كلام عن الحرية
لم تتعدد تفسيرات أحد المعاني، مثلما تعددت تفسيرات معنى الحرية. إنها — كما يقول التعبير الفلسفي — هي التي تجعل منا أشخاصًا، لأننا بالحرية نهَب أنفسنا الوجود، بعد أن كنا مجرد أشياء. وقد عرَّف ابن رشد الحرية بأنها لقاء بين ضرورتين، ضرورة إنسانية وضرورة طبيعية. ويقول جون ستيوارت مل: الحرية حق طبعي يملكه الإنسان بحكم الطبيعة، أما برياديف فيعرِّف الحرية بأنها القوة الداخلية المحرِّكة للروح، وهي السير غير العاقل للوجود والحياة والمصير. وفي تقدير هارولد لاسكي أن الحرية هي الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تقيِّد قدرة الإنسان على تحقيق سعادته. أما ديفيد هيوم فيعرِّف الحرية بأنها «القدرة على التصرف طبقًا لما تحدده الإرادة»، ولكامي مقولة أتذكرها: «إن الذي يغفر للإنسان كل شيء هو الحرية، الإنسان حرية قبل كل شيء.»
الاستبداد والديكتاتورية والطغيان مترادفات لنقيض الحرة، للاحرية. يقيني أن الحرية في حياة الإنسان لها نفس أهمية النوم والطعام والجنس وترددات الأنفاس. قيمة الحرية أنها ليست مطلقة، ليست مشكلة نظرية، قد تعنينا، وقد لا تعنينا، لكنها تتصل بوجودنا، وبحياتنا اليومية، إنها ذات صلة وثيقة بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة، ذات صلة بالوجود الإنساني في مجمله.
ولأن ما أكتبه هو شهادة مبدع مهموم سياسيًّا، وليس مقالًا فلسفيًّا يفترض فيه الإحاطة بالأبعاد المختلفة لكلمة «الحرية»، فإن كلماتي ستقتصر على الحرية السياسية، إنها سدى اهتماماتي الشخصية، والإبداعية في الوقت نفسه. لن أحدثك عن الجبر والاختيار والميتافيزيقا والضرورة والإمكان والمصادفة والقضاء والقدر والحتمية، ولا عن مشكلات الزمان، والصلة بين العقل والإرادة … إلخ. ذلك كله أجدر به مقال فلسفي، وليس شهادة مبدع يتحدث عن الحرية في إبداعه، وفضلًا عن أن الحرية تعني — كتعبير مجرد — مفهومًا سياسيًّا، فإن الحرية السياسية هي المعنى الذي تنطوي عليه كلمة «الحرية» في الأعمال التي سأعرض لها في هذه الكلمات.
•••
أوافق أستاذنا زكي نجيب محمود أن مشكلة الحرية السياسية هي على رأس مشكلاتنا المعاصرة، وقد نشأت أساسًا بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التي تباعد بين أنظمة الحكم في العصر الحديث (تجديد الفكر العربي، ص٧٦). وأذكر أن أكثر من سبعين مفكرًا عربيًّا شاركوا في مؤتمر لمناقشة أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، اختلف المشاركون — كعادة المثقفين العرب — في الكثير من قضايا المؤتمر، لكنهم أجمعوا على أن الحرية السياسية هي الهم العربي الأول، وأنها البداية الحقيقية لحل مشكلات المجتمع العربي.
الحرية السياسية — بالتعبير العلمي — هي «حق المواطنين في المساهمة في حكم الدولة، وكذلك حقهم في أن يكونوا حكامًا» … وهي حكم الشعب لنفسه بنفسه، هو الذي يختار الحاكم، فإن رضي عنه أبقى عليه، وإن سخط على تصرفاته عمل على إزالته، والأسلوب — في كل الأحوال — يعتمد الديمقراطية، فلا مواجهات حادة من أي نوع، لا تمرد ولا اعتقال ولا مصادرة، إنما الرأي الحر، رأي غالبية المواطنين، هو الذي يقرر ما ينبغي، وما لا ينبغي، قبوله، والاختيار — بالطبع — لا يقتصر على الحاكم، الرأس، وحده، لكنه يختار قيادات تنوب عنه في مجالات الحكم المختلفة، بدءًا بالتشريع وانتهاء بالإرادة. والواقع أن الحرية الفردية لا تنفصل عن الحرية السياسية، والعكس صحيح، وفقدان الحرية السياسية يتزامن — بالضرورة — مع ضياع الحقوق المدنية، والحريات الأساسية، للجماعات والأفراد، وضياع العدل الاجتماعي.
•••
من الناحية الشخصية كمبدعٍ، فإن حرصي على أن تكتب القصة نفسها، يجعل من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — وجود رقابة، أو مؤثر، على العمل من أي نوع. القلم يجري على الورق، نهاية لتلك الحركة ما بين الذهن والأصابع، لا تشغلني المحاذير ولا التوقعات ولا ردود الأفعال. وحين أنتهي من الكتابة، فإن عنايتي تتجه إلى حذف كل ما لا ضرورة فنية له، جملة أو كلمة أو حرف، وربما إضافة ما قد يبدو العمل ناقصًا بدونه. أيضًا، فإنه قد يبدو متناقضًا حرصي أن يكتب العمل الأدبي نفسه، مقابلًا للإيمان بأن مجموع أعمال الفنان يجب أن يشتمل على فلسفة حياة واضحة، ومتكاملة. لكن ذلك كذلك بالفعل، فأنا لا أتعمد الجهارة بوجهة النظر أو الموقف أو الرأي، إنما أترك للعفوية — في اللحظة التي تحددها — اختيار «الرف» الذي يحتاج إليه النص الأدبي.
والحق أني أحاول الإفادة من تلقائية الكتابة في التحرر من الرقيب الكامن داخلي، هو رقيب شكَّلته أعوام عملي في الصحافة، ورفض ما قد يغضب السلطة، أو علماء الدين، أو حتى القارئ العادي. إنه رقيب تسلل إلى داخلي من خلال عشرات القراءات والأحداث والخبرات الشخصية، أو التي تلقيتها عن آخرين. واكتسى الرقيب المستقر داخلي لحمًا وشحمًا، حين عملت — لسنوات — مشرفًا على تحرير جريدة «الوطن» العمانية، مجتمع له عاداته وتقاليده وأوضاعه البالغة الهشاشة، ثمة جاليات كثيرة، ومذاهب دينية تنتمي إلى الإسلام، لكنها تتباين في اجتهاداتها، وسلطة أبوية، أو قَبَليَّة، وظاهر متمدن، أو متقدم، يخفي واقعًا شديد السلفية، ومحظورات رقابية لا حصر لها، بحيث اقترحت — ذات يوم — أن تُقدَّم لي قائمة بالمسموح، فأعرف أن ما عداه من الممنوعات! استقر ذلك كله في داخلي، كأنه عين تبصر، وأذن تسمع، وأنف يتشمم. ومع أن كتاباتي اقتصرت على الموضوعات الأدبية، فإني عانيت — في عملي الصحفي اليومي — مشكلات كبيرة وصغيرة، تناولت بعضها في روايتي «الخليج»، لعل أخطرها عندما استبدلت الخمور بالتمور في تحقيق عن مصنع للتمور بمدينة نزوي العمانية. تهدد وزير الزراعة في منصبه بمئات الرسائل والبرقيات التي تلقَّاها السلطان، تحتج على إنشاء مصنع للخمور، فأصر أن يبلغ الشرطة، لم يرجع عن عزمه إلا بعد أن تأكد له عدم مسئوليتي، لأن الرقابة — أولًا — هي المسئولة عن السماح للجريدة بالتوزيع، ولأن الجريدة — ثانيًا — كانت تُطبَع في الكويت، فلا حيلة لي في مراجعتها. وكانت ألقاب الجلالة والسمو والسيادة والمعالي والسعادة تسبب لي ارتباكًا شديدًا، فلم أعتدها إلا بعد ممارسة طويلة.
الأهم من أن أكتب عن الحرية — في تقديري — هو أن أكتب في حرية، أن يغيب ذلك الرقيب الخارجي الذي يحذف ويصادر ويعتقل، إن لاحظ أن الكاتب قد شطَّ في رأيه، أو أعلن المعاداة، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلي الكامن في أعماقي، خلقه توالي التجارب والخبرات.
أزعم أني حاولت — ما وسعني — أن أتخلص من كل العوامل التي تحول دون أن أكتب في جريدة. كنت مضطرًّا — لظروف مادية بحتة — أن أقْبَل العمل الوظيفي، وإن اخترت العمل الأقرب إمكانية للتعبير عن الرأي في حرية، وهي الصحافة. أقسى الأمور على المبدع، حين يتصور السلطة وهي تقرأ وتحلل وتستنبط الدلالات، وتفرض سوء الظن. إنه يُسقِط العفوية، ويعاني صياغة كلماته، بحيث تؤدي المعنى الذي يريده هو، أو يريده العمل الفني، ولا تؤدي المعاني التي قد تتصورها السلطة. أومن جدًّا وجيدًا أنه لا فن حقيقيًّا بدون حرية حقيقية. يظل الفن في إطار التمني ما لم يرتكز إلى الحرية التي تحفز الفنان لأن يكتب عمله بعيدًا عن أية مؤثرات أو ضغوط، سواء كانت خارجية أم داخلية. حرية الفن هي التي تهَبه الفرصة لأن يكون فنًّا، إنه — بغير الحرية — قد يكون أي شيء، لكنه — بالتأكيد — لا يكون فنًّا. أعني بالفن الحر هنا، ذلك الفن الذي يقول الحقيقة، أو يحاول قول الحقيقة. قد يبدع الفنان عمله في زمن استبدادي، أو تسيطر عليه قوى شريرة، لكنه يتجاوز ذلك الزمن — وإن كتب عنه — إما باللجوء إلى الرمز، أو إلى أحداث التاريخ، بما يسهل تبين الواقع في ضوئها، أو بالكتابة السرية، أي تلك الكتابة التي تكتفي بالنُّسخ المحدودة، والتوزيع غير المعلن.
•••
كان أبي — في شبابه الباكر — عضوًا بالحزب الوطني القديم، ثم تحوَّل انتماؤه — في أحداث ثورة ١٩١٩م وما تلاها — إلى حزب الوفد، وكانت معظم ملاحظات أبي — في مناقشاته مع أصدقائه — تتناول غياب الديمقراطية في ممارسات حكومات الأقلية. وبالإضافة إلى قراءاتي في مكتبة أبي — وكانت عامرة بمئات الكتب — فإني أدين بفضلٍ كبيرٍ لتلك المناقشات، الهادئة أحيانًا، الصاخبة أحيانًا أخرى، في جلستهم شبه اليومية عقب صلاة العشاء، في حجرة القعاد المطلة على المينا الشرقية.
وحين أصدرت كتابي الأول، المطبوع — وكنت في حوالي الخامسة عشرة — صدَّرته بعبارة تقول: أشياء ثلاثة، كرست حياتي للدفاع عنها: الحق والخير والحرية. ورغم تقضي أعوام كثيرة على صدور ذلك الكتاب/الكتيب الأول، القديم، ومع يقيني — في الوقت نفسه — بأهمية أن يكون للأديب المبدع فلسفة حياة، أقول: رغم ذلك، ومعه، فإن القضايا التي تشتمل عليها أعمالي، تتوضح فيها ملامح ذلك الشعار — هل تصح التسمية؟! — بصورة واضحة.
الحرية عند كامي هي أن يقول الإنسان لا، وقد تعددت مستويات اﻟ «لا» في أعمالي، ما بين الكلمات الطيبة التي تُحدِث في النفوس تأثيرًا إيجابيًّا، ينتهي بطلب الحرية «الأسوار» والتخلي عن فكرة انتظار الإمام المخلِّص، أو الحاكم الذي ينشر العدل، وأن يصنع الشعب غده بنفسه «إمام آخر الزمان» والإعداد للثورة مقابلًا لتردي الحاكم في هوة الديكتاتورية التي صنعها له أعوانه «من أوراق أبي الطيب المتنبي» والفرار بالذات من قسوة القهر الذي تمتد تأثيراته إلى الآخرين «قاضي البهار ينزل البحر» والإيمان بأن الفعل الأخلاقي لا يكون كذلك، ما لم يصدر عن إرادة حرة «الصهبة» والحرص على القيم الجميلة، فلا يسطو عليها الحاكم «قلعة الجبل» واستغلال حرية القلة في تحقيق الثراء غير المشروع على حساب الجماعة «النظر إلى أسفل». ولعلِّي أصارحك بأن الشخصيات الأقرب إلى نفسي في أعمالي، الأقرب إلى وجداني وأفكاري ونظرتي إلى شمولية الحياة، هي عماد عبد الحميد في «النظر إلى أسفل»، وبكر رضوان في «الأسوار»، ورءوف العشري في «الخليج»، حُمِّلوا بآراء وأفكار من آراء الكاتب نفسه، لم يفرضها — فيما أتصور — وإنما جاءت في عفوية الكتابة، ووفق التزامي بأن يكتب العمل الأدبي نفسه. أبدأ في كتابته وليس في الذهن سوى أفكار غير محدَّدة، أو هلامية، ثم ما يلبث العمل أن يبين عن قسماته وملامحه، ليكتسب صورته الكلية في النهاية.
في قصتي «تلك اللحظة» تصادر حرية المرء بتهمة غير محددة، الموقف نفسه يواجهه الأستاذ في رواية «الأسوار»، وبطل قصة «التحقيق» (مجموعة «هل»)، ويضطر محمد يوسف المصري إلى الاعتراف تحت قسوة التعذيب، بأنه عضو في تنظيم يخطط لقلب نظام الحكم. ثم يعاني محمد قاضي البهار «قاضي البهار ينزل البحر» تأثيرات سلسلة متوالية من التقارير البوليسية، تصر أن تُديِنه بتُهَم محددة، رغم خلو حياته مما يُديِن، أو يبعث على الريبة، انصياعًا لتوجيهات الجهة الأعلى بأن محمد قاضي البهار يمارس نشاطًا مشبوهًا. ولا يجد قاضي البهار — فرارًا من الضغوط القاسية — إلا أن ينزل البحر! وتواجه الحرية، حرية المواطن والوطن، مأزقًا، عندما ينتشر الفساد والمحسوبية والرشوة وغيرها من القِيَم السلبية (أذكِّرك بروايتيَّ «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، و«النظر إلى أسفل») (ويصبح تغيير الأوضاع مسألة مهمة، مطلوبة، سواء بالاغتيال الفردي، كما في «النظر إلى أسفل»، أو بالثورة الشعبية كما في «من أوراق أبي الطيب المتنبي»).
البطل المطارَد — كما تكاد تجمع الكتابات النقدية — شخصية رئيسة في معظم أعمالي، سواء كانت قصصًا أم روايات، وهؤلاء الأبطال لم يرتكبوا جريمة من أي نوعٍ فيفرُّون منها. إنهم يفرُّون بحريتهم من مطاردة السلطة، من قهرها، حتى لو لم يمارسوا نشاطًا من أي نوع «قاضي البهار»، أو لضمان الاستكانة وعدم التفكير في الثورة «المتنبي»، أو لأن الحاكم يحرص على أن يصادر كل ما في حياة الناس، حتى القِيَم الجميلة «قلعة الجبل» أو لمحاولة الخروج من أسوار المعتقل إلى حياة أكثر رحابة وإنسانية «الأسوار». حتى مطاردة ناس «الصهبة» لمنصور سطوحي، لا تخلو — في ضوء الرغبة في الفرار من سطوة الأب وقيود المجتمع — من دلالات يصعب إهمالها «الصهبة» … إلخ.
•••
كانت الحرية — فيما أتصور — نبض روايتي الأولى «الأسوار»: صرخ نزلاء المعتقل في نفس واحد: الإفراج … الإفراج، وأجروا القرعة التي دفعوا بها أحدهم ليكون فدية عن الآخرين. القضية هي صلة المثقف بمجتمعه، التخلف الذي يرسف الناس في إساره، يحول بينها وبين التحرك الإيجابي، سعيًا للخلاص من واقعها. ويأتي دور المثقف مهمًّا، ومطلوبًا، لرفض الواقع، ومقاومته. ذلك هو الدور الذي تؤهله له ثقافته، بل إن ما حصل عليه من ثقافة — متميزًا بذلك عن غالبية مواطنيه — يدفعه لأداء دوره، ويفرضه عليه. لكن قضية الحرية هي الشريان الرئيس في جسد الرواية، فالمثقف يشغله غياب الديمقراطية في حياة الوطن البلاد، ثم يشغله غياب الحرية في حياة الوطن المعتقل. وكانت مشكلة بكر رضوان الأولى هي أن فقدان الحرية لم يكن يمثِّل شاغلًا لهؤلاء الذين بذل حريته دفاعًا عنهم، بدوا راضين بحياتهم، ولا يعنيهم التغيير. ويتساءل الأستاذ: أليس الأجدى أن نناقش مأساة موتنا البطيء داخل هذه الأسوار؟ وكلمة الإفراج التي لم تكن تجاوز جدران العنابر، في همسٍ مترددٍ، تكاد تكون سرًّا، يحرص الجميع عليه، أصبحت محور النقاش المستفيض «ويعتق أولئك الذين — خوفًا من الموت — كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية (عبرانيين ٢: ١٤)». وأفتى فقهاء ذلك العصر ببطلان الحبس (المقريزي). كانت الكلمة سلاح الأستاذ في حربه من أجل الحرية لنزلاء المعتقل «كنت أقول كلامًا أتصوره طيبًا.» لم يحمل سلاحًا، ولا دعا إلى التدمير، لكن كلماته الطيبة المؤثرة ذات الجدوى، هي التي دفعت نزلاء المعتقل إلى التحول فيما يشبه كائنًا واحدًا، يصرخ بآخر ما عنده: الإفراج … الإفراج! ولم يدرِ أحد كيف ولا أين بدأت الفوضى تكسر الطوق البشري فجأة، ليتوزع بلا رابط في الساحة الواسعة، اختلطت البنادق والشتائم والصراخ والكرابيج والسيور الجلدية ونفير البروجي وطلقات الرصاص. تحوَّل الوجود كله إلى معركة ضارية بين النزلاء والحراس، وامتد الزئير الوحشي إلى ما بعد الصحراء والأودية والجبال: الإفراج … الإفراج.
ولعل الأستاذ يذكِّرنا بالشاعر الروسي بوشكين الذي أيقظ بقيثارته — في نفوس الناس — مشاعر طيبة، ولأنه — على حد تعبيره — بارك الحرية في زمنٍ قاسٍ. أما على مستوى الهدف فإن الأستاذ هو كل المشاعل في تاريخ البشرية، بذلوا حياتهم — بإرادة واعية — فدية عن الآخرين، عن حرية الآخرين. إنه سقراط والمسيح وجان دارك وتشي جيفارا وسلفادور الليندي وإبراهيم ناصف الورداني وعبد الحميد عنايت وشفيق منصور، والقائمة طويلة، تبين — بمجرد القراءة المتصفحة — أننا قد نلقى جزاء سلبيًّا على أفعالنا التي استهدفت صالح الجماعة، لكن الجزاء الإيجابي، التقدير والإنصاف، لا بُدَّ أن يبين عن قسماته في أفق قادم، قريب أو بعيد.
•••
منذ زمان بعيد، ربما في أوائل الستينيات، كنت أناقش السياسي اليمني رشيد الحريري في بعض القضايا العربية، وتطرق النقاش إلى ظاهرة الانقلابات التي عاشها العالم العربي منذ انقلاب حسني الزعيم في سوريا، ثم تكشُّف ممارسات قادة كل انقلاب عن الحاجة إلى تغيير، وقال لي رشيد الحريري: أخشى لو أنه استمرت هذه الظاهرة، فسيرفض الناس البيان رقم واحد، حتى لو كان صاحبه معنيًّا بمشكلات الناس، وبالتغيير.
مرَّت الأعوام، ثم تذكرت — في توالي الأحداث على عالمنا العربي — مقولة السياسي اليمني. توالت القيادات، أو توالى الأئمة، انتظر الناس قدوم الإمام ليغير واقع الديكتاتورية الذي يرسفون في أغلاله، لكن الممارسات ما تلبث أن تبيِّن عن ملامح شوهاء يتمنى الناس زوالها، وربما عملوا على زوالها بالفعل. وكلمت صديقي سامي خشبة في الفكرة التي تشغلني، تناولت فكرة المخلِّص في «الأسوار»، وها أنت ذا تفكر في عمل آخر يتناول الفكرة نفسها؟! لم أجد ردًّا على ملاحظته إلا أن الفكرة تشغلني، وتلحُّ في أن أكتبها على أي نحوٍ، ثم سافرت إلى سلطنة عمان، وحرَّضني الجو الأسطوري الذي يشمل مظاهر الحياة في مسقط القديمة على البدء في كتابة «إمام آخر الزمان»، الإمام المهدي الذي ينتظر الناس قدومه، وتبين الممارسة عن نقيض ما كانوا ينشدونه، أعجب لقول أحد النقاد إن الرواية تعريب لرواية جارثيا ماركيث «خريف البطريرك»، فلم أكن قد تعرفت إلى أدب ماركيث، فترة انشغالي بإمام آخر الزمان منذ أواسط الستينيات إلى أواسط السبعينيات، حتى بدأت كتابة الرواية في فبراير ١٩٧٦م.
ولعلِّي أعترف أني أحاول — في كتاباتي بعامة — أن أهمل المحظورات، وأكتب في حرية، لكنني أتوقف طويلًا أمام المحظورات الدينية، أحرص فلا أحاول اجتيازها، مناقشة الدين من وجهة نظر غير مستنيرة، تنتهي — في الأغلب — بالتكفير، تكفير صاحب وجهة النظر المستنيرة، والخوض في بحر الدين ينتهي كذلك — في الأغلب — بغرق صاحبه. أذكِّرك بمعاناة أستاذنا نجيب محفوظ منذ نشر روايته الرائعة «أولاد حارتنا» في ١٩٥٩م، من هنا كانت تلك الكلمات التي قدَّمت بها «إمام آخر الزمان»: «هذه الرواية نسج خيال، وإذا كان إطارها يبدو دينيًّا، فإن مضمونها أبعد ما يكون عن تناول القضايا الدينية، إن الذي ينشد أمور دينه عليه أن يفتش عنها في كتب الدين، وما أكثرها، وإذا توالت الأسماء — خلال الأحداث — لأماكن وبشر، في هذا القطر العربي أو ذاك، فمردُّ ذلك إلى الواقع الفني، وليس إلى الواقع التاريخي، وأكرر: هذه الرواية نسج خيال.»
•••
إن هدف الثورة هو إقامة شرعية جديدة، تتواصل في ظل الاستقرار الذي يقرُّه الشعب، فإذا لم يكن ذلك كذلك فهو انقلاب، اغتصب السلطة، وحقق استمراره بالعنف والقهر، وليس بالشرعية، والشعب الذي يمارس ضده هذا الحكم سلطته، يعاني الغربة وعدم الانتماء، وانقطاع الصلة بينه وبين من فرضوا أنفسهم أوصياء عليه.
لقد رفع كل إمام شعارات زاهية براقة، تصوَّر الناس في تنفيذها — إن نُفِّذت — خلاصًا من كل المظالم التي عانوها في حكم الأئمة السابقين. لكن الممارسة — تطول أو تقصر — ما تلبث أن تكشف عن زيف الشعارات المعلَنة، وأنها لم تكن سوى واجهة تخفي وراءها عالمًا من الديكتاتورية السافرة. أملى كل إمام على الناس — بقوة السيف — أنه هو وحده الصواب، ومن عداه على خطأ، وبتعبيرٍ آخر، فقد كان يواجه شعبه ورأيه في رأسه، وسيفه في يده، فلا يملك الناس إلا الموافقة صاغرين! انغلقت السلطة على نفسها، تصور الإمام نفْسَه مرجعًا وحيدًا، يخطط للناس أمور حياتهم، يدفعهم إلى الالتزام بالسير في طريق محددة، فإذا حاول البعض أن يجاوز تلك الطريق، أو أفلح في ذلك بالفعل، واجه عقوبات قاسية، تبدأ بفقدان الحرية، وتنتهي بفقدان الحياة.
ثار الناس على الأئمة في تعدد ممارساتهم، أو تمنَّوا زوالهم في أقل تقدير، وبالذات في الآونة التي يكون فيها الحكم مسيطرًا ومباشرًا، لا يأذن بمعارضة أو تمرد، فضلًا عن إمكانية الثورة.
الغريب أن الكثير من هؤلاء الأئمة كانوا يدركون بشاعة حكمهم، فهم يلجئون إلى إصدار القوانين التي تلزمهم بالرضا عن الوضع القائم، أو يدفعون الرواة إلى المقاهي والساحات والأماكن العامة، يذيعون الحكايات المختلفة عن ميل الإمام إلى نشر العدل والمساواة والحرية، ويتهمون المعارضين بالمروق والفساد والإلحاد والإعداد لقلب نظام الحكم، بل إن بعض الأئمة استند إلى فكرة الحق الإلهي، الله هو مصدر السلطات وليس الشعب، وبالتالي فإن الأفراد لا حقوق لهم تجاه الحاكم، وليس لهم أن يطالبوه بحريات من أي نوع، سواء كانت فردية أم سياسية.
والحق أن مقتل حسن الحفناوي — آخر من قال الكلمات الجميلة — لم يكن تعبيرًا عن رفض الناس للثورة، لكنه كان تعبيرًا عن إصرار الناس — إزاء المعاناة التي واجهوها في توالي حكم الأئمة — على أن يتولوا قيادة أمورهم بأنفسهم، القائد يظهر من الشعب، لا يتحول المخلِّص إلى جودو الذي طال انتظاره في مسرحية بيكيت، ولا إلى المهدي الذي ينتظره الشيعة، ليزيل القهر عن أعناق الجماهير، ويملأ الأرض عدلًا ومساواة. أخذ النقاد على نهاية الرواية ما توضح فيها من جهارة.
أصارحك أني أزمعت أن أكتفي بمقتل حسن الحفناوي، ذلك الرجل الطيب الذي كان يقول كلامًا طيبًا في مقهى السيالة. تظل النهاية مفتوحة، وتطرح الأسئلة نفسها: هل كان الرجل إمامًا بالفعل؟ وهل يظهر أئمة جدد؟ وهل قرار الجماهير رفض البيان رقم واحد، وما يتلوه من عكس ما يعلنه، فلا حرية ولا ديمقراطية ولا عدالة، إنما هو تسيُّد لفردٍ، أو لطبقة، على الجماعة. وعلى الرغم من نصيحة صديقي الدكتور طاهر مكي: دَع نهاية الرواية كما هي، حتى لو اتَّسمت بالجهارة، فالجهارة مطلوبة! فإني أضفت فصلًا أخيرًا، كنت قد ضمنته مجموعتي «هل» يتحدث عن تطلُّع الناس إلى إمام حقيقي يقود الناس إلى الحرية والعدل.
•••
يقول لوناتشاركسكي: «إذا كانت الثورة تستطيع أن تعطي الفن روحًا، فإن الفن يستطيع أن يعطي الثورة لسانًا.»
وقد انشغل أبو الطيب المتنبي — بتطلعاته وطموحاته وذاتيته — عن هموم المصريين؛ عاش بينهم فترة طويلة من الزمن، فلما غادر مصر، وتبادل الرسائل مع عبد الرحمن السكندري، راجع موقفه، وأزمع أن يغادر مصر ليكون صوتًا لثورتها المرتقبة.
السلطة المطلقة طريق مؤكدة إلى الاستبداد. والثابت — تاريخيًّا — أن الحكام الذين مارسوا السلطة المطلقة، جاءت بعض قراراتهم وتصرفاتهم مشوبة بجنون العظمة حسب التعبير العلمي المعاصر، والمثل الأوضح في شخصيتي الإسكندر ونابليون بونابرت. والنظام السياسي الذي يكرِّس الديكتاتورية، يمتد خطره إلى كل من يتصور معاداتهم له، حتى لو لم يكونوا كذلك؛ فالحرية الشخصية لا تعنيه في قليل ولا كثير. كان كافور هو كل شيء في الدولة، هو الذي يفكر، وهو الذي يأخذ القرار، وهو الذي يعيِّن أشخاص المنفِّذين. أما النتائج، فإن الشعب — بالتأكيد — هو الذي يتأثر بها. كافور هو صاحب الحكم في الرواية، وهو صاحب الرأي، ورأيه هو الذي يُنفَّذ، مهما تعددت الآراء المخالِفة، واتسعت مساحتها، لا رادَّ لرأيه في مشكلات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وكل ما يتصل بأمور الدين والدنيا. من يفكر في التنبيه إلى الخطأ، أو يعترض، فإنه يعرض نفسه للمساءلة والتحقيق بما يفضي — في الأعم — إلى فقدان الحرية، وربما فقدان الحياة نفسها. حتى المتنبي — وهو شاعر، ومن أصحاب الرأي — وجد من يحذِّره من الجهارة، أو حتى التلميح، برأيه، فلا يواجه غضب الإخشيد.
ولأن الاستبداد السياسي لا بُدَّ أن يفرز — بحكم طبيعته — فئات صغيرة مستغلة، تعين المستبد، وتؤيده، وتزين له تصرفاته، فقد تخلَّقت مجموعات قليلة، تتمتع بالكثير من الامتيازات، وتستأثر بمزايا الاقتراب من الحاكم، وتفرض تسلُّطها على مجموع المواطنين. كانت الحرية تعني — في نظر أعوان كافور، وعلى حد تعبير الرئيس الأمريكي لنكولن — «حرية بعض الرجال أن يصنعوا ما يشاءون بالرجال الآخرين.» بدا المخالِفون لتصرفات الحاشية «من حشو الرعية، وسفلة العامة، ممن لا نظر لهم ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، أهل جهالة بالله، وعمًى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، لضعف آرائهم ونقص عقولهم» … إلخ (الطبري ٢ / ٦٣١). ولا يخلو من دلالة هذا الحوار بين المتنبي ومعاون المحتسب إبان اشتداد الضائقة الاقتصادية. قال أبو الطيب: الجوع في الشوارع، مع ذلك فإن الطعام يصل لي في موعده. قال الرجل وهو يطمئن إلى ترتيب الصناديق والأوعية: أنتم من أعوان أبي المسك، لا يجري عليكم ما يجري على العامة! أما الجماعات الوافدة، فقد كانت مشكلة أهل مصر الأولى في مواجهتهم هي «إحساسهم بالخضوع لهذه الجماعات التي أتت من مناطق بعيدة، تنشر الدمار والموت الأسود» (المتنبي ٤٤) فهو إحساس بفقدان الحرية.
والملاحَظ أنه حين قامت مظاهرات المصريين ضد الجوع ثاروا ضده، وأوشك كافور أن يتبنى حقيقة الدوافع التي خرجت بالمظاهرات، لكن ابن حنزابة صوَّر له الأمر على غير حقيقته: كل الأسباب واجهة زائفة لهدف خبيث، هو الخروج على حكم سيدي أبي المسك!
ومع أن ابن رشدين فسَّر ما جرى بأنه كان تعبيرًا عن غضبة الجياع على الظروف الصعبة، فإن الإخشيد ما لبث أن هزَّ رأسه في اقتناع لملاحظة ابن حنزابة: من يهاجمون أعوان الأستاذ اليوم، قد تسوِّل لهم نفوسهم بأن يهاجموا قصر الأستاذ في الأيام المقبلة. وأمر كافور بأن تثبت الأحكام التي صدرت على متزعمي المظاهرات. من هنا، جاءت ثورة الجماهير على الحاكم إفرازًا طبيعيًّا لإهمال حقوق الأفراد وحرياتهم، فليس ثمة إلا هو وأعوانه وحاشيته، ولم يعُد أمام الناس إلا الخروج عن طاعته، ومقاومته، ومقاومة السلام الزائف الذي وافق عليه في الوقت نفسه، وهذه الثورة المرتقبة تأكيد بأنه على الإنسان أن ينتزع حريته بيده، وبتعبير آخر، فإن الإنسان لا يكون حرًّا إلا إذا استحق — بالفعل — أن يكون حرًّا؛ الحرية عادة، الحرية اعتياد وممارسة وفعل. وكما يقول برناردشو فإن الطائر لا بُدَّ أن يطير مغادرًا إذا تركت القفص مفتوحًا. والحقيقة أن استمرار الحبس دون فعل مقاومة من أي نوع، يوطِّن النفس على أن تألف نقيض الحرية، تألف الخنوع والاستكانة، واعتبار ذلك قضاء وقدرًا.
•••
ثمة تعريف اشتقاقي للحرية بأنها «انعدام القسر الخارجي»، وكان القسر الخارجي — تحديدًا — هو ما واجهه محمد قاضي البهار. كانت التهمة التي طاردت جهات البحث محمد قاضي البهار من أجلها، أنه يمارس نشاطًا ضد الجماعة، ضد الحكومة ممثِّلة الجماعة. ومع أن محمد قاضي البهار لم يكن مهمومًا سياسيًّا، ولا هو صاحب رأي، فإنه وجد نفسه مدافعًا عن حريته في ألا يكون مهمومًا سياسيًّا، وألا يكون له رأي! وجد قاضي البهار نفسه معرضًا لفقد حريته الشخصية، وهي الحرية الأهم. وكما يقول برجسون فإن الإنسان لا يكون حرًّا إلا عندما تصدر أفعاله عن شخصيته كلها.
وفرارًا بحريته، نزل محمد قاضي البهار إلى البحر. توالت التقارير تؤكد خلو تصرفاته من كل ما يدعو إلى مصادرة حريته، إلى اعتقاله، لكن جهة الأمر أكدت النشاط المريب لقاضي البهار، وأن إدانته ثابتة، وإن احتاجت إلى الأدلة التي تدعمها. ومارس كتبة التقارير ضغوطًا على قاضي البهار بلغت حد الإيذاء البدني، لتحصل على الأدلة التي تثق فيها جهة الأمر؛ لفَّقت لقاضي البهار عدة تهم، من بينها أنه شارك في مناقشات قهوة البوري، وزملاء العمل، فعاب على النظام فساده وقسوته، وأنه كان يحمل متفجرات في حقيبته عندما زار ملهى «زهرة البنفسج». أما تردده على زاوية الأعرج لأداء صلاة العصر — قبل توجهه إلى قهوة البوري — فلتدبير اغتيال بعض القيادات السياسية، بعيدًا عن أعين الأمن. أذكِّرك بمسرحية «حالة حصار» لألبير كامي: «إن اقتناعنا هو أنكم مذنبون، ولن تجدوا أنكم مذنبون ما دمتم تشعرون بأنكم متعبون، إنهم يتعقبونكم، وعندما يرهقكم التعب، سيسير الباقي وحده.»
لم تثبُت التهم في مواجهة صمت الشهود، وإنكار رواد قهوة البوري مناقشات السياسة، وتأكيد بائع الصحف سيد النن أن ما رآه في طفولة قاضي البهار لم يعد يتكرر في شبابه، وأضاف أنه ربما اختلط عليه الأمر، فشهد بما لم يشهده، ونفى رواد القهوة أنهم يعرفون قاضي البهار أصلًا. وحين نزل محمد قاضي البهار مياه الأنفوشي، واختفى، فإنه ربما فعل ذلك فرارًا من القوى الضاغطة، لكنه مارس — بفعله في الوقت نفسه — حريته. وكما يقول سارتر، فإن حريتنا هي الشيء الوحيد الذي ليس لنا الحرية في أن نتخلى عنه.
الحرية — في أحد تعريفاتها — هي «اختيار الفعل عن روِيَّة، مع استطاعة عدم اختياره، واستطاعة اختيار ضده.» ولم يكن النزول إلى البحر هو اختيار محمد قاضي البهار الوحيد، بل إنه الحل الذي لم يطالبه به أحد، لكنه لجأ إلى ذلك الحل دفاعًا عن حريات الآخرين، فضلًا عن فراره هو نفسه بحريته، فلن تعاود الشرطة حملاتها ضد سكان بيت الموازيني، أو رواد قهوة البوري، ولن تلجأ إلى اختطاف أحد أقاربه، ولن تضرب أباه في شارع خلفي. وكما يقول باكونين «أنا لا أكون حرًّا بمعنى الكلمة، إلا إذا كانت كل الموجودات الإنسانية المحيطة بي — رجالًا ونساء — حرة هي الأخرى. أجل، فإنني لا أصبح حرًّا إلا بحرية الآخرين.»
ومع تأكيدي على أن تعدد مستويات الدلالة في العمل الفني هي اجتهاد الناقد، وربما المتلقي العادي، فلعلِّي أثق أن محمد قاضي البهار لم يمُت؛ لقد نزل البحر واختفى. ذلك ما رأته الأعين التي رافقت رحلته الأخيرة من البيت إلى داخل البحر، لا يلغي ما حدث إخفاق الشرطة في العثور على جثة قاضي البهار، أو ما يدل على غرقه، ولا تلك الابتسامة الغامضة التي واجه بها تحريات الشرطة في ظروف موته: أبواه والجيران وزملاء العمل ورواد القهوة. حتى أبناء الموازيني، الذين لم يكونوا على صداقة بقاضي البهار «إذا جاءت سيرته، وظروف اختفائه، تسلَّلت إلى شفاههم تلك الابتسامة الغريبة، المحيرة، كأنها العدوى.» هذه هي الكلمات التي انتهت بها رواية قاضي البهار، وهي — كما ترى — نهاية مفتوحة، ولعلَّها أقرب إلى نفي موت قاضي البهار، وإلا: ماذا تعني تلك الابتسامة الغريبة المحيرة؟!
•••
يقول ألدوس هكسلي: «من الأفضل أن نخطئ في الحرية، على أن نصيب في القيود.» وقد حاول منصور سطوحي أن يتحرر من السلطة التقليدية ممثَّلة في القائد التقليدي — الأب — الذي كان يصدر أوامره معتمدًا على مكانته، وهي أوامر اتسمت — في الأغلب — بالطابع التحكمي.
كان منصور يريد أداء الفرائض الدينية عن اقتناع، وليس لمجرد أن يتبع خطوات أبيه. كان يريد دخول الكلية التي يريدها، ويتطلع إلى أصدقاء يطمئن إلى صداقتهم، وإن رفضهم أبوه، وإلى تعامل مغاير لما كان يعامله به أبوه. بدت تصرفات منصور — عقب رحيل الأب — كأنها تعبير عن مقولة سارتر «إن حريتي هي الدعامة الوحيدة للقيم، فليس ثمة شيء يمكن أن يلزمني بأن أتخذ هذه القيمة أو تلك.» شكَّ منصور في حقيقة حريته، في حقيقة وجودها، بعد وفاة أبيه، وجد نفسه وحيدًا، بعيدًا عن سياج الأسرة والوالدين والعادات والتقاليد والمجتمعات. نفض عن نفسه ذلك كله، أو أنه وجد نفسه خارجه، واهتزت في داخله قِيَم كثيرة، وتبدَّلت نظرته إلى الكثير من الأمور، ولم يعد المستقبل بمثل الاستواء الذي كان قديمًا.
الحرية — في التعريف الفلسفي — «تجربة روحية، يحاول فيها الموجود الإنساني — الذي هو مزيج من دم ونور — أن يستخرج من حياته المادية نفسها وسائط نموه، ووسائل تحريره، وأسس سَوْرته الروحية» (مشكلة الحرية ٢٥٩). إرادة الإنسان تتجه — دائمًا — نحو الأفضل، أو ما يبدو لها أنه كذلك، وهي لحظة مسبوقة، أو متزامنة، مع تحقق الاختيار، ولو لم يكن الإنسان — في تلك اللحظة — سيد انتباهه، لما أحس بحريته بصورة حقيقية. وكانت الدوافع المحرِّكة لمنصور سطوحي بحثًا عن الحرية، تعبيرًا — في واقعها — عن الحرية. وإذا كان ماكس جاكوب قد وصف ميرسو بطل «الغريب» لكامي بأنه «إنسان فاقد الوعي بما حوله» فإن منصور سطوحي يكاد يعبِّر عن الحالة المناقضة، فهو مدرك تمامًا لما حوله، ويرفضه، ويحاول التغلب عليه.
جابرييل مارسيل يذهب إلى أن حرية الاختيار تتجلى في لحظات الإشراق، التي يتجلى فيها الوجود الإنساني بسرِّه وغموضه ونفحاته القدسية أمام الإنسان، فينقاد له إطلاقًا، ويفوض أمره إليه. فهل تكون النهاية التي اختارها منصور سطوحي هي مرفأ البحث عن الذات، وعن تواصله مع الآخرين، وعن الحرية الغائبة، والسعي نحو الأفضل. تذكِّرنا هذه النهاية، المرفأ، بقول جان جينيه «إن الوسيلة الوحيدة لتجنُّب هول الهول هي أن تلقي بنفسك فيه.»
•••
إن ديكتاتورية السلطان خليل بن الحاج أحمد هي المقابل لتطلُّع الناس إلى الحرية. كان القهر صورة حُكْمه، أحكم قبضته فلا يأذن حتى للهواء بأن يتخللها، أو ينفذ منها، له الكلمة النافذة، والرءوس — مهما استطالت — تخشع إلى حد الركوع، وربما السجود، في مجلسه. نشأ السلطان في كنف أب يبيع الرقيق، أهم ما يرويه معاصرو طفولته أنه كان يحبس مجموعة من القطط في قفص حديدي، ويعمل فيها سيخًا حديديًّا. ولما نقل الطواشي شعوان ما رآه إلى والد خليل، ظهر عليه ارتياح، وقال: لو أنه ضعيف القلب، فكيف يبيع الرقيق؟! ثم مارس هو نفسه تجارة الرقيق. لذلك فإن نظرته إلى حرية الإنسان — حتى هؤلاء الذين باعدت الظروف بينهم وبين العمل كرقيق — على أنها تخضع لإرادة الحاكم، هو الذي يهب ويمنع، أوامره قضاء، وعلى الجميع أن يخضعوا لها.
لقد تبدى اختيار عائشة في سؤال السلطان لعائشة: هل تريدين الإقامة معنا؟ وفي ردِّها عليه: لو أعطيتني الملك ما أخذته دون زوجي. حددت اختيارها، وهو أن تكون حرة مع زوجها، وأهل حدرة الحنة، رغم الظروف القاسية التي كانوا يحيونها، ولا تصعد إلى قلعة الجبل، فتتحول إلى سجينة في قصر السلطان.
كان اختيار خالد عمار هو اختيار زوجه عائشة، قال له مقدم الجند: هل تريد أن تعمل في خدمة مولانا السلطان؟
قال خالد: من الصعب أن أجيد مهنة غير التي تعلَّمتها (نسَّاخ).
قال المقدم: الجندية لمماليك السلطان وحدهم، وإن أمكنني الحصول على موافقة مولانا، نلحقك بزمرة المماليك السلطانية.
– أخشى أني لن أستطيع.
– للجندي المملوكي مرتبة جليلة، فكيف ترفضها؟
– أنا من عامة الناس، والعمل في خدمة مولانا السلطان مما لا أقوى عليه.
– الجندية تميزك عن موظفي دواوين السلطان.
– لا أتخيل نفسي في غير هذا المكان.
اختار خالد الحرية، مألوف أيامه بعيدًا عن الحياة التي لا صلة له بها في قلعة الجبل.
حتى عبد الرحمن القفاص — والد عائشة — حاول أن يعتذر عن الخدمة في قلعة الجبل. قال للسلطان خليل: أنا رجل سوقي، لا أعرف غير صنع الأقفاص! لكن السلطان — كي يستدرج الرجل إلى حتفه — أصر أن يعمل في القلعة، بدعوى أن أمره لا يرد!
ومع أن السلطان جعل من عائشة ضيفة على قلعة الجبل، تقيم في واحد من قصوره الثلاثة، لا تغادرها، بوسعها أن تخرج إلى القلعة، قصورها وأبراجها ودورها، كل من في القلعة يعلم بأمرها، وأنها ضيفة السلطان. وبرغم أن خصيًّا قادها إلى حجرة بها كنوز هائلة من المجوهرات والذهب والفضة، فإنها ظلَّت على حنينها إلى ناسها، وظلَّت حزينة، وقالت عن الكنوز التي عرضها عليها: الحق أنا لا أفهم منها أي شيء، ولا أعرف قيمتها!
وكانت الجريمة التي عوقِب بسببها والد عائشة وخالها وإمام مسجد شيخون وقاضي الشافعية والخليفة وزوج السلطان، أنهم تفهَّموا اختيار عائشة، وأنه لا شيء يعدل حياتها في حدرة الحنة.
أخيرًا، فإن الحرية هي اختيار عائشة، في مقابل عرض السلطان خليل بن الحاج أحمد عليها، وإصراره، أن تقيم في قلعة الجبل، طاردها وقتل كل من حولها حتى تغادر حدرة الحنة، واختار الناس أن يناصروا حرية عائشة في الاختيار، وهو اختيار أفضى — في النهاية — إلى زوال السلطان نفسه.
•••
إن عزلة الإنسان تنفي حريته، فالحرية مسئولية اجتماعية، وارتباط بالآخرين، ووعي متنامٍ بما يحيط به. لقد عاش سر شاكر المغربي في داخله. وكما يقول كودويل، فإن الرجل الوحيد في الصحراء ليس حرًّا؛ إن حي بن يقظان وروبنسون كروزو لم يشعرا بحريتهما الحقيقية، لم يصبحا أكثر حرية إلا بعد أن التقيا بسلامان وأبسال وجمعة وغيرهم، من نقلوا إليهما الشعور بالجمعية. وقد آثر شاكر المغربي أن يظل في جزيرته المنعزلة، حتى في حراكه الاجتماعي للصعود إلى الطبقة الأعلى، يخلو إلى أحلام عشقه المجنون، يتخيل ويتصور ويمارس العزلة الكاملة، فلا يبوح بسرِّه لأحد «الإحساس بمخالفة الآخرين يضعني في جزيرة منعزلة، أعاني الوحدة، والسر الذي يصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن أعلنه، لم تصرفني المعاملات المادية، أو الصفقات، عن الخلو إلى نفسي، ولو في حضور الآخرين، واحتضان حلمي الغالي، وبقيت على صلتي بالخيالات، لا أفارقها، وإن ظلَّ السر داخلي، أتحدث وأناقش وأسأل وأبيع وأشتري وأعقد الصفقات، فلا صلة بين عملي وذلك المارد الذي يعلو صراخه، فأضرب قبضتي — بلا مناسبة — في حافة المكتب. لم تكن تؤلمني أو تضايقني تصرفات الآخرين، مهما تمادت في الإيلام، إن أذنوا لي — ربما دون أن يدروا — باحتضان كنزي الجميل، نتمرغ في رمال الشاطئ، نسبح في بحار عميقة، غامضة، نعانق النجوم في سماوات لانهائية» … إلخ. وعندما أصبح سرُّه في وعي غيره — نادية حمدي — حاول أن يستردَّه، فأخفق، فلجأ إلى تصرف مجنون، وإن كان منطقيًّا، ليفقد حريته، وربما وجوده.
بالطبع، فإن «اعتراف المرء بذنوبه لا يكفي لتبرئة ساحته» … ذلك ما تبيَّنه كليماس بطل «السقطة» لكامي، وإن لم يتبيَّنه شاكر المغربي. تصور المغربي أن عليه أن يروي ما حدث دون أن يتدبَّر العواقب، وأن الحفاظ على حريتي مُرتهَن بالحفاظ على حرية الآخرين. المرء لا يكون حرًّا بالفعل في أفكاره وتصرفاته، إلا إذا كان على معرفة حقيقية بما ينتويه، وبالحرص المؤكد — في الوقت نفسه — على أن يعثر «على المفتاح الوحيد لكل حرية كائنة ما كانت»، والتعبير لجون ديوي.
ثمة مقولة ترى أنه «بدون الحرية لن يكون ثمة فارق بين الخير والشر، لأن الحرية هي التي تُدخِل القيمة في العالم، ومن ثَمَّ فهي لا بد أن تظل وراء القيمة نفسها» (مشكلة الحرية ص٢٦٣). فليس من شيء يعلو على الخير والشر معًا سوى الحرية، وأتذكر كذلك قول البولندي شاينا «إن ما سيبقى من فني، هو حريتي التي تحيا في الإنسان الآخر … المتلقي!»