خاتمة

مهد أبو بكر لقيام الإمبراطورية الإسلامية، فامتدت في عهد عمر من حدود الصين شرقًا إلى ما وراء برقه غربًا، ومن بحر قزوين في الشمال إلى النوبة في الجنوب، واشتملت فارس والعراق والشام ومصر، وضمتها كلها إلى بلاد العرب، فكان لتفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من هذه الأمم، أثر بالغ في توجيه حضارة العالم من بعد، وكان تفاعل هذه العوامل طبيعيًّا؛ فلم يكن لأمير المؤمنين ولا لغيره من السلطان ما يمحو أثره، أو يغير النتائج التي ترتبت عليه.

وقد كانت هذه الأمم، حين انضمت إلى لواء الإمبراطورية الإسلامية، متباينة أشد التباين في كل مقوماتها، إذ كانت كل واحدة منها تختلف عن سائرها في اللغة، والجنس، والعقيدة، والحضارة، والبيئة الاجتماعية، والبيئة الاقتصادية. صحيح أن قبائل من العرب كانت تقيم ببادية السماوة، على تخوم العراق والشام؛ وأن هذه القبائل أقامت ملك الحيرة، وملك بني غسان، لكن أهل الشام الأصليين وأهل العراق الأصليين كانوا من جنس غير عربي، وكانوا يتكلمون لغة غير العربية، أما فارس ومصر فكانتا لا تمتان للعرب في الجنس ولا في اللغة بصلة، كانت عقائد الفرس تخالف عقائد أهل الشام وأهل مصر، وكان أهل العراق مقسمين بين نصرانية الروم ومجوسية الفرس، وكانت الحياة ولون الحضارة في كل واحدة من هذه الأمم يختلفان عنهما في الأمم الأخرى اختلافًا كبيرًا، وقد تم اجتماع هذه الأمم كلها، وبينها هذا التفاوت والتباين، في وحدة الإمبراطورية في زمن لم يزد عن عشر سنين، لكن القوة التي تستطيع أن تخضع الأمم، وأن تجمعها في سلطان سياسي واحد، لا تستطيع أن تزيل ما بينها من تفاوت في مقوماتها الأساسية، والتطور وحده هو الذي يُحَوِّلُ الأمم إلى غير حالها، بعد أن تكون قد ثبتت على هذه الحال الأجيال والقرون، فكيف كان هذا التحول، وإلى أي مدى بلغ في عهد عمر، وماذا كان اتجاهه من بعده؟

عد بالذاكرة إلى ما سجله المؤرخون من محاورات قيل إنها حدثت بين سفراء المسلمين وكسرى يَزْدَجِرْد وقائده رستم، وبين خالد بن الوليد وجرجة القائد الرومي في غزوة اليرموك، وإلى ما كان قبل ذلك من مثل هذه المحاورات بين نجاشي الحبشة والمسلمين الذين هاجروا إليها، لقد كان محور هذه المحاورات ومداها أن العرب كانوا ضعافًا لانحلال الروابط بين شتى أممهم، أذلة يتحكم غيرهم من الأمم في مصيرهم، فقراء يقتلهم الجهد في سبيل العيش، فلما أرسل الله رسوله إليهم بالإسلام اجتمعت كلمتهم، وشبعوا من جوع، وعزُّوا بعد ذلة، ولا ريب أنه قد حدثت محاورات من هذا القبيل، إلا تكن على الوجه الذي فصله المؤرخون فعلى وجه آخر لا يختلف في جوهره عنه، فالرسالة الجديدة للإسلام كانت إذن موضع التفكير في كل مكان ذهب إليه المسلمون، وانتصار العرب الذين آمنوا بهذه الرسالة كان حجة صلاحها نظامًا للحياة الروحية وللحياة الاجتماعية، وحيثما انتشرت فكرة بين الناس، واستحوذت على الشعور العام، خلفت أثرًا يقوى أو يضعف بحكم الأحوال التي تنتشر الفكرة فيها، وعلى قدر قوته أو ضعفه ترسخ الفكرة في النفوس حتى تبلغ منها مكان الإيمان، أو تتبخر شيئًا فشيئًا حتى يجر النسيان عليها ذيل العفاء.

كانت الأحوال التي أحاطت بالفكرة الإسلامية، في البلاد التي غزاها المسلمون، كفيلة بأن تجعل هذه الفكرة على كل لسان وفي كل مجتمع، ذلك بأن الأساس الروحي الذي قامت الفكرة عليه كان بسيطًا كل البساطة، خاليًا من كل تعقيد؛ وأن النظام الخلقي الذي تفرع عن هذا الأساس كان ساميًا غاية السمو، يأخذ بهاؤه بالأبصار، وأن النظام الاجتماعي في الإسلام لم يكن دون النظام الخلقي والأساس الروحي بساطة وسموًّا، وكانت الفكرة الإسلامية في أساسها ونظمها لا تزال يومئذ في صفاء جوهرها، لم يْجْنِ عليها الجَدَلُ المذهبي، ولم تحجب تفاصيل الجدل ضياء الجوهر عن الأنظار، فلما تغلغل المسلمون في أحشاء العراق والشام، وانتشروا في فارس ومصر، تسير أعلامهم أمامهم مظفرة قاهرة، لم يكن لأهل البلاد التي انتشروا فيها بد من التفكير في سر هذا الظفر وفي مردِّه إلى الفكرة الإسلامية.

هذا؛ ثم إن الخلاف على المذاهب المسيحية وعلى المذاهب المجوسية كان قد بلغ أعظم مبلغ، وكان الناس في بعض البلاد يسامون بسبب هذا الخلاف ألوانًا من البطش تزعزع عقيدة فريق وتفتنه عنها، وتزيد فريقًا تعصبًا لهذه العقيدة وتضحية في سبيلها؛ فكان ذلك داعيًا آخر للتفكير في الدين الجديد وما ينطوي عليه.

يضاف إلى ما تقدم أن المسلمين لم يكرهوا أحدًا من أصحاب المذاهب المختلفة المسيحية أو المجوسية على الإسلام، بل جعلوا حرية العقيدة أساس دعوتهم، فكان لذلك من بالغ الأثر في نفوس المتعصبين لمذهبهم والمستضعفين الذين فُتِنوا عنه ما جعل الكثيرين ينظرون إلى هذا الدين الجديد وأهله نظرة خالية من الحقد والكراهية، ولا حاجة بي إلى العود للحديث في ذلك وهو مجلوٌّ في الكتاب، وأنت قد رأيت كيف نصت جميع المعاهدات التي عقدها المسلمون، مع أهل الشام والعراق وفارس ومصر، على احترام كل ملة فلا يُفتن صاحبها عنها، واحترام كل معبد فلا يمس بسوء، ثم رأيت، فيما رويناه مما حدث بمصر، إلى أي مدى بلغ المسلمون في حمل أهل المذاهب المختلفة على احترام كل مذهب، وعدم التعرض لأهله بأذى، طبيعي وهذه هي الحال أن ينظر أهل البلاد المفتوحة إلى الدين الجديد وأهله نظرة تقدير، وأن يُكْبِرُوا هؤلاء الفاتحين الذين أقاموا العدل بين الناس بالقسط.

وزاد أهلَ البلاد المفتوحة تفكيرًا في الدين الجديد وما ينطوي عليه أن المعاهدات التي نصت على حرية العقيدة فرقت بين من أسلم ومن لم يسلم من أهل هذه البلاد، فعلى الذين استمسكوا بدينهم ومذهبهم أن يؤدوا للفاتحين الجزية لقاء منعهم لهم وحمايتهم حرية عقيدتهم، أما من أسلم من أهل هذه البلاد فقد سقطت عنه الجزية وساوى المسلمين الفاتحين، فصار له ما لهم، وعليه ما عليهم؛ يصلي في جماعتهم، وينضم إلى صفوفهم في القتال، ويرتبط معهم بآصِرة النسب، ويشاركهم في المغانم ما أحسن البلاء في المعارك، أما ومبادئ هذا الدين سليمة سامية، وللذين يدخلون فيه كل هذه المزايا، فلا جرم قد انضم إليه في عهد عمر عدد إلا يكن عظيمًا في البلاد التي لا تتكلم العربية فلم يتذوق أهلها كل جماله وسموه، فقد كان لإسلام هذا العدد ومساواتهم للفاتحين أثر حمل غيرهم على التفكير في أمر الدين الجديد، وهوى بنفوس الكثيرين، ممن فهموا قواعده ونظامه، إلى الدخول فيه والإيمان به.

ثم إن اتصال العرب الفاتحين بأهل العراق وأهل الشام وبالفرس والروم المصريين، قد كان له من الأثر ما لكل الحروب، إذ تخرج الألوف وعشرات الألوف من أهل الأمم المختلفة عن مواطنهم، وتريهم ألوانًا من العيش لم يكونوا يعرفون، وتفتح بذلك أمامهم آفاقًا من التفكير والنظر كانت محجوبة عنهم لبعدها عن مواطن إقامتهم، ولا يزال المؤرخون يتحدثون عما كان للحروب الصليبية من أثر في علاقات الشرق والغرب، وعما حدث بعد غزو الترك أوروبا واستيلائهم على القسطنطينية، من اتجاه الحضارة الغربية كلها وجهة جديدة أدى إليها بعث العلوم والفنون الإغريقية وانتشارها في أنحاء أوروبا المختلفة، وقد كان للفتح الإسلامي مثل هذا الأثر من أول عهده، فكما أدى اختلاط العرب بالأمم التي فتحوها إلى تفكير هذه الأمم في الدين الجديد، كذلك أدى إلى إعجاب العرب بحضارة الفرس والروم والمصريين، وإلى انفساح الأفق الفكري أمام هؤلاء وأولئك، وامتثاله عناصر جديدة نَقَلَتِ التفكير العربي في الحياة المدنية، وتفكير أهل البلاد المفتوحة في الحياة الروحية والمعنوية، خُطواتٍ فسيحةً قربت بين عقلية الجميع، وإن لم تمحُ الفوارق الطبيعية التي صاغت البيئات فيها هذه العقليات المختلفة.

وقد رأيت أثر ذلك في إسلام من أسلم من الفرس والروم، وفي إقبال العرب على النهل من أنعم الحياة بعد أن يسرت لهم مغانم الحرب هذا النهل، صحيح أن الأمم المفتوحة، وإيران خاصة، قد بقيت في نفوس أهلها حفائظ على الفاتحين كانت تثيرهم بهم الحين بعد الحين، لكن هذه الحفائظ لم تكن لتقف التفاعل الطبيعي وما أدى إليه من تطور في عقلية الغالبين والمغلوبين على سواء، وتَحَوُّل نظرتهم إلى الحياة عما كانت عليه، ولم تقف ما أدى هذا التطور إليه من تقارب في هذه النظرة لم يكن أثره باديًا للعيان في عهد عمر، ولكنه مع ذلك كان يعمل دائبًا، فيؤدي عمله إلى ظهور هذا الأثر بعد سنوات معدودة؛ إذ يتخذ علي بن أبي طالب من الكوفة عاصمته، ثم يتخذ معاوية بن أبي سفيان من دمشق عاصمته، ثم تدخل مذاهب التفكير التي أقامتها الفلسفة الإغريقية في العقلية العربية، ثم يدخل الفن الفارسي ونظام الحكم الفارسي في الحياة الإسلامية، وينتهي بأن يجعل من بغداد عاصمة العالم.

كان هذا التطور يسير حثيثًا في عهد عمر، وإن لم يَبْدُ أثره ظاهرًا للعيان، وكان سيره هذا يمهد لحضارة جديدة تجمع في كَنَفِهَا دين المسلمين، وفلسفة الإغريق والفرس والمصريين، وعلومهم وفنونهم وآدابهم؛ ويمهد بذلك لنظام جديد في الحياة يشمل مناحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقلية، ويصوغها في حياة الجماعة العامة وفي حياة الأفراد الخاصة.

لم يظهر أثر هذا التطور واضحًا للعيان في عهد عمر؛ لأن العرب كانوا في شغل عن التفكير في أمره بما هم فيه من لقاء عدوهم وقهره، ولأن الأمم المغلوبة على أمرها نسيت التفكير في أي شيء إلا فيما نُكِبت به من هزائمها، وأنت لذلك قلما تجد في كتب المؤرخين الأولين وقفات تصور هذا التطور في النفسية الإنسانية، فإذا عثرت بشيء من ذلك وجدته دفينًا لا يكاد يظهر؛ لأن سرد الحوادث طغى عليه فأغرقه في لُجَّتِه، على أن سرد الحوادث لا يدع عندنا مجالًا للريب في قيام هذا التفاعل من عهد الفتح الأول.

فقد أحصى المؤرخون مغانم المسلمين في المعارك التي حدثت في عهد عمر، وذكروا ألوانها وكثرتها وبَهْرَ العرب لمرآها وفتنتهم بها، كما ذكروا مخاوف عمر أن يبلغ المسلمون من الافتتان بهذه المغانم مبلغًا ينسيهم المبادئ التي أظفرتهم بعدوهم، فتتغير نفوسهم، فيغير الله ما بهم، كذلك رووا ما كان من تنافس البصرة والكوفة، ومن اختلاف القبائل العربية التي أقامت في كلتا المدينتين، وهذا كله، وما حدث من اختلاط العرب والعجم، يُثَبِّتُ عندنا اليقين بأن ما قام من بعدُ من نضال بين الخلافة والملك، وما شاع في الجماعة الإسلامية من ألوان الترف الفني والفكري، وما نشأ عن هذا التطور منذ العهد الأول مما جعل البلاد التي فُتحت في عهد عمر منازل الإسلام ومدارس الفقه فيه، كل ذلك قد كان له أثره في قيام الحضارة الإسلامية، وكان له أثره في عظمة الإمبراطورية في القرون الأولى، كما كان عظيم الأثر حين بدأت عوامل الانحلال تدب في كيان الإمبراطورية.

كيف يؤدي تفاعل عوامل بذاتها إلى آثار متناقضة، فيكون سببًا في قيام الإمبراطورية وعظمتها، ثم يكون سببًا في تدهورها وانحلالها؟

الجواب عن هذا السؤال يصدُق على الإمبراطورية الإسلامية، وعلى غيرها من الإمبراطوريات، فكمُّ هذه العوامل ومبلغ تفاعلها يختلفان في زمن عنهما في زمن آخر، وهذا الاختلاف يؤدي إلى تباين النتائج، ذلك أمر طبيعي نشهده في الظواهر الاجتماعية كما نشهده في الظواهر الطبيعية، فكما يؤدي اختلاف الأنواع والمقادير في العناصر الكيميائية إلى اختلاف تفاعها وما يترتب على هذا التفاعل من نتائج، كذلك يؤدي اختلاف الكم والنوع في العناصر الاجتماعية إلى مثل هذه النتيجة، فإذا زادت القوى المعنوية في الجماعة سواء أكانت هذه القوى روحية أم خلقية أم عقيلة، أدى تفاعلها مع القوى المادية إلى سمو الجماعة وعظمتها، ذلك بأن القوى المعنوية هي التي تدفعنا إلى طلب الكمال الإنساني وإلى الدأب في سبيله، والجماعة مع ذلك لا غنى لها عن قواها المادية ومضاعفة نشاطها، وهذه القوى تزداد نشاطًا وإنتاجًا بدافع من القوى المعنوية، فإذا ضعفت معنوياتنا ضعف نشاطنا المادي، وتضاءل إنتاجنا.

وقد أشرنا غير مرة في هذا الكتاب إلى سمو القوى المعنوية عند العرب، بعد أن حطم الإسلام في نفوسهم قيود الوثَنِيَّة، وبعد أن جمع كلمتهم حول عقيدة واحدة ولواء واحد، وكان لتغلب المسلمين على الأسدين، فارس والروم، أثر صالح كذلك في البلاد التي فتوحها، ذلك أن دسائس البلاط كانت السبب الجوهري في اضطراب أمور الفرس وفي سوء حكمهم، وأن الاضطهاد الديني كان السبب الجوهري في سوء حكم الروم للشام ومصر، فلما تغلب المسلمون على العراق وعلى فارس، لم يبقَ للبلاط وجود فلم يبقَ لدسائس البلاط موضع؛ ولذا شُغِلَ كل أمير بإمارته، وحرص على أن يحسن سياستها حتى لا يتعرض لغضب ولاة المسلمين وغضب أمير المؤمنين، وشعر أهل العراق والفرس بتفوق المسلمين عليهم لعدلهم في حكمهم، وأدركوا بالسليقة أنهم إن لم يظهروا للمسلمين خير صفاتهم لم يقف هوانهم ولم تقف مذلتهم عندما نزلت الهزيمة بهم إليه، بل تدلوا في أعين الفاتحين إلى شر من ذلك مكانًا، وباءوا بازدرائهم وتحقيرهم، لهذا بدءوا يبرزون خير ما عندهم من تراث قومهم، وخير ما ورثوا من صفات آبائهم في تجويد الفنون والعلوم والصناعات، وكل ما كانت لهم فيه اليد الطولى مما لم يكن العرب يستطيعون مجاراتهم فيه.

وكذلك فعل أهل الشام وأهل مصر، فقد زال الاضطهاد الديني بعد فتح العرب بلادهم، وزالت بذلك أسباب امتعاضهم وثورتهم، وما كان ينشأ عن هذا وذاك من سوء الحكم واضطراب الأمور بينهم، عند ذلك بدءوا يظهرون خير الصفات التي ورثوها عن آبائهم في التجارة والزراعة والصناعة والعلوم والفنون، فبرزت القوى السليمة التي وهبتها لهم الطبيعة وجعلت تنشط وتنتج خير ثمراتها.

أدى هذا كله إلى نوع من الاستباق إلى المكرمات وإلى المجد وإلى اعتماد كل جماعة على أفضل مواهبها، لتبلغ خير ما تستطيع من احترام الأمم المكونة للإمبراطورية معها، وطبيعي أن يؤدي الاستباق في هذا المضمار إلى عظمة المجموع؛ أي إلى عظمة الإمبراطورية وجلال مكانها في العالم.

كان أمراء المؤمنين يباركون على هذا النشاط الجم في أرجاء الإمبراطورية المختلفة، وينظرون إليه بعين الرضا، ويرجون منه المزيد، وكانت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي سنها الإسلام تقرِّب بين العاملين الدائبين في هذا النشاط، مع ما كان من اختلاف أصولهم ولغاتهم وعقائدهم، وزاد دخول الكثيرين من أبناء الأمم التي رف عليها لواء الإمبراطورية الناشئة في الدين الجديد في هذا التقريب، حتى كاد يدمج هذه الأمم في وحدة منسجمة تسعى كل أطرافها إلى غاية مشتركة؛ هي عظمة الكل، وعظمة كل جزء من أجزائه.

أدى هذا النشاط الجم إلى تنافس الأمم التي تكونت منها الإمبراطورية تنافسًا زاد الإمبراطورية اندفاعًا إلى التوسع والعظمة، وكيف لا تندفع في هذه السبيل وعوامل الوحدة والانسجام تزداد بين هذه الأمم قوة على مر الأيام والسنين! فلم يَحُلْ ما قررته مبادئ الإسلام من حرية العقيدة، وأنه لا إكراه في الدين، دون إقبال الأكثرين من أهل مصر والشام والعراق وفارس على النظر في الدين الجديد، ودخولهم فيه أفواجًا عن رضا وبينة.

وكان لدخولهم في الإسلام أثر بالغ في تعزيز وحدتهم؛ لأن الإسلام لا يتناول العقيدة وكفى، بل هو يتجاوز الميدان الروحي إلى الميدان الخلقي والميدان الاجتماعي، ويفرض على الآخذين به نُظُمًا في الأخلاق وفي التشريع تختلف في جوهرها عن النظم المسيحية والمجوسية، كما تختلف عن النظم الجاهلية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة قبل مبعث النبي العربي.

واتفاق القيم الأخلاقية في جماعة ما من شأنه أن يجمع أطرافها في وحدة تزيد أهلها تعارفًا وتآلفًا، فاتفاق الجميع على المعروف والمنكر، وعلى الخير والشر، وعلى الحرام والحلال، يبعث في كيان المجموع من الانسجام ما يزيد في قوته المعنوية، ويزيد تبعًا لذلك في نشاطه المادي، فإذا صدر هذا الاتفاق عن أصل واحد هو العقيدة، فآمن الجميع بأنهم مسئولون أمام الله خالق كل شيء، يجزيهم عن أعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كان ذلك سببًا في اتساق الانسجامَ، وازدياد الوحدة قوة بقدر هذا الاتساق، ولا ريب أنه قد حدث هذا الانسجام، واتسق في أرجاء الإمبراطورية كلها بعد أن سكن أهل الأمم المفتوحة إلى حالهم الجديدة، ونظموا حياتهم في ظلالها.

وزاد الانسجامَ اتساقًا والوحدةَ قوة أن تجاوز الإسلام ميدان العقيدة وميدان الأخلاق إلى ميدان التشريع، وأن أذعن المسلمون في مختلف الأرجاء من إمبراطوريتهم الفسيحة إلى ما جاء في كتاب الله عن نظام الأسرة، وعن الميراث، وعن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي لكثير من شئون الحياة، صحيح أن ما نُصَّ عليه في القرآن من هذه الشئون لم يزد عل المبادئ العامة، لكن هذه المبادئ العامة في التشريع كانت ذات أثر بالغ في توجيه تفاصيله؛ كما أن تطبيق العرب لها، عن طريق القضاء في أرجاء الإمبراطورية، قد زاد في هذا الأثر، وأدى إلى وحدة في التشريع اطَّردت في الأجيال الأولى من حياة الإمبراطورية، وزاد في إطرادها أن التشريع الإسلامي، وقواعد الخلق الإسلامية، وقواعد الإسلام في العقيدة، كانت تُعَدُّ في ذلك العهد وحدةً لا انفصام لها، فزاد ذلك في اتساق الانسجام، وفي قوة الوحدة التي انتظمت أجزاء الإمبراطورية كلها.

وكان طبيعيًّا، والقرآن كتاب الله وأساس هذا الدين، أن يتعلم الناس في البلاد المفتوحة لغة القرآن، ليزدادوا فقهًا في دينهم، وليعرفوا لغة حكامهم، والعقيدة واللغة قوتان بالغتا الأثر في توحيد من يشتركون فيهما، وفي تعاونهم وتآلفهم، ولا أراني بحاجة إلى إقامة الدليل على هذا الأمر ونحن نرى في عصرنا الحاضر وحدة الأمم اللاتينية، وجماعة الأمم التي تتكلم الإنجليزية، وتضامن الأمم المسيحية، وهلم جرًّا، هذا مع أننا في عصر تقررت فيه مبادئ الحرية بأوسع مما كانت في القرن السابع المسيحي، وهدى العلم فيه إلى أسباب الوحدة، إذ ضيق نطاق العالم على نحو لم يكن يدور بخَلَد أحد في ذلك الزمان.

أدرك كثيرون ممن أرخوا لذلك العهد الأول من عهود الإمبراطورية الإسلامية، ما كان لانتشار الإسلام وانتشار العربية من أثر بالغ في قيام هذه الإمبراطورية وفي قوتها؛ ولهذا تساءل بعضهم: لِمَ لَمْ يفرض الفاتحون دينهم ولغتهم على البلاد المفتوحة؟ وظنوا أنهم لو كانوا قد فعلوا لما دبَّت من بعد عناصر الانحلال في هذه الإمبراطورية، وأحسبني في غنى عن تفنيد هذا الظن وإدحاضه، وليس يرجع ذلك إلى أن من إضاعة الوقت مناقشة فرض لم يحدث، فمناقشة أمثال هذا الفرض جليلة الفائدة في هداية الإنسانية طريقها خلال المستقبل؛ وإنما يرجع إلى أن هذا الظن فاسد الأساس، فلو أن العرب أكرهوا الأمم التي فتحوها على دينهم وعلى لغتهم لما قامت الإمبراطورية إلا لتنهار، ذلك بأن كل اجتماع لا يُقْبِلُ الناس عليه أحرارًا مختارين سرعان ما ينفضُّ، وكل نظام يستند إلى القسر يؤدي إلى برم الناس به وانتقاضهم عليه، فلو أن المسلمين أكرهوا الأمم المفتوحة على الإسلام لما أغنى ذلك عنهم، ولكفرت الأرض بهم وانتقض الناس عليهم، ولما استطاعوا أن يقيموا حكمهم في هذه البلاد، على أساس غير البطش، والحكم القائم على البطش حكم سريع الزوال، وقد رأينا، ورأى المسلمون الأولون، ما أصاب هرقل حين أراد أن يفرض مذهبًا مسيحيًّا موحدًا على أهل المذاهب المسيحية المختلفة، ثار الناس به وبعماله ثورة انتهت بفراره من الشام أمام قوات المسلمين، وبفتح المسلمين مصر وضياعها من إمبراطوريته.

فأما إذا أقبل الناس على عقيدة من العقائد، فدخلوا فيها أحرارًا مختارين، فإن هذه العقيدة تصبح بعض حياتهم، ويصير لها في قلوبهم من القداسة ما يحملهم على الدفاع عنها، والتضحية بالروح في سبيلها، فهذا الذي صنعه المسلمون الأولون تنفيذًا لمبادئ دينهم، من حرية العقيدة وعدم الإكراه في الدين، كان الحكمة كل الحكمة وهو الذي دفع الإمبراطورية الإسلامية إلى التوسع والعظمة.

والأمر في اللغة كالأمر في الدين، إن لم يُقْبِل الناس عليها راغبين مختارين، مقدرين ما في تعلمها من فائدة جليلة، أخفقت كل محاولة لحملهم على تعلمها، بَلْهَ التَّكَلُّمَ بها.

كانت الحرية التي كفلها المسلمون لأهل البلاد المفتوحة في أمر العقيدة بعض ما دعا الفرسَ والروم وغيرهم للإقبال على الإسلام، وعلى اللغة العربية، وزاد في إقبالهم ما فرضه الإسلام من المساواة بين المؤمنين به على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعاداتهم، وما قرره من أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ومن أن المؤمنين إخوة؛ فلا يكمل إيمان أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فهذا الإخاء وهذه الحرية والمساواة أدت كلها إلى انتشار جو ضاعف من قوة الوحدة في الإمبراطورية، وتضاعف في ظله نشاط كل جزء من أجزائها.

وأنت مع ذلك تستطيع أن تميز، في عصور الإسلام الأولى أو في العصور التي تليها، نصيب كل جزء من هذه الأجزاء فيما أثمر نشاطها جميعًا من آثار عظيمة في الفقه، والأدب، والعلم، والفلسفة، والصناعة، والزراعة، وكل مظاهر الحياة المعنوية والمادية، ذلك بأن لكل أمة طابعًا أنشأته البيئة، وثبت على الزمان بحكم الوراثة، وهذا الطابع يبدو واضحًا في الفنون والآداب وألوان التفكير المختلفة؛ وهو لا يخفى في الصناعة والزراعة وغيرهما من آثار الحياة المادية، وتاريخ الأدب العربي يحدثنا عما أدخله الفرس والروم، في مذاهب الكتابة والتفكير، من صور وألوان لم تكن مألوفة عند العرب من أهل شبه الجزيرة، وذاك مع أن الفرس والروم تعلموا العربية عن أهل شبه الجزيرة، ولا عجب، فاللغة كائن حي يساير الوسط الذي يعيش فيه، وهي بحكم أنها الأداة لإبراز التفكير والتصور الإنساني، تتأثر في أساليبها وفي قوالبها بما تؤديه من متباين ألوان التفكير والتصور؛ لذلك كان طبيعيًّا أن تتأثر اللغة العربية بالصور والألوان التي أَلِفَها الفرس والروم في ثقافتهم وفي تفكيرهم، وأن يدخل على أساليبها في الشعر والنثر ما يؤدي هذه الأغراض.

كان للألوان الجديدة، التي أدخلها الفرس والروم في الفن العربي والأدب العربي، أثر واضح في العرب أنفسهم، وأنت ترى هذا الأثر ملموسًا في اختلاف مذاهب البصريين والكوفيين في اللغة، اختلافًا لا يزال مؤرخو اللغة والأدب يذكرونه إلى وقتنا الحاضر، وإنما نشأ هذا الخلاف؛ لأن البصرة والكوفة في العراق، فهما تجاوران فارس؛ وطبيعي أن يتأثر أهلها بهذا الجوار، وبما يجلبه إليهم من ألوان الثقافة الفارسية، ولا عجب في أن تكون إحدى المدينتين أكثر محافظة على عربيتها، وأن تكون الثانية أكثر حرية في امتثال الثقافة الفارسية.

لم يكن الطابع القومي واضحًا في الحياة المعنوية وحدها، وفي مظاهر هذه الحياة من فن وعلم وأدب، بل إنك لتقرأ الكثير عن آثار هذا الطابع في الحياة المادية، فبرود اليمن، وحرائر دمشق، وقباطي مصر، هذه وأمثالها من الألوان المتميزة في الصناعة والاقتصاد بتميز البيئة، تشهد ببقاء هذا الطابع، وبأن ما حدث من وحدة الإمبراطورية لم يكن ليمحوه أو ليزيل آثاره.

على أن وضوح الطابع القومي في مظاهر الحياة المعنوية والمادية المختلفة، لم يَجْنِ في قليل ولا كثير على وحدة الإمبراطورية في عصورها الأولى؛ فقد اتسقت قوى الإمبراطورية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ونشأ عن هذا الاتساق تزاوج بينها أنتج من الثمرات ما ربط بين أجزاء الإمبراطورية كلها بأوثق رباط، تزاوجت الفلسفة الإغريقية والثقافة الفارسية في ظل التوحيد الإسلامي فأنتج هذا التزاوج الفلسفة الإسلامية، وتزاوج الخيال الفارسي والفن البزنطي باللغة العربية، فأنشأ في الشعر والنثر العربي ألوان الأدب الإسلامي، وتزاوج فن الزخرفة الفارسي والعمارة البزنطية، فكانت العمارة العربية ثمرة هذا التزاوج، وامتد التزاوج إلى مرافق الحياة في أرجاء الإمبراطورية كلها، فأنشأ خلقًا جديدًا كان يزداد على الأيام والسنين قوة وازدهارًا، وكان يتقدم الفتح العربي ثم يسايره، وكان يبسط على أرجاء العالم القريبة والبعيدة سلطانه، وكان أبقى من الفتح العربي أثرًا وأقوى أصولًا وأغزر فروعًا؛ هذا الخلق الجديد هو الحضارة الإسلامية.

وفي ظل هذه الحضارة ترعرعت الإمبراطورية في القرون الأولى على نحو بهر العالم، وشد إليها الأنظار من كل جانب، وكان من أثر ذلك أن نسي الناس في أرجائها الواسعة فوارق القومية؛ ولم يذكروا إلا أنهم مسلمون، وأنهم إخوان تربط بينهم مبادئ الحرية والإخاء والمساواة المقررة في الإسلام، ويقوم الحكم بينهم على أساس من العدل والتقوى، ولهذا كانوا يُصْهِرُ بعضهم إلى بعض، يتزوج العربي من بنات فارس أو العراق أو الشام أو مصر، ويتزوج المسلمون من أهل هذه البلاد العربيات، وكذلك أقامت لُحْمَةُ الدم والنسب صِلات المودة بين المسلمين جميعًا، ومحت من نفوسهم معاني التعصب القومي والجنسي، وبثَّت في وحدة الإمبراطورية روحًا زادتها قوة، وزادت أبناءها إقبالًا على الإنتاج المعنوي والمادي، ورفعت بذلك من صرح الحضارة الإسلامية.

ظلت هذه الحال أجيالًا متعاقبة، وكان لتفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من أمم الإمبراطورية أبلغُ الأثر في توجيه حضارة العالم في الشرق والغرب، وإذ كانت القوى الدافعة لتفاعل هذه العوامل والموجهة لها بالغة السلطان، فقد استجنَّت عوامل الفرقة والضعف خلال هذه الأجيال وتقلص أثرها، فإذا بدا من هذا الأثر شيء أسرعت القوى الدافعة للقضاء عليه، وقد رأينا صورة من ذلك في مقتل عمر، على أن استجنان هذه العوامل لم يُقْضَ عليها قضاء ينتهي إلى فنائها، بل بقيت كلها في مكامنها بقاء جراثيم المرض في الجسم الصحيح، إذا حاولت النشاط أو البروز غلبتها أسباب الصحة، فردتها إلى أوكارها وخلاياها، فلم يشعر صاحبها نفسه بوجودها ولا بقدرتها على أن تنشط إذا ضعفت أسباب الصحة، وفي ظل هذه القوى الدافعة كان أبناء الشام أعوانًا للعرب المسلمين في عهد بني أمية، وكان الفرس أعوانًا أقوياء للعباسيين من قرابة رسول الله، وكان المصريون يظهرون على مسرح السياسة الإسلامية في أدق المواقف، ثم كان لظهور هؤلاء ومعاونة أولئك أثر بالغ في إسراع الإمبراطورية إلى النماء والقوة، وإلى بقائها متماسكة الأجزاء، حتى آن للزمان أن يدور دورته ويفعل فعله.

وإنما بدأت دورة الزمن حين ضعفت القوى الدافعة لتفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من أمم الإمبراطورية، تفاعلًا يزيد في نماء الإمبراطورية وفي سلطانها، ومع أن عوامل الفرقة والضعف كانت تبرز من أوكارها وخلاياها منذ العهد الأول حينًا بعد حين، فقد كانت تَرْتَدُّ ناكصةً على أعقابها، متراجعة أمام أسباب الصحة الجارية في كيان الإمبراطورية، على أنها كانت كلما ظهرت تركت وراءها أثرًا يتحدث الناس عنه حينًا، ثم لا يلبث جلال الحوادث المحيطة بهم أن ينسيهم إياه.

وكان مقتل عمر أول أثر ظاهر لبروز عوامل الفرقة من مكامنها، فلما تولى عثمان، وقضى على الفتنة التي كادت تنجم حين قتل عبيد الله بن عمر من اقتنع بأنهم ائتمروا بحياة أبيه، انصرف الناس إلى حياة الغزو والفتح وإلى تثبيت قواعد الإمبراطورية.

وبعد ست سنوات من خلافة عثمان بن عفان، عاد الخلاف القديم بين بني هاشم وبني أمية، فظهر بعد استتاره وبرز من مكمنه، ذلك أن عثمان آثر ذوي قرابته بمناصب السلطان، فَأَلَّبَ خصومه المسلمين في أرجاء الإمبراطورية المختلفة عليه، واتخذوا من تصرفاته في هذا الأمر وسيلة للتشنيع عليه، وانتهى التأليب إلى الفتنة، وكان للمسلمين المقيمين بمصر أثر أي أثر فيما أدت هذه الفتنة إليه من قتل عثمان، فلما قضى الخليفة الشيخ نَحْبَهُ، وبُويِعَ علي بن أبي طالب بالخلافة مكانه، طالب بنو أمية بدم عثمان، ثم أثاروها فتنة عمياء للثأر، وانقسم المسلمون في أرجاء الإمبراطورية: ينصر فريق بني هاشم، وفريق بني أمية.

انتهت هذه الفتنة بمقتل علي وابنه الحسين، فتولى بنو أمية أمر المسلمين ولم تصدِّع هذه الفتنة بناء الإمبراطورية، وإن هزته هزًّا عنيفًا؛ لأن هذا البناء كان متينًا قوي الأركان، ولأن عوامل الفرقة كانت لا تزال ضعيفة، إذ كانت البلاد المفتوحة لا تزال تنوء بعار هزيمتها، وبأسباب الضعف التي ورثتها عن حكامها السابقين؛ لذلك لم يلبث بنو أمية حين استقر لهم الأمر، أن عادوا يتابعون سياسة الفتح التي بدأها الخلفاء من قبلهم، فعادت عوامل الفرقة إلى مكامنها، واستمرت أمم الإمبراطورية تتعاون في تشييد الصرح العظيم، صرح الحضارة الإسلامية.

على أن هذه الفتنة طوعت للأمم المفتوحة أن تسترد حيويتها، وأن تكيف اتجاهها في ظل الحضارة الجديدة تكييفًا يكفل لأصحابها السلطان، وكان الفرس أبرع هذه الأمم وأسرعها إلى بلوغ هذه الغاية؛ فقد رأوا بني هاشم حريصين على الثأر لعلي وللحسين ولمن نكبهم فيه بنو أمية؛ فصور مفكِّرو الفرس مبدأ الإمامة والإمام تصويرًا استهوى ألباب أهل فارس والعراق، فتشيعوا لعلي وأنصاره، وظاهروا أبا مسلم الخرساني مظاهرة انتهت بانتصار العباسيين على بني أمية، وبنقل العاصمة من دمشق إلى بغداد.

استقر الأمر للعباسيين فاتخذوا من الفرس وزراءهم والمشيرين عليهم، فكان لهم في الحياة الإسلامية أثر بالغ، وحسبك لتقدر هذا الأثر أن تذكر ما حدث في هذا العهد، ففيه جُمعت الأحاديث المروية عن النبي ، ونُقلت الفلسفة الإغريقية إلى العربية، وبرع من الفرس في النثر والشعر من نقلوا إلى لغة القرآن ألوانًا من الثقافة الفارسية، وازدهرت العلوم والفنون والآداب ازدهارًا لفت أنظار العالم كله، ولقحت هذه العلوم والفنون بما أنتجته عبقرية كل واحدة من أمم الإمبراطورية، بذلك عظم مقام الحضارة الإسلامية، فوجهت العالم أجيالًا وقرونًا.

وكان من نتائج هذا الازدهار أن تعددت مذاهب التفكير وألوانه في علوم الكلام والفقه، وفي الأدب واللغة، وفي أساليب السياسة والحكم، وفي كل مظهر من مظاهر الفكر وأثر من آثاره، ونشأ عن ذلك أن استطاعت كل أمة أن تصبغ تفكيرها الإسلامي بطابعها القومي، وأن تذيع هذا التفكير في أرجاء الإمبراطورية، وأن تجد من يسيغ هذا التفكير؛ لأنه اصطبغ باللون الإسلامي وكتب باللغة العربية، بهذا استردت كل أمة شخصيتها مصبوبة في قالب عربي من قوالب الحضارة الإسلامية، وآن لكل أمة أن تصبو إلى مكان السلطان من الإمبراطورية، فإن لم تستطعه صَبَتْ إلى الاستقلال القومي تتمتع به في ظل هذه الحضارة.

وكذلك انفرط نظام الإمبراطورية، فلم تبقَ لها سياسة موحدة، غرضُها إذاعة رسالة الإسلام في الناس، وكذلك سادت الفكرة القومية في السلطان والحكم، وظلت سائدة بعد أن تغلَّب الترك على أجزاء الإمبراطورية كلها، وجمعوها من جديد بحكم الفتح، وجعلوا منها الإمبراطورية العثمانية، فقد كانت الإمبراطورية تركية قومية، ولم تكن عربية إسلامية؛ وكانت لذلك لا تجعل إذاعة الرسالة الإسلامية غرضها، بل تتخذ من الإسلام وسيلتها للمحافظة على مكانتها وعلى سلطانها.

•••

هذه لمحة سريعة أردت بها أن أظهر تفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من أمم الإمبراطورية الإسلامية، بعضها مع بعض في العصور المختلفة، وأن أبين كيف كانت سببًا في نماء الإمبراطورية وقوتها، وفي قيام الحضارة الإسلامية ورفعتها، ثم كانت سببًا في دبيب الانحلال إلى هذه الإمبراطورية، وأحسبك ترى معي أن تفصيل هذه العوامل وتحليلها، وإبراز ما ظهر وما خفي من صور تفاعلها وما حدث خلال العصور من اتصالها بغيرها من الأمم والحضارات، هذا كله ينشر في أرجاء التاريخ ضوءًا جديدًا ما أشد حاجة العالم الإسلامي، بل ما أشد حاجة العالم كله إليه!

وقد كان للكتاب العرب والمسلمين، كما كان للمستشرقين، فضل عظيم في تناول الكثير من جوانب هذا التاريخ بالبحث والتحليل، وإنني لحريص على أن أتابع الجهد لمشاركتهم في هذا المضمار، على الطريقة التي اتبعتها منذ كتاب «حياة محمد» وفي نيتي أن أجعل وجهتي في الحلقة الرابعة من هذا البحث، إلى تحليل ما حدث بين خلافة عثمان وملك بني أمية، مع تقديري لدقة هذه الفترة من حياة الإمبراطورية وجلال خطرها.

والله أرجو أن يوفقني في هذا الجهد، كما وفقني من قبل، فمنه جل شأنه الهدى وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤