الفصل العاشر

المسلمون في العراق

استقر سعد بقصر كسرى، وأقام المسلمون في دور المدائن من حول القصر ينعمون بحياة دعة ونعمة، وما لهم لا يفعلون وفي أيديهم من المغانم التي نفلوها ما يكفيهم السنين، وأقواتهم تجيئهم من البلاد المجاورة سهلة وفيرة، ودجلة يجري من تحتهم فينسيهم البادية وكثبان الرمال، والجسر الذي يصل بين سلوقية وطيسفون، ويجعل منهما هذه المدائن البارعة متنزه المترفين، جدير بأن يلهم الشاعر العربي ما ألهم مثل هذا الجسر ببغداد علي بن الجهم إذ قال:

عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري!

وكان الناس يجتمعون بسعد في قصر كسرى، فيتحدث سعد إلى ذوي العلم منهم بماضي هذه البلاد، ويذكر ويذكرون أيامًا سلفت كانت فيها مقر حضارة العالم، ففي أرجاء مختلفة منها قامت دول البابليين والآشوريين والكلدان، وكنت بعض هذه الدول تستقر بها، وكان بعضها يطرأ عليها ثم يترحل عنها، ثم تطلق كل دولة اسمها على الجانب الذي استقرت به بين النهرين: دجلة والفرات.

و«بين النهرين» اسم أطلق هو أيضًا على هذه الأصقاع من أقدم العصور؛ فكذلك كانت تسمى عهد الفراعنة الأقدمين حين امتد سلطان مصر إليها، وكذلك كانت تسمى حين خضعت لحكم الإغريق بعد حكم الفراعنة، ولا عجب أن يظل هذا الاسم باقيًا إلى اليوم، وهو يصف مواقع أرضها بين نهرين يجريان فيها بالخصب والحياة.

ولم يطلق اسم العراق على ما بين النهرين إلا بعد أن دخلت في سلطان الفرس؛ فقد زحف الفرس من سهل إيران إليها بعد أن جلا الفراعنة والإغريق عنها، فاكتسحوا البلاد إلى شواطئ دجلة وما وراءها، وأقاموا بطيسفون عاصمة ملكهم، ثم جعلوا منها ومن البلاد السبع المحيطة بها ومن سلوقية اليونانية المستقلة، تلك «المدائن» التي أقامت قرونًا تُزهَى على التاريخ بجلال عظمتها، وسعة سلطانها، وطائل ثرائها، وترف أهلها، وإذا كانت بلاد ما بين النهرين تجاور العراق العجمي، فقد غلب الفرس عليها اسمه واعتبروها جزءًا منه، كما اعتبروا سلوقية جزءًا من طيسفون، ومن يومئذ أطلق اسم العراق على هذه البلاد.

ويمتد هذا العراق الذي غلب المسلمون عليه الفرس من دلتا النهرين جنوبًا، حتى ينتهي في الشمال إلى ما دون بلاد الموصل، متاخمًا الشام من أعلاه متاخمة كان لها أثرها في تاريخ الفرس والروم، ثم كان لها أثرها في تاريخ الفتح الإسلامي، وقد أدت متاخمة العراق للشام إلى انتقال الأديان التي ظهرت بفسلطين إلى ربوعه، وإلى غزوها وثَنِيَّة اليونان ومجوسية الفرس فيه، ولذا استقرت به جالية كبيرة من اليهود، ثم انتقلت النصرانية إليه بعد انتقالها إلى الشام.

ولما كانت بلاد ما بين النهرين تجاور العرب، كما تجاور العجم، فقد نزحت إليها قبائل كثيرة من شبه الجزيرة، استقرت بها وجعلتها منازلها، كما نزحت إلى الشام قبائل كثيرة استقرت به وجعلته منازلها، فلما غزا العرب ما بين النهرين كانوا قد ألفوا العراق اسمًا لهذه البقعة من الأرض، فلم يطلقوا عليها اسمًا غيره، ثم أطلقوا اسم السواد على ما بين دجلة والفرات وما جاورهما، وليفرق المؤرخون بين هذا العراق وعراق العجم أسموا أحدهما العراق العربي، والآخر العراق العجمي.

وطبيعة الأرض في العراقين متابينة أشد التباين، فالعراق العربي سهل يجري فيه النهران، وتنتشر فيه شبكة من النهيرات والجداول والغدران، تجعل الجانب الأكبر منه أخضر يانعًا كثير الخيرات وافر الثمرات، وهو ينتهي من الشرق إلى جبل رفيع الذرى يفصل بينه وبين العراق العجمي، تتلاحق وراءه جبال وأودية تنتهي إلى سهل إيران، وقد كان هذا الجبل حاجزًا طبيعيًّا شديد المنعة، يفصل آسيا وشرقها الأقصى من هذه البلاد الواقعة في غرب آسيا، والتي كانت لذلك أكثر اتصالًا بالشعوب المقيمة حول البحر الأبيض في إفريقية وأوروبا منها بالبلاد المجاورة لها في الشرق.

وكان من أثر هذا الوضع الجغرافي الذي أتاح لقبائل العرب أن تهاجر إلى العراق وإلى الشام أن امتدت منازل الجنس العربي من خليج عدن والمحيط الهندي في الجنوب إلى أقصى الشمال من أرض العراق والشام، وأن خضعت هذه القبائل كما خضعت أرجاء كثيرة من شبه الجزيرة قرونًا طويلة لحكم فارس والروم، وها هم أولاء عرب شبه الجزيرة يغزون الدولتين العظيمتين، فيبلغون دمشق في الشام والمدائن في العراق وينزل سعد بن أبي وَقَّاصٍ قصر كسرى في عاصمة ملكه.

وأقام سعد بالعاصمة الفاتنة حتى جم وجم جنده، وما كان له أن يتعقب الفرس في بلاد العراق المترامي الأطراف فيما وراء دجلة، فلم يكن عمر قد أذن له في تعقبهم؛ لذلك لم يزد على تنطس أخبارهم وإرسال العيون من رجاله ليعودوا إليه بأنبائهم، وقد جاءته الأنباء بأن الفرس الذين فروا منهزمين بلغوا جَلُولاء، على نحو أربعين ميلًا في شمال المدائن، وأنهم رأوا الطرق عندها تفترق إلى شتى الأرجاء من إيران، فقال بعضهم لبعض: «لو افترقتم لم تجتمعوا أبدًا، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نحب، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبدينا عذرًا.» وجاءته الأنباء كذلك بأن يَزْدَجِرْد اجتمع إليه وهو في طريقه إلى حلوان رجال وأعوان وجنود من شتى البلدان، فأمر عليهم مهران ووجهه معهم إلى جَلُولاء، وأقام بمقره الجديد يمدهم بالرجال والأقوات، واجتمع هؤلاء وفلال المدائن واحتفروا حول المدينة خندقًا عظيمًا أحاطوه بحسك الحديد، وأقاموا بها العَدد والعُدد وآلات الحصار وتواثقوا وتعاهدوا ألا يفروا، وأن يفنوا المسلمين عن آخرهم ويجلوهم عن بلادهم.

جاءت هذه الأنباء سعدًا وهو في مقره بقصر كسرى، فبعث بها إلى عمر بالمدينة، وكتب عمر إليه أن سرح هاشم بن عُتْبَةَ إلى جَلُولاء في اثني عشر ألفًا، واجعل على مقدمتهم القَعْقَاع بن عمرو، وعين له من يكونون على الميمنة والميسرة والساقة بأسمائهم، وكان الجند قد جم واستراح، وتحركت في نفسه الحماسة للقتال، بعد أن قضى بالمدائن أشهرًا استمتع فيها بما فتح الله وأفاء عليه من مغانم طائلة لا عهد له بمثلها،١ وبلغ هاشم جَلُولاء، فألقى الفرس متحصنين بها، مستميتين في الدفاع عنها، فحاصرها، ولم يكن الحصار وحده ليحملها على التسليم، فقد كانت الأمداد تجيء تباعًا من حلوان، كما كانت الأمداد تجيء إلى المسلمين تباعًا من المدائن؛ لذا طال الحصار ثمانين يومًا كان الفرس يخرجون في أثنائها للقاء المسلمين ثم يرتدون إلى حصونهم منهزمين، وأيقن الفرس أنهم إن أقاموا على ذلك ذهبت شوكتهم، ولم يغن عنهم أنهم أضعاف جند المسلمين عددًا؛ لذا أمرهم قائدهم مهران يومًا فصبحوا المسلمين بأهول الحرب، يقول ابن كثير: «فاقتتلوا قتالًا شديدًا لم يعهد مثله حتى فنى النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات،٢ وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءً، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القَعْقَاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم! إنا كالُّون وهم مريحون، فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم! فحمل وحمل الناس، فأما القَعْقَاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه.» ورأى القَعْقَاع الناس يتحاجزون لإقبال الليل فنادى مناديه «أين أيها المسلمون! هذا أميركم على باب خندقهم، فأقبلوا عليه ولا يمنعنكم من بينكم وبينه من دخوله!» وحمل المسلمون وقاتلوا عدوهم قتالًا أذكرتهم شدته ليلة الهرير إلا أنه كان أعجل، فلما انتهوا إلى باب الخندق ورأوا القَعْقَاع قد أخذ به، ورأوا الفرس ينهزمون أمامهم يمنة ويسرة إذ يحول الخندق بينهم وبين الارتداد إلى المدينة، عند ذلك أخذهم المسلمون من كل وجه وقعدوا لهم كل مرصد، حتى لقد قتل منهم في ذلك الوقت مائة ألف رجل، وفر من بقي منهم يريدون حلوان، فاتبعهم القَعْقَاع فأدرك مهران بخانقين فقتله، وفر الفيرزان على فرسه ينهب الأرض إلى حلوان، فذكر ليَزْدَجِرْد مصيبة جَلُولاء، ففر يَزْدَجِرْد إلى الري، وقدم القَعْقَاع حلوان، فخرج إليه حماتها فقاتلوه قتالًا شديدًا، ثم انهزموا أمامه، ودخل المسلمون فغنموا وسبوا وضربوا الجزية عليها وعلى ما حولها من الكور والأقاليم.

وكتب سعد إلى عمر بفتح جَلُولاء وبالغنائم العظيمة التي غنمها المسلمون فيها، وبنزول القَعْقَاع حلوان، واستأذنه في مطاردة الفرس داخل بلادهم، لكن عمر آثر الحذر فخالف بطل القادسية وفاتح المدائن عن رأيه، وكتب إليه يقول: «وددت لو أن بين السواد والجبل سدًّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد! إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.»

كان هذا الرأي الذي رآه عمر كله السداد، وليس يقف سداده عند إيثار سلامة المسلمين على كل ما سواها، بل يتخطى ذلك إلى أن المسلمين لم يكونوا قد أمنوا العراق واطمأنوا إلى حياة الاستقرار فيه، فقد كان شماله لا يزال مخشي الانتقاض، مع انتصار المسلمين بتكريت والموصل وهيت وقرقيسياء، وذلك بعد فتح المدائن، وكان جنوبه على مثل هذه الحال مع إخضاع المسلمين إياه قبل المدائن وبعدها، فليس من بعد النظر في شيء أن يدفع المسلمون جنودهم إلى جبال إيران وإلى ما وراء هذه الجبال من سهول مترامية الأطراف، فإذا انتفض العراق من بعد، كما انتفض قبل نزول سعد به وانتصاره الحاسم فيه، لم يكن التغلب عليه أمرًا يسيرًا، ومن الخير أن يتخذ المسلمون جبال إيران حدًّا فاصلًا بينهم وبين الفرس، وأن يفرغوا للقضاء على كل أثر للانتقاض بالعراق، ليفرغوا بعد ذلك إلى تنظيم الحكم فيه.

هذا، ثم إن سياسة عمر كانت إلى ذلك العهد سياسة عربية ترمي إلى ضم الجنس العربي الممتد من المحيط الهندي إلى شمال العراق والشام في وحدة يكون السلطان فيها لشبه الجزيرة، بل يكون السلطان فيها للمدينة، وحسبه أن تطمئن هذه الربوع جميعًا لوحدتها تحت هذا السلطان، وأن تكفل فيها حرية الدعوة لدين الله بالحجة والموعظة الحسنة، وأن يكون بينها وبين الفرس والروم من حسن الجوار ما يذهب عن العرب والمسلمين الروع، والله مظهر بعد ذلك دينه على الدين كله ولو كره الكافرين.

لم يكن لسعد إلا أن ينزل على رأي أمير المؤمنين وحكمه، وقد أرضى هذا الرأي الأبطال والجند بعد إذ رأوا القوات تسير بين حين وحين تقمع كل انتقاض يحدث في أنحاء السواد، وبعد إذ وقع لهم من مغانم القادسية والمدائن وجَلُولاء أضعاف ما كانوا يطمعون فيه، فلم يكن حظ المحارب من مغانم جَلُولاء دون حظه من مغانم المدائن، كان المال الذي أصابوه منها ثلاثين ألف ألف، فيه من النفائس والتحف ما حمله الذين فروا من المدائن، ثم إنهم أصابوا من الدواب وعدة الحرب ما لم يدع الفرس شيئًا منه بالعاصمة، كما أنهم سبوا بجَلُولاء ولم يقع لهم بالمدائن سبي، فلما قسم سعد هذا الفَيْء العظيم أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب غير من كان له حظ في السبايا ومن بينهن من نشأن في الدلالة والنعمة، فأعجزتهن هذه النشأة عن الفرار في الجبال والسهول.

وبعث سعد بأخماس هذا الفَيْء إلى المدينة مع جماعة فيهم زياد بن أبي سفيان، فلما قدموا على عمر وصف زياد فتح جَلُولاء وحلوان في بلاغة وبراعة وصفًا دفع عمر إلى أن يقول له: «هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به؟» وأجابه زياد: «نعم يا أمير المؤمنين! فوالله ما على وجه الأرض رجل أَهْيَبَ في صدري منك، فكيف لا أقوى على ذلك مع غيرك!» وقام فقص على الناس خبر الواقعة وفعال أبطال المسلمين فيها وكم قتلوا من الفرس، وما أصابوا منهم، كل ذلك في عبارة قوية أخَّاذة بمجامع القلوب، وأعجب عمر به فقال: هذا والله الخطيب المِصْقَع! ومست هذه التحية قلب زياد فقال: «إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.»

وأشار بعض أصحاب الرأي على أمير المؤمنين أن يجعل الفَيْءَ في بيت المال، فقال: والله لا يجنُّه سقف بيت حتى أقسمه! وبات الفَيْء في صحن المسجد وعليه عبد الرحمن بن عَوْفٍ وعبد الله بن أَرْقَمَ يحرسانه، فلما أصبح عمر وصلى بالناس الغداة وطلعت الشمس أمر فَكُشِفَ عن الفيء، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره وذهبه وفضته بكى، فقال له عبد الرحمن بن عَوْفٍ: «ما يُبكيك يا أمير المؤمنين؟! فوالله إن هذا لَمَوْطِنُ شكر!» قال عمر: «والله ما هذا يبكيني! وتالله ما أعطى الله قومًا هذا إلا تَحَاسدوا وتباغضوا، وما تحاسد قوم إلا أُلقي بأسُهم بينهم.»

نقف هنيهة عند هذه الكلمة الحكيمة، فلم يكن العرب يعرفون الكسب الهين قبل أن ينهال عليهم هذا الفَيْء العظيم من كل صوب، بل كانوا يسعون في مناكب الأرض يبتغون من رزق الله، فينال كل منهم جزاء عمله على قدر حظه، كانوا يذهبون بالتجارة رحلتَيِ الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام يحتملون ما يُصيبهم من مشقة الطريق ومن عادية المعتدين، وكانوا يحمون القوافل التي تسير بين الغرب والشرق تحمل ما تحمل من أموال، لقاء أجر يتعرضون في سبيل اقتضائه لقتال من تحدِّثهم أنفسهم بسلب هذه القوافل، وكانوا لذلك يلقون العناء في ما ينالون من أسباب العيش ومُتَع الحياة، وها هم أولاء اليوم يغنمون من الحروب ما شاء الله أن يغنموا، ويُجْبَى إليهم من الخيرات ما شاء الله أن يُجْبَى، فما عسى أن يؤدي إليه ذلك الانقلاب الخطير في حياتهم الاقتصادية؟! لا عجب أن ينتهي بهم إلى الدَّعَة وحب الترف، والدَّعَة تدعو إلى التحاسد والبغضاء إذ يريد كل أن ينال الحظ الأوفر ويزداد به ترفًا ونعمة، والناس إذا استناموا للدعة لانَتْ قناتهم، وإذا تباغضوا ذهبت ريحُهم، أين ذلك مما يدعو الله إليه من إخاء وتعاون وتساند ليكون أبناء الأمة عزًّا للأمة، وليكونوا أعوانًا للحق الذي أوحاه الله إلى رسوله ينصرونه ويعزِّزونه! وقد خشي عمر ما تؤدي إليه الدَّعَة من لين وتباغض فبكى، وكأنما رأى خلال الغيب ما خطَّه القدر في لوحه لهذه الأمة التي بايعته فعزَّت به وعزَّ بها، وأسالت النُّضَارَ بفعالها في صحاري شبه الجزيرة الجرداء.

وقسم عمر هذا الفَيْء الذي أبكاه بين الناس على ملأ وتَشَاوُرٍ وإجماع من المسلمين، ونَفَلَ من ذلك بعض أهل المدينة، وقد صنع في هذه القسمة ما صنعه حين قسم الفَيْء الذي بعث به سعد على إثر غزوة القادسية.

حضر زياد بن أبي سفيان قسمة هذا الفيء، ثم رجع إلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ بكتابِ عمر وأمْرِه ألَّا يُطارِدَ الفرس داخل بلادهم، وقرأ سعد الكتاب فأكبر حكمة أمير المؤمنين، ذلك أنه يوم كتب إلى عمر باجتماع الفرس بجَلُولاء وإمداد يَزْدَجِرْدَ إياهم بالقوات من حُلوان، كتب إليه كذلك بأن أهل الموصل من الروم اجتمعوا بتَكْرِيتَ على دجلة إلى شمال المدائن، وأن كثيرين من نصارى العرب من إياد وتَغْلِب والنَّمِر انضموا إليهم ومالَئُوهم على مقاومة المسلمين، وكتب إليه عمر، فبعث عبد الله بن المُعْتَمِّ إلى تكريت في خمسة آلاف، ساروا إليها وحاصروها أربعين يومًا، وأرهق الحصار المدافعين عن المدينة، فعزم الروم على الفرار في السفن بأموالهم، وعرف ابن المُعْتَمِّ نبأهم، فراسل العرب النصارى يدعوهم إلى الإسلام وإلى نُصْرته على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلما أجابوه إلى ما طلب ألقى إليهم أن يأخذوا أبواب المدينة المؤدية إلى السفن على الروم، فإذا خرجوا ليركبوها قتلوا منهم من قدروا على قتله، وحمل المسلمون على المدينة، وكبَّروا وكبر الأعراب من الجانب الآخر، فاضطرب الروم وأخذوا في الخروج من الأبواب، فأخذتهم سيوف المسلمين من أمامهم وسيوف الأعراب الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم، لم يُفلت منهم أحد، عند ذلك جرد عبد الله بن المُعْتَمِّ رِبْعِيَّ بن الأَفْكَل العنزي ليسير إلى الموصل، تنفيذًا لعهد عمر في كتابه إلى سعد، وسار ابن الأفكل مسرعًا ومعه من أسلم من إياد والنمر وتغلب، ففجأ الحِصْنَيْنِ نِينَوَى والموصل قبل وصول أنباء تكريت إليهما، وأراد مَنْ بالحصنين المقاومة، فلما عرفوا ما أصاب تكريت أجابوا إلى الصلح والجزية، وقُسمت مغانم تكريت فبلغ نَفَل الفارس ثلاثة آلاف ونفل الراجل ألف درهم.

بلغت هزائم الروم بتكريت والموصل سمع إخوانهم بالشام، وكانوا يَلْقَوْنَ من بأس خالد بن الوليد وأبي عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ ما سنقص نبأه بعد حين، فتولاهم الفزع أن يبلغ المسلمون بالعراق تُخوم الشام فيأخذوهم من خلفهم، على حين يقاتلهم خالد وأبو عُبَيْدَةَ يدفعونهم متراجعين إلى تلك التخوم، بذلك يحصرون فلا يجدون ملجأ إلا الإذعان والتسليم؛ لذا بعثوا إلى أهل الجزيرة الموالين للروم يَسْتَعْدونهم على مَنْ عندهم من المسلمين، وبلغت أنباؤهم هذه سعدًا حين رجع هاشم بن عُتْبَةَ منتصرًا من جَلُولاء، كما بلغه أن جندًا عظيمًا من أهل الجزيرة اجتمعوا بمدينة هِيت على شاطئ الفرات، فأرسل إليهم بأمر عمر جيشًا جعل عليه عمرو بن مالك، وألفاهم عمرو تحصنوا بالمدينة وحفروا خندقًا حولها، فخلف الحارث بن يزيد على حصارهم بعد أن تبين مَنَعَة موقفهم، وسار هو شمالًا إلى قَرْقيسياء عند ملتقى الفرات والخابور على تخوم ما بين العراق والشام، فأخذها عَنْوَة على غرة من أهلها فأجابوه إلى الجزية؛ ثم كتب إلى الحارث بن يزيد أن يُخَلِّي عن الجنود الذين تحصنوا بهيت إذا هم خرجوا منها، وإلا حفر حول خندقهم خندقًا وجعل أبوابه من ناحيته، وبعث الحارث إلى هيت بما عزم من ذلك، فأيقنوا أنه الحصار حتى الموت، فأذعنوا وانصرفوا عن المدينة واحتلها المسلمون.

عرف سعد أنباء هيت وقرقيسياء وانتصار جنوده فيهما، فازداد إيمانًا بحكمة عمر إذ أمره ألا يتعقب جنود يَزْدَجِرْد في جبال فارس وسهولها، فلو أنه تعقبهم بقواته ثم انتقض العراق أو حاول الفرس إثارته لتعذر عليه قمع الفتنة فيه، ولقد بلغه بعد انتصار هاشم بجَلُولاء أن قوات الفرس اجتمعت بماسبذان على تخوم ما بين العراق العربي من الشرق وفارس من الغرب، فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش قاتلهم بسهل ماسبذان، فهزمهم وقتل قائدهم، ثم طردهم إلى مدينة ماسبذان فاستولى عليها عَنْوَة ورأى أهلها فروا في الجبال، فدعاهم فاستجابوا إلى الجزية، فأقرهم في مدينتهم.

أدى انتصار هذه الحملات المتلاحقة في شمال العراق وشرقه إلى خضوع أهله لسلطان المسلمين وإذعانهم لأمرهم، وقد أذعن جنوب العراق قبل أن يذعن شماله وشرقه؛ ذلك بأن أهله رأوا بأس المسلمين منذ غزاهم خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة في عهد أبي بكر، وقد انتقض هذا الجنوب على سلطان المسلمين حين انتقض العراق كله على هذا السلطان، فلما وجه عمر سعد بن أبي وَقَّاصٍ إلى القادسية وجه عتبة بن غزوان لغزو الجنوب، فسار ومعه عرفجة بن هرثمة البارقي إلى الأُبلَّة، على مقربة من موقع البصرة اليوم، فاستردها من الفرس بعد قتال ظل سجالًا أسابيع عدة، وكانت الأبلة يومئذ مرفأ ترسو به السفن القادمة من الصين والهند والذاهبة إليهما، وكان به من الهنود المشتغلين بالتجارة عدد كبير، وحمل أهل الأبلة ما خف من متاعهم، وخرجوا منها حين انهزم المدافعون عنها، ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه، ثم عبر عتبة النهر على أثر الجيش المنهزم وتعقبه، واستولى على دست ميسان وأخذ مرزبانها أسيرًا بعث بمنطقته إلى المدينة، وعرف عمر ممن حمل المنطقة إليه أن العرب بالعراق شغفوا بأنعم الدنيا حبًّا، فخشي مغبة ذلك عليهم، ودعا إليه عتبة يسأله عما أصابهم، واستخلف عتبة مجاشع بن مسعود على الجيش والمغيرة بن شعبة على الصلاة، فلما عرف عمر استخلافه مجاشعًا أظهر الغضب منه وقال له: تستعمل رجلًا من أهل الوبر على أهل المدر! أتدري ما حدث؟ وذكر له أن المغيرة بن شعبة هزم الفرس بالمرغاب، وأنه برغم انتصار مجاشع بالفرات؛ قد أسند أمر الجند إلى المغيرة، حتى لا يكون لبدوي إمارة على قرشي أو على رجل من أصحاب رسول الله.

لم يكن انتصار المغيرة على الفرس يسيرًا؛ فقد اشتد القتال وتداوله الفريقان واستمات فيه الفرس، وإنهم لكذلك إذ رأوا كتيبة حسبوها مددًا للمسلمين فانهدت قوتهم فانهزموا، ولم تكن هذه الكتيبة إلا نساء المسلمين خرجن من أخبيتهن، واتخذن من خمرهن رايات وسرن بها يردن معاونة الرجال.

وأمر عتبة بالعودة إلى عمله، فاستعفاه من ذلك فأبى، وإن عتبة لفي طريقه إلى العراق إذ وافاه أجله، فظل المغيرة على إمارة الجند مكانه.٣

•••

اطمأن الأمر للمسلمين في العراق فآن لهم أن يفكروا في نظامه وفي موقفهم منه، أتراهم يتركونه مكتفين بأن يتركوا فيه من رجالهم من يفقهون أهله الذين أسلموا في دينهم، ومن يحصلون الجزية ممن لم يسلموا؟ ذلك ما كان يفعله رسول الله حين كان الناس من قبائل شبه الجزيرة ومن مدنها يعلنون إسلامهم، وكان يبعث إليهم من يفقههم في دينهم، ومن يقبض منهم الزكاة، ترى لو أن عمر فعل ذلك بالعراق أفكان يأمن العاقبة؟ إن رسول الله لم يكن غزا القبائل ولم يكن فتح المدن التي أسلمت، اللهم إلا مكة والطائف، مع ذلك انتهز المرتدون في أرجاء شبه الجزيرة أول فرصة فأعلنوا تمردهم قبيل وفاته، ثم انتشرت الرِّدَّة حين بيعة أبي بكر كما تنتشر النار في الهشيم، هذا وأهل شبه الجزيرة كانوا عربًا، فلم يكن سلطان المدينة ليثقل عليهم، ولم تكن نفوسهم لتنفر منه كما ينفر غير العرب، طبيعي وقد أدت ردة العرب إلى ما عرفت من حروب أن يخشى عمر تمرد الفرس من أهل العراق ولم يكن أكثرهم قد أسلموا، بل تمرد عرب العراق أنفسهم من أسلم منهم ومن بقي على دينه، فقد ألف هؤلاء جميعًا سلطان الحيرة وسلطان المدائن وما كان يحيط بهذا السلطان من نعمة ورفاهية، كما ألفوا لونًا من الحياة فيه ترف لا يتفق في كثير والحياة العربية في شبه الجزيرة، ولا يتفق في كثير وتعاليم الدين الذي أوحاه الله إلى النبي العربي، فلو أنهم تركوا وشأنهم لكانوا أدنى من عرب شبه الجزيرة إلى التمرد، وعمر أبعد نظرًا وأشد حذرًا من أن يدع الفتنة يذر قرنها في بلاد فتحها، وهي بعد تجاور شبه الجزيرة وقد يمتد إليها من هذه الفتنة شرر ما أغنى أمير المؤمنين عن التقدير لنتائجه.

لم يكن ذلك وحده ما يخلق بعمر أن يخشاه، فلو أنه أمن تمرد أهل العراق إذا تركهم وترك معهم من المسلمين من يفقه الذين أسلموا منهم في دينهم لوجب عليه أن يحسب الحساب للفرس الذين انهزموا أمام جيوشه إلى ما وراء جبالهم، لقد تمنى لو أن بينه وبينهم جبلًا من نار فلا يخلص إليهم ولا يخلصون إليه، ولكن هذا الجبل لم يكن موجودًا، وليس عجبًا أن يفكر الفرس الذين انهزموا إلى سهول إيران في الرجعة إلى العراق ليثأروا لأنفسهم وليستردوا ما ضاع منهم، كما فعلوا بعد أن استولى خالد بن الوليد على الحيرة والأنبار ثم فصل إلى الشام مددًا لجند المسلمين فيه، وثأر الفرس لأنفسهم أدنى إلى النجاح إذا انسحبت قوات المسلمين من العراق، أما إن بقيت به وعززت مراكزها فيه فسيتردد الفرس طويلًا قبل التفكير في الثأر؛ فإذا أقدموا عليه كانت جيوش أمير المؤمنين في منعة وقوة وعدة للقائهم والقضاء عليهم وردهم إلى ما وراء جبالهم، بل كانت في عدة للتقدم في سهولهم والاستيلاء على بلادهم، كما استولت على العراق وأزالت عنه سلطانهم.

لم يغب هذان الاعتباران عن تقدير عمر، بل لعلهما لم يكونا موضع تفكيره؛ لأنهما بديهيان، ولأن عمر يوم عزم متابعة الغزو في العراق لم يكن يقصد من غزوه إلى إجلاء الفرس عنه وتركه بعد ذلك وشأنه، وإنما كان قصده أن يضم العراق وأن يضم الشام إلى هذه الوحدة العربية الممتدة من خليج عدن والمحيط الهندي وخليج فارس في الجنوب إلى أقصى الشمال من بادية الشام؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يلي الظافرون بالعراق أمره، وأن يطمئنوا إلى الاستقرار به، وأن يتولوا تنظيم الحكم فيه، أفيقيمون هذا النظام على نحو ما كان الروم والفرس يصنعون في البلاد التي يفتحونها؟ أم ماذا عسى أن يكون النظام الذي يقرره عمر في البلاد المفتوحة للإمبراطورية الإسلامية الناشئة؟

لو أن أمير المؤمنين قدَّر لإرضاء جنده الظافر بالعراق لسار على خطة الفرس والروم ولجعل لهذا الجند كل شيء، ولما ترك لأهل البلاد إلا الفتات الذي يفيض عن هذا الجند، كما أن دهاقين الفرس لم يكونوا يتركون للفلاحين الذين يعملون في أرضهم إلا الفتات الذي يفيض عنهم، وقد غنم جنود المسلمين في القادسية والمدائن وجَلُولاء وغيرها من الوقائع ما لم يكونوا يحلمون بمثله، وقد رأوا من خيرات العراق في شتى أرجائه ما يغريهم بعيش نعمة وترف يستمتعون بما يشاءون منه في ظلال سيوفهم، وأنت تذكر ما قاله خالد بن الوليد لجنوده يوم انتصر بالولجة أول عهد المسلمين بغزو العراق، لقد قام يومئذ فيهم وقال لهم: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب! والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثَّاقل عما أنتم عليه.»

وأين طعام الولجة من طعام المدائن! وأين ثراء الفرات من ثراء دجلة! وأين عظمة الحيرة وجلال الخورنق والسدير من عظمة قصر كسرى ومقر ملكه وعرشه! والمسلمون هم اليوم سادة هذا الثراء والناعمون به، وهم اليوم في أوج نصرهم، أفلا يجدر بعمر أن يرضيهم ويجعل لهم من أنعم العراق ما كان يجعله كسرى لجنوده الظافرين، وما كان يجعله قيصر لجنوده الظافرين!

إلى هذا الأمر اتجه عمر بتفكيره، وفيه جعل يشاور أصحابه، وكان أول ما دار بخاطره أن ذكر أوامر أبي بكر إلى قواده يوم وجههم إلى العراق يفتحونه، لقد كان العرب في العراق يعملون فلاحين في أرضه، ثم ينالهم القليل من خيره؛ أما وافر الخير فيذهب إلى الدهاقين الفرس الذين كانوا يسومون العرب الخسف والظلم، وقد أمر أبو بكر قواده ألا ينالوا هؤلاء الفلاحين العرب بسوء، لا يقتلون منهم أحدًا ولا يأخذون منهم أسرى، ولا يسيئون إليهم في أمر يتصل بهم، وهذه السياسة كلها الحكمة لا ريب ويجب اتباعها مع فلاحي العراق جميعًا، عربهم وغير العرب، ويجب أكثر من هذا أن يشعر الفرس أنفسهم، ممن لم يقاوموا الفاتحين ولم يقوموا في وجوههم أن الحكم الجديد لم ينل مصالحهم المادية بأذى، ولم يصبهم في أشخاصهم وأهليهم بسوء، يتساوى من هؤلاء من أقاموا بأرضهم، ومن فروا فزعًا من القتال ثم عادوا إلى أرضهم آمنين وحسب الأمير المسلم أن يقتضيهم خراجًا أو جزية لا ينوءون بأيهما، بهذا، وبإقامة العدل بين الأهلين يطمئن المحكومون ويستريحون إلى سلطان المسلمين.

على أنه يجب أن يشعروا كذلك بأن للحاكمين من القوة والبأس ما يحطم كل خيال للانتقاض يمكن أن يداعب خواطرهم باسم الإباء الذاتي أو العزة القومية، ويجب لذلك أن تكون للفاتحين مدن خاصة بهم، لا يشاركهم أحد من المحكومين في مساكنها، بل يستأثرون بها، ويجتمع جندهم فيها، ثم يكون هذا الجند على أهبة للقتال في كل وقت، بهذا يأمن المسلمون ثورة العراق بهم، ويأمنون تفكير الفرس في الثأر لأنفسهم، ويطمئنون إلى سلطانهم، وإلى أنهم قادرون في كل حين أن يحافظوا عليه عزيزًا كريمًا.

هذه هي السياسة التي استقر عندها رأي عمر بعد مشورة أصحابه، وقد أعانت الحوادث على تنفيذها في هوادة لا تثير هواجس أهل العراق ولا هواجس الفرس، ولا تشعر المسلمين الفاتحين بأنهم حرموا مغانم الفتح، ذلك لأن جو مدن العراق أضر بصحة الجند المسلمين، قدمت وفود الجند على عمر من جَلُولاء وحلوان وتكريت والموصل يذكرون له الفتح والمغانم، فلما فرغ من النظر في حاجاتهم قال لهم: «والله ما هيئتكم بالهيئة التي أبدأتم٤ بها! ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما أبدءوا فما غيركم؟» قالوا: «وخومة البلاد.» وبعث إلى سعد بالمدائن يسأله عما غير ألوان العرب، فأجابه بمثل ما قالوا، وكان حذيفة بن اليمان مقيمًا بالمدائن مع سعد، وكان قد كتب إلى عمر قبل مجيء الوفود إليه يقول: «إن العرب قد رقت بطونها، وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها.» وخشي الخليفة ما يجره ذلك على المحاربين من ضعف، فكتب إلى سعد يقول له: «إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث رائدًا يرتاد لهم منزلًا بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.» وإنما أراد عمر بهذا الكتاب أن يحقق غرضين؛ أولهما: أن يكون المكان الذي يختار لمقام هؤلاء العرب جافًّا كالبادية، تجري مع ذلك فيه المياه الصالحة، والثاني ألا يحول بحر أو جسر دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين بهذا المكان إذا احتاجوا يومًا إليه، وكان حذر عمر يجعله يرى البحر مركبًا ذا خطر، ويرى لذلك ألا يفصل بينه وبين جنده ما يعرض المدد الذي يبعثه إليه لأي خطر.

واستقدم سعد عبد الله بن المُعْتَمِّ من الموصل والقَعْقَاع بن عمرو من جَلُولاء، وبعثهما يرتادان المكان الصالح لمقام العرب كما وصفه أمير المؤمنين، وسأل عمر من حوله بالمدينة ممن لهم علم بمواقع العراق أيعرفون مكانًا بهذه الصفة، واتفق رأي الجميع على أن موضع الكوفة على مقربة من الحيرة خير المواقع، فالكوفة كالحيرة تقع على الفرات في مكان نضارة وخضرة، وهو غير بعيد مع ذلك عن الصحراء، وسار سعد من المدائن إلى موقع الكوفة فاختار أعلى مكان منها وأمر أن يُبنى المسجد عليها، وأن يُترك حوله فناء فسيح قدر مرمى السهم من أوسط المسجد يكون سوقًا للبيع والشراء، وأقيم المسجد وبُنيت له ظلة مائتا ذراع من أساطين رخام اتخذت من قصور للأكاسرة تشبه سماؤها سماء الكنائس الرومية، وأُحيط صحن المسجد بخندق لئلا يقتحمه الناس ببنيان، وبُني معمار فارسي من آجر مباني الأكاسرة دارًا لسعد بحيال المسجد، جعلت فيها بيوت الأموال، وسميت قصر سعد، وأقام الجند منازلهم حول فناء المسجد، فاختارت كل قبيلة مكانًا نزلته وجعلت به خيامها، فلما استقر الناس كتب سعد إلى عمر يقول: «إني قد نزلت بالكوفة منزلًا فيما بين الحيرة والفرات بريًّا وبحريًّا ينبت الحلفاء والنصى، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة.»

وطاب مقام الناس بالكوفة، ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، فأستأذنوا عمر في أن يقيموا منازل من القصب تكون أكثر من الخيام ثباتًا، فأذن في كتاب يقول فيه: «إن المعسكر أشد لحرمكم وأذكى لكم، وما أحب أن أخالفكم.» ولم يلبث الناس حين قرئ عليهم كتاب عمر أن ابتنوا منازلهم من القصب وأقاموا بها، ثم وقع الحريق في هذه المنازل فالتهمها، فأمسى أصحابها دون مأوى، أيعودون فيقيمون بالخيام؟ ذلك ملجأ لا غنى عنه ليقي الناس العراء، لكنهم ألفوا المنازل فلم يبقَ لهم على المقام بالخيام صبر؛ لذلك بعثوا إلى عمر يذكرون له خبر الحريق ويستأذنونه في البناء باللبن، فأذن لهم وقال «افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة.» وكذلك قامت منازل الكوفة وأقام الناس بها، وجعلت تنازع الحيرة مكانتها حتى نزعتها عنها، وجعلت عاصمة اللخميين أدنى إلى قرية تقوم إلى جانب هذا البلد الذي صارت في سنوات عاصمة ذات شأن في التاريخ الإسلامي.

استقر سعد بالكوفة، فزاد في قصره بابًا جعل له ظلة؛ لأن غوغواء الناس بالسوق كانت تمنعه من الحديث، وادعى بعضهم أن سعدًا قال لمعماره: سكن عني الصوت، وبلغ ذلك عمر وأن الناس يسمون الدار قصر سعد، فسرح محمد بن مَسْلَمَةَ إلى الكوفة وقال له: «اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك.» وقدم ابن مَسْلَمَةَ الكوفة، وبلغ نبؤه سعدًا فاستدعاه، فأبى أن يدخل القصر، فخرج هو إليه وعرض عليه نفقة، فأبى أن يأخذها ورفع إليه كتاب عمر فإذا فيه: «بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابًا، إنه ليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلًا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابًا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت.» فلما تلا سعد ما في الكتاب حلف إنه ما قال الذي قالوا، واقتنع ابن مَسْلَمَةَ بصحة يمينه، فعاد أدراجه، فقص على عمر الخبر كله، وقال له عمر: «فهلا قبلت من سعد؟!» قال ابن مَسْلَمَةَ: لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه، وأجابه عمر: «إن أكمل الرجال رأيًا من إذا لم يكن عند عهد من صاحبه عمل بالحزم أو قال به ولم ينكل.» وعذر أمير المؤمنين سعدًا وأقره.

بنيت البصرة في الوقت الذي بنيت فيه الكوفة وبنيت على مقربة من الأبلة في دلتا النهرين متصلة بالخليج الفارسي، وكان ذلك في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، الرابعة من خلافة عمر، وفي رواية أن البصرة أقيمت قبل الكوفة، وإن لم تُبْنَ دورها باللبن حتى بنيت به دور الكوفة، ذكر البلاذُري أن عتبة بن غزوان غزا الأبلة في السنة الرابعة عشرة للهجرة، فلما فتحها كتب إلى عمر: إنه لا بد للمسلمين من منزل يشتون فيه إذا شتوا، ويسكنون فيه إذا انصرفوا من غزوهم، وأجابه الخليفة: أن اجمع أصحابك في موضع واحد، ولكن قريبًا من الماء والمرعى، واكتب إليَّ بصفته، واطمأن عمر إلى موقع البصرة حين وصفه له عتبة، فنزلها الناس فبنوا مساكن بالقصب، وبنى عتبة مسجدًا من قصب كذلك، وكان الناس إذا غزوا نزعوا القصب وحزموه، فإذا رجعوا من الغزو أعادوا بناءه، ثم إن الحريق التهم الكوفة، فأذن عمر فبنى أهل البصرة كما بنى أهل الكوفة باللبن، وصارت البصرة من بعد ثغر العراق على الخليج الفارسي، فبنيت مساكنها بالحجارة، وأقيم بها مسجد من أفخم المساجد ثم كان لها في تاريخ الإسلام مثل ما كان للكوفة من أثر.

ليس من شأننا ونحن نؤرخ لعهد عمر أن نعدوه لنذكر ما قامت به كل من المدينتين من بعده، وحسبنا أن نشير إلى أنهما تركتا، في تاريخ اللغة والأدب والفقه والثقافة الإسلامية، مذاهب ما زال أثرها يُذكر إلى اليوم، وقد كان بين المدينتين من التنافس في ذلك كله مثل ما كان بينهما من التنافس في توجيه سياسة الدولة العامة وسياستها بالعراق خاصة، وقد بدأت كل مدينة منهما تتبوأ مكانتها في عهد عمر، وكان ذلك طبيعيًّا؛ إذ كانت الكوفة عاصمة العراق، وكانت البصرة ثغره الأول، وإذ استأثر أهل شبه الجزيرة بالمدينتين كما قدمنا، فهاجر أهل الجنوب من اليمن وما جاورها إلى الكوفة، وهاجر أنصار المدينة وأهل الشمال إلى البصرة، وقد كان لهذه الهجرة في غزوة فارس من بعد أحسن الأثر.

على أي الموارد كان يعتمد أهل المدينتين لحياتهم بعد إنشائهما؟ لقد اطمأن الأمر بالعراق كله زمنًا قبل أن تعود قوات المسلمين لقتال يَزْدَجِرْد وجنوده بفارس فتغنم منهم الغنائم، ولم يكن العرب أهل زراعة ليعتمدوا على عملهم في أرض العراق، أفكانوا يغصبون الفلاحين فيه ثمرات كدهم كما كان يصنع دهاقين الفرس من قبل؟!

يتعدى الجواب على هذا السؤال أمر الكوفة والبصرة وما كان يعتمد عليه أهلهما في حياتهم إلى ما كانت قوات المسلمين بالمدائن وجَلُولاء وتكريت والموصل وشتى أرجاء العراق تعتمد عليه لحياتها، لقد ذكرنا من قبلُ أن عمر اتجه بسياسته إلى ما اتجه إليه أبو بكر قبله، فأمر قواده وجنوده ألا ينالوا الفلاحين في العراق بأذى، وأن يقيموا بين أهله جميعًا عدلًا يطمئنون معه إلى سلطان المسلمين فيه، وحسب الأمير المسلم أن يقتضيهم خراجًا أو جزية لا ينوءون بأيهما، فلما فتحت جَلُولاء كتب سعد إلى عمر في أمر الفلاحين، من فر منهم ومن أقام، وكان قد فر منهم بضعة وثلاثون ومائة ألف يتألف منهم بضعة وثلاثون ألف بيت، فكتب إليه عمر:
أن أقر الفلاحين على حالهم إلا من حارب أو هرب منك إلى عدوك، وأجر لهم ما أجريته للفلاحين قبلهم، وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم، أما من سوى الفلاحين فذاك إليكم ما لم تغنموه — أي تفتحوه — ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلاها فهي لكم، فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذلك، ومن لم تدعوهم ففيء لكم لمن أفاء الله ذلك عليه.٥

ونفذ سعد أوامر عمر هذه، فأقرَّ الفلاحين، ودعا من لجَّ، ووضع الخراج على من رجع، وقبل الذمة، واستصفى ما كان لآل كسرى ومن لج معهم من الأمراء والدهاقين وغيرهم وكان ما استصفاه من هذه الأموال كثيرًا موزَّعًا بين جبل فارس وتخوم العرب، وكانت هذه الأموال التي استصفاها سعد حبسًا لا يجوز بيعه، كما لا يجوز بيع المنافع العامة من الآحام ومفيض المياه وسكك البريد وما كان لبيوت النار: معابد المجوس.

ترتب على تنفيذ هذه السياسة أن بقيت للفلاحين أرضهم واعتبروا من أهل الذمة، سواء منهم من أقام بأرضه في أثناء الحرب ومن فَرَّ منها جزعًا ثم عاد بعد الحرب إليها، وكذلك رُدَّتِ الأرض المملوكة للذين اشتركوا في الحرب من الفلاحين وغير الفلاحين، ثم دعاهم سعد إليه واعتبرهم من أهل الذمة ولما يكن قد قسم أرضهم بين رجال المسلمين، أما الأراضي التي كانت لآل كسرى ولمن اشترك في الحرب من الأمراء والأشراف والدهاقين، فاعتبر ملكًا خاصًّا للدولة، حرم التعامل فيه، وأبيح للفلاحين من أهل العراق استغلاله لقاء أجر يدفعونه لخزانة الدولة، وقد أُجري هذا الحكم على الأراضي المملوكة لبيوت النار، فأما المنافع العامة من مجاري المياه وسكك البريد فكانت ملكًا عامًّا، حرمة التعامل فيها قائمة بحكم المنفعة التي خصص لها.

أدى هذا التنظيم إلى تدفق الأموال في خزانة الدولة من مصادر شتى؛ من الخراج والجزية وأجر الأرض المملوكة للدولة، وأُجري العطاء من هذه الأموال على الجند وأهليهم بالكوفة والبصرة وسائر مسالح المسلمين، وكان هؤلاء الجنود يودون لو قسمت أرض السواد بينهم وصارت ملكًا لأفرادهم ولذويهم من بعدهم، ولم يكن سخاء العطاء الذي يصيبهم ليمنعهم من أن يفاتحوا الولاة بهذه الرغبة، لكن عمر كان يأبى عليهم ما يطلبون من ذلك، قائلًا: «لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا.» وإنما أبى عمر منذ اليوم الأول أن يجعل الأرض قسمة بين الجند حتى لا يسكنوا إلى الزراعة ويألفوا حياة الاستقرار، فإذا دعوا إلى قتال اثَّاقلوا عنه، على حين لا تزال الدولة في حاجة إلى قوتهم وحماستهم، وإلى جيش تام العدة دائم الأهبة، وكيف لأمير المؤمنين أن يطمئن إلى استقرار جنده وقد يرجع الفرس غدًا لثأرهم، وقد يثيرون العراق كما أثاروه من قبل؟! فلتبقَ أرض كسرى ملكًا للدولة يستغلها عمالها بأيدي الفلاحين من أهل العراق، ولتقم جنود المسلمين بمسالحها متأهبة لإجابة كل دعوة للقتال.

وكان عطاء أهل الكوفة وأهل البصرة كعطاء غيرهم من المقاتلين رخاء ووفرة، بل لقد ضاعفت كثرة المقيمين بهما هذا العطاء مما جعل أهلها في رخاء ورغد، مع ذلك نَفَسَ أهل البصرة على أهل الكوفة موقع بلدهم وما كان يدره عليهم من الخير، سأل عمر بن الخطاب وفدًا من أهل البصرة قدموا إليه عن حاجتهم، فقال الأحنف بن قيس وكان معهم: «يا أمير المؤمنين! إن مفاتح الخير بيد الله، وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة، وإنا نزلنا سبخة ملتفة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة لذلك فتربق ولدها كما يربق العنز،٦ يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا.» فزاد عمر في عطائهم وأمر عامله على الكوفة، وكان أبا موسى الأشعري، فأجرى لهم نهرًا من دجلة على ثلاثة فراسخ إلى شمالها.

وكذلك عاش المسلمون بالعراق في رخاء لا شيء من مثله في شبه الجزيرة، ثم كان لهم مع ذلك الرخاء عزة السادة الفاتحين، وقد أقاموا على هذه الحال عدة سنوات لا يفكرون في فتح فارس ولا يسعون إلى فتح جديد، مكتفين برد الهرمزان إذا حاول مناوشتهم في الجنوب الشرقي من ناحية البصرة، ذلك أن عمر كان مصرًّا على رأيه أن يكتفي بالعراق والدفاع عن تخومه، ولذلك أبى على الذين هزموا الهرمزان أن يلاحقوه داخل بلاده، وأمرهم أن يهادنوه على شروط نقضها الهرمزان غير مرة فأُخذ أسيرًا وأُرسل إلى عمر بالمدينة، وليس المقام ها هنا مقام تفصيل لما صنع الهرمزان مع المسلمين وما صنعوه وسنعود إلى هذا التفصيل بعد حين.

أصر عمر على أن يكتفي بالعراق وأن يدفع الفرس عن تخومه، وكان الفرس قد شغلوا عن العراق بما أصابهم من اضطراب بلاطهم وفساد أمرهم وتسلط الأثرة على نفوسهم، فاضطربت شئون هذا العراق، وفسدت مرافقه، وتدهور إنتاجه، فرأى عمر أن يصرف همته إلى إصلاحه؛ لذلك أمر رجاله أن يمسحوا أرضه، وأن ينظموا مجاريه ليصل الماء إلى كل بقعة صالحة للزراعة فيه، وأن يصلحوا قناطره وجسوره، وأن يعمروا كل ما خربه الفساد أو خربته الحرب في أرجائه، وكان المهندسون الفرس الذين أقاموا بالعراق خير عون على تنفيذ هذا الإصلاح، ذلك أنهم رأوا السلطان مستتبًّا للمسلمين في البلاد ورأوا كسرى عاجزًا عن استرداد هذا السلطان، ثم رأوا أمنًا مطمئنًّا وعدلًا شاملًا، فآثروا التعاون مع الفاتحين لخير العراق وأهله، وزاد ما تم من هذا الإصلاح في ثبات السلطان الجديد واستقراره، فقد رأى كبراء الفرس الذين أقاموا أهل ذمة وردت إليهم أموالهم ما يجره هذا الإصلاح لهم من زيادة ثروتهم، ورأى الفلاحون فيه عمرانًا يزيدهم أمنًا ونعمة، ورأى العرب من أهل القبائل التي استقرت به أن بني جنسهم خير من الفرس حكمًا وأعم عدلًا، فاستراح الجميع إلى النظام الذي أقامه أمير المؤمنين أساسًا لحكم البلاد، وانصرفوا إلى أموالهم يثمرونها، وإلى أعمالهم يدأبون لإتقانها وتجويدها، وما كان لهم أن يتجهوا بتفكيرهم إلى غير هذه الناحية وهم يرون قوات المسلمين على مقربة منهم في كل مكان، دائبة الأهبة للقضاء على كل انتقاض يحاول أحدهم أن يثير ثائرته.

كان العمل للرزق وللثراء حافز أهل العراق جميعًا، أما الفاتحون فكانوا في نعمة بما يصيبهم من العطاء، وكانوا مع ذلك ينافس بعضهم بعضًا وينفس بعضهم على بعض، وقد رأيت أهل البصرة كيف نفسوا على أهل الكوفة موقع بلدهم وكثرة خيراتهم، وكانت القبائل التي أقامت بكل من هذين البلدين تتنافس ويفاخر بعضها بعضًا، ذلك أن روح القبيلة الأصيل فيهم حفزهم إلى هذا التنافس وهذه المفاخرة، وزاد في حفزهم فراغ قوى هذا الروح وشجعه، ثم إنهم رأوا في مفاضلة عمر بينهم وتفضيله قريشًا على غيرها، ورفعه مكانة المهاجرين والأنصار على من سواهم، ما أغراهم بالكيد لمن آثرهم الخليفة برعايته، وهذا الكيد هو الذي دعا بعضهم فنسب إلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ ما لم يقله حين بنى باب قصره، وسعى قوم بسعد إلى عمر أنه لا يحسن الصلاة، فأرسل عمر يسأل أهل الكوفة في ذلك، وسأل عنه سعدًا، فلما علم أنه يصلي بالناس صلاة رسول الله قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق! وبلغ من كيد أهل الكوفة لسعد أنه قال لهم يومًا: اللهم لا تُرضِ عنهم أميرًا ولا تُرضهم بأمير، وكأنما استجاب الله دعاء سعد؛ فلم يكن أمير على الكوفة إلا سعى به أهلها إلى الخليفة، ذلك أن الأمير كان يراهم يكيد بعضهم لبعض ويثور بعضهم ببعض، فيعمل للقضاء على فتنتهم، فينقلبون إلبًا عليه عند أمير المؤمنين.

لم يكن لهذا التنافس بين أهل الكوفة والبصرة وغيرهم من سائر المسلمين بالعراق أثر تخشى مغبته في عهد عمر؛ فقد كان المسلمون جميعًا جنودًا يدعون إلى الميدان حينًا بعد حين، فيسكن تنافسهم، وينقلب أهلوهم إلى التطلع لأخبارهم وما يصيبون من نصر أو يصيبهم من ضر، هذا إلى أن النشاط الذي ملأ أرجاء العراق لإصلاحه جعل الناس في شغل به عن الاستماع لهذه المنافسات وأنبائها، ثم إن عمر كان إلى حزمه وشدته حكيمًا رحيمًا، فلم تدع شدته لفتنة أن تثور، ولم تدع حكمته ورحمته لمظلوم أن يشكو، بذلك سارت الأمور في العراق راضية مطمئنة، لا تزعج الخليفة ولا تزعج غيره من المسلمين.

•••

بينما كانت سعد بن أبي وَقَّاصٍ يسير من القادسية إلى المدائن ويبعث قواده إلى جَلُولاء وتكريت والموصل، وينشئ الكوفة والبصرة، ويطمئن له الأمر في العراق كله، كان أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ومن معهم من القواد والجند يجاهدون الروم بالشام، وكان عمر بن الخطاب ينتقل من المدينة إلى بيت المقدس وإلى دمشق، فلننتقل الآن إلى الشام لنصحبهم، فنرى كيف أتموا وحدة الجنس العربي من جنوب شبه الجزيرة إلى شمال بادية السماوة.

هوامش

(١) تجري بعض الروايات بأن المسلمين أقاموا بالمدائن أيامًا، ثم سار هاشم بن عُتْبَةَ إلى جَلُولاء حين بلغهم اجتماع الفرس بها. هذه الرواية مرجوحة في رأينا لما يقتضيه استعداد الفرس وإمداد يَزْدَجِرْد إياهم من حلوان، من زمن. يضاف إلى ذلك أن سعدًا ما كان ليبعث جيشًا إلى جَلُولاء دون أمر صريح من عمر؛ فتلك كانت سياسة الفاروق كما كانت سياسة أبي بكر. ولم يكتب سعد إلى عمر إلا بعد أن أحصى فيء المدائن وقسمه، وبعث بالخمس إلى المدينة فقسمه عمر في الناس كما رأيت. ثم إنه لم يكتب إليه إلا بعد أن وقف على جلية الخبر عن اجتماع الفرس بجَلُولاء وإمداد يَزْدَجِرْد إياهم من حلوان. وكتابته إلى عمر بعد هذا كله ورد عمر عليه ليسرح هاشمًا، يرجح عندنا أن هاشمًا لم يفصل بقوته من المدائن إلا بعد زمن من مقامهم بها. والطبري يورد رواية تؤيد ما نرجحه إذ يقول: «كان فتح جَلُولاء في ذي القعدة سنة ست عشرة في أوله، بينها وبين المدائن تسعة أشهر.» وسنرى أن فتح جَلُولاء تم بعد حصار دام ثمانين يومًا إذا أسقطت من تسعة الأشهر التي يذكرها الطبري بقي منها ستة أشهر أقامها المسلمون بالمدائن قبل مسيرة هاشم إلى جَلُولاء.
(٢) الطبرزين: من آلات الحرب يشبه الفأس.
(٣) تجري في فتح الأبلة على عهد عمر رواية أخرى يرجحها ابن الأثير، خلاصتها أن العلاء بن الحضرمي فكر أيام عمر في غزو دلتا النهرين، كما فكر المُثَنَّى في غزوها أيام أبي بكر. لكنه لم يصنع صنيعه. لم يشاطئ الخليج الفارسي إليها بما معه من الرجال، بل حملهم في السفن من البحرين إلى فارس عابرًا هذا الخليج، فخرجوا إلى إصطخر، فلقيهم الفرس فالتفوا حولهم، وحالوا بينهم وبين سفنهم. ولم يكن عمر أذن للعلاء فيما صنع؛ لأنه كان يخشى الغزو في البحر ويأباه. فلما عرف أن العلاء أحيط به مع جرأته وإقدامه واستبسال جنده وظفرهم بالفرس في غير موقع، أرسل إلى عتبة بن غزوان أن يسير إليه في جند كثيف لينجده قبل أن يهلك هو ورجاله. ثم سار عتبة في اثني عشر ألفًا ساحل بهم وقاتل من لقيهم الفرس حتى أدرك رجال العلاء وفتح الأبلة والأهواز كلها معهم. ثم استأذن عمر في الحج فأذن له: فلما قضى حجه استعفى عمر فأبى أن يعفيه وعزم عليه ليرجعن إلى عمله. وإنه لفي طريقه إلى العراق إذا وافاه أجله ببطن نخلة فدفن بها.
(٤) أبدأ هنا: خرج من أرض إلى أخرى، ومثله بدأ.
(٥) ذكر البلاذُري أن جرير بن عبد الله البجلي وفد على عمر وسأله أن يقر بجيلة على ربع السواد كما وعدهم في أمر الفيء، وكانت بجيلة وضعت يدها على هذا الربع ثلاث سنوات، فقال عمر: «لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما كنتم عليه، ولكني أرى أن تردوه.» ففعلوا. وفي رواية أخرى ذكرها البلاذُري أنه لما افتتح السواد قال فاتحوه لعمر: اقسمه بيننا فإنا فتحناه عَنْوَةً بسيوفنا، فأبى وقال: «فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟! وأخاف إن قسمته أن تتفاسدوا بينكم في المياه.» وأقر أهل السواد في أرضهم وفرض عليهم الجزية وعلى أرضهم الخراج. وقول عمر: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين، يقصد به ما جاء من مسلمي شبه الجزيرة إلى العراق بعد الفتح. فلو أن عمر قسم أرضه بين الفاتحين لما بقي لمن جاء بعدهم عطاء.
(٦) ربقه، جعل رأسه في الربقة، وهي حبل تشد به البهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤