الفن إضمار … ولكن …
«إذا كان المعنى شريفًا، واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا عن الاستكراه، ومنزَّهًا عن الاختلال، مصونًا عن التكلُّف، صَنَعَ في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة.»
«الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة.»
«كلما كان الإنسان أقل ثقافة … كانت كتابته أكثر غموضًا.»
«فليكن الروائيون صادقين مع ضمائرهم الفنية، وسيتبعهم الذوق الجماهيري فيما بعد.»
أوافق ألان روب جرييه في أن «الحديث عن مضمون القصة وكأنه شيء مستقل عنها، يعني محو هذا اللون الأدبي كله من عالم الفن.» وأثق أيضًا أن مضمون العمل الإبداعي هو الذي يفرض صورته الفنية. وكما يقول كيتور فإن «الصلة بين الشكل والمضمون في أي عمل فني عظيم — سواء أكان مسرحية أو لوحة تصوير أو قطعة موسيقية — صلة حيوية جدًّا، حتى ليمكن القول بأنهما متوحدان توحدًا كليًّا.»
وفي المقابل، فإني أخالف الرأي بأن تعقيد التقنية هو العامل الكبير في كتابة القصة القصيرة. يخطئ البعض حين يتصور أن وظيفة التقنية جمالية أو زخرفية، وأنها تدليل على موهبة الفنان، وإجادته ترتيب الأحداث، بما يُحدِث في نفسية المتلقي أكبر قدر من الانبهار أو الدهشة أو التوتر. التقنية تختلف عن ذلك تمامًا، بل إنها في النقيض من ذلك تمامًا. العمل الإبداعي يفرض تقنيته، يحددها. التقنية تتخلَّق في داخل العمل لحظة بدء، وأثناء الكتابة، بحيث يمكن القول إن التقنية تكمل المادة، مثلما إن المادة تكمل التقنية. وبمعنى آخر، فإن المضمون والشكل وجها عملة واحدة.
لقد واجه ت. إس. إليوت اتهام النقاد له بالغموض بأنه ليس عليه أن يكون واضحًا، وأن عليه أن يقدم أفكاره ومشاعره وتخيلاته، وعلى المتلقي أن يبذل جهده، ويُتعِب ذهنه، في فهم المادة الإبداعية. ومع ذلك فإن إليوت قد حذر من «ذلك الغموض الذي لا يعدو نوعًا من الادعاء، فالكاتب يحاول أن يخدع نفسه، ويحاول أن يقنعها بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما قاله بالفعل.»
المشكلة التي يعانيها بعض «المؤلفين» — في تقدير إليوت — هي أن يحاول إقناع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما كتبه. وربما جاء الغموض تعبيرًا عن صعوبة الكتابة، أي إن الأفكار أكبر من القدرة على صياغتها، وقد يأتي الغموض من طبيعة الموضوع فيسيطر على ما كتبه المؤلف!
أتفهَّم السؤال الذي طرحه سارتر: هل تعتقد أن قارئًا من بلد فقير يستطيع أن يقرأ ألان روب جرييه؟
نحن نعجب بكافكا وجويس وساروت وجرييه، لكننا — في الوقت نفسه — قرأنا — وسنظل نقرأ — لتشيكوف وإدريس وتولستوي ومحفوظ وديستويفسكي وبلزاك وزولا … هؤلاء العظماء أصحاب الإبداعات الكلاسيكية! بل إن كارل راداك ينصح من يكتب روايات، أن يتعلَّم كتابتها من تولستوي وبلزاك وليس من جيمس جويس.
إن طلبك من الشاعر — والقول لهنري ميلر — أن يتحدث بلغة رجل الشارع، يماثل انتظارك من النبي أن يوضح نبوءاته. إن ما يبلغنا من ممالك سابقة، بعيدة، يأتي مسربلًا بالسر والغموض. وفي المقابل — والقول لميلر أيضًا — فإن «عبادة الشِّعر تبلغ نهايتها حين لا توجد إلا لحفنة ثمينة من الرجال والنساء، فلن يعود الشعر فنًّا، وإنما لغة شفرة لجمعية سرية مهمتها الدعوة إلى الفردية الفارغة» (ت. سعدي يوسف).
وعلى الرغم من أن طبيعة الشعر تجعله أميل إلى الغموض، بل إن القصيدة الجديدة هي غامضة من حيث شاعريتها، وطبيعة لغتها التي تختلف بالضرورة عن لغة حياتنا اليومية، فإن رأي الصديق الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي — وهو شاعر متفوق — أن «القصيدة التي يعجز القارئ المثقف عن أن يجد دلالاتها أو معناها هي قصيدة رديئة.»
وبالطبع، فإن الوضوح يختلف عن السطحية تمامًا.
أما إحالة الغموض إلى الرمز، فإن كل فن حقيقي هو — في الدرجة الأولى — فن رمزي. وإن كان العمل الإبداعي — كما يقول جارودي — لا يتخذ شكل الرمز إلا لأن الكاتب لا يستطيع أن يعبِّر بطريقة أخرى عما يريد أن يقول. إن مضمون الرمز هو الواقع نفسه، ذلك لأن الرمز تشغله مناوأة السلطة. قد تكون سلطة قَبَلية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية … إلخ. وهو لا يتجه إليها بالخطاب المباشر، وإنما يجعل الخطاب على لسان الطير أو الحيوان، أو حتى النبات. ويستعمل الصور البلاغية والمجازية. وإذا كانت الرواية الرمزية قد برزت — كما يقول روجر ب. هينكلي — نتيجة لارتقاء التفكير الأدبي في الشكل الروائي، فإن العمل الإبداعي يفقد الكثير من مقوماته إن تحول إلى معادلة رياضية.
إذا كان الكاتب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي قد بدأ ريادته في القصة والرواية بأعمال تستهدف وجدان القارئ بما تتضمنه من عبارات رومانسية، وتناوُل لأحوال المحبين، ومواقف تبرز التناقض في الأوضاع الطبقية داخل المجتمع … فإن جيل طه حسين والحكيم والمازني وغيرهم لم يلجئوا إلى التعريب مثلما فعل المنفلوطي، وإنما حاولوا أن يتناولوا مظاهر الحياة في البيئة المصرية من خلال أعمال يسهل نسبتها إلى سوسيولوجيا الأدب، مثل «شجرة البؤس»، و«الأيام»، و«زينب»، و«هكذا خلقت»، و«إبراهيم الكاتب»، و«عودة الروح» … إلخ.
ثم جاء جيل الوسط الذي أصَّل فن الرواية والقصة القصيرة في حياتنا، وأهم ممثِّليه: نجيب محفوظ والسَّحَّار وعبد الحليم عبد الله والبدوي وغراب وصلاح ذهني. تعرَّفنا إلى الفن الروائي والقصصي في صورته العالمية من خلال أعمال تقف على أرضية المحلية. ثم توالت الأجيال بدءًا بجيل يوسف إدريس إلى جيل التسعينيات الذي يحاول الآن أن يرسم ملامحه في الخارطة الإبداعية المصرية.
وبالتأكيد، فإن التناول القصصي للمنفلوطي يختلف بالضرورة عن التناول الذي أبدعته الأجيال التالية، وإلى الآن.
ثمة تراث متراكم من الأعمال القصصية والروائية، منذ تحققت للقصة القصيرة صورتها الفنية في «ما تراه العيون» لمحمد تيمور، وللرواية صورتها الفنية في «عذراء دنشواي» لمحمود طاهر حقي. وهذا التراث يعني أن المبدع يتجه الآن إلى قارئ جديد، أشد تمرسًا بفنية القصة والرواية، فهو يُصدَم بالشروح والتبسيطات التي تلغي ذكاءه، وتحاول مساعدته على تلقي العمل.
فما فائدة مئات القصص وعشرات الروايات التي سبق له قراءتها؟
الفن إضمار مقولة صحيحة، ويجب أن نؤكد عليها، وإن كنت أتحفظ كذلك، فأؤكد — في الوقت نفسه — أنه على المبدع أن يحترم ثقافة القارئ ووعيه … وأبشع الأعمال الأدبية تلك التي قد لا يفهمها كاتبها، لكنه يدفع بها إلى المطبعة تصورًا أن القارئ ربما وجد فيها ما غمض عنه هو … مثل تلك الأعمال يجب أن يُعاقَب كاتبها باعتباره مدلِّسًا أو مزيفًا، وأن يواجه الحكم الذي يواجه به هؤلاء!
•••
أوافق أستاذنا الدكتور الطاهر مكي في أن «المبدعين الحقيقيين يجب أن يسبقوا عصرهم، وأن يكونوا بالضرورة غير مفهومين من معاصريهم.»
الفن إضمار.
أنا أعني بتصوير الأحاسيس الغامضة، أو التي لم تتبلور بعد، بحيث يبذل المتلقي جهدًا مساويًا لما قد تنطوي عليه من إضمار حتى يميزها أو يدركها.
الإضمار، أو حتى الغموض ليس عيبًا، بل إنه قد يضيف إلى العمل الفني، بل إن أبا إسحاق الصابي يرى أن «أفخر الشعر ما غمض.» ومع ذلك، فإنه من المفروض أن يتضمن العمل مفاتيحه الداخلية، التي تعين على الفهم واستكناه الدلالات.
والحق أنه إذا لم يكن ثمة ما يوجب على الفنان أن يكون غامضًا، فإن المتلقي — بالتالي — غير مطالَب بأن يسرف في الجهد كي يستبين المعاني التي يقصدها الكاتب. أذكر قول روبرت فروست لأحد الشعراء الشباب، اتسمت قصيدة له بالغموض: «إن كانت قصيدتك سرًّا من أسرارك، فأولى بك أن تحتفظ بها لنفسك.»
البعض يعاني افتقاد الموهبة، أو فقر اللغة، أو نقص الإمكانات، فهو «يضطر» — أعني التعبير — إلى الغموض. أذكر قول سومرست موم: «أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه، فهو يشعر شعورًا غامضًا بما يريد أن يقوله، لكنه لم يكوِّن له صورة واضحة في ذهنه، إما لنقص في قواه عقلية، أو من الكسل. ومن الطبيعي في هذه الحالة، ألا يجد التعبير الدقيق للفكرة المشوشة.» ويضيف شوبنهاور إلى هذه الكلمات قوله: «إن أسلوب التعبير المسرف في الغموض، يأتي في تسع وتسعين حالة من مائة حالة، نتيجة لغموض الفكرة عند المبدع.»
إن المبدع يواصِل الكتابة دون أن تتضح أمامه ملامح العمل الذي يكتبه، يكتفي بالشعور الغامض، أو غير المحقق. يريد أن يعبِّر عن أشياء محددة، لكنها تشحب وتتضاءل، وتتحول إلى هلاميات عند محاولة الفنان لأن يسطرها على الورق، فهو يترك ما عجز عن التعبير عنه لذكاء القارئ، يفسِّره على النحو الذي يراه. ولأنه هو نفسه لم يفهم، فإن القارئ بالتالي لن يفهم. لقد تصور أنه لجأ إلى ذكاء القارئ، لكنه — في الحقيقة — لجأ إلى نقيض ذلك، أو ما تصور أنه كذلك، لأنه من المستحيل أن أطالب الآخرين بفهم العمل، الذي لم يفهمه كاتبه! وكما يقول سومرست موم، «فإن من أسباب الغموض أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه، فهو يشعر شعورًا غامضًا بما يريد أن يقوله، لكنه لم يكوِّن له صورة واضحة في أذنه، إما لنقص في قواه الذهنية، أو من الكسل.»
وباختصار، فإنه لا يمكن — بمشاعر كاذبة — أن أنتج فنًّا صادقًا. ولعلِّي أضيف قول كونتليان «إن الأشياء التي يقولها الرجل المثقف ثقافة عالية، في الأغلب الأعم، أيسر فهمًا وأكثر وضوحًا. وكلما كان الإنسان أقل ثقافة، كانت كتابته أكثر غموضًا.»
•••
العمل الإبداعي علاقة بين المبدع والمتلقي، إنه لا ينطلق في فراغٍ، وإنما هو يتجه إلى قارئ أو مُشاهِد أو مستمِع، يشغله الاستمتاع — في الأقل — بهذا العمل. لكن معظم الأعمال الأدبية الحديثة تتجه إلى الغموض بلا سببٍ، وبغير ضرورة فنية. وهو ما انعكس على قاعدة المتلقين، فتقلَّصت بصورة واضحة، حتى إن المجلات الأسبوعية التي كانت تخصص — على سبيل المثال — مساحة ثابتة للقصة، ملأت هذه المساحة بمواد صحفية أخرى، يسهل على القارئ فهمها وتقبُّلها، بدلًا من اللوغاريتمات الذي يحفل به الكثير من إبداعاتنا القصصية المعاصرة. ولقد كنت — أعترف — واحدًا من الذين انساقوا — دون استعداد نفسي ولا فني — لذلك التيار. بدأت في «الماهية»، و«يا سلام»، و«الصورة»، و«موقف» — قصصي القصيرة الأولى — بما يقرب من اللقطة التسجيلية التي تشي بدلالات. ثم صرفني — وهذا هو خطئي الأعظم — تيار الغموض الذي جرف العديد من أبناء جيلي.
وأذكر أن مجلة «سنابل» التي كانت تصدرها محافظة كفر الشيخ بإشراف الصديقين محمد عفيفي مطر ومحمود بقشيش قد أثارت نقاشًا حول قضية الغموض، أيَّد فيه معظم المشاركين وجود الظاهرة، وإن اختلفوا في تبين بواعثها. وكان رأيي — كما أوردته المجلة — «أن العمل الفني لا يتسم بالغموض لذاته، حتى اللامعقول لا بد أن يصدر في الدرجة الأولى عن رؤية معقولة، وإلا تحوَّلت الكلمات إلى شيء آخر لا يمُتُّ إلى الفن بصِلة، لكن المعاناة التي يتطلَّبها العمل من كاتبه، تريد معاناة مقابلة من قارئ العمل. وأحيانًا يساوي الغموض عدم فهم القارئ، أو قراءته للعمل الإبداعي بنفس طريقة قراءة الجريدة اليومية. وأحيانًا أخرى، يعاني البعض افتقاد الكلمة التي يريد أن يقولها، لكنه يصر أن يكتب، والبعض تعجز حصيلته اللغوية عن صوغ كلماته، فلجأ إلى الهلاميات اللغوية (سنابل ١٥ / ٤ / ١٩٧١م).
•••
ثمة رأي يذهب إلى أن الفهم عند القارئ، والوضوح عند المبدع، هما شيئان أساسيان للأدب، ويتضمنان التزامات من كلٍّ منهما. ولعلَّ المثل الذي يحضرني، أن المبدع أشبه بجهاز إرسال، وواجبه دائمًا أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته، التي تتحدد في حرصه على الصدق مع نفسه، ومع فنِّه، فلا يتعمد شيئًا، لكن يترك العمل الفني هو الذي يكتب نفسه، لا يلوي ذراع القصيدة أو القصة سعيًا وراء الإبهار أو التلغيز، وإنما يترك للعمل الإبداعي اكتساب ملامحه وقسماته أثناء عملية الإبداع. أما المتلقي فهو أشبه بجهاز استقبال، عليه هو أيضًا أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته، وتتمثَّل في تسلُّحه بالثقافة والوعي والفهم، بحيث يمكنه استقبال العمل الفني بصورة جديدة. لا أفهم أن يكون الغموض هدفًا في ذاته، من أجل أن يثار النقاش حول المعنى الذي يقصده الكاتب، ثم لا يصل النقاش إلى أي شيء. ذلك أقرب إلى مسابقة الكلمات المتقاطعة التي تزجي بها الصحف اليومية فراغ وقت قرائها.
إن الغموض الذي يصدر عن عمق الفكرة وطرافتها، والتأبِّي على التعبير الأوضح، يختلف عن الغموض الذي لا يعدو تعبيرًا عن قصور الأدوات، وعدم تمكُّن الكاتب من الجنس الأدبي الذي حاول إبداعه. وكما يقول إليوت فهناك غموض هو في الواقع نوع من الادعاء؛ فالمؤلف يحاول أن يخدع نفسه، ويعمل على أن يقنع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما عنده.
حتى أعمال بيكيت التي نُسِب لمؤلفها أنه لا يستطيع فهمها تمامًا … هذه الأعمال لا يمكن أن تكون بلا معنى، لأننا قد نُطلِق على مثل هذا العمل أي شيء، إلا أن نسميه فنًّا! وأذكر عندما قدَّم مسرح الجيب مسرحية بيكيت «لعبة النهاية»، أن أقلام النقاد استراحت إلى الرأي القائل باستحالة فهمها — ألم يعلن ذلك الفنان نفسه؟! — وطالبت بأن تكون نظرة المُشاهِد إليها مثل نظرته إلى اللوحة التجريدية. لكن نجيب محفوظ رفض ذلك التفسير، وأصرَّ على أن مسرحية بيكيت عمل فني، لا بد أن يكون للفن معنى، ثم قدم تفسيرًا رائعًا وذكيًّا، للعبة النهاية.
•••
المقولة الشهيرة تعلن أنه إذا طالب المتلقي المبدعَ أن يكتب ما يُفهَم، فإن على المتلقي أن يفهم ما يُكتَب. وفي المقابل، فثمة من يرفضون — رغم ثقافتهم المرتفعة — تلك الأعمال التي تكلِّف القارئ جهدًا لتفهُّمها، وهو ما يعبِّر عنه كلثوم بن عمرو العتابي «إن كل مَن أفهَمَك حاجة من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ.»
لقد كان رأي ت. إس. إليوت أنه ليس هناك ما يوجِب على الفنان أن يكون واضحًا؛ إن الإبداع مهمته، وبذل الجهد في الفهم واستبانة المعاني مهمة المتلقي. إيفور براون يرفض هذا الرأي، يرى فيه دليلًا على الكسل أو التكلُّف، وتنازلًا من الفنان عن رسالة الفن. يضيف: «إن الشائع في هذه الأيام في عالم الأدب هو ألا تعرف ماذا تعني. فإذا تحداك إنسان، فما عليك إلا أن تهزَّ كتفك غير حافلٍ، وتقول إنك كتبت ما كتبت، وأن على القارئ أن يتبيَّن المعنى. وأن ما يبديه المؤلف من الملحوظات يحمل الكثير من المعاني، والقارئ يقوم مقام القابِلة التي تستولد هذه المعاني، وليس من عمل العبقري أن يجعل كلامه واضحًا مفهومًا» (ت. علي أدهم).
والواقع أن الغموض — أو البساطة — مسألة لا تصدر عن الأديب بقرارٍ، بمعنى أني لا أتصور أن أديبًا يتعمَّد التلغيز أو التبسيط الزائد، لكن العمل الفني — بما ينبغي أن ينبض به من تلقائية — هو الذي يفرض الصورة التي تطالع القارئ. وكما يقول همنجواي: فقد «تبدأ في كتابة القصة دون أن تكون لديك أية فكرة مسبقة عن الطريقة التي ستنتهي بها، فكل شيء يتبدَّل ويتغيَّر، كلما تقدمت القصة. وهكذا نجد أن الحركة قد تبدو بطيئة للغاية في بعض الأحيان، حتى لَيصعب على الإنسان أن يصدِّق أن هناك حركة على الإطلاق.»
الغموض — أو العكس — مسألة نسبية. فما يراه البعض غموضًا، يراه البعض الآخر عملًا سهل التلقي. والقضية أساسًا في جدِّية الفنان وصدقه من ناحية، ووعي المتلقي وثقافته، بل وفهمه لخصائص العمل الفني من ناحية أخرى. وكما يقول يحيى بن حمزة العلوي فإن «المقصود إذا ورد في الكلام مبهمًا، فإنه يفيده ببلاغة، ويكسبه إعجابًا وفخامة، وذلك إذا قرع السمع على وجهة الإبهام، فإن السامع له يذهب في إبهامه كل مذهب.»
الفن إضمار، والفن تكثيف وإيماء بدلالات (يقول جين ب. تومبكنز إنه تكفي كلمات قليلة لتيسير تأويل حالة معقدة) لكنه يفقد صفة الفن إذا بلغ حدَّ الغموض. وللغموض — في تقديري — أكثر من سبب، فقد يصدر عن ادِّعاء ساذج، أو قصور في التعبير، أو عدم استطاعة للوسيلة الفنية — وهو ما يعانيه الكثير من الأدباء الشباب في أعمالهم الأولى — وقد يكون السبب عُمْق المقولة بما يهمل وضوح التعبير.
•••
يضايقني قول البعض: هذا كاتب صعب.
أنا لا أتعمَّد الغموض ولا التلغيز. أبدأ الكتابة وليس في داخلي سوى فكرة، هي — في الأغلب — غير مكتملة … لكن العمل الأدبي الجيد — والقول ليحيى بن حمزة العلوي — يتطلب قراءات عديدة. فأنت كلما قرأته اكتشفت فيه معاني جديدة، فهو إذن يتطلَّب جهدًا موازيًا لجهد المبدع، جهدًا لا حدَّ له. من المهم أن تكون قراءة المتلقي خلَّاقة، بمعنى أن يتصور الأحداث والشخوص التي يتضمنها العمل الفني؛ بغير هذه المشاركة الفعالة فإن المتلقي لن يخرج بشيء.