دلالات الكتابة
«الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيرًا.»
أتفق مع تشيخوف في قوله «إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة.» أختلف — في المقابل — مع ألان روب جرييه في أن «الحدوتة لم يعد لها قيمة في رواية اليوم»، وألحُّ في رفض الرأي بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى. إن أهم المشكلات التي تعنى بها البنيوية — مع تحفظي المعلَن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعي أو النقدي — هي معنى النص، أو قدرته على الدلالة. المعنى، أو الدلالة، هي كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية التي ظهرت عن الحداثة. وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هي أن يعيد إلينا الوعي بالأشياء التي أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومي المعتاد (ت. جابر عصفور) فإن الحدوتة، الحكاية، الفكرة — المسميات كثيرة — تظل هي نواة العمل الروائي، بُعدًا رئيسًا لها. وإذا حاول المبدع أن يستغني عنها، فإنه يستغني عن عمود مهم في أساسات عمارته الروائية. أرفض قول فورد مادوكس بأنه «على الفنان أن يحتفظ برأسه، فلا يمنح تعاطفه لأحدٍ من البشر، ولا لقضية من القضايا، وإنما عليه أن يظل ملاحظًا بلا مشاعر فياضة ولا شفقة.» الفنان ينتهي — كما يقول مادوكس — إذا تحوَّل إلى داعية، وهو قول صحيح تمامًا؛ فللداعية وسيلته، ولعالِم الاجتماع وسيلته، وللفنان وسيلته كذلك، وهي — ببساطة — وسيلة الفن. وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضيًا يحكم على شخصيات عمله الإبداعي، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهدًا غير متحيز، فإني أجد انحياز الكاتب لقضية ما، لوجهة نظر معينة، لموقف أو مجموعة مواقف، مسألة مهمة ومطلوبة، ولعلِّي أتصورها — للفنان الحقيقي — بديهية. الفنان لا يجدف في الفراغ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر، رؤية معينة، أو ما يُسمَّى — بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة — «فلسفة حياة». ولعلِّي أذكِّرك بقول كازنتزاكس «إن الكتابة ربما كانت ممتعة في وقت التوازن واعتدال الأمزجة، أما الآن، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن في داخل الإنسان.»
•••
ثمة رأي أنه يجب أن تقدِّم القصة القصيرة فكرة في الدرجة الأولى، ثم وجهة نظر مخلصة في الطبيعة الإنسانية، ثم يأتي الأسلوب في النهاية. بل إن وت بيرنت، الذي يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوي شيئًا، يفضِّل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فني، على أن يكون لديه بناء فني دون مقولة. النص المغلق ودَّعناه في قصص أمين يوسف غراب، النهاية الباترة الحاسمة التي تحرص أن تهب المتلقي دلالة واحدة، وحيدة. والحق أنه لا يشغلني شخصيًّا إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا، لكنني أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعي. كلما تفوقت فنية العمل الإبداعي تعددت دلالاته، والعكس — بالطبع — صحيح. الاختلاف بين النص العلمي والنص الأدبي أن النص العلمي يعنى بتحقيق معنى محدد، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة. أما النص الأدبي فهو يرفض — في دلالته أو دلالاته — المعنى المحدد. إن قيمته — في تقديري — في تعدد معانيه، في تعدد دلالاته، وبتعبيرٍ آخر: في تعدد مستويات القراءة. ولعلِّي أضيف إن النص الإبداعي ليس نصًّا واحدًا، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات. لا أقصد التفكيكية، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد. إساءة القراءة كما يذهب التفكيك، معنى لا أفهمه، ولا يهمني، بل أعني القراءة الواعية الفاهمة التي تتعدد بها مستويات التلقي. ولعلَّ الاختلافات النقدية حول روايتي «الصهبة» ما يبين عن تعدد الدلالات. ثمة من اعتبرها تصويرًا للعلاقات الأسرية في تشابكاتها المحيرة، ومن وجد فيها تناولًا لضغوط الواقع الاقتصادي وتأثيراتها، وثمة من اعتبرها رواية واقعية، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم … واجتهادات أخرى كثيرة، تنتهي إلى دلالات عابرة تصل — في تبايُنها — إلى حد التضاد!
الرواية — في رأي روجر ب. هينكلي — يمكن أن تكون وسيلة إدراك معرفي بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية، تفوق في قدرتها على التأثير فينا ما يمكن أن نحصِّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان (قراءة الرواية). وأتذكر قول ميشيل بوتور: «أنا لا أكتب الروايات لأبيعها، بل لأحصل على وحدة في حياتي، إن الكتابة بالنسبة لي هي العمود الفقري.»
•••
تقول سيمون دي بوفوار: «إن الرواية الفلسفية إذا ما قُرئت بشرفٍ، وكُتِبت بشرفٍ، أتت بكشفٍ للوجود لا يمكن لأي نمط آخر في التعبير أن يكون معادلًا له. إنها وحدها التي تنجح في إحياء ذلك المصير الذي هو مصيرنا، والمدوَّن في الزمن والأبدية في آن واحد، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهري» … مع ذلك فإن الرواية التي أعنيها هي التي تعبِّر عن فلسفة الحياة، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقي. للمبدع وجهات نظر في الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن. وهو يضمن إبداعاته ذلك كله، أو جوانب منه. أرفض تحوُّل الروائي إلى مفكر جدلي، كما أرفض أن يتحوَّل المفكر الجدلي إلى روائي؛ ذلك نوع من الخلط يسيء إلى الفلسفة وإلى الرواية في آن. أعرف أن تولستوي يواجه اللوم — حتى الآن — للفقرات الفلسفية المقحَمة على رواياته. «إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكِّل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعًا، وتربطها كلها في وحدة عضوية متماسكة» (صبري حافظ: المجلة - مارس ١٩٦٤م)، على الرغم من — أو مع الإشارة إلى — تحفظ فورد مادوكس «أن تعقد الحياة المعاصرة، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلًا، ولكن من المستحيل أن نراها في صورتها الكلية.» ولعلِّي أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه «الفن ليس فيه شيء معروف قبلًا، فقبل العمل الأدبي لا يوجد شيء ما، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة. والزعم بأن الروائي لديه شيء يقوله، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله، زعم فاحش الخطأ، فإن هذه الكيفية، أو طريقة القول، هي — بالتحديد — التي تكوِّن مشروعه بوصفه كاتبًا» (ت. شكري عياد).
•••
الأدب هو الأسبق دائمًا في النظرة، في محاولة استشراف آفاق المستقبل، إنه يسبق في ذلك حتى العلم نفسه. وكما يقول كافكا: «فإن رسالة الكاتب هي أن يحوِّل كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية. أن يحوِّل ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق مع القانون العام؛ إن رسالة الكاتب نبوية.» كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوي هي الترديد المستمر للأفكار العامة، للنظرة الشاملة، لفلسفة الحياة، في مجموع تلك الأعمال. وكان ذلك هو الذي أعطى أعمال تولستوي — كما يقول أدينكوف — «تكاملًا وتماسكًا داخليًّا.» وعلى حد تعبير تولستوي، فإن الكاتب الذي لا يمتلك نظرة واضحة، محدَّدة وجديدة للعالم، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة، لن يستطيع تقديم عمل فني حقيقي. وإذا كان الموت هو المصير الإنساني، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت «بالعمل وحده سيبزغ الفجر، ولو في القبر .» وقد حاول كلٌّ من تولستوي وديستويفسكي أن يجيب عن السؤال: هل الحياة جديرة بأن تحيا؟ وكان تقديرهما أن الحياة التي نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى، أو أنها تنتهي بالعدم. ثمة ما ينبغي أن نتطلع إليه، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملًا من ظلمة المستقبل. وكان الإيمان بالعمل هو البُعد الأهم في الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف. كان الطب مهنة تشيخوف، وكان الأدب هوايته، لكنه أخلص في العناية بحديقته الصغيرة، كأنه يحترف الزراعة، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان في العالم فعل كل ما بوسعه في الرقعة التي تخصه، فسيكون العالم جميلًا. يقول: «إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار، والقراءة الدءوبة، والدراسة، والسيطرة على الإرادة، فكل ساعة من الحياة ثمينة.» ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا في قراءة تشيخوف، التقينا بشخصيات تقرر — في نهاية الأمر — أن تعمل بجدية، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التي ستقوم على الأرض بعد مائة عام، أو بعد مائتين، أو عن تلك الزوبعة التي سوف تجتاح كل شيء. ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية «الخال فانيا»: «كل ما في الإنسان يجب أن يكون جميلًا، وجهه، ملابسه، روحه، أفكاره، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره.» والقيمة الأهم في روايات الروسي إيفان جونتشاروف هي «الدعوة الموضوعية إلى العمل الذي تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى: التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنساني وروحي.» أما رؤية د. ﻫ. لورنس المتكاملة فتعني بعزلة الإنسان في العالم الحديث، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة، في مقابل تشويه الثورة الصناعية، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية في آن. والحرية هي النبع الذي تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية، وإبداعاته. إنها المحور في فلسفة حياته، حرية الفرد والجماعة والوطن. أما همنجواي فقد تمحورت رؤيته الحياتية في أن العالم قادر على تحطيم أي إنسان، لكن كثيرين يستعيدون قواهم، وينهضون. الحياة — في نظر شخصيات همنجواي — معركة خاسرة، لكن الهزيمة تصبح نصرًا إذا واجهها المرء بنفْسٍ شجاعة ومقاومة. أبطال همنجواي يدركون أن الموت هو الواقع الذي لا مفر منه، إنه اليقين الوحيد في حياة الإنسان. وبتعبيرٍ آخر، فإن الإنسان — في فلسفة همنجواي الحياتية — قد يتحطم، لكنه لا ينهزم. أبطال همنجواي يدركون أن الموت هو الواقع الذي لا مفر منه، إنه اليقين الوحيد في حياة الإنسان. ولعلَّ ممارسة الجنس في أتون المعارك الحربية، والتلذذ بمصارعة الثيران، وبالصيد … لعلَّ ذلك يمثِّل تحديًا — ولو عبثيًّا — لحتمية الموت. وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواي لم يكن لها الحق في الموت قبل أن يعانوا — لبعض الوقت — مرارة الانتصار. الإنسان — عند كامي — يكتشف عبثية الحياة، لا معقوليتها، وليس بوسعه إلا أن يتحدى كل شيء في هذا العالم. شجاعة الإنسان — في تقدير كامي — ليست في غياب اليأس، وإنما في القدرة على التحرك ضد اليأس، ضد عبثية الحياة. إن العادلين في مسرحية كامي يحملون رسالة تعطي لحياتهم معنى، فهم يحيون من أجل أدائها، ويجعلونها قضيتهم. وباختصارٍ، فإنه لكي يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقي على شعور العبث في داخله كي يستمد منه طاقة التحدي اللازمة للبقاء.
•••
إن ما يغيب عن إبداعاتنا هو الفلسفة المتكاملة، فلسفة الحياة التي تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات. فمعظم روائيينا يرون أن العمل الإبداعي يجب أن يقتصر على المتعة، على تحقيقها، واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته، ومشاعره. أذكر قول أستاذنا زكي نجيب محمود: «إن الكاتب في مصر، إنما يكتب في غير قضية أساسية تكون في حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى.» حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبُّلها. بعض الأصدقاء المبدعين يعتز بحيادية إبداعاته، وﻫﻮ قول ينطوي على قدرٍ من المبالغة، أو من النية الحسنة. المبدع — في تقديري — يجب أن يكون منحازًا لقيمة، أو لقضية، أو لقيم، أو لجماعة. هذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما في مجموع أعمال المبدع، وهو ما سمَّيته بفلسفة الحياة، تلك الفلسفة التي تطالعنا — بصورة مؤكدة — في أعمال نجيب محفوظ، بينما تغيب — أو تكاد — في أعمال غالبية مبدعينا.
يومًا، سألت يوسف السباعي عن فلسفته في أعماله، وتطرقتْ المناقشة إلى توفيق الحكيم، قلت: عبَّر الحكيم عن فلسفته نظريًّا في كتابه «التعادلية»، وعبَّر عنها تطبيقيًّا في الإبداعات التي أصدرها، ونحن نجد فارقًا كبيرًا بين النظرية والتطبيق عندما نفتقد التعادلية فيما قرأناه للحكيم. إنه يتحدث عن فلسفة أخرى يمكن تسميتها «الزمانية»، الزمن في حياة الإنسان المصري، وانعكاسه على قِيَمه ومعاملاته ونظرته إلى الأمور. قال السباعي في تحيُّر: الواقع أنني لم أفكر في الزمنية هذه في أعمال الحكيم، ولم أبحث عنها. ولعلِّي أستعيد قول أحمد بهاء الدين إننا إذا جمعنا أعمال الحكيم الفكرية والآراء التي عبَّر عنها، فسنجد أنه عبَّر عن كل رأي، ودعا إلى الشيء ونقيضه.
واللافت أن الزمن هو نبض العديد من الأعمال الإبداعية العالمية، مثل عوليس لجيمس جويس، والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، والجبل السحري لتوماس مان … إلخ. وبالطبع، فإن الفكرة الفلسفية تصبح — في اللحظة التي تدخل فيها إلى العمل الفني — خاضعة لقوانينه، وليس لقوانين العمل الفلسفي.
•••
لقد بدأت في المعايشة والملاحظة والاختزان من سن باكرة للغاية، ربما لأني كنت مهمومًا بكتابة القصة في تلك السن. لم أتعمد أي شيء، لكن ما أختزنه — دون تعمد — من قراءات، وتجارب لي، وتجارب للآخرين، ورؤى، وخبرات، وملاحظات، يظهر في لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة. ثمة مشكلة، أو مشكلات، تلحُّ على وجدان الكاتب، وتبيِّن عن ملامحها في مجموع أعماله، هذه المشكلة أو المشكلات، هي محصلة خبرات شخصية، وتعرُّف إلى خبرات الآخرين، وقراءات وتأملات يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية. وحتى الآن، فإني أستعير من توماس هاردي قوله، في إجابته عن السؤال، عن فلسفة الحياة في أعماله، بأنه ليس له فلسفة بعد، وإنما هي كومة مختلطة من الانطباعات، مثل انطباعات طفل حائر أمام عرض سحري. أنا أحاول أن أفيد من قراءاتي، وخبراتي، وخبرات الآخرين، صوغ وجهة نظر متكاملة. ولعلِّي أزعم أن عالمي الإبداعي يتألف من «تيمات» أساسية يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة. من يريد تناول أعمالي، أو حتى يكتفي بقراءتها، عليه أن يقرأ كل هذه الأعمال؛ مجموع ما كتبت. ثمة وجهات نظر، نظرة شمولية، إطار عام، أحاول أن أعبِّر — من خلاله — عن فلسفة حياة مكتملة، بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنيًّا، ربما أعدت تناول التيمة الواحدة في أكثر من عمل؛ لا يشغلني التكرار بقدر ما يشغلني التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية.
وطبيعي أن نظرة الكاتب إلى الهموم التي تشغله، موقفه الكامل منها، يصعب أن تعبِّر عنه قصة واحدة أو قصتان، لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان في مجموع أعماله، وفي كتاباته وحواراته التي تناقش تلك الأعمال. لذلك فإن الكثير من أعمالي تنويعٌ على لحن سبق لي عزفه في أعمال سابقة، وربما مهدت لعمل ما بعملين أو ثلاثة؛ أعتبرها إرهاصًا لذلك العمل، أو أنها استكمال له. إني أفضِّل أن أُقْرأ كعملٍ كلي، وليس كأعمال منفصلة. أن يقرأ الناقد مجموع أعمالي، ويتأمل دلالاتها المنفصلة، ودلالاتها الكلية، يحاول أن يتعرف فيها إلى فلسفة حياتي، إلى نظرتي الشاملة. للمبدع وجهات نظر في الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن، وهو يضمِّن إبداعاته ذلك كله، أو جوانب منه. وقد حاولت — في مجموع كتاباتي — أن أعبِّر عن القضايا الأساسية التي تلحُّ على ذهني، وأعتبرها قضية حياة. لست الكاتب البريطاني أنتوني باول الذي يؤكد أن هدفه من الكتابة، هو إعادة تشكيل العالَم، أو تحقيق النظام فيه، ولا أريد — مثل الألماني ستيفن هيرمان — أن أترك أثرًا، بل ولا أريد — بقصدٍ — تغيير العالَم اليومي للمتلقي، الذي هو واحد ممن تتجه إليهم إبداعاتي. ما أريده أن أتخطى حواجز المكان، بل وحواجز الزمان، فأتخذ من الإنسان موضوعًا، ومن العالم موضعًا، وأجعل وقتي هو العصر الآني. أتفهَّم قول أندريه موروا إنه ليس على الرواية أن تبرهن على شيء ما؛ فالعمل الفني ليس جدلًا، ولا برهانًا، وخصيصته — بالعكس — هي أن يبعث على الإقناع، بمجرد التأمل «إنه هناك، هذا كل شيء.»
إن تجربتي الإبداعية — على تعدد أبعادها وتنوُّعها — تحاول الخضوع لوجهة نظر شاملة، لفلسفة حياة تحاول التكامل، وإن استخدمت في كل عمل — الأدق: يستخدم كل عمل — ما يناسبه من تقنية. إن القارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع، في مجموع ما كتب.
ظني أن القضية الأساسية في خلفية كل القضايا هي الوجود الإنساني: الحياة، المصير، الموت، ما بعد الموت، وما قد يخلفه الإنسان من أثر في هذا العالم. ثمة الحب، والموت، والإحساس بالمطاردة، والوحدة، والحنين إلى الماضي، والعزلة عن الجماعة، وصِلة المثقف بالسلطة، والقهر في الداخل، والغزو من الخارج. لكن العنوان العريض الذي أتناول — من خلاله — تلك القضايا هو المقاومة، مقاومة كل مظاهر القهر والمطاردة والتسلط والعبث.
من المؤكد أني لا أميل، بل أرفض دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته، لكنني لا أنفي القيمة، لا أرفضها، أجد فيها بُعدًا مهمًّا في العمل الإبداعي، وإلا تحول إلى ثرثرة لا معنى لها، لا قيمة فيها ولها. ربما أكون محمَّلًا بفكرة، أو مقتنعًا بها، وربما حاولت أن أعبِّر عن ذلك في كتاباتي، لكني أفضِّل أن يتم على نحوٍ فني، فلا تقريرية، ولا جهارة، ولا مباشرة، وإنما حرصٌ مؤكد على فنية العمل الإبداعي من حيث هو كذلك.
•••
كانت «الأسوار» هي روايتي الأولى، كتبتها بعد إنهاء الأجزاء الثلاثة من كتابي «مصر في قصص كُتَّابها المعاصرين» (أفردت لذلك مقالة مستقلة)، ثم شغلتني «إمام آخر الزمان»، حاورت فيها أصدقاء، أذكر منهم سامي خشبة الذي سألني وهو يودعني في رحلة عمل إلى منطقة الخليج: لماذا تشغلك دائمًا فكرة المخلِّص؟
تقول أسطورة يونانية إن الآلهة تهجر المدن المهجورة، ويقول مالرو: «إننا نعلم أننا لم نختر أن نولد، وأننا لن نموت باختيارنا، وأننا لم نختر أبوينا، وأننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا ضد الزمان.» الموت هو الحقيقة التي تواجهنا، تصدمنا، منذ بواكير حياتنا. يموت الأب أو الأم، فنبدأ بالقول الكاذب: لقد سافر، ثم نُعلِم الابن السائل بالحقيقة — فيما بعد — فيبدأ في إلقاء الأسئلة: ما الموت؟ ما الآخرة؟ ما الجنة والنار؟ … إلخ. نحن نمضي في الطريق إلى الموت دون أن تكون لنا إرادة، إنه — كما يقول مالرو — يحيل الحياة إلى مصير؛ من الأصوب أن نواجه الموت باسم غاية نحيا من أجلها. يتساءل مالرو: ما قيمة حياة لا يقبل المرء أن يموت في سبيلها؟ إن الإنسان يقامر بحياته في سبيل ما يؤمن به من قِيَم، ويتحدى الموت بوصفه التأكيد النهائي لشخصيته الحقة. سيكون للبذل، للتضحية، معنًى لو أنه اكتفى بما قدمه دون أن ينتظر جزاءً إيجابيًّا، ولا يفاجأ بأن الجزاء سلبي. وقد فضَّل الحسين — كما تعلم — أن يستشهد، على أن يتنازل عن الفكرة التي يؤمن بها. المثقف الحقيقي مطالب — دومًا — بأن يغلِّب الموضوعي على الذاتي، إنه يرضى بالمنطق الذي ترفضه العلاقة بين حبيبين، فهو يحب من طرف واحد، لا ينتظر من المحبوب اعترافًا بالجميل ولا مساندة، وربما انتظر جزاءً سلبيًّا، إنه قد يموت وهو يهتف باسم من دفع حياته ثمنًا لخذلانه، لخذلان المثقف!
•••
القهر في الداخل …
أتذكر كلمات خوان جويتيسولو — بعد وفاة فرانكو — «لقد عشنا احتلالًا طويلَ الأمد وغير ملحوظ من الخارج، احتلالًا بلا خوذ ولا بنادق ودبابات، وليس احتلالًا للأراضي، بل احتلال للعقول.» الإنسان مطارد منذ الميلاد إلى الموت. إنه — كما يقول سارتر — مخلوق يطارده الزمن، لكن المطارَد في رواياتي ليس الزمن وحده، إنه قد يكون السلطة، أو قِيَم الجماعة، أو غيرها مما قد يضيع حياته في محاولة الفرار منه. قد يكون البطل مطارِدًا، وقد يكون — في الوقت نفسه — مطارَدًا، ذلك ما يسهل تبينه في شخصية منصور سطوحي في «الصهبة»، أو شخصية السلطان خليل بن الحاج أحمد في «قلعة الجبل»، أو أبي الطيب المتنبي في أوراقه، أو زهرة الصباح، أو رءوف العشري في «الخليج»، أو الحاكم بأمر الله في سيرته الروائية … إلخ.
وإذا كان المصريون القدماء يسمُّون الموت «النزول من البحر»، فإن محمد قاضي البهار نزل إلى البحر، ولم ينزل منه، فهو إذن قد نزل إلى الحياة. وبالإضافة إلى محاولة قاضي البهار الفرار من القهر، فإني أتصور حياته قد أظهرت الهوة التي تفصل بين عالم المثالية الذي كان يحيا فيه، والواقع القاسي الذي يريد أن يفرض عليه طقوسه وقوانينه وأحكامه، وهو واقع لا يستند إلى قيمٍ نبيلة، ويلجأ إلى الزيف والخداع ونكران الحقيقة.
والآن، فإن التيمة الأساسية التي تلحُّ في غالبية أعمالي، هي مواجهة الآخر، سواء بالمقاومة الجسدية، أو بتفعيل التحدي الحضاري.
إن الصراع العربي-الإسرائيلي ليس مجرد مواجهات سياسية وعسكرية، إنما هو صراع ذو أبعاد تاريخية وحضارية وثقافية. إنه تواصل واستمرارية حياة. وتناول الإبداع لجوانب من ذلك الصراع لا يعني السقوط في هوة المباشرة أو الجهارة، بل إن الأعمال الكبيرة هي التي تناولت قضايا كبيرة، المثل: «خريف البطريرك» لجارثيا ماركيث، و«الحرب والسلام» لتولستوي و«الطاعون» لكامي، و«الحرافيش» لمحفوظ، و«الحرام» لإدريس، و«سمرقند» لمعلوف، وغيرها. وبالنسبة للصراع العربي-الصهيوني — تحديدًا — فمن الصعب إغفال أعمال غسان كنفاني المهمة، مثل «رجال في الشمس»، و«عائد إلى حيفا»، و«ما تبقى لكم» وغيرها. ذوى إعجابي القديم بعبقرية زفايج، وروايات كافكا، واجتهادات فرويد، ونظرية أينشتاين، ولوحات شاجال، شحبت الملامح الجميلة في مرآة الصهيونية، فرض التوجس نفسه حتى فيما لم يعد يحتمل ذلك.
•••
ماذا يبقى من ذلك كله؟
بالطبع فإن المتلقي قد ينشد الدلالة في العمل الإبداعي، وقد يكتفي فحسب بمتعة التلقي، بمتعة القراءة أو السماع أو المشاهدة، لكن الكتابة بقصد التسلية — على حد تعبير جورج مور — سوف تنتهي بالفن إلى لا شيء.
أوافق على الرأي بأن الإنسان إذا تعلم أن ينظر إلى الفن على أنه شيء لا ينتمي إلى الجمال والحق، بل إلى الرأي وحده، فإنه — كما قيل — سيفقد بصيرته، ويصبح كما يريده رجال العصابات، «حيوانًا ينتمي إلى قطعان».
وإذا كان رامان سلدن يرى أن العمل الإبداعي الجيد هو الذي يخبرنا بالحقيقة عن الحياة الإنسانية، بالكيفية التي تكون عليها الأشياء، فإني أستعير قول بورخيس: «المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه الكاتب.»