثير من التجاوز — إنها جيدة فنيًّا فإن القارئ الأجنبي وضعها في الإطار الذي ينبغي ألا تتجاوزه. المحلية العالمية هدف من الصعب بلوغه. ترجمنا العديد من أعمال كبار أدبائنا إلى لغات أجنبية، فلم تجاوز اهتمامات المستشرقين والمعنيين بالثقافة العربية. صارحني أستاذنا حسين فوزي — وقد طالت إقامته في أوروبا — عن «نهر الجنون» لأستاذنا الحكيم، بأن ترجمتها إلى الفرنسية حققت أثرًا سلبيًّا، لأن قيمتها الفنية تهبط عما يمكن لطالب فرنسي في المرحلة الثانوية إبداعه. لم يجد حسين فوزي في تلك الملاحظة انتقاصًا لأعمال الحكيم، فالإعجاب بيوميات نائب في الأرياف وعودة الروح — على سبيل المثال — يبين عن نفسه — في المقابل — في آراء النقاد الأجانب، وإن تحفظت تلك الآراء في نسبتها كذلك إلى الإبداع العالمي، بكل ما تنطوي عليه الصفة من مواصفات محددة، وصارمة. مع ذلك، فإن الإبداعات العربية الحديثة قد أفرزت — في فهمها الواعي لمعنى المحلية — معطيات يصح انتسابها — بدرجات متفاوتة — إلى الأدب العالمي في إطلاقه. العمل الفني الحقيقي هو الذي يلتحم ببيئته بصدقٍ، ويعبِّر عن تلك البيئة بالصدق نفسه، شريطة أن يعي الفنان مقومات الإبداع الفني بعامة، وأن تكون الهموم التي يتناولها — رغم محليتها — هي هموم الإنسان في كل مكان. المثل الذي يحضرني قصة تشيخوف الرائعة «لمن أسرد أحزاني»، لا يجد الحوذي من يسرد له أحزانه، فيتجه بالحديث إلى حصانه، يبثُّه ما يعانيه، شخصية روسية تنتمي إلى أواخر القرن الماضي، لكنه — في الوقت نفسه — شخصية إنسانية، بكل ما تنطوي عليه هذه الصفة من دلالات.
•••
الملاحظة التي ربما أبداها البعض، واكتفى البعض الآخر بإيرادها تساؤلًا في عينيه، هي أن حياتي خاصة، فلا أغادر بيتي إلا نادرًا، ولا ألتقي الآخرين إلا لضرورة، ولا أتردد على الندوات أو المقاهي أو أماكن التجمعات بعامة، بما يعجِّل بنفاد مخزون «التجارب» التي تصلح نبضًا لأعمالي. والملاحظة — في ظاهرها صحيحة — بل إني أقدِّرها تمامًا، وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جوابًا مقنعًا. وبصراحة، فليس ثمة فجوات في حصيلتي المعرفية والاجتماعية والنفسية. ولعلِّي أحرص — في كل لحظة — على أن أحتفظ بقدرتي على الدهشة. إذا زايلتني هذه القدرة، فإن الخطوة التالية — كما أتصور — هي أن أهجر الإبداع مطلقًا. إن عين الفنان تختلف في نظرتها إلى من حولها، وما حولها، عن عين الإنسان العادي. عين الفنان شديدة الحساسية، بارعة الالتقاط، دقيقة الملاحظة. قد يغادر الإنسان العادي حياة كاملة لها خصوصيتها وتفردها، فلا يستقر في داخله منها شيء. أما الفنان، فقد تهبه جلسة عادية مع أناس عاديين، حياة خصبة، بما يضيف إليها من تجاربه ورؤاه وخياله. من خصائص العمل الجيد أن صاحبه يلفت نظري إلى أشياء طالما شاهدتها من قبل، لكنني لم ألتفت إليها، بل ولم أفطن إلى وجودها.
مع تأكيدي على أهمية التجربة، فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل فلوبير، حين أراد التعبير عن انتحار مدام بوفاري، ليرى مدى تأثير الزرنيخ في النفس والجسد. الشخصية الروائية لا تبدو غريبة عن الواقع، أو هذا ما ينبغي أن يكون. الفن — كما أشرت — إيهام بالواقع، والفنان لا يأتي بشخصياته من فراغ؛ إنها محصلة الواقع والخيال في آن. من هنا، أتفهَّم قول برتولت بريخت إن «شخصيات العمل الفني ليست مجرد أشباه للناس الأحياء، بل صور حددت ملامحها بما يتناسب والمنهج الفكري للمؤلف». على سبيل المثال، فإن السلطان خليل بن الحاج أحمد وعائشة بنت عبد الرحمن القفاص وخالد عمار والمعلم شيحة ومختار الرمادي وتغريد وخيرات، هؤلاء وغيرهم ليسوا شخصيات تاريخية حقيقية، لكنها شخصيات اخترعها خيال الفنان، وإن أفاد في ملامحها الظاهرة والنفسية من شخصيات معاصرة تعرف إليها. أكد لي الصديق الراحل فاروق خورشيد أنه قرأ قلعة الجبل باعتبار أن السلطان خليل شخصية حقيقية في التاريخ المملوكي، وتوافق اسم سلطان التاريخ مع سلطان الرواية لا يجاوز المصادفة البحتة. أما الصديق الأستاذ الجامعي حسن البنداري فقد عرض مساعيه لبيع ما تصور أنه يوميات المتنبي لجامعات أجنبية. وأما الصديق الشاعر كامل أيوب، فقد دفع برواية «من أوراق أبي الطيب المتنبي» إلى سلسلة المكتبة الثقافية، بتصور أنها تحقيق وتقديم ليوميات المتنبي، فلما صارحته بأن الرواية من تأليفي، أصرَّ أن أكتب ورقة تتضمن ذلك المعنى.
حين ألح في وجود المصدر الواقعي للشخصيات التي تضمها أعمالي، لا أعني أني أنقل الشخصية كما هي في الواقع. ألتقط لها صورة فوتوغرافية، أو أرسم «بورتريه» يحاول الإجادة في النقل ما أمكن. المصدر الواحد، المحدد، في الشخصية، أولى به أن يبعد عن الفن، إنه يصبح أقرب إلى الكتابة الببليوجرافية، أو التقارير. ثمة نمط إنساني معين، شخصية محددة، لكن تلك الشخصية تهجَّن، تطعَّم بقسمات وملامح من شخصيات أخرى، تتداخل معها، فتشكِّل شخصية أخرى، هي شخصيات العمل الأدبي، الشخصية الأصل، الشخصيات المتداخلة، موروثات الكاتب وقراءاته وتجاربه. ليست كل الشخصيات مما يصلح لأن يتوقف الكاتب أمامها، يتأمَّلها، يعلن بينه وبين نفسه: هذه شخصية روائية. مع ذلك، فإن الكاتب لا ينقل ملامح الشخصية وقسماتها كما هي في الواقع. إنه يضيف إليها، ويحذف منها، فتنتهي إلى شخصية روائية حقيقية، فيها من الواقع، ومن الكاتب نفسه. قد يختار الفنان شخصية من الواقع، ثم يضفرها بتجاربه — وتجارب الآخرين — ورؤاه وخبراته وقراءاته وخياله، فتتشكَّل من ذلك كله شخصية جديدة، هي الشخصية الروائية. والذهن — وحده — ليس مصدر استلهام الشخصية الروائية، إنها عملية معقدة، يشارك فيها الذهن والوجدان والعين والأذن، لتبين الشخصية الروائية عن ملامحها. وبافتراض أن الفنان قد استطاع أن يخترع شخصيته الروائية تمامًا، فلا ظل وجود لها في الواقع، فإنها ستأتي — بالضرورة — شخصية آلية، بلا حياة. وأغلب الظن أنها لن تكون شخصية مقنعة.
لقد كتب جارثيا ماركيث وقائع «موت معلن» بعد حادثة قتل شاهدها في أحد شوارع مدينة «أرتاكا»: «أطلقت الرصاصات على الضحية وهو عائد إلى منزله، أغلقت أمه الباب، ذلك شيء يفوق التصور: رجل ثري له أهميته يضرب من جهتين. طلبت مني أمي — في ذلك الحين — ألا أكتب شيئًا، لأن هذا سوف يقاضي أم الضحية بتهمة إغلاق الباب على نفسها. وعدت أمي ألا أكتب شيئًا طيلة حياة هذه المرأة. وقد سمعت أنها ماتت منذ خمس سنوات، وبدأت أفكر في كتابة الرواية» (الهلال ديسمبر ١٩٨٢م). أما أستاذنا نجيب محفوظ، فقد كانت روايته الشهيرة «اللص والكلاب» تأثرًا مباشرًا بسيرة السفاح محمود أمين سليمان، الذي أراد أن ينتقم من زوجته الخائنة، فأصابت رصاصاته أبرياء كثيرين. ويصف لنا يحيى حقي في كتابه «عطر الأحباب» تلك الأيام التي كانت فكرة «اللص والكلاب» قد شغلت فيها نجيب محفوظ، سيطرت على أفكاره ومشاعره، تحاول التخلُّق كعمل فني.
•••
يقول أرسكين كالدويل: «إني أعتقد أنَّ الكتابة الخلاقة تحركها حالة ذهنية معينة، وأن أولئك فقط الذين وُلِدوا بهذه الموهبة، ويسعوْن بجهدٍ متواصل ليعبِّروا عن أنفسهم كتابة، يمكن أن يحققوا النجاح الذي يريدون» (كيف أصبحت روائيًّا، ٢٦٦). وفي تقديري، أن كاتب الرواية أو القصة القصيرة ينبغي أن يكون دارسًا لعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتاريخ والأنثربولوجيا، وملمًّا — إن لم يكن منغمسًا — بالتطورات السياسية في بلاده، وفي العالم، فضلًا عن وجوب أن يكون ذا نفس مناضلة، تحيا واقع الجماعة، وتحس به، وتخلص في التعبير عنه. وباختصارٍ، فإن الروائي، والمبدع بعامة، ينبغي أن يكون متسلحًا بثقافة موسوعية. نحن إذا هدمنا شيئًا ما، بناية مثلًا، فإن الهدم ليس غاية في ذاته، إنما الهدف — أو هذا هو ما ينبغي — أن يكون الهدم للبناء، للإضافة، للتطوير. الهدم لمجرد الهدم مرفوض، والتعرف إلى البدايات والقواعد والركائز والأصول هو ما يجدر بالأديب أن يحصل عليه، مثلما أنه على الفنان التشكيلي أن يتعرف إلى المذاهب والاتجاهات الفنية المختلفة. الأمر نفسه بالنسبة للمبدع في كل المجالات، أن يحيط بالخصائص الفنية، التقليدية، للفن الذي اختاره. بوسعه — بعد ذلك — أن يهدمه، ليضيف، ويطور، بقدر ما تمنحه قدراته الفنية وموهبته. أشير إلى قول هنري جيمس: لا يمكن لقصة جيدة أن تنبثق عن ذهن سطحي.»
أنا حين أتحدث عن ثقافة الكاتب، عن خبراته وقراءاته وتجاربه وتأملاته وإفادته من كل الفنون في إثراء فنِّه، وتوضح البعد الثقافي بعامة فيما يكتب … حين أتحدث عن ذلك، فإن الأرضية التي يقف عليها ذلك كله هي الموهبة. لا فن بلا موهبة. مهما حصَّل الكاتب من ثقافة، فإنها لا شيء بلا موهبة. حتى الفلسفة بمعناها الأكاديمي المتخصص يجب أن يحصل المبدع على المتاح من التثقف فيها. وفي المقابل، فلعلَّ أهم ما يجدر بالفنان أن يحرص عليه، هو أن يحترم ثقافة قارئه، وأن يحترم ذكاءه أيضًا. وقد حرص الرومانتيكيون دومًا على تضمين أعمالهم خطبًا وشعارات، بينما يكتفي الفنان المعاصر — أو هذا هو المطلوب — بالإضمار التصويري. يثق في ذكاء قارئه، وأن من حق القارئ — وواجبه — أن يتأمل العمل الفني، ويمعن النظر فيه، بل ويملأ الفجوات التي يتركها الفنان في ثنايا العمل بما يحمله من ثقافة وذكاء. كانت تلك محاولتي — على سبيل المثال — عقب إضراب النزلاء في «الأسوار»، ملأت الفجوات بفقرات تروي نتفًا من وقائع التاريخ القديم، والمعاصر، واعتبرتها نسيجًا في العمل الفني، يصل ما بين بدء الإضراب، والرضوخ لمطالب النزلاء، وتركت لذكاء القارئ تبين ذلك … والأمثلة كثيرة.
•••
لست أذكر القائل: إن على الكاتب مهمَّتين: الأولى أن يقول شيئًا، والثانية أن يروي شيئًا، لكنه قول صحيح تمامًا. ورغم احترامي لقول بيكيت: «ليس لديَّ شيء أقوله، فأنا الوحيد الذي يستطيع أن يقول إلى أي حد أنني ليس لديَّ شيء أقوله، أو مضطر لأن أقوله»، فإن المقولة/الدلالة واضحة في أعمال بيكيت. قد تتعدد التفسيرات، والتعرف إلى ما يحمله العمل من دلالات مضمونية، لكنها موجودة (أذكِّرك بتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت «لعبة النهاية» في كتابي نجيب محفوظ: صداقة جيلين). في رسالة من تولستوي إلى مواطنه الروائي الروسي ليونيد أندرييف، يشير إلى أنه على الكاتب ألا يكتب «إلا إذا استحوذت عليه الفكرة التي يود التعبير عنها بأحسن ما في طاقته، وألا يفكر حينئذٍ في شيء آخر غير إجادة التعبير، فلا ينظر إلى ما تضفي عليه الكتابة من شهرة أو مال»، وكتب تشيخوف في إحدى رسائله: «دعني أذكِّرك بأن الكُتَّاب الخالدين، أو في الأقل ذوي الموهبة، الذين يهزون نفوسنا، لديهم سمة مشتركة بالغة الأهمية، هي أنهم يتجهون إلى شيء، وأنهم يدعونك إليه أيضًا، وإنك تحس، لا بعقلك وإنما بكيانك كله. إن لديهم هدفًا، بعضهم لديه أهداف مباشرة، كالقضاء على الإقطاع وتحرير البلاد، وكالسياسة أو الجمال، أو مجرد الفودكا، وآخرون لديهم أهداف بعيدة كالله، وكالحياة بعد الموت، وكسعادة البشرية، وهكذا، وإن أفضلهم كتَّاب واقعيون يصوِّرون الحياة كما هي، ولكن على الرغم من أن كلًّا منهم يستغرقه هدف واحد، فإنك تحس في أعمالهم، لا مجرد الحياة كما هي، بل تحس الحياة كما ينبغي أن تكون، وإن هذا ليأسرك.» إن للعمل الأدبي استقلاليته، لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذي كتبه، من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه. أفترض أن العمل كتب نفسه، أو هذا — في الأقل — ما أتحمس له، لكنني لا أتصور أن يصدر العمل عن فراغ، حتى الثمرة المعينة هي — في الأساس — بذرة معينة، وُضِعَت في تربة معينة، ومناخ معين … وإلا، فما سر زراعة محصول بذاته في بلدٍ ما، ولا يمكن زراعته في بلدان أخرى؟! وإذا كان رأي بوشكين أن «الفنان الحقيقي يهب نفسه كلها للفن»، فإني أجد أن القضايا التي يناقشها الفن ويطرحها، وليس الفن كغاية ترفيه، هي ما ينبغي على الفنان أن يخلص لها. ولعلِّي أذكر قول بيرل باك «الفنان اليوم لم يعُد يكفيه أن يملك أداة رائعة من الصنعة المكتملة، بل لا بد أن يكون لديه شيء جدير بهذه الأداة يعبِّر عنه»، بل إن دعاة الفن للفن يشيرون إلى أنه «على الكاتب أن يتحدث عن شيء من الأشياء» (ما الأدب، ص٢٥). وقد أبدى سارتر أسفه على لا مبالاة بلزاك تجاه أحداث عصره، وعلى عدم الفهم، وعلى الخوف أيضًا الذي أبداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونة، فضلًا عن أنه اعتبر فلوبير والأخوين جونكور مسئولين عن القمع الذي أعقب حكومة الكوميونة، لأنهما لم يكتبا حرفًا واحدًا.
المسألة — في تقدير بريخت — ليست مجرد تفسير العالم، بل تغييره، وعلى حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هي أن يحوِّل كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت، إلى حياة لا نهائية، أن يحوِّل ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق عليه مع القانون العام «إن رسالة الكاتب نبوية».
بالنسبة لي، فإن الكتابة قضية حياة، وليست مهنة. وكما أشرت سلفًا، فقد بدأت الكتابة دون أن أفكر: لماذا أكتب؟ العقاد يؤكد أن الأديب يكتب لأن له رسالة، ورسالة الأديب هي رسالة الحرية والجمال، قلمه يجب أن يصبح سلاحًا ضد الديكتاتورية والاستبداد. ذلك مجمل ما يجيب به العقاد عن السؤال: لماذا يكتب الأديب؟ يذكِّرني بأول ما أصدرته من كتب مطبوعة، اسمه «الملاك»، من الصعب تصنيفه ككتابٍ، فعدد صفحاته ستة عشر بالتمام والكمال، فهو إذن أقرب إلى الكراسة أو الكتيب في أفضل الأحوال، محاولة غلبت عليها السذاجة، وارتكزت إلى التقليد، مهَّدت لها بكلمات مشابهة لكلمات العقاد، وإن لم أكن وقتذاك قد صادفت كلمات العقاد فيما أتيح لي قراءته من كتب. أما الكلمات فهي: الحق، الحرية، الحب. ومع أني لا أذكر الظروف التي كتبت فيها هذه الكلمات، ولا بواعث كتابتها، فضلًا عن أني لم أكن أفهم دلالاتها جيدًا، وإن أمليتها على قلمي … مع ذلك، فإني حين أتدبر هذه الكلمات الآن، أجدها واضحة في إطار اهتماماتي الفكرية.
الرواية — في تقدير دوبريه — «ذلك الشكل الأدبي الذي يؤدي دور المرآة للمجتمع، مادتها الإنسان، أحداثها مبعثها صراع الفرد ضد الآخرين، للملاءمة بينه وبين مجتمعه، وينتج عن ذلك الصراع خروج القارئ بفلسفة ما، أو رؤيا شمولية للروائي.» أرفض دعوة ناتالي ساروت بأن تتحرر الرواية من كل هدف أخلاقي أو اجتماعي، وأعتبر الكاتب — بدرجة وبأخرى — موقفًا في عصره. أستعير من د. ﻫ. لورنس قوله: «بما أن الإنسان يصور العالم من منطلق نظري، فمن المطلوب أن يكون لكل رواية خلفية أو مخطط لنظرية عن الوجود، شيء ميتافيزيقي، لكن ذلك الشيء الميتافيزيقي عليه أن يخدم الهدف الفني دومًا، ويختفي وراء وعي الفنان، وإلا تحوَّلت الرواية إلى دراسة.» وأذكر أن دعوت — في سن باكرة — نسبيًّا — إلى ضرورة أن يتضمن مجموع أعمال كل أديب فلسفة حياة، نظرة شاملة مجتمعية وسياسية وثقافية وميتافيزيقية. كتبتُ في «المساء» (٨ / ٩ / ١٩٦٠م) بعنوان «فلسفة القصة»: «لو نظرنا إلى أعمال أعظم روائي في الشرق العربي الآن — نجيب محفوظ — لأخذتنا الروح الشعبية الصميمة، واللمسات الإنسانية التي تنبض في كل سطورها. لكن هذه الأعمال جميعًا لا تريد أن تقول شيئًا محددًا؛ فالثلاثية — مثلًا — اعتبرها بعض النقاد تخطيطًا جغرافيًّا وتاريخيًّا ناجحًا للإقليم المصري (اسم مصر حينذاك) إبان ثورة ١٩١٩م، هي صورة اجتماعية صادقة لحياة العصر، لكنها تفتقر إلى الفلسفة الواضحة التي تعكس نظرة الكاتب إلى الحياة (راجعت هذا الرأي فيما بعد، وتوصَّلت إلى قناعات مغايرة، أثبتُّها في كتابي نجيب محفوظ: صداقة جيلين). والواقع أن كل قصاصينا، الكبار والصغار (التعميم مبعثه حماسة الشباب) ليست لديهم فلسفة معينة، يمكن أن نحسَّ بها في كتاباتهم، كل ما نلاحظه ونحن نخرج من قراءة أية قصة، أن قاصنا يريد أن يحكي حكاية، يريد أن يفض عن نفسه تجربة عاشها وعاناها، أما ما هو الذي يريد أن يقوله من خلال هذه الحكاية، فلا شيء على الإطلاق.»
أعمال أي مبدع يجب أن تشكِّل وحدة متكاملة «يوضح كل مؤلف منها مؤلفاته الأخرى، وكلٌّ منها يرى وجهه في الآخر.» أزيد فأزعم أني حاولت منذ تلك اللحظة — مجموعتي القصصية الأولى — والأسوار — روايتي الأولى — أن أحقق — بتوالي ما أكتبه — تلك الوحدة المتكاملة. ما أنشده في مجموع كتاباتي — ومجموع كتابات الآخرين أيضًا — أن ينطوي على فلسفة حياة متكاملة. أن يعبِّر مجموع أعمال فنان ما عن صورة العالم لديه بما يختلف عن صورته في نظر الآخرين. الأدب غير الفلسفة، لكنه — في الوقت نفسه — تصور للعالم، يرتكز إلى درجة من الوعي، وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس. طريقة الفيلسوف هي التنظير والتحليل والإقناع، والصدور عن العقل، والاتجاه كذلك إلى العقل. أما طريقة الأديب فهي العاطفة والخيال والحواس، والصدور عن ذلك كله إلى المقابل في الآخرين، من خلال أدواتٍ يملكها الأديب، وتتعدد مسمياتها، كالتكنيك والتطور الدرامي والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال … إلخ. وإذا كنت أومن بوحدة الفنون، وأن على كاتب الرواية — مثلًا — أن يضمَّ إلى معارفه وأدوات ثقافته: القصة القصيرة والمسرحية والفن التشكيلي والموسيقى والسينما وغيرها من الفنون، فإني أومن — بالدرجة نفسها — بضرورة أن يقرأ الأديب في الفلسفة، يتأمل معطياتها، يناقشها، يحاول أن تكون له في ذلك وجهات نظر. بعض كُتَّاب القصة يعنوْن بالشكل السوريالي في أعمالهم، فإن شاهدوا لوحة سوريالية، وقفوا أمامها في تحيُّر، وربما أعرضوا عن مشاهدتها. وثمة شعراء لا يجدون في الأعمال الروائية ما يستحق عناء القراءة، وسماع الموسيقى الكلاسيكية همٌّ ينأى عنه غالبية المبدعين (أذكِّرك بمقدمة يحيى حقي البديعة لكتابه: تعال معي إلى الكونسير). ولعلَّه يمكن التأكيد كذلك على أن نظرة الغالبية من أدبائنا إلى الفلسفة تحتاج إلى مناقشة، وإلى تقويم، والزعم بأن الفلسفة — وربما الثقافة بعامة — تفسد الموهبة، وتسيء إلى التلقائية والبساطة والشاعرية التي ينبغي أن ينهض عليها العمل الفني. ذلك الزعم غير صحيح، لأن مجرد استقراء تاريخ المشاعل في حياتنا الأدبية يؤكد أن الحصيلة المعرفية، والتأمُّل، ومحاولات التوصل إلى صورة خاصة للعالم، كانت هي الدعامات التي استندت إليها أعمال هؤلاء الأدباء. بل لقد أفادت الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية، من أعمال أدبية لسوفوكليس وشكسبير وديستويفسكي وعشرات غيرهم، أثروا الحياة الإنسانية بمعطياتهم. وفي المقابل، فإن المذاهب الفلسفية كانت هي النبع الذي ارتوت منه المراحل الأدبية المختلفة. وضع الفلاسفة وعلماء النفس نظرياتهم، فبدت أعمال هؤلاء الأدباء — أحيانًا — كأنها تطبيقات لتلك المذاهب (السراب وعقدة أوديب مثلًا). وأفادت الأعمال الأدبية كذلك من قوانين الوراثة (ثلاثية نجيب محفوظ مثلًا)، ونظرية التطور، ونظريات علم الاجتماع، وعلوم البيئة. وباختصارٍ، فإن دراسة الفلسفة — كجزء من عملية التحصيل الثقافي — ينبغي أن تكون همًّا لكل أديب، يحاول أن يشكِّل — من خلالها — آراءه ونظرته وتصوراته للعالم الذي يعيش فيه. إنها — بالقطع — ليست ترفًا قد تستغني عنه موهبة الأديب، لكنها ضرورة.
لم يعد دور الأدب في المجتمع من القضايا المطروحة في حياتنا الثقافية، وإذا كنا قد شغلنا — زمنًا — بقضية: هل الفن للفن، أو الفن للحياة، ودارت في ذلك مناقشات عقيمة منذ مطالع الخمسينيات إلى مطالع السبعينيات، فإن دور الأدب في المجتمع الآن، ودور الأديب بالتالي، مما يصعب إغفاله، أو التهوين منه، بل ومما يصعب مناقشته، لأنه دور قائم ومؤكد. الأديب لا يكتب لنفسه، ولا تنطلق إبداعاته من فراغ، ولا تنطلق إلى فراغ كذلك، لكنه يعبِّر — على نحو ما — عن هموم قد تكون مجتمعية أو سياسية، أو حتى ميتافيزيقية، لكنها هموم تشغله، وتلحُّ عليه، وتعبِّر عن نفسها في أعماله الإبداعية. وتحديدًا، فإن لي موقفًا — أتصوره واضحًا — من القضايا الإنسانية والاجتماعية. هذا الموقف يبين عن نفسه في مجموع ما صدر لي من كتابات. ثمة وشيجة تربط روايتي «الأسوار» مثلًا، بقصة «التحقيق» برواية «قاضي البهار ينزل البحر»، ورواية «المينا الشرقية» … إلخ. وثمة وشيجة أخرى تربط روايات «الشاطئ الآخر»، و«زمان الوصل»، و«صيد العصاري»، و«زوينة» … إلخ. ووشيجة بين «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، و«الأسوار»، و«إمام آخر الزمان»، و«النظر إلى أسفل»، و«الخليج»، و«اعترافات سيد القرية»، و«حكايات الفصول الأربعة»، و«رجال الظل»، و«كوب شاي بالحليب». ووشيجة تربط بين «زوينة، وصيد العصاري، وزمان الوصل، وذاكرة الأشجار». وثمة وشيجة تربط بين «رباعية بحري، وأهل البحر، ونجم وحيد في الأفق، ومواسم للحنين، ومجموعة ما لا نراه، والكثير من القصص القصيرة» … إلخ. ربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته، في أكثر من عمل. يختلف الحدث والتناول، لكن الفكرة تتردد في محاولة — غير متعمدة — لتأكيد نظرة بانورامية شاملة. ولعلِّي أفضِّل أن يتناول النقد أعمالي بصورة كلية، كل عملٍ يشرح ويفسِّر ما قد يكون غامضًا في أعمالٍ أخرى. من المهم أن نتنبه إلى الفرق بين السؤال: ماذا يريد الفنان في هذا العمل، وبين السؤال: ماذا يريد الفنان في مجموع أعماله؟ مجموع الأعمال يعكس نظرة شاملة، فلسفة حياة، تحول الجزئيات إلى بانورامية تزخر بالتفصيلات.
إن غاية ما تطمح إليه أعمالي ألا يظل قارئها كما هو بعد قراءتها، وإنما يشعر بالحصار، بالاستفزاز، بالتحدي، وأنه يواجه فقدان الحرية مثلما واجهه بطل القصة، أو يواجه القهر كما واجهه بطل القصة، أو الظلم والكبت والتهديد، ويعاني المطاردة (الإحساس بالمطاردة يعاودني طول الحياة، تختلف بواعثه، لكنه قائمٌ، متجددٌ، أعاني تأثيراته، أحاول التخلص منها). ومن ثَمَّ، فإنه يشعر بوجوب التحرك، وأن يفعل شيئًا لمجابهة الخطر القائم، أو المحدق. ثمة وحدة ما — موجودة، أو أتوق لتحقيقها — يشكِّلها مجموع أعمالي.
ولعلَّ العنوان الرئيس الذي يعلو مفردات نظرتي الشمولية هو المقاومة، المقاومة ضد كل قبيح وزائف ومتسلط وعدمي وقاهر للإرادة الإنسانية. قد أكون مخطئًا في هذا المعنى، لكنه المعنى الذي ناقشته — بيني وبين نفسي — واطمأننت إليه، ساعد على ذلك قراءاتي الشخصية، المتأمِّلة، لأعمالي، وملاحظات النقاد حول تلك الأعمال. وكما أشرت، فربما تناولت الفكرة نفسها، الموضوع ذاته، في أكثر من عمل، رواية، أو قصة قصيرة. وإذا كان فيتزجرالد يرى أن على الكُتَّاب أن يكرروا أنفسهم على الدوام، فإن هذه — في تقديري — هي الحقيقة. ثمة في حياتنا تجربتان أو ثلاث، كبيرة ومثيرة، نحن نرويها في كل مرة، بقناعٍ جديدٍ، عشر مرات، وربما مائة مرة، وبقدر ما نجد أناسًا يصغون إلينا. ولعلِّي أنْفِي عن ماركيث ما يبدو مبالغة في قوله إن الروائي لا يؤلف غير رواية واحدة في حياته، ويصدر له العديد من الروايات تحت الفكرة نفسها، وإن حملت عناوين أخرى مختلفة. ومنذ أصدر سارتر عمله الأول «الغثيان» (١٩٣٨م) فإن كل ما كتبه كان يلحُّ في اكتشاف حرية الإنسان، وعدم جدواها: «لماذا أنا حر؟». أذكر أني أشرت في حوار مع ناقد صديق إلى تشابه «القضية» في العديد من كتاباتي، فلما أعاد الناقد ملاحظتي في إحدى الندوات، ثار عليه معظم الحضور، رأوا في كلماته قسوة متجنية، وتغلَّب الشعور بالامتنان للأصدقاء الأدباء، على تفهُّمي للورطة التي أوقعت فيها — بحسن نية طبعًا — صديقي الناقد، فلو أني احتفظت بملاحظتي لنفسي، ربما غابت عن كلماته، ولم يواجه ثورة الحضور. مع ذلك، فإني أطمئن إلى ملاحظتي، وأجد أنها سليمة فيما يتصل بالكثير مما كتبت، وبالكثير مما كتبه أدباء آخرون أدين لهم بالأستاذية، مثل إبسن الذي ركز في معظم مسرحياته على موقف الفرد من المجتمع، وتشيخوف في تفرد غالبية إبداعاته بمناقشة «العمل» كضرورة حياة، فرارًا من خواء النفس، وخواء الأيام، وبرنارد شو وتحدد معظم كتاباته في مناقشة الفوارق بين المثالية التي لا تجاوز إطار الأحلام، والبرجماتية التي قد تهمل المبادئ والمُثل، فالنجاح — بكل السبل — هو ما تسعى إليه، وأدباء آخرون، أشرت إليهم في مواضع سابقة، أو تالية.
وإذا كان أوجست رودان يؤكد أن «الحياة هي العمل، وكائنة ما كانت العبقرية الموهوبة، فلا شيء ينمِّيها ويصقلها غير مواصلة العمل». فإن قيمة العمل تتبدى بعدًا أساسيًّا في العديد من أعمالي. في «الأسوار» بادرت سلطات المعتقل إلى منع التعذيب وطوابير العمل، وتواصلت الأيام بالنزلاء متشابهة، يؤرِّخ لتواليها أحداث تافهة، حتى أعلن النزلاء — في محاولة لطرد الملل — رغبتهم في الخروج إلى الوادي، زراعة الأرض أهون ملايين المرات من الثرثرة في اللاشيء، والتحديق في اللاشيء، وترقب اللاشيء. وفي نجم وحيد في الأفق يرفض البطل حياة الدعة والنعيم، ويتوق للعودة إلى مهنته التي طالما ضايقته. ومن الأقوال التي أستحضرها — دومًا — ما كتبه تشيخوف «لو أن كل إنسان في العالم صنع كل ما في استطاعته، في أرضه الخاصة، لغدا العالم رائعًا.»
ولعل أهم «القضايا» التي حاولتُ مناقشتها في أعمالي، ذلك السؤال عن صلة المثقف بمجتمعه: هل يؤدي ما عليه، باعتباره واجبًا لا يرجو فيه مقابلًا، أو أنه من المفروض أن يشعر مواطنوه، ويشعر هو أنهم شعروا، بهذا الدور؟ كما تناولت — في بُعدٍ آخر لصلة المثقف بمجتمعه — دور الأعوان في صناعة الطاغية، بداية من رواية من أوراق أبي الطيب المتنبي، إلى رواية رجال الظل، مرورًا بقلعة الجبل، وزهرة الصباح، وإمام آخر الزمان، واعترافات سيد القرية، وما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، وغيرها.
والوقوف على أرضية الصفر، بمعنى مواجهة الخطر، وتحدِّيه، هو ما يلجأ إليه أبطال رواياتي، عندما تحاصرهم الأزمة تمامًا. يترددون في البداية، تنهكهم المطاردة، يحاولون الاختباء أو الفرار أو التجاهل، لكن الخطر يدفعهم — في النهاية — إلى تحديه، إلى مواجهته، ومقاومته. في روايتي «الصهبة» يقول الهاجس لمنصور سطوحي: لكي تفرَّ مما يشغلك، اقذف بنفسك داخله. وكان الوقوف على أرضية الصفر هو سر صمود بكر رضوان في «الأسوار»، وسر حفاوة «الأستاذ» بالمصير المحتوم. وقد أذهل محمد قاضي البهار مطارديه، وهو يصفِّر، ويغني، في طريقه إلى البحر، ليقذف بنفسه فيه. ومثَّلت مواجهة عائشة للسلطان خليل بن الحاج أحمد لحظات الحسم في إصرار السلطان على أن ينتزع عائشة من المدينة، لتقيم معه في قلعة الجبل. واستطاعت زهرة الصباح أن تحيا في ظل الخوف، وتحب، وتنجب. وفي «الجودرية» تأكد دور المهمَّشين في صناعة الثورة ضد حملة بونابرت. وصارت الشقة المطلة على البحر في «البحر أمامها» وطنًا أعدَّت السيدة نجاة نفسها للدفاع عنه. وقد أراد بطل قصتي القصيرة «المستحيل» بإغلاق الأبواب والنوافذ، وتكويم قطع الأثاث وراء الأبواب والنوافذ المغلقة، أن ينأى عن الخطر في خارج البيت — فعل مشابه لمد الأيدي أو إغماض العينين — اتقاء مواجهة ما يهدد الحياة. تناسى الرجل أن الخطر الذي يتحرك في الخارج، يهدِّد، ويدمر، إنما يستهدفه هو في الدرجة الأولى. وفي قصة «في الشتاء» يعاني البطل الفرار من المجهول، فإذا تحتمت المواجهة، بدا المجهول لا شيء لقاء إصرار البطل على المقاومة. وفي حدث استثنائي في أيام الأنفوشي بدا السكوت عن مقاومة أسراب السمان — التي قاسمت أهل بحري حياتهم — طريقًا إلى الجنون.
وبالطبع فإن هذه الأعمال مجرد أمثلة.
•••
أذكر لأستاذنا زكي نجيب محمود قوله: «إنه ليكفي الكاتب العربي أن تكون أحداث العصر قد ألقت في وجهه شيئًا اسمه إسرائيل، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه، مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكُتَّاب من الجماعات التي اقترفت في حقِّه هذا الجرم، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها» (العربي، يناير ١٩٧١م). كانت يا سلام أولى قصصي المنشورة (١٩٥٨م) هي التعبير عن انعكاس تجربة الحرب (حرب ١٩٥٦م تحديدًا) على حياة البسطاء، كما سجَّلها شاب في حوالي الثامنة عشرة. ثم أصبحت مصر هي «القضية» في كل ما كتبت، مصر الماضي، والحاضر، واستشرافات المستقبل، ما يعجز الفن عن تسجيله، فإني أحاول أن أناقشه في دراسات. وقد أشرت في مقدمة كتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين» إلى أن من بين الأسباب التي دفعتني لتأليفه، والابتعاد — لسنوات — عن الكتابة الإبداعية، تأكيد الصداقة بين الكاتب وبلاده، بالتعرف المباشر، وبالقراءة التي تشمل جوانب الحياة المصرية، بكل اتساعها وخصبها وثرائها. العجوز في يا سلام تأثرت حياته بنتائج الحرب، لكن السلام الزائف أخطر — في تقديري — من الحرب، عندما يوهمك عدوك أن المعارك بينك وبينه قد انتهت إلى الأبد، وتعانِق الوهم، في حين يصرف العدو جهده إلى الإعداد للحرب الحتمية القادمة. ثمة قول في سفر التثنية (الإصحاح العشرين، الفقرة العاشرة) «حين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح.» الصلح غير العادل — كما يقول القانوني فاتيل — ظلم لا تتحمَّله أية أمة إلا لافتقارها لوسائل نقْضِه، وإحقاق حقِّها بالسيف. القضية المحور التي تشغلني منذ سنوات، هي مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي: الحياة والبقاء والموت، الكينونة وانعدامها، الاستمرار والانقطاع. تلك هي القضية التي تسبق في اهتماماتي ما عداها من قضايا، لأنها قضية المصير العربي في إطلاقه. ألحُّ في أن أدب المقاومة ليس وقفًا على التحريض ضد المستعمِر الذي يسعى إلى احتلال أرضي، وتشويه حضارتي وقِيَمي وموروثاتي وملامح شخصيتي بواسطة أدوات قد يكون من بينها معاهدة سلام. السلام مطمح، لكنه — بالتأكيد — ليس ذلك السلام الذي يدفع أحد طرفي النزاع إلى الاطمئنان للغد والمستقبل، والاطمئنان كذلك إلى النيَّات المقابلة، بينما الطرف الآخر يدبِّر ويخطط، بل وينفذ — علنًا وسرًّا — تدبيراته. الحذر إذن مطلوب، والتنبُّه إلى الغزو السلمي، بأبعاده الاجتماعية والثقافية، يستوجب التعرف إلى الشراك الخداعية في حقول السلام. أشير إلى رواياتي: النظر إلى أسفل، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي، والمينا الشرقية، وصيد العصاري، ومجموعات: هل، وحارة اليهود، وموت قارع الأجراس، ورسالة السهم الذي لا يخطئ، وغيرها.
•••
ثمة قضايا أخرى، آنية، مثل قضايا التخلُّف: غلبة الاستهلاك على الإنتاج، محدودية المسار الديمقراطي، زيادة أعداد الأميِّين، انعدام الوعي السياسي والبيئي، الزيادة غير المسئولة في النسل، وغيرها من المشكلات التي قد لا تكون في صميم مسئوليات المبدع، لكنها — في الدرجة الأولى — قضايا المجتمع الذي يعيش فيه، ولا بُدَّ أن ينشغل بها على المستويين الشخصي والعام، وتتوضح في أعماله، بصورة وبأخرى، على أن تنتسب هذه الأعمال إلى الفن، وترفض الجهارة والمباشرة. في قصتي «الرائحة» يقول الطبيب: غلطتان كفيلتان بتقويض أية ثورة … زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية. المثل الشعبي يقول «السجن سجن ولو في جنينة»، وغياب الديمقراطية معناه تحوِّل المجتمع إلى سجن، قد يكون مزوَّدًا بكل الضروريات، وقد يوفِّر لنزلائه وسائل الراحة، لكنه يظل — في النهاية — سجنًا. الديمقراطية تعني الرأي والرأي الآخر، مناقشة المحكوم للحاكم، التعبير عن وجهة النظر دون خشية من مصادرة أو اعتقال.
•••
هنا يفرض السؤال نفسه: كيف تدعو إلى فلسفة الحياة في العمل الفني، وتناقش — في الوقت نفسه — صورة المجتمع في القصة والرواية؟
ظني أن انشغالي بضع سنوات في إعداد الأجزاء الثلاثة من كتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين» — كأول محاولة تطبيقية في علم الاجتماع الأدبي — يؤكد أهمية أن تعبِّر القصة عن المجتمع الذي صدرت عنه، وصدرت فيه. لكن العمل الفني الحقيقي هو الذي يتناول مشكلات آنية فلا يفقد جوهره ولا جودته بغياب تلك المشكلات، ولا يموت بموتها. ثمة أعمال إسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وموليير وبلزاك وزولا وفلوبير وديكنز وإبسن ونجيب محفوظ وغيرهم، كانت تعبيرًا ملحًّا عن قضايا مجتمعها، لكنها — من بعد — تجاوزت «الآنية» لتعني باهتمامات الإنسان الباقية، وتجيب عن أسئلته المهمة. لذلك فإن المبدع الذي يدرك قيمة الفن، يتحفَّظ على الإبداعات التي انشغلت باللحظة الآنية، فتجرَّدت من الديمومة التي تهَب العمل الفني استمرار الحياة. صارحت أستاذنا نجيب محفوظ — عقب نكسة ١٩٦٧م — بإشفاقي من أنه يعنى بالتعبير — فيما سمَّاه مسرحيات ذات فصل واحد — عن التطورات السياسية والاجتماعية، التي ربما تتصل بالطارئ والمؤقت، بحيث تنتسب — في المستقبل — إلى التاريخ بأكثر من أن تنتسب إلى الفن. قال لي محفوظ: إن لديَّ استعدادًا لأن أكتب عملًا من هذا النوع، ولظروف سياسية أحب أن أمارس دوري فيها، حتى لو قُدِّر لهذه المسرحية أن تموت فور انتهاء المناسبة التي كتبت فيها. لقد عنى — على حد قوله — بالتوصيل قدر اهتمامه بالتعبير. وكان لذلك بواعثه الملحَّة، وهي أن مصر كانت تحيا في ظل نكسة، ومع تفهُّمي لقول سارتر «إنني أكتب لزمني، لا يهمني من يأتون بعدي»، فإن العمل الإبداعي يختلف — بعامة — عن الوثيقة التي تخاطِب اللحظة المعاشة.
•••
صلتي بعملي الأدبي، وفهمي له — بعد أن يجد سبيله إلى النشر — يجب ألا تجاوز صلة الآخرين به، وفهمهم له، بمعنى أنه ينبغي ألا أتصور في نفسي قدرة على تفسير العمل، وفهم دلالاته، أكثر من الآخرين. وبالتأكيد، فإن الفنان ليس أقدر الناس على الإحاطة بعمله، بل إنه قد يكون أبعد الناس عن ذلك. ولأن المتنبي كان ذكيًّا وفاهمًا، فقد كان جوابه على السائلين عن شِعره: عليك بابن جني، فإنه أعرَف بشعري مني! وكان أبو الفتح عثمان بن جني هو شارح ديوان المتنبي وناقد شعره. على الفنان أن يطرح الأسئلة طرحًا صحيحًا، لكنه ليس مطالبًا بأن يجيب على ما يطرحه من أسئلة. وكما يقول تشيخوف، فإنه ما من سؤال واحد قد أجيب عليه، أو وجد حلًّا، في رائعة تولستوي «آنا كارنينا»، لكن الرواية ترضينا تمامًا لأن كل الأسئلة قد طُرِحت طرحًا صحيحًا. مهمة المبدع أن يطرح القضية طرحًا جيدًا، وإن كان عليه — في الوقت نفسه — أن يظل الطرح بلا حلٍّ، تظل النهاية مفتوحة؛ فإيجاد الحل هو مهمة المتلقي. إن عليه — في المقابل — أن يبذل جهده، ويفكر فيما طرحه المبدع. إني أكتفي — في نهاية كل قصة، وأحيانًا في ثنايا القصة — باللمحة الدالة التي تخاطب ذكاء القارئ، وعيه، تراثه الروائي والقصصي، لا تفرض عليه استنتاجًا أو رأيًا؛ الكثير من سردي الفني ينتهي بصيغة السؤال، أو التساؤل. أذكر قول أندريه جيد «إن واجب الكاتب أن يوجه الأسئلة للقارئ، ويحاصره، ويدفعه إلى الإجابة.» كذلك فإنه من حق المتلقي — بصرف النظر ما إذا كان ناقدًا متمرسًا أم قارئًا عاديًّا — أن يستنبط من العمل ما يشاء من القِيَم والمعاني والدلالات ما دامت طبيعة العمل تحتم ذلك، وليس المطلوب من كل غواص أن يستخرج من البحر ما استخرجه الآخرون.
الفعل الإبداعي لحظة ناقصة، لا تُستكمَل إلا بالمتلقي الذي تُستكمَل اللحظة بتلقِّيه؛ قراءة النص إعادة خلق له. بل إن النص المتفوق هو ما يجاوز الدلالة المغلقة، ليطرح العديد من الدلالات. من حق قارئ العمل الأدبي — ومن واجبه أيضًا، بصرف النظر عن مدى ثقافته، أو تخصصه — أن يستنبط من العمل ما يشاء من المدلولات، التي يجد أن العمل يحتمل التعبير عنها. بل إن تصور التفسير الواحد لعملٍ ما، ينزع عن ذلك العمل صفة الديناميكية التي تُعَد سمة أساسية في العمل الفني. وكما يقول رينيه ويلك فإنه لو قُدِّر لنا أن نسأل شكسبير عن المعنى الذي قصد إليه من كتابة «هاملت» لما كان في جوابه ما يشفي الغليل، مع ذلك فنحن نجد في هاملت ما قد يكون — في الأرجح — بعيدًا عن ذهن شكسبير.»
العمل الفني الجيد هو الذي يحتمل العديد من التفسيرات، تعدد التفسيرات دليل على خصوبة العمل، وعمقه، بشرط أن تصدر كل التفسيرات من داخل العمل، ولا تُفرَض عليه من الخارج، أو تستنطقه بغير ما يقول.
•••
يقول أرسكين كالدويل: «إن واجب الكاتب والتزامه يجب أن يكون أمام نفسه، وأمام قارئه.»
الالتزام لا أرفضه، ولعلِّي أوافق عليه، أما الإلزام، فإنه يعني القضاء على ملكة الإبداع، وهي ملكة «فردية» لا تستطيع أن تتحقق، وتنطلق، إلا في جوٍّ من الحرية. الإلزام في الفن يعني — بأبسط عبارة — القضاء على موهبة الفنان، فهي لا تحيا وتزدهر إلا في الحرية المطلقة. التزام الفنان ينبع من داخله، من ذاته، من نظرته إلى الأمور، وفهمه لها، وإيمانه بالقضية التي يعالجها، وفي كل الأحوال، فإن ذلك الالتزام ينبغي أن يتحرك في دائرة الفن. وقد أعلن كامي — يومًا — أنه ضد الالتزام إن كان الالتزام يعني ارتباط الفنان بصانعي التاريخ الذين يغنون على مؤخرة السفينة للقمر والنجوم، بينما سياط جلَّاديهم تسلخ شعوبهم في قلب السفينة نفسها. بل إن الكاتب — إذا كان قد اختار مهنته عن اقتناع، وبجدية ووعي — لا يستطيع أن يصمت، إلا إذا اعتبر الصمت مظهرًا من مظاهر الكلام. الأدق: مظهرًا من مظاهر رفض الكلام، لأن الضغوط لا تتيح له أن يتكلم بصورة طبيعية، وبما يمليه عليه ضميره. وكما يقول سارتر فإذا «تناولت هذا العالم، بما يحتوي عليه من مظالم، فليس ذلك لكي أتأمل هذه المظالم في برودة طبعٍ، بل لكي أراها حية بسخطي، أكشف عنها، أبعثها مظالم على طبيعتها، أي مساوئ يجب أن تُمحَى.»
وبالنسبة لأوضاع مجتمعاتنا العربية — التي لا تجاوز الديمقراطية فيها دائرة التمني! — فلعلِّي أزعم أني أتفهم قول تورجنيف: «يجب على الكاتب ألا يفقد شجاعته، وإنما عليه أن يمضي في بسالة إلى النهاية، فلنرفع رءوسنا إذن فوق الأمواج، حتى تجتذبنا الأعماق تمامًا.» بوسع الكاتب — كما يقول الفرنسي بريسباران — أن يصمت، «وما دام قد اختار أن يطلق رصاصاته، فإن عليه أن يتصرف كرجلٍ يصوِّب إلى الأهداف الحقيقية، ولا يفعل كطفلٍ يطلق رصاصاته عشوائيًّا، وهو مغمض العينين، لا ينشد سوى سماع صوت انطلاق الرصاصات.»
ليس المهم أن أردد الشعارات الباهرة عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها، المهم أن أومن بذلك، أن تتطابق تصرفاتي مع ما أومن به. الكتابة الحقيقية في عصرنا نوع من الشهادة، والكاتب الحقيقي يصرعه رصاصُ كلماته، وإن كنت أومن بأن المستقبل للإنسان.