المجاعة والوباء
كان المسلمون في المدينة وفي شتى الأرجاء من شبه الجزيرة ينعمون بأنباء النصر الذي حالف جنودهم في العراق والشام، وبأخماس الفَيْء ترد إلى الخليفة، فيقسمها بينهم أعطيات تزيدهم رخاء، وتنقلهم من شظف البداوة وتَقَشُّفِها إلى ما يشبه الحضارة لينًا وطراوة، فقد زادتهم هذه الأعطيات قدرة على أن يبتاعوا من تجارة اليمن والشام ما يشاءون، وأن يقتنوا من خيرات مصر تجيء إليهم محمولة على السفن ما يجدون في اقتنائه متاعًا لم يكن لهم من قبل بمثله عهد، وزادهم ذلك إقبالًا على الحياة وتحمسًا للفتح، واستمساكًا بالدين القيم الذي يسر لهم نصر الدنيا والآخرة.
وإنهم لكذلك ناعمون إذ فجأهم القدر، في أخريات السنة السابعة عشرة وطيلة السنة التي تلتها، بِهَوْلَيْنِ عظيمين؛ أصابهم أحدهما في موطنهم من شبه الجزيرة، وأصاب الآخر إخوانهم المجاهدين في الميادين، فأما أول الهولين فالمجاعة التي انتشرت في بلاد العرب من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، والتي دامت تسعة أشهر هلك فيها الزرع والضرع، والحرث والنسل، وأصاب الناس منها أشد الجهد والبلاء، وأما الهول الثاني فطاعون عمواس الذي امتد من الشام إلى العراق، فأفنى الألوف من خيرة المسلمين، رجالًا ونساء، جندًا ومدنيين، حتى ارتاع له عمر وارتاع له الناس جميعًا أيما ارتياع.
وسبب المجاعة أن أمسك المطر في شبه الجزيرة كلها تسعة أشهر كاملة؛ وأن تحركت الطبقات البركانية من أرضها فاحترق سطحها وكل من عليه من نبات، فصارت الأرض سوداء مُجدبة كثيرة التراب، فإذا تحركت الريح سَفَتْ رمادًا؛ لذا سمي هذا العام عام الرمادة، ونشأ عن إمساك المطر وهبوب الرياح وهلاك الزرع والضرع جوع أهلك الناس والأنعام؛ فقد فني الكثير من قطعان الغنم والماشية، وجف ما بقي منها، حتى كان الرجل يذبح الماشية فيعافها لقبحها برغم جوعه وبلواه، ومن ثم أقفرت الأسواق فلم يبقَ فيها ما يباع ويشترى، وأصبحت الأموال في أيدي أصحابها لا قيمة لها إذ لا يجدون لقاءها ما يسد رمقهم، وطال الجهد واشتد البلاء، فكان الناس يحفرون أنفاق اليرابيع والجُرْذان يخرجون ما فيها.
كان أهل المدينة أحسن من غيرهم حالًا أول العهد بالمجاعة، فالمدينة حضر ادخر أهلها حين الرخاء ما اعتاد أهل الحضر ادخاره، فلما بدأ الجدب جعلوا يخرجون ما ادخروا يعيشون منه، أما أهل البادية فلم يكن لهم مُدَّخر فاشتد بهم الكرب من أول الأمر، ثم إنهم هرعوا إلى المدينة يجأرون إلى أمير المؤمنين بالشكوى، ويلتمسون لدى أهلها فتاتًا يقيمهم، وازداد هؤلاء اللاجئون عددًا فضاقت بهم المدينة، واشتد أهلها بالبلاء، فصاروا في مثل حال أهل البادية جدبًا وجوعًا.
ماذا يصنع عمر بنفسه؟ وماذا يصنع بهؤلاء الجياع؟ لقد كان بيت المال في يده، وكان في مقدور عماله بالعراق والشام أن يبعثوا إليه ما يُبقي به على نظام عيشه قبل المجاعة، ثم كان له من العذر لو أنه فعل، أن تبعته كانت تقتضيه ألا يبلغ من الحمل على نفسه والقسوة بها فينوء به الجهد عن رعاية سائر المسلمين، ولكن تصرفه في هذا الموقف كان مثلًا رائعًا يجدر بكل من ولي الأمر في أمة أن يعرفه وأن يحتذيه.
حدث بعد ما اشتدت المجاعة أن جيء عمر بخبز مفتوت بسمن، فدعا رجلًا بدويًّا فأكل معه فجعل البدوي يتبع باللقمة الوَدَك إلى جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك؟ وأجابه الرجل: أجل! ما أكلت سمنًا ولا زيتًا ولا رأيت آكلًا له منذ كذا وكذا إلى اليوم، فحلف عمر لا يذوق لحمًا ولا سمنًا حتى يحيا الناس، وظل على هذا العهد حتى أذن الله فعاد المطر وزال عن الناس الجدب.
وقد كان جادًّا في هذا العهد كل الجد، قدمت السوق عُكَّةٌ من سمن ووَطْبٌ من لبن، فاشتراها غلام له بأربعين درهمًا، وذهب إليه الغلام فقال له: قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن فابتعتهما بأربعين، قال عمر: أغليت فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافًا، وأطرق هنيهة ثم قال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
حكمة ما أعظمها وما أجلها لذاتها! وهي أكثر عظمة وجلالًا إذ تصدر من رجل اجتمع له يومئذ من ملك كسرى وملك قيصر ما كان المسلمون يفاخرون به فارس والروم والعالم كله، اجتمع له العراق والشام وما فيهما من خير ونعمة، وقد كان عمر قديرًا يومئذ أن يجمع من ترف الفرس ونعيم الروم ما شاء، لكنه كان يرى النعيم تعلقًا بالدنيا، والترف مَضلَّة لصاحبه، فسما عليهما ابتغاء الآخرة وابتغاء وجه الله ورضاه، وكان يرى أنه، وهو أمير المؤمنين، لا يمكن أن يعنيه شأن الرعية إذا لم يشعر بما يشعر به أكثرهم فقرًا وإملاقًا، ليسارع إلى القضاء على الفقر وعلى الإملاق، رآه الناس عام الرمادة وقد اسود لونه وكان أبيض مشربًا بحمرة؛ ذلك أنه كان يأكل السمن واللبن واللحم، فلما أمحل الناس حرمها على نفسه وأكل بالزيت، وأكثر من الجوع، حتى كان الناس يقولون وقد رأوا ما أصابه: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًّا بأمر المسلمين.
والواقع أنه اهتم بأمرهم وبذل في سبيلهم كل جهده، كتب إلى عماله في العراق والشام يستنجدهم لغياث أهلهم في شبه الجزيرة، وكانت عباراته إلى هؤلاء العمال صادرة من قلبه، تشهد بسمو تقديره لتبعته، وعظيم شعوره بأنه مسئول أمام الله وأمام ضميره عن كل فرد من رعيته، كتب إلى عمرو بن العاص بفلسطين يقول: «سلام عليك! أما بعد، أفتراني هالكًا ومَن قِبَلي، وتعيش أنت ومَن قبلك! فيا غوثاه! يا غوثاه يا غوثاه!» وأجابه عمرو: «أما بعد، فلبِّثْ، لأبعثن إليك بِعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي.» وبعث عمر بمثل هذا الكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان وأبي عُبَيْدَةَ بن الجراح بالشام، وإلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ بالعراق، فأجابوه جميعًا بنحو مما أجاب به عمرو بن العاص.
وكان أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ أسرع الأمراء استجابة لنداء عمر وغياثًا لأهل شبه الجزيرة؛ سبقهم جميعًا فقدم في أربعة آلاف راحلة محملة طعامًا، فولاه عمر قسمته فيمن حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له عمر بأربعة آلاف درهم؛ فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين! إنما أردت الله وما قِبَلَه، فلا تدخل عليَّ الدنيا! لكن عمر أجابه: خذها فلا بأس بذلك إذا لم تطلبها، وإني قد وَلِيت لرسول الله مثل هذا فأعطاني بعد أن قلت له مثل ما قلت لي، وقبض أبو عبيدة المال وانصرف إلى عمله.
وولَّى عمر من يطعم الناس ويكسوهم في أمصار المملكة وباديتها، وتولى هو بنفسه إطعام أهل المدينة ومن اجتمع إليهم من العرب، وانصرف رسله إلى أرجاء شبه الجزيرة يخففون عن الناس بلواهم، فلقي الموكلون بالتوزيع ما بعث به سعد بن أبي وَقَّاصٍ من الأقوات عند أفواه العراق، فأقاموا ينحرون للناس الجزر ويطعمونهم الدقيق ويلبسونهم العباء حتى رفع الله البلاء، وكذلك فعل الرسل ما بين مكة والمدينة، وقال عمر لرسوله الذي بعثه يلقى عير الشام: «أما ما لقيت من الطعام فَمِلْ به إلى أهل البادية، فأما الظروف فاجعلها لُحُفًا يلبسونها، وأما الإبل فانحرها لهم يأكلون من لحومها ويحملون من ودكها ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا، وأما الدقيق فيصطنعون ويُحرزون حتى يأتي أمر الله بالفرج.»
مع هذه العناية من عمر بالعرب جميعًا فشا المرض في الناس، وهلك منهم كثيرون، فكان يتعهد المرضى، ويبعث بالأكفان لمن مات ويصلي عليهم، وقد استطاع خلال الأشهر التسعة التي قاسى الناس فيها هول الكارثة أن يخفف منها ما قدر أمراء الأنصار على إمداده، فلما قصرت مواردهم ازداد في شبه الجزيرة المرض والموت وبلغ الهول منهم أشده، فلم يجد عمر ملجأ من الله إلا إليه، لقد كان طيلة هذه الأشهر التسعة يصلي بالناس العشاء ثم يدخل إلى بيته فلا يزال يصلي حتى آخر الليل، ضارعًا إلى الله ألا يجعل هلاك الأمة على يديه، فلما لم يستجب ربه دعاءه، ولم تُسعف السماء الناس بمطر، عزم على أن يستسقي، فكتب إلى عماله أن يخرجوا بالناس في يوم عينه، وأن يتضرعوا إلى ربهم أن يرفع المحل عنهم، وخرج هو بالناس ذلك اليوم وعليه بُرْدُ رسول الله، فلما انتهى إلى المصلى تضرع الناس وألحوا في الدعاء، وبكى عمر بكاءً طويلًا حتى أَخضل لحيته، وكان العباس بن عبد المطلب قائمًا إلى جنبه، فأخذ عمر بيده ورفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنا نستشفع بعم رسولك إليك!» ودعا العباس ربه وعيناه تهملان، وأقام الناس يدعون ربهم تضرعًا وخشية وقد أيقنوا الموت إن لم يسعفهم الله بالمطر، واستجاب الله لعباده المؤمنين الذين صدقوه ما عاهدوا عليه، إن الله بعباده لرءوف رحيم.
استجاب الله لعباده ففتح أبواب السماء بماءٍ منهمر وسيل دافق، وسرعان ما رَبَت الأرض واخضرت، فلم يبقَ للأعراب الذين قدموا المدينة أن يقيموا بها؛ لذلك جعل عمر يسير بينهم يقول: اخرجوا! اخرجوا! الحقوا ببلادكم! يخشى أن يظل منهم بالمدينة من يظنها ألين عيشًا، بل إنه وكل بهؤلاء الأعراب من يخرجونهم إلى باديتهم ويعطونهم قوتًا وحُملانًا تبلغهم منازلهم، ثم كان يُخرج بنفسه من يحتاج خروجهم إلى أمره، فلما بلغوا مساكنهم عادوا إلى مألوف حياتهم وإن لم يجدوا من أعطيات الفَيْء ما يرفِّه عنهم، فقد شغل عمر بهذه المجاعة في شبه الجزيرة فشدد أوامره إلى جنده ألا يقاتلوا عدوهم إلا إذا أكرهوا دفاعًا عن أنفسهم.
لم يبعث عمر جُبَاته عام الرمادة ليقبضوا الزكاة، بل أخرهم إلى أن ارتفع الجدب، فلما اطمأن الناس إلى العيش وكثرت عندهم مادته، أمر الجباة أن يسيروا إليهم وأن يأخذوا من كل قادر حصتين: حصة عن عام الرمادة، وأخرى عن العام الذي بعده، وأن يقسموا إحدى الحصتين على المعوزين، ويقدموا عليه بالثانية، بذلك زاد في تخفيف الفقر عن الفقراء، ثم لم يرهق غيرهم ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به.
يجدر بنا أن نقف هنيهة ها هنا ننظر في سياسة عمر كما تجلوها تصرفاته في أثناء هذه الشدة التي أصابته وأصابت قومه، ولسنا نريد بوقفتنا أن نبدي ما تثيره هذه التصرفات في النفس من إعجاب بعمر وإكبار له، وإنما نريد أن نستشف من هذه التصرفات فكرة مجملة عن صورة الحكم في ذهن رجل ألقت عليه الأقدار أن يكون أول بادئ بتفصيل نظام الحكم في الجماعة الإسلامية، وأشد هذه التصرفات أخذًا بالنظر حمل عمر على نفسه وقسوته عليها، وأنه لم يكن يحمل عليها رغبة عن الطيبات مما رزق الله، فالإسلام لا يدعوه للرغبة عنها، وإنما كان يفعل ليشعر بشعور الضعفاء والمعوزين وذوي الحاجة، وذلك قوله: «كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما يمسهم!» لذلك نزل بعيشه إلى مستوى حياة الفقراء الذين لم يكونوا يجدون إلا مائدته يجلسون إليها مع الألوف من الجائعين لينالوا ما يُبقي عليهم الحياة، فكان يأكل معهم ولا يرضى أن يتناول طعامه في بيته حتى لا يظن أحد أنه يؤثر نفسه بشيء لا يناله ذو الفاقة من قومه، وقد حقق بتصرفه هذا غرضين جليلين: أولهما الشعور بألم الناس شعورًا يدفعه إلى مضاعفة الجهد في العناية بهم والعمل لرفع الضر عنهم، والثاني طمأنينة السواد إلى أن أمير المؤمنين يشاركهم في بأسائهم وضرائهم، فلا تثور نفوسهم، بل يظلون راضين بكل ما يصيبهم؛ لأن أكبر رجل في الدولة يشاركهم فيه، وقد بلغ عمر من هذين الغرضين خير ما يبلغه حاكم في أية أمة من الأمم.
كان عمر إذن يرى أن أول واجب على ولي الأمر أن يجعل حياته في مستوى الحياة لجمهور الشعب، لكنه كان يرى كذلك أن يدع القادرين على تثمير المال واستغلال الأرض يستمتعون بطيبات الرزق، ليزيدهم المتاع بها حرصًا على إتقان العمل وسعيًا لزيادة خبراته ومضاعفة ثمراته، بذلك يزداد جمهور الشعب لولي الأمر حبًّا، وبسياسته تعلقًا، وعلى التضحية في سبيل هذه السياسة إقبالًا، وتزداد مكانة ولي الأمر في نظر القادرين وذوي المكانة سموًّا إذ يرون تعلق الشعب به ومحبته له، فلا يدور بخَلَد أحدهم أن يناوئه أو يخرج عليه، ثم تزداد أواصر الود بين طبقات الشعب المختلفة تمكينًا؛ لأن ولي الأمر يقوم من هذه الطبقات مقام القلب من جسم الإنسان يوزع بينها أسباب الحياة بالقسط، ويوجهها جميعًا للخير العام.
لم تكد المجاعة تنقضي ويرفع الله عن الناس الضر حتى روعهم النبأ بانتشار الوباء في الشام وامتداده إلى العراق، فقد فشا الطاعون في عمواس من أرض فلسطين، ثم انتقلت عدواه إلى الشام، فجعل يفتك بكل من يصابون به فتكًا ذريعًا مزعجًا، لم يكن الواحد منهم يكاد يُطعن حتى يدركه الموت، وما أكثر الذين كانوا يطعنون! وطال هذا الوباء شهرًا هلك في أثنائه من المسلمين خمسة وعشرون ألفًا، فيه من أكابر الناس وأشرافهم عدد غير قليل، منهم أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وغيرهم ممن في طبقتهم، وكان الحارث بن هشام قد خرج من المدينة إلى الشام في سبعين من أهل بيته فماتوا جميعًا لم يبقَ منهم إلا أربعة وقيل: إن أربعين من ولد خالد بن الوليد ماتوا في هذا الطاعون الذي انتشر في الجند كما انتشر بين المدنيين، فأفزع الناس وأخافهم عواقبه، فلو أن أعداءهم حاولوا العود إليهم لعجزوا هم عن مقاومتهم، لكن الروم أشفقوا من الوباء أن يصيبهم منه ما أصاب المسلمين، فلم يفكروا في الرجعة إليه خوفًا على أنفسهم من هذا الهول الذي فدح عدوهم.
لم تكن أنباء هذا الوباء مزعجة أول انتشاره، وكان عمر قد أزمع الذهاب إلى الشام ينظم شئونه بعد ما تم فتحه، وسار من المدينة، حتى إذا بلغ سَرْع على مقربة من تبوك لقيه أمراء الأجناد أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة فأخبروه أن الأرض سقيمة، وذكروا له طرفًا من أنباء الطاعون وشدة إصابته، وراع عمر ما سمعه منهم، فلما أمسى جمع المهاجرين الأولين يستشيرهم: أيتابع طريقه إلى الشام مع ما فيها من وباء أم يعود أدراجه إلى المدينة؟ واختلف رأيهم، فمن قائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، وما نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك؛ ومن قائل: إنه لبلاء وفناء وما نرى أن تقدم عليه، واختلف الأنصار كما اختلف المهاجرون كأنما سمعوا قولهم فأعادوه، هنالك جمع عمر مُهاجِرة الفتح من قريش فاستشارهم، فلم يختلف عليه اثنان، بل قالوا جميعًا: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء، وأمر عمر فنادى ابن عباس في الناس ليُعِدُّوا رواحلهم، فلما صلوا الصبح التفت عمر إليهم وقال: «إني راجع فارجعوا.»
لم يكن أبو عُبَيْدَةَ حاضرًا مشاورات عمر وما انتهى إليه من رأي، فلما عرف ذلك قال له: «أفرارًا من قدر الله يا عمر!» ودهش الخليفة لهذا الاعتراض، ونظر مليًّا إلى أبي عُبَيْدَةَ ثم قال: «لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة! نعم! فرارًا من قدر الله إلى قدر الله.» وأطرق هنيهة ثم أردف «أرأيت لو أن رجلًا هبط واديًا له عُدْوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى مَنْ رَعَى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله!»
خلا عمر بأبي عُبَيْدَةَ بعد هذا الحديث يتذاكران في شئون الشام وفيما يجب أن يقابل الوباء به، وإنهما لفي حديثهما إذ أقبل عبد الرحمن بن عَوْفٍ فرأى الناس في هرج، فسألهم ما شأنهم، فلما أخبروه الخبر قال: عندي من هذا علم، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا سمعتم بهذا الوباء فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارًا منه.» واطمأن عمر لهذا الحديث وقال: الحمد لله، انصرفوا أيها الناس!
وعاد عمر بالناس إلى المدينة، وعاد أمراء الأجناد ومن معهم إلى أعمالهم، وجعل عمر يفكر في أمر المسلمين بالشام وفيما دهاهم من فتك الطاعون، فأخذته الشفقة بأبي عُبَيْدَةَ أن يصاب به وأن يتوفى منه وكان عمر يرجو أن يطول بأبي عُبَيْدَةَ العمر ليخلفه على إمارة المؤمنين، أليس أبو بكر قد دعا الناس لمبايعة أحد الرجلين: أبي عُبَيْدَةَ أو عمر، فبايع الناس أبا بكر، ثم بايعوا عمرًا؛ فجدير به أن يستخلف أبا عُبَيْدَةَ وأن يدعو الناس لمبايعته؛ فإذا توفي في الطاعون فمن ذا ترى عمر يستخلف؟ هذا إلى أن عمر كان يحب أبا عُبَيْدَةَ أصدق الحب، ويضعه في أسمى مكان من نفسه، ولذا فكر في إبعاده عن الشام لاستخراجه من الوباء، لكنه كان يعرف ما انطوت عليه نفس صاحبه من صدق الإيمان بالله وبفكرة الواجب، وأنه لن يدع رجاله بالشام فرارًا بنفسه من قدر الله، فكتب إليه فلم يشر إلى شيء مما دار بنفسه، بل قال له: «أما بعد، فإني قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها فعزمت عليك، إذ نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي.» وقرأ أبو عُبَيْدَةَ الكتاب فأدرك مراد عمر، وأنه إنما حرص على أن يستخرجه من الوباء، فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثم كتب إليه: «إني قد عرفت حاجتك إليَّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندي.» وقرأ عمر هذا الكتاب فبكى، فسأله من حوله: أمات أبو عُبَيْدَةَ؟ فأجاب ولا يزال الدمع آخذًا بخناقه: «لا! وكأن قد.»
وددت لو أني وقفت عند كلمة عمر حين اعترض أبو عُبَيْدَةَ عوده إلى المدينة بقوله: أفرارًا من قدر الله، وأود لو أقف الآن عند هذين الكتابين اللذين تبادلهما عمر وأبو عُبَيْدَةَ، ففي كلمة عمر وفي الكتابين ما يجلو لنا صفحة من حياة ذلك العصر فيها عناصر قوته وأسباب انفساح الإمبراطورية الإسلامية فيه، لكني أوثر أن أقص ما حدث إلى أن رفع الله البلاء وإلى أن عادت الحياة في الشام سيرتها الطبيعية، فذلك يزيد هذه الصفحة جلاء، ويكشف عن تفكير المسلمين الأولين من أصحاب رسول الله وعن حريتهم في هذا التفكير وعدم تقيدهم إلا بالحق يملك عليهم بصائرهم ويهديهم الله إليه على علم.
قرأ عمر كتاب أبي عُبَيْدَةَ فبكى، وأخذ يفكر في الوسيلة لإنقاذ أهل الشام مما نزل بهم، وشاور أهل الرأي، ثم كتب إلى أبي عُبَيْدَةَ يقول: «إنك أنزلت الناس أرضًا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نَزِهة.» وإن أبا عُبَيْدَةَ ليفكر في تنفيذ هذا الأمر إذ طعن فمات، فخلفه معاذ بن جبل، فطُعن هو وماتا جميعًا، واستخلف معاذ عمرو بن العاص فخطب الناس فقال: إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا في المرتفعات، فأذهب ذلك شدة الوباء وانتهى بزواله، وبلغت عمر مقاله ابن العاص فلم يكرهها، بل رأى فيها تنفيذًا للأمر الذي بعث به إلى أبي عُبَيْدَةَ.
وأحسب الأكثرين اليوم يؤثرون رأي المتأخرين أو ما يماثله، ولا يرون دعاء أبي عُبَيْدَةَ على أهل الشام سبب الوباء، وقد سقت الكلمة التي نسبت إلى أبي عُبَيْدَةَ وإنني لفي ريب من صدورها عنه، فما كان له أن يرجو هذا البلاء الماحق لأهل الشام جميعًا لغير شيء إلا أن بعضهم شرب الخمر، فما أكثر ما يرتكب الناس من آثام أعظم من أم الكبائر ثم لا يرسل الله عليهم البلاء حاصدًا يصيب المذنب والبريء! وأبو عُبَيْدَةَ رجل رقيق الطبع شديد الإيمان، أبر بمن يسوسهم من أن تصدر عنه هذه الكلمة، ما بالك وفيمن يسوسهم من الجند من رأيت من وفائه لهم ما يشهد به كتابه لعمر حين دعاه إلى المدينة ليستخرجه من الطاعون! على أن ريبنا في صدور هذه الكلمة من أبي عبيدة لا ينفي أن قومًا شربوا الخمر، فلما سألهم تأولوا قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ، وأنه رفع أمرهم إلى عمر ثم أوقع عليهم الحد تنفيذًا لأمر الخليفة، فتواتر الرواية بهذا الحادث وتنفيذ الحد في عهد عمر ومن بعده يقطع بصحتها، وهي تتفق وما حدث في حياة النبي حين دعا عمر الله أن يبين لهم في الخمر، وأن يبين لهم فيها بيانًا شافيًا؛ لأنها تُذهب العقل والمال، لا عجب وذلك شأنه أن يقسو على شاربيها وأن يضع لها الحد وأن يقيمه في خلافته، فيقام من بعده على أنه من حدود الله.
وأيًّا ما كان سبب الوباء فقد أدى تفرق الناس في المرتفعات، استجابة لدعاء عمرو بن العاص، إلى ذهاب شدته ثم إلى زواله بعد أن أفنى من المسلمين بالشام خمسة وعشرين ألفًا، وبعد أن انتقل من الشام إلى العراق ففتك فيه بأهل البصرة أشد مما فتك بغيرهم، وكان أهل البصرة من خيرة جند المسلمين، مع ذلك لم يفكر يَزْدَجِرْد في استرداد العراق أكثر مما فكر هرقل في استرداد فلسطين أو الشام، فقد خشي ما خشيه هرقل أن يصاب جنوده بالوباء وأن ينتقل معهم إلى أرض فارس، فتكون الطامة شرًّا من الحرب وآثارها.
كيف يواجه عمر الموقف بعد أن زال الوباء؟ إنه إن يترك الشام على حاله بعد فناء من فني من المسلمين، وبعد أن مات من جندهم به عدد عظيم، يتعرض الفتح فيه لعواقب لا يرضاها، فقد يفكر الروم في القدوم إليه يحاولون استرداده، ثم إن النظام الاقتصادي فيه قد شابه اضطراب سببته مواريث الذين ماتوا، وهو لا يأمن أن يثير توزيع التركات ثائرات بين المسلمين أنفسهم، فليس له إلا أن يذهب بنفسه، فينظر في ذلك كله ويضع كل أمر في نصابه؛ لذا فصل من المدينة في جماعة من الصحابة وخلف عليًّا عليها، واتخذ الطريق إلى أيلة، فلما بلغها دفع إلى أسقفها قميصًا له قد انجاب مؤخره عن مقدمه من طول السير، وقال له: اغسل هذا وارقعه، وغسل الأسقف القميص ورقعه، وخاط قميصًا آخر مثله، وعاد بالقميصين إلى عمر وقال له: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك مني، فلبس عمر قميصه ورد الآخر وقال: هذا أنشفهما للعرق.
وسار عمر من أيلة فنزل الجابية فجعلها مقره، وذكر له عماله بالشام وفلسطين ما كان من أمر المسلمين وما نزل بهم، فزار بلاد سورية جميعًا، وتفقد شئون المسلمين في شتى أرجائها، وبذل لهم، ورتب منازلهم بدمشق وحمص وسائر المدن التي بلغ فيها فتك الوباء أشده، ثم إنه نظم ثغور الشام ومسالحه، وأعاد توزيع القوات في كوره، وسمى الرجال الذين عينهم عليها، فلما فرغ من ذلك قسم المواريث، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم، بذلك استقر كل أمر في نصابه، وعاد كل شيء إلى نظامه، واطمأن الناس بعد طول الفزع، ولم يفكر الروم في الرجعة إلى الشام.
وكان عمر حين جاءه النبأ بموت أبي عُبَيْدَةَ ويزيد بن أبي سفيان قد ولى مكانهما شرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان، فلما كان بالجابية عزل شرحبيل عن عمله، وسأله شرحبيل: أعزله عن سخطة؟ فقال: لا! إنك لكما أحب، ولكني أريد رجلًا أقوى من رجل، قال شرحبيل: فاعذرني في الناس لا تدركني هُجنة، فقام عمر فقال: «أيها الناس! إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلًا أقوى من رجل.» والحق أن شرحبيل كان قائدًا حسن المداورة بالجيوش، لكنه لم يكن رجل سياسة يعرف كيف يوجه الناس إلى أغراضه القريبة والبعيدة، أما معاوية فكان على شبابه سياسيًّا محنكًا ذا بصر بموارد الأمور ومصادرها.
ألا إني قد وليت عليكم، وقضيت الذي عليَّ في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، قسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج، وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم وما قاتلتم عليه من شأنكم، وسمينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم فمن عَلِمَ عِلْم شيء ينبغي العمل به فبلغنا، نعمل به إن شاء الله.
وحضرت الصلاة وكان عمر قد أزمع الرحيل بعدها، فقال له الناس: لو أمرت بلالًا فأذن! وكان بلال قد انقطع عن الأذان منذ قبض رسول الله، فأراد الناس سماعه بعد إذ رفع عنهم البلاء، ليذكروا نعمته جل شأنه، إذ أرسل رسوله إليهم فهداهم للإسلام وأورثهم الأرض ووطد لهم أكنافها وأذل لهم الفرس والروم، فلما أصابهم الضر رفعه عنهم ولم ينزل نقمته عليهم، وأذن بلال بصوته الندي لم تغير منه السنون، فأحيا في نفوس الذين أدركوا رسول الله عهدًا كانوا يقفون فيه وراءه ﷺ صفوفًا متراصة يصلي بهم ثم يحدثهم فيزيدهم هدى، فلم يبقَ من هؤلاء واحد إلا بكى حتى بللت دموعه لحيته، وبكى من لم يدرك النبي لبكائهم، ثم كان عمر أشدهم بكاء؛ لأنه كان أكثرهم لفضل الله ولفضل رسوله ذكرًا، ولقد ظل هذا النداء للصلاة، أرسله مؤذن النبي للمرة الأولى والأخيرة في جو الشام على مقربة من بيت المقدس، علمًا في التاريخ على فتح المسلمين، واستقرار الإسلام فيها، وقراره بها إلى يوم الدين؛ لذلك لا ينسى مؤرخ أن يذكره، فهو لذاته نصر من الله وفتح مبين.
أما وقد فرغنا من حديث عمواس وطاعونها وموقف عمر منه، فلنتحدث عن دلالة ما وقع فيه على حرية المسلمين العقلية لذلك العهد، وعما انطوت هذه الحرية عليه من عناصر القوة، وكيف فتحت لهم أبواب الإمبراطورية العظيمة التي ظلت تزداد على الأيام فسحة وعظمة حتى غير المسلمون ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.
لما سار عمر يريد الشام فلقيه أمراء الأجناد بسرغ وذكروا له أن الأرض سقيمة فأمر الناس بالعود إلى المدينة، اعترضه أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ بقوله: «أفرارًا من قدر الله يا عمر!» فقال: «نعم! فرارًا من قدر الله إلى قدر الله.» وهذا الاعتراض وهذا الجواب يصوران التفكير القدري وما وقع عليه من خلاف لا يزال قائمًا إلى اليوم، ونحسب كلمة عمر أدق تصويرًا للقدرية الإسلامية، فابن الجَرَّاحِ والذين أشاروا على عمر بالسير إلى الشام وقالوا له: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك؛ هؤلاء إذ يؤمنون بأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وبأن لكل أجل كتابًا فإذا جاء أجلهم فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، يرون أن تفكيرنا أقصر من أن يرد عادية القدر عنا، فإذا اعتزمنا أمرًا وجب لذلك علينا أن نغض الطرف عن كل ما سواه، وأن نمضي قُدُمًا في سبيله، لا يصدنا دونه بلاء يعرض أو عقبة تقوم، وهذا الرأي يؤمن به أمراء الجند مصدر قوة ليس كمثلها قوة، والجندي الذي يؤمن بالله مكفول له النصر لا محالة، فأول ما يقضي به الإيمان الصحيح ألا يهاب الجندي الموت، وأن يقدم عليه مغتبطًا به، فإن استشهد ففي سبيل الله وفي سبيل الوطن وفي سبيل القضية التي ينصرها، وإن ظفر فعاش كان له فخر الأبد، وإيمان الجند بهذا الرأي هو الذي نصر المسلمين في مختلف الميادين؛ لأنهم آثروا الشهادة في سبيل الله، فوهب لهم الله حياة كرامة وعزة.
لكن القدرية بهذا المعنى العظيم الأثر في حياة الجندي لا يمكن أن تكون القدرية كما يجب أن يفهمها السياسي المسئول عن مصالح الناس ومصيرهم في الحرب وفي غير الحرب، وكما يجب أن يفهمها المفكر الذي يقلب الأمور على وجوهها وينظر فيها من كل نواحيها، فصحيح أن لكل أجل كتابًا، وأن تفكيرنا أقصر من أن يرد عادية القدر عنا، لكنا يجب مع ذلك أن ننظر في الأمور وأن نتدبرها لنحسن التصرف فيها إلى غاية ما يهدينا إليه علمنا وعقلنا، وما يهدينا إليه العقل والعلم وحسن التفكير هو من قدر الله؛ كما أن إقدام الجندي على الموت في ميدان القتال وما يصيبه نتيجة هذا الإقدام هو من قدر الله، وأول واجب على أمير الجند ألا يلقي بجنده إلى التهلكة بسوء رأيه، وألا يعرضهم للموت حتى يستقر رأيه على ملاءمة الأحوال لخوض المعركة، فإذا خاضها وجب عليه أن يعمل للانتصار فيها بأقل تضحية ممكنة، وأول واجب على السياسي ورجل الدولة ألا يعرض نفسه ومن يسوسهم إلى هلكة يستطيع تجنبها، أو يستطيع إنقاذ الناس منها، من غير إضرار بمصلحة الدولة العليا وبسياستها للحاضر وللمستقبل، فإذا ظفر من ذلك بما أراد كان ظفره فخرًا له كفخر الجندي بانتصاره، ثم كان هذا الظفر قدرًا من الله ورحمة بعباده.
وذلك ما رآه الذين قالوا عن الطاعون إنه بلاء وفناء، وأشاروا على عمر أن يرجع إلى المدينة فسمع إلى مشورتهم، وكان سماعه لها ونزوله عليها الحكمة كل الحكمة، فلو أنه سار إلى الشام فطعن فمات لأصابت المسلمين خسارة عظيمة قد تنتقض بسببها عليهم أمورهم، ولو أنه سار إلى الشام فطعن بعض أصحابه فعاد بسائرهم فانتقل الوباء إلى شبه الجزيرة لتعرض أهلها لكارثة تَوْقِيَتُهُمْ إياها واجبٌ على أمير المؤمنين، وهو حين يفر من الموت ويتحاشى نقل الوباء إلى شبه الجزيرة إنما يفر من قدر الله، فيجنب نفسه ويجنب شبه الجزيرة كارثة لم يردها الله لهم.
والمثل الذي ضربه عمر لأبي عُبَيْدَةَ في هذا المقام يفسر رأيه في القدرية خير تفسير، فإذا وجد راعٍ واديًا فيه عُدْوة خصبة وأخرى جدبة، فرعى الجدبة رعاها بقدر الله، وإذا رعى الخصبة رعاها بقدر الله، ذلك أنه إما عالم فمختار بينهما، فاختياره قدر من الله؛ لأن عقله الذي وهبه الله هو الذي هداه إليه، أو جاهل لهما فراعٍ ما أمامه بقدر الله؛ لأن الأخرى مغيبة عليه فلا اختيار له بين العدوتين، وقد عرف عمر العدوتين في أمر الشام ووبائه، فوجب عليه أن يختار بينهما، وقد استشار فاختار ففر من قدر الله إلى قدر الله.
ولقد زاده الله اطمئنانًا إلى اختياره ما رواه عبد الرحمن بن عَوْفٍ عن رسول الله أنه قال: «إذا سمعتم بهذا الوباء في بلد فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارًا منه.» فهذا الحديث إنما يفرض الحجر الصحي على ما نفهمه في عصرنا الحاضر، إذ يعزل البلد الموبوء عن غيره من البلاد، ثم يعزل الأصحاء من أهله عن المرضى، ولا يسمح لهؤلاء الأصحاء أن يختلطوا بغيرهم في بلد آخر مخافة أن يكون الداء جنينًا فيهم، فتنتقل عدواه منهم ولو لم تظهر آثاره عليهم، والاحتياط لمثل هذا الاحتمال واجب، وهذا الاحتياط هو الذي دعا أمير المؤمنين؛ لأن يعجل بالعود إلى المدينة.
وليس يمنع الحجر الصحي الناسَ من أن ينتجعوا في حدود بلدهم مكانًا يرونه أذهب للداء عنهم وذلك ما كتب به عمر إلى أبي عُبَيْدَةَ إذ قال له: «إنك أنزلت الناس أرضًا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.» وهو بعينه ما أشار به عمرو بن العاص حين طلب إلى الناس أن يتجبلوا من الطاعون في الجبال، ولم يكره عمر رأي ابن العاص؛ لأنه رآه فرارًا من قدر الله إلى قدر الله، توجبه الحكمة ويقضي به العقل وتفرضه الروية، ومعنى ذلك أن ما نكسبه في الحياة إنما نكسبه بقضاء وقدر، والعاقل حكيم يهديه الله إلى الخير فيكون ذلك قدر الله له، فإذا لم يُغنِ عن إنسان تفكيره فأصابه ما يؤذيه كان ما يصيبه قدر الله له.
أترى إلى هاتين النظريتين في مدلول القدرية، يؤيد إحداهما أبو عُبَيْدَةَ وطائفة من المسلمين معه، ويؤيد الأخرى عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه، ويؤمن كل من الفريقين بأن له الحرية التامة في التمسك برأيه، وعليه في الوقت نفسه أن يحتم الرأي الآخر، ثم لا يطعن تأييده هذا الرأي أو ذاك في عقيدته ولا يغير من حسن إيمانه وإسلامه! أما وعمر أمير المؤمنين فرأيه هو الذي ينفذ، ثم يبقى أبو عُبَيْدَةَ ومن معه على رأيهم لا يبدلونه ولا ينزلون عنه، ويبقى عمر على احترامهم واحترام رأيهم، كما يبقون هم على احترامه واحترام رأيه.
هذه الحرية العقلية وما أدت إليه من تبادل الاحترام بين هؤلاء المسلمين الأولين كانت عنصر قوتهم وسبب ظفرهم بعدوهم وتغلبهم عليه وفتحهم بلاده، ذلك بأنهم كانوا يؤمنون بأن كل واحد منهم إنما يصدر في رأيه عن قصد الخير للجماعة، وأنه يتحرى الحق لوجه الله جل شأنه، واختلاف الآراء في طبيعة الإنسان ما دام حرًّا عزيز الجانب، وإنما يغلب رأي حين تراه الجماعة حقًّا تقضي مصلحتها بتغليبه، ومصلحة الجماعة متأثرة أبدًا بأحوال تتغير بالزمان والمكان، فلا ضَيْرَ عليها أن تغلب الرأي الذي تراه حقًّا في زمانها ومكانها، وأن يبقى من يخالفونها عن رأيها أحرارًا ما قصدوا إلى الخير وابتغوا برأيهم وجه الحق وحده.
قدمت أن رأي عمر هو في نظري أدق تصويرًا للقدرية الإسلامية، وهو يتفق كذلك مع الجبرية العلمية كما نفهمها نحن في هذا العصر، وكما فهمها فلاسفة الإغريق منذ أكثر من ألفي سنة، وهذه الجبرية تذهب إلى أننا غير مختارين في رأي أو عمل، وأن اختيارنا لهذا الرأي أو ذاك، ولهذا الأمر أو ذاك، يتأثر بعوامل كثيرة لا سلطان لنا عليها، من بيئتنا ووراثتنا ونشأتنا التعليمية وحالنا الصحية كما يتأثر بغرائزنا الإنسانية وبأهوائنا الذاتية، وكثيرًا ما وجه حياتنا ووجه تفكيرنا وعملنا حادث طارئ لم يكن في حسباننا ولا في حسبان غيرنا، والبيئة والوراثة والنشأة والغرائز والأهواء والطوارئ كلها من قدر الله الذي لا نملك له تحويلًا ولا تبديلًا؛ لذلك كان فارًّا إلى قدر الله من يفر من قدر الله.
أدت الحرية العقلية إلى تبادل الاحترام بين المسلمين الأولين، فلم يكن ما حدث من خلاف في الرأي بين عمر وأبي عُبَيْدَةَ ليمنع عمر من التفكير في استخراج صاحبه من أرض الوباء إبقاءً عليه لخيره وخير المسلمين، والكتابان اللذان تبودلا بين الرجلين في هذا الشأن يقفان النظر ويثيران في الذهن شتى الفِكَر، فأنت إذا نظرت إليهما من ناحية العاطفة رأيتهما مثلًا في الوفاء قل نظيره؛ وفاء من عمر لأبي عُبَيْدَةَ أمين الأمة وصاحبه في السقيفة والقائد السياسي الذي رضي أهل الشام حكمه، ووفاء من أبي عُبَيْدَةَ لجنوده الذين خاضوا معه المعارك وبذلوا أنفسهم في سبيل الله وأظفروه بالروم أيما ظفر، وإن أنت نظرت إليهما من ناحية الخير العام للدولة الناشئة رأيت الرجلين يختلفان رأيًا على هذا الخير وهما يلتقيان مع ذلك عنده، فعمر يعرف قدر أبي عُبَيْدَةَ وما للمسلمين من خير في بقائه، ويرى لذلك إنقاذه من وباء فتاك لا فخر لمن يموت به، وأبو عُبَيْدَةَ يعرف واجبه لجنده ويرى مغادرته إياهم نجاةً بنفسه شر مثل يضرب لهم ولمن دونه من أمرائهم، هذا إلى أن كلًّا من الرجلين يستمسك في كتابه برأيه، فلا يرى عمر بأسًا من أن يفر الإنسان من قدر الله إلى قدر الله، وهو يدعو أبا عُبَيْدَةَ إلى هذا الفرار، ويصر أبو عُبَيْدَةَ على ألا يفر مما كتب في لوح القدر وإن رأى الموت جاثمًا أمامه، فيبقى بالشام فيموت راضيًا بقضاء الله وقدره، ويقرأ عمر كتاب أبي عُبَيْدَةَ، ويرى مخالفته له وعدم إذعانه لأمره، فلا يثور ولا يغضب، ولا يرى في هذه المخالفة خروجًا على واجب النظام، بل تأخذه الشفقة بصاحبه فيبكي إذ يراه وكأن قد مات.
هذه الثقة بين أمير المؤمنين وكبار المسلمين، مع إكباره لهم واحترامه رأيهم، كانت من عناصر القوة التي دفعت فتحهم، فأسرع ونجح في أحوال رأينا من دقتها في القادسية وفي شمال الشام شهيدًا على ما كان لإيمان المسلمين بالله من فضل في إقدامهم وجرأتهم، وقد زادتهم هذه العناصر ثباتًا وقوة، فقد كانت الحرية المحترمة والثقة المتبادلة قوام الإمبراطوريات الكبرى التي اكتسحت العالم في عصور مختلفة، فوجهت سياسته وأقرت فيه حضارة تقدم بها خطوات في سبيل الكمال.
لا أريد أن أختم هذا الفصل من غير أن أشير إلى ما كان لأمر عمر بعزل شرحبيل بن حسنة عن إمارة الأردن وإقامة معاوية بن أبي سفيان أميرًا على الشام كله من أثر أدى من بعد إلى قيام الدولة الأموية، وإلى انتقال العاصمة الإسلامية من المدينة إلى دمشق، وإلى اختلاط العرب بغيرهم من العناصر التي دخلت في دينهم اختلاطًا جعل الدولة الناشئة تتطور لتصير إسلامية أكثر منها عربية، فقد كان عمر لإكرامه بني هاشم لا يوليهم في البلاد المفتوحة، بل كان يبقيهم بالمدينة مع كبار الصحابة ليشيروا عليه، وقيل له في ذلك فقال يومًا لابن عباس: «إني رأيت رسول الله ﷺ استعمل الناس وترككم … والله ما أدري احترمكم عن العمل ورفعكم عنه وأنتم أهل ذلك، أم خشي أن تهاونوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم، ولا بد من عتاب.» وكان معاوية رجلًا حكيمًا عصمته حكمته أن تغشِّي مطامعه على بصيرته، حليمًا صانه حلمه عن بطش القدرة، ثاقب النظر يتألف الناس بسلطانه ويجذبهم إليهم بحسن حديثه وحسن حيلته، وطال عهده بالشام بقية عهد عمر، ووليه أيام عثمان، فانتهت سياسته بأهل الشام إلى تعلقهم به والتفافهم حوله ومناصرتهم له حتى على الأدنين من أهل بيت رسول الله، فكان لذلك من الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية ما كان.
ولم يكن عمر ليقدر ما حدث من ذلك بطبيعة الحال، فقد سكنت منافسات بني عبد شمس وبني عبد مناف منذ أسلم أبو سفيان وقومه بفتح مكة، وقد رأيت أبا سفيان وبنيه وصدق إخلاصهم في أثناء وقائع الفتح؛ لذلك نسي الناس الحفائظ القديمة، فلم تثر إقامة معاوية على إمارة الشام في نفس شبهة، ولم يفكر أحد فيما ترتب من بعد عليها، وهل كان لأحد يومئذ أن يفكر في أن الثورات الكبرى كالعواطف الهوجاء، تقتلع، وتذر وراءها من الآثار ما تذر، ثم تبقى كوامن الأرض كما هي، لتنبت بعد مرور العاصفة نباتها القديم في صورة تلائم الجو الجديد؟
أقر عمر الأمور في الشام، ثم ودع أهله وعاد إلى المدينة مطمئنًّا إلى زوال الهولين اللذين نزلا بالمسلمين، واستقر بهما زمنًا سار بعده إلى مكة على رأس المسلمين يؤدي فريضة الحج كعادته كل عام، فلما فرغ منها عاد إلى المدينة يستقبل من أنباء الفرس ومن أنباء الروم في مصر ما يتجه به إلى سياسة جديدة يواجه بها أحداثًا كان يرجو ألا تكون، فلننتقل معه لنستقبل هذه الأنباء، ولنرى من أثرها في سياسة الإسلام والمسلمين ما يفسح رقعة الإمبراطورية إلى حدود الصين من الشرق وإلى حدود تونس من الغرب.