المثقف والمجتمع والسلطة
«الذئب ما كان ذئبًا، لو لم تكن الخراف خرافًا.»
«إن الروايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون.»
نحن في عصر أصبح من واجب الأعمال الفنية فيه أن تطلِق الرصاص.
مشكلة بعض النقاد مع روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي» أنهم توقفوا أمام ما تصوروه انعكاسات أحداث قريبة، مثل فترة السادات وما صحبها من تطورات. والحق إني لم أكتب الرواية لمناسبة وقتها، لم أقصد أن أتناول قضية ذات أهمية بالغة، لكن الحل — على أي نحو — ماثل في مدى الأفق.
إذا كان المبدع يكتب من أجل عصره، من أجل الآنية، فإنه يكتب من أجل الإضافة والتطوير والتقدم. إنه لا يكتب للمجتمع الآني وحده، وإنما يكتب لكل الأزمنة، وللإنسان بعامة. الإبداع الحقيقي هو الذي يمتلك حيوية المواصلة والتأثير والحس الإنساني، حتى بعد انتهاء المناسبة التي كُتِبت فيها، أو — ربما — عبِّر عنها. يهمني أن تخترق شخصيات أعمالي زمانها، فلا تستقر في زمان محدد، وتتلاشى من ثَمَّ بتلاشيه. أرفض شخصية المناسبة، مثلما أرفض — في الشعر — قصيدة المناسبة. نحن نقرأ ديكنز، لا لأن أعماله تناولت إصلاح السجون، ونقرأ تورجنيف لا لأنه كتب عن قضايا التحرر في روسيا، وهوجو لا لأنه انتقد نابليون الثالث؛ تلك مهام المؤرخين أو المصلحين الاجتماعيين. إن هؤلاء الأدباء — وغيرهم — وظَّفوا تلك «التيمات» الاجتماعية أو السياسية — إن جاز التعبير — في أعمال إبداعية، بُعدها الإنساني يتيح لها الحياة بعيدًا عن الأحداث التي تناولتها، بعيدًا عن الآنية الطارئة التي يزول تأثيرها بزوال الحدث.
ثمة قضايا محدَّدة تشكِّل الرؤية الشاملة، فلسفة الحياة، لعالمي الإبداعي. ومن بين تلك القضايا: المطارَدة، الغزو من الخارج، القهر في الداخل، صلة المثقف بالسلطة، وبمجتمعه، وما يتصل بها من قضايا الحرية والعدل.
من «أوراق أبي الطيب المتنبي» — في تصور كاتبها — لا تناقش قضايا آنية، لكن القضية المحور هي علاقة المثقف بالسلطة من ناحية، وعلاقته بجماهير شعبه من ناحية ثانية، وهي قضية تلحُّ في الكثير من أعمالي الروائية والقصصية، مثل «الأسوار» و«من أوراق أبي الطيب المتنبي» و«النظر إلى أسفل» و«قاضي البهار ينزل البحر» و«زهرة الصباح» وغيرها.
العاشق الحق — في رأي أبي الطيب المتنبي — هو الذي لا يطمع، لا يريد مقابلًا من معشوقه، وإنما هو يضحي فحسب، ولا يتوقع المقابل.
•••
كان إلهامي (رواية البوسني رشاد قاضيتش «رحلة إلهامي إلى الموت») يعرف المصير الذي ستنتهي إليه رحلته. بعث الحاكم الجلالي في طلبه، ومن يطلبه الجلالي فهو لا بد أن يموت. وأهمل إلهامي — في طريقه إلى قصر الجلالي — كل النصائح التي دعته إلى الاختفاء بعيدًا عن أعين الجلالي «إذا كان كأس الموت ينتظرني، فأنا على استعداد.» ولم يكن إلهامي يُقبِل على الموت لذاته، لم يتقبل فكرة الموت باعتبارها انتحارًا، لكن كان لديه ما يقوله للجلالي قبل أن يأمر بإعدامه. كان يدرك فداحة الثمن الذي يجب أن يدفعه مقابلًا للفكرة التي يحملها، للكلمات التي يريد أن يوجهها إلى الحاكم. كان يستطيع الاعتذار عن كلماته — كما أسرف الجلالي في مطالبته بذلك — والعودة إلى مألوف حياته، لكنه رفض أن يعتذر عن القصيدة التي عرَّضته للموت. وزاد فنصح بما جعل من الحتم إعدامه. ويهمس إلهامي بينه وبين نفسه: يا رب! أنت أفضل من يعرف لماذا يستدعونني، وماذا ينتظرني هناك. إذا كان هذا بسبب ما قلته، فلا تجعل الخوف يهزُّني، فيدفعني إلى أن أنكر أو أندم على ما صنعته، ولا تسمح بأن يتسلل الخوف إلى عيني، وبأن يَنُمَّ الإحساس بالرجفة في صوتي. ساعدني على أن أظل صلبًا، ثابتًا، على طريق الحقيقة، وأن أغمض عيني وأنيمك في قلبي. ويحلم إلهامي بمن يسأله: من هم أولئك الأبرياء الذين قُتِلوا على طريق الحقيقة؟ يجيب: الشهداء.
– وأين مثواهم؟
– في الجنة!
ويقف إلهامي أمام الجلالي. يقول له: إن الإمبراطورية — العثمانية — مديدة شاسعة، بحيث لا يمكن رؤية نهايتها. والماء صافٍ في منبعه، ولكن إلى أن يصل إلى أولئك الذين ينتظرونه في عطش، فلا يمكن — في بعض الأحيان — غسل الأقدام فيه. ويتحدث إلهامي عن أولئك الذين يجب أن يكونوا في المقدمة، وأن يحددوا ماهية العدالة، ويوزعوها، بدءًا من رجال الإمبراطور والأعيان، وانتهاء بالعلماء. إنهم يتحدثون عن شيء، ويفعلون شيئًا آخر. إنهم يفكرون في أنفسهم فحسب. ويضيف إلهامي قوله: «يا باشا، إن الناس أهمُّ من السلطان، من الإمبراطورية. ولم ينبت شيء طيب من الدماء. إن الإنسان هو أكمل ما خلقه الله، وويل لمن يمتهنه!»
ويدفع إلهامي حياته ثمنًا لهذه الكلمات!
•••
«إنسان»، رواية للإيطالية أوريانا فالاتشي، صدرت بعد روايتي «الأسوار» بعدة سنوات. فقد صدرت الأسوار في ١٩٧٣م، بينما صدرت «إنسان» بالإيطالية — للمرة الأولى — في ١٩٨٣م (في الروايتين موقف واحد عن التمثال الذي ينطقه رجال السلطة. في «الأسوار» أنطقوا تماثيل أبو سمبل، وفي «إنسان» أنطقوا تمثالًا يونانيًّا قديمًا؛ توارد خواطر كما ترى). شدني في رواية فالاتشي أنها تعبِّر — من خلال تجربة حقيقية — عن الدور الذي أتصوره للمثقف/المناضل في مجتمعه. مثقف ليس — بالضرورة — في حجم الحسين وجيفارا والليندي وغيرهم، لكنه لا بد أن يكون مؤمنًا — بالضرورة — بأن التضحية هي ما يجب أن يبذله دون أن يتلقى مقابلًا من إعجاب، أو ثناء، أو حتى مساندة. بل إنه قد يلقى جزاءً سلبيًّا من هؤلاء الذين بذل عمره فدية عنهم! (زال تقديري للكاتبة بعد أن أعلنت مناصرتها للصهيونية، وأنكرت على الفلسطينيين حقهم في الحرية!) يقول باناجوليس للكاتبة: «الناس في الحقيقة هم القلائل الذين يكافحون ويأبون الخضوع. أما الآخرون فليسوا ناسًا؛ إنهم قطيع» (ت. محمود مسعود). يقول باناجوليس — مصدومًا — «ما الفائدة من المعاناة والكفاح، إذا كان الناس لا يفهمون، إذا كان الناس لا يهتمون؟ كل ما فعلته كان غلط في غلط.» وتقول أوريانا لحبيبها بعد أن تحيَّفه اليأس: «إذا قضيت نحبك، فإنهم — مواطنيه — سوف يجلونك، وربما يحاكونك، ولن تبقى وحدك بعد ذلك.»
لقد بذل باناجوليس حياته من أجل أن تسترد بلاده — اليونان — حريتها من الحكم الديكتاتوري، لكن الرصاصة التي أردته تأخرت طويلًا، بحيث أتاحت له الظروف أن يخطط، ويقاوم، ويُعتقَل، ويعاني التعذيب، ويدخل البرلمان ممثِّلًا للملايين من البسطاء، حياة خصبة، وعميقة، على الرغم من أنه اغتيل قبل أن يبلغ الأربعين.
ويدرك باناجوليس — قبل أن يلقى مصرعه على أيدي أعوان الديكتاتورية — إن «أغنية التحية للمقاتل الحقيقي هي حشرجة الموت التي يصدرها عندما تُطلَق النار من قِبَل فريق الإعدام في حكم الطغيان». وإنه يتوجه إلى عالم يلحق فيه بأبطال آخرين، بدونهم لا يكون للحياة معنى، ويثقون أن التوقف عن النضال هو الجنون بعينه، وأن البذرة التي غرسوها في الهباء سوف تذكو وتتشكل في أوانها المقسوم.
•••
يقول أرسطو: «كل من كان غير قادر على العيش في المجتمع، أو لا حاجة له بذلك لأنه مكتفٍ بنفسه، فإنه إما وحش أو إله.» وفي كليلة ودمنة: ثلاث مهلكات: القرب من السلطان، وإفشاء السر للنساء، وتذوق السم على سبيل التجربة. لذلك فإن المثقف يحرص — عادة — على أن يضع مسافة بينه وبين السلطة، ربما لكي يتاح له الرؤية جيدًا، ويتاح له التحليل والتقويم بالتالي. ولعلي أضيف أن البديهي قيام نفور — أو عداء — بين السلطة والمثقف. السلطة تعبِّر عن الفوق، أما المثقف فهو يعبِّر — أو هذا هو المفروض — عن التحت، عن القاعة الأوسع من المواطنين. أدين ذلك المثقف الذي وصفه باناجوليس بأنه ينحني أمام أية قوة، أية سلطة، أي عاتٍ مستبد. يحيا كل من يحكم بشرط ألا تقع متاعب، والديكتاتوريات تولَد منه، والأنظمة الشمولية يدعمها ويؤازرها.
وإذا كان جيتان بيكون قد عاب على أندريه مالرو أنه لم ينضم إلا إلى الثورات التي كانت على وشك النجاح، وأن مالرو لم يكن على استعداد لأن يظل مخلصًا لوضع سياسي تغيب عنه الفرصة الحقيقية، فإن الكاتب النيجيري كين سارو ويوا — في المقابل — حقق أرباحًا طائلة من مؤلفاته، شجعته على الهجرة إلى بريطانيا، وشراء بيت ريفي فاخر في إحدى المقاطعات هناك. لكنه عاد إلى وطنه ليقف إلى جانب مواطنيه من قبيلة «أوجوني» ذات الأقلية العددية، وأسهم سارو في تأسيس حركة «من أجل بقاء الشعب الأوجوني». وبصرف النظر عن صواب النزعة الانفصالية من عدمه في إنشاء تلك الحركة، فقد دفع سارو حياته — وكانت حياة مرفَّهة بكل المقاييس — مقابلًا لإيمانه بما يرى أنه حق لأبناء قبيلته.
•••
والحق أنه من الصعب تصنيف المثقفين باعتبارهم طبقة. إنهم نسيج متداخل في كل طبقات المجتمع. ثمة المثقف المبدع، والمثقف العامل، والمثقف الموظف، والمثقف العالم، والمثقف الفلاح … إلخ. المثقف مواطن يمتلك المعرفة والوعي، ويحاول من ثَمَّ أن يدافع — بمعرفته ووعيه — عن مجتمعه الذي قد يعاني الكثير من السلبيات، في مقدمتها — غالبًا — قهر السلطة!
وعادة، فإن البسطاء يتعاطفون مع آراء المثقفين التي يجدون فيها تعبيرًا عن واقعهم، ومناصرة لقضاياهم، وإن كان ذلك لا يحدث في كل الأحوال. يقول تشيكوف على لسان أحد أبطاله «إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والتعاطف من أي إنسان.» كم تأثرت، وقهرني الحزن، حين قرأت كلمات مصطفى كامل اليائسة التي كتبها إلى جولييت آدم عن «هذه الأمة التي بلاني الله بأن أكون واحدًا من أبنائها.» وفي المقابل، فقد وجدت ما يستحق التقدير في قول القاضي الهولندي فان بملن «يخطئ من يظن أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة ومصالح عائلاتهم، فإنهم — على العكس — يكرهون الحكم التركي والحكم الأوروبي على السواء، ويريدون حكومة وطنية بكل معنى الكلمة، وهم يحبون مصر الحديثة، ومصر التاريخية، ويهتمون بمصير الشعب، ويتألمون لمصائبه التي لا نهاية لها» (نقلًا عن الرافعي: عصر إسماعيل، ص١٢٣).
يقول الفنان في قصة محمود تيمور «السماء لا تغفل أبدًا»: نحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى، ولإسعاد البشرية، ولكن: هل تحس البشرية بعملنا، وما نلاقيه من صعاب؟ أبدًا! أبدًا! ويسأل الراوي في قصة رفعت السعيد «السكن في الأدوار العليا»: ماذا يجدي الأمر كله؟ الشعب نائم، بل هو صوت يتظاهر ضدنا، ضدنا نحن الذين نهب نسمات حياتنا من أجله. تبدو الأمور جميعًا بغير معنى. نحن نضحي من أجل من لا يريد. لو أن الناس تحس بعذاباتنا لهان الأمر، لهانت كل العذابات، لكن الناس بعيدون عنا، وكلماتنا؛ ماذا تجدي؟ هل تقنع أحدًا؟ (رفعت السعيد: السكن في الأدوار العليا). أما باناجوليس فإنه يعيد النظر إلى ما حوله: «في الخارج الحياة، والفضاء، والناس، والحب، والغد. ما أشق أن تكون بطلًا! ما أقسى هذا وأبعده عن الكينونة البشرية، وما أشد بلادته وأقل جدواه! هل يتهيأ لأحد قط أن يثني عليك لأنك برهنت على أنك بطل؟ هل يمكن أن يقيموا لك نُصْبًا، ويطلقوا اسمك على الشوارع والميادين؟ وإذا هم فعلوا ذلك، فما الذي يجدي عليك شبابك المضيَّع؟ وحياتك التي لم تعشها؟ كلا! كُفَّ عن هذا. إنه لكفران! فأنت لا تؤدي واجبك لمجرد أن يلقاك إنسان بالحمد والشكران، وإنما تؤديه بدافع العقيدة، لنفسك، ولكرامتك الذاتية! من يدري كم من الكائنات البشرية من الشرق والغرب في غياهب السجون، في المعتقلات الانفرادية، مدفونين أحياء بسبب كرامتهم الذاتية، ودون ارتقاب لأي شكر؟! منهم أناس لا تُعرَف حتى أسماؤهم، ولن تُعرَف أبدًا! أبطال مجهولون، لا يُشاد بهم، وهم أيضًا متعطشون للشمس والسماء والحب ورفقة الناس، مضطهدون كذلك، محرومون من الفضاء والضياء، معذَّبون أيضًا بزبانية من أمثال زاكاكيس، يعاقبونهم بتجريدهم من الأحذية والسجائر والكتب والصحف والأقلام والورق، ويصادرون قصائدهم الشعرية، ويلبسونهم قمصان المجانين: هو مجنون! هو مجنون!»
لكن المثقف هو الحقيقي هو الذي يعمل دون أن ينتظر المقابل. وعلى الرغم من الإحباط الذي تملَّك الراوي في رواية رفعت السعيد، فإن المثقف — المهموم بمشكلات الوطن — لا ينتظر المقابل لما يبذله، حتى لو كان تضحية جسدية.
•••
المثقف — في رأي سارتر — ليس مسئولًا عن نفسه فحسب، وإنما هو مسئول عن كل البشر. والإنسان الذي يدرك قيمة الاختيار، لا يستطيع إلا أن يختار الخير، والخير لا يكون كذلك إلا إذا كان للجميع. المثقف قائد للجماعة، والثوار بعض الجماعة التي يقودها بأفكاره. إنه يوجِّه، وينصح، ويحذِّر، وبقدر وعي مواطنيه تأتي استجاباتهم لأقواله. وهي استجابات تذكرنا بحديث الرسول ﷺ الذي يطلب من الناس أن يغيِّروا ما فسد، بدءًا بالسيف، وانتهاء بالقلب، وهو أضعف الإيمان.
ولعل أخطر ما يعانيه المثقف هو الانفصام بين الفكر والفعل، بين الرأي والمبادرة إلى نقيضه. الحكمة اليونانية تقول: «إذا أراد الله بقومٍ سوءًا، جعل عشقهم الأول للسلطة السياسية.» وهذا هو المرض الذي يعاني تأثيراته معظم مثقفي الوطن العربي؛ السلطة شاغلهم، وربما توسَّلوا إليها بمغازلتها، بمداهنة الحاكم وتملُّقه، ومعاونته — في أحيان كثيرة — على القيام بأدوار سلبية في حياة شعوبهم. وكما يقول بوردو فإن السلطة لا تحكم ولا تأمر إلا بمساعدة من تحكمهم.
إن المثقفين — في تقدير ميشيل فوكو — طرف من السلطة، مجرد كونهم عناصر وعي وخطاب يجعل منهم طرفًا في لعبة السلطة. دور المثقف الحقيقي — المطلوب — هو النضال ضد أشكال السلطة، لكن المثقفين — في أحيان كثيرة — يمثِّلون القوة الخفية، الحقيقية، في مواقع السلطة. تبدو السلطة لملك أو سلطان أو رئيس جمهورية، لكن السلطة الفعلية تظل في أيديهم، يمسكون بكل خيوط اللعبة، ويتحوَّل الحاكم إلى مجرد واجهة. يصِفهم عبد النبي المتبولي في «زهرة الصباح»: «لا أحد يعرف وظائفهم، ولعلَّهم بلا وظائف محددة، لكنهم أخطر من خاصة الملك.»
لقد أظهر عبد الرحمن الجبرتي حيرته، عندما قارن بين أي مملوك محسوب على الإسلام، يقطع رقاب إخوته في الدين، دون جريرة حقيقية، وبين قيادة الاحتلال الفرنسي التي حرصت على تقديم سليمان الحلبي إلى المحاكمة، بعد أن قتل كليبر، واعترف بما فعل، وانتُدِب له محامٍ، وأجريت المحاكمة في العلن، قبل أن يصدر الحكم بالإعدام.
فأي فارق؟!
•••
الصفوة هي التي تمسك في يدها بمقاليد الأمور في المجتمع من خلال إمساكها بمقاليد الأمور في مراكز البحث العلمي والجامعات ووسائل الإعلام ودور النشر واستديوهات السينما والمسارح. الصفوة هي القيادة الحقيقية للرأي العام، هي التي تشير وتوجِّه وتؤثِّر وتحرك. أذكر قول توفيق الحكيم: «إن انقراض طائفة الخاصة التي تفكر بعقلها الممتاز، وتقود الشعب، وتبصِّره وتنهضه وتهديه، معناه زوال الرأس من جسم الأمة؛ هل رأيت جسمًا يسير بلا رأس؟!»
يطالب صلاح الدين حافظ «الصفوة» المثقفة، أو «النخبة» بأن تجيب عن السؤال: أي مصر تريد، وأية صورة تتخيل وتعمل من أجلها، الآن، وفي المستقبل؟
هذا هو — في تقدير صلاح الدين حافظ — دور النخبة المثقفة، بدلًا من الدور الذي تتزاحم عليه الآن بتهالكٍ شديدٍ ونفاقٍ قبيحٍ، طلبًا لمنصب زائل، أو طمعًا في مال سائب، فهي «تعزف لحن الانهيار، وترقص على أنغام الفرقة، وتبيع المحرمات الوطنية والقومية في سوق النخاسة بأبخس الأسعار.»
أخطر الأمور حين تصبح الأحزاب والمؤسسات الدستورية مجرد واجهة، كومبارس، لحاكمٍ فرد، ديكتاتور، يملي إرادته فلا رادَّ لها، ولا معقب على ما يصدر عنها من قرارات. وحسب التعبير الشائع، فإن الطاعة تؤمِّن النظام، أما المقاومة فهي تؤمِّن الحرية.
لقد ورثت أيام الاحتلال قوى «وطنية» ركبت الموجة، أو أفادت من تاريخها النضالي في الحصول على مكاسب طارئة ودائمة، بصرف النظر عن عدم مشروعية الوسائل. خرج الوطن من سلطة الاحتلال الأجنبي، ليقع في قبضة سلطة أخرى، تنتمي إلى الوطن نفسه، باعتبار أن قادتها هم من أبناء الوطن، لكن ممارسات هذه السلطة — في الحقيقة — أشد قسوة من سلطة الاحتلال. وإذا كان عسف سلطة الاحتلال يسهم في تجميع كل القوى سعيًا لاستقلال الوطن، فإن تفتُّت القوى الوطنية ما بين معارض لسلطة الحاكمين من أبناء الوطن، ومؤيد لهذه السلطة، يعني — ببساطة — تفتُّت الوطن جميعًا، غياب الوحدة التي يفرضها وجود محتل أجنبي.
•••
الحكمة العربية تقول: «خير الأمراء الذين يأتون العلماء، وشر العلماء الذين يأتون الأمراء.»
والحق أنه من الظلم للمثقف إهمال محاولات السلطة لاحتوائه، إدماجه داخل جهازها الحكمي، يتحول إلى مجرد حاشية، بطانة، بوق دعاية أو أداة تسلُّط، يتحول — باختصار — إلى خَصم مناوئ للجماعة، وليس جزءًا منها، ومتفاعلًا معها. دوره — ببساطة — يقتصر على تجميل الأحداث، وليس المشاركة في صنعها، تبرير الشرعية، وليس الحكم عليها. أذكِّرك بدور بعض المثقفين في «من أوراق أبي الطيب المتنبي» و«النظر إلى أسفل» و«زهرة الصباح» و«قلعة الجبل» وغيرها، كان دورهم أشبه بدور المحلل، والمعنى الذي أقصده، دور المثقف في وصل ما ينقطع بين السلطة والمواطنين.
من الصعب — على سبيل المثال — إغفال الدور السلبي الذي قامت به الصفوة العربية في إسقاط تجربة دولة الوحدة؛ تغاضى مثقفو مصر وسوريا عن سلبيات القيادة في الممارسة. لم يرتفع الصوت الشجاع بالنقد، أو حتى بالملاحظة، فبدأت عناكب التآمر — وهي محسوبة للأسف على الصفوة — في نسج خيوطها، حتى فاجأت القيادة والعالم العربي بتقويض التجربة. والطريف — والمؤسف — أنها احتفظت بعَلَم الوحدة، وذرفت الدمع — فيما بعد — على ما واجهته التجربة الوحدية، بل إن الوقفات تتجدد كل عام في مناسبة إعلان قيام دولة الوحدة!
•••
لقد اكتسبت قصة الجواتيمالي أوجستو مونتوسو «الديناصور» شهرتها كواحدة من أهم القصص القصيرة في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين، ليس لمجرد أنها أقصر قصة قصيرة في العالم، فهي لا تزيد عن جملة واحدة، وإنما لأن الديناصور الذي استيقظ بطل القصة، فوجده ممددًا إلى جانبه، هو السلطة التي تحرص أن تظل في موضعها.
وقد أعلن أحمد بهاء الدين — يومًا بصراحته الذكية — أنه كان أقل الصحفيين نفاقًا للسلطة الحاكمة، فهو يدرك جيدًا أن السلطة لن تظل صامتة، مقابلًا للإصرار على مناقشة تصرفاتها، فضلًا عن رفض تلك التصرفات. إنه قد يلجأ إلى وضع «السم في العسل»، يغلف الدواء بالقليل من السكر، حتى يسهل على السلطة ابتلاع النصيحة! لكن أحمد بهاء الدين لم يكن يشغل — مع من يماثلونه في الفهم — إلا حيِّزًا محدَّدًا ومحدودًا. فثمة من رفضوا حتى إعلان رأس السلطة أنه يرفض النفاق وأغنيات الإشادة به، اعتبروا رفض رأس السلطة نفاقًا للجماهير، وزادوا من إيقاع النفاق بما تعجز الكلمات عن وصفه!
•••
إن الإبداع — بطبيعته — انحياز؛ فهو ينحاز إلى مبدأ، أو إلى فكرة أو قضية، والمبدع لا بد أن ينحاز إلى مواطنيه، وإلى الإنسان بعامة، في تعامله مع القيادات التي تحكمه. هذه بديهية لا تقتصر على شعبنا العربي وحده، وإنما تشمل كل شعوب الدنيا في علاقاتها بأنظمتها.
من هنا، فإن تصور استمرارية الوفاق بين المبدع العربي، والمثقف العربي عمومًا، وبين السلطة، هو ضرب من التمني المستحيل، لأن المثقف يطلب المطلَق في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والرفاهية لكل المواطنين. أما السلطة، فإنها تضع القوانين والقواعد التي ترى أنها لازمة للحفاظ على كيان المجتمع. وتصوُّر العلاقة المُثلى بين المثقف العربي والسلطة في المستقبل، يجب أن يستند إلى الموضوعية ما أمكن، بحيث يدرك كل طرف طبيعة هذه العلاقة منذ تشكَّلت بين حاكم ومحكوم، وبحيث ينشأ الفهم والتفهم، ومحاولة الاقتراب، والسعي إلى الغاية المشتركة، وهي صالح الوطن والمواطن.
إن علاقة المثقف والسلطة يحكمها — في الأغلب — الشك والتوجس وعدم الثقة، وهي نظرة متبادلة بالطبع. فإذا أسرفت العلاقة في اتجاهها السلبي، ربما خضعت للعداء والعنف من كلا الطرفين كذلك!
ومن المؤكد أن الثمن لا يدفعه الحاكم وحده، ولا المثقف فحسب، وإنما يدفعه المواطن العادي في كل الأحوال، بل إن الثمن الذي يدفعه المواطن العادي يكون — بالضرورة — أكثر فداحة على المستوى الاقتصادي في أقل تقدير.
المصيبة أن المثقف يتحول بصورة مأساوية إذا التحم بالسلطة، إذا أصبح قياديًّا في السلطة، رئيسًا أو وزيرًا، أو مسئولًا على أي مستوى. وكما تقول إيزابيل الليندي، «فإن المشكلة في الثوريين هي أنهم — بعد نجاحهم — يصبحون متصلِّبين، ومن ثَمَّ يصبحون هم السلطة؛ وعند ذلك نواجه المشكلة نفسها مع السلطة.»
ولعلَّه يجدر بنا أن نشير إلى أن المثقفين الذين اقتربوا من السلطة — على نحو أو آخر — في امتداد تاريخنا العربي، قد واجهوا محنًا كانوا في غِنى عنها لو أنهم أدركوا التباس العلاقة بين السلطة وبينهم، وأن الإطار الذي ينبغي أن تصدر — من خلاله — آراؤهم، هو الإعجاب بقرارات صدرت فلا شأن له بها، وتبريرها، وليس إبداء الملاحظات مهما تسربلت بالرقة. ونتذكر المئات، بداية من ابن خلدون وانتهاء بمحمد مزالي (الظاهرة عربية، والجنسية التونسية مجرد مصادفة!)
إن حق المثقف، وواجبه — ومسئوليته في كل الأحيان — أن يرفض ما يراه خطأ، ويقاومه، فلا يلجأ إلى إيثار السلامة، حتى لو أخذ صورة تصفية الذات. وهو ما فعله سقراط، وأدانه عليه نيتشة عندما خضع لقهر الدولة، فتجرع كأس السم، وأنهى حياته ليظل — بعد موته — مواطنًا صالحًا.
•••
تبقى حقيقة يجدر بي تأكيدها: ثمة فارق بين السلطة والتسلُّط. وممارسات الحكام العرب في أمور بلادهم هي مجرد تسلط، من مظاهره القهر والسعي إلى المصالح الفردية والمحسوبية. الصوت الوحيد الذي يستطيع أن يسمعه الخطاب السلطوي/التسلطي هو صوت القوة، وعندما يُسمَع هذا الصوت في النهاية، فإن صوت السلطة يلوذ بالصمت. قد تفلح السلطة في السيطرة على المثقف، بالترغيب الذي يتطلع إلى المظهرية، ووجاهة الادعاء بأنه ينتمي إلى قبيلة المثقفين بكل ما لديها من تأثير على المواطن العادي. وقد تفلح السلطة في السيطرة على المثقف بالترهيب الذي يصل إلى حد التصفية الجسدية.
ولأن السلطة حين تصاب بالرعب فإنها تتبنى الرعب، فإن على المثقف أن يصمد، وأن يناضل. أذكِّرك بمقولة غاندي «أفضل للإنسان أن يناضل بدلًا من أن يخاف.»