التوسع في فتح فارس
كانت سياسة عمر أن يقف بالفتح في حدود العراق والشام لا يتعداهما، وأن يجمع العرب بذلك في وحدة تمتد من جنوب شبه الجزيرة إلى شمال بادية السماوة؛ لذلك كتب إلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ بعد فتح المدائن، حين بعث يستأذنه في مطاردة الفرس وراء جبلهم: «وددت لو أن بين السواد والجبل سدًّا لا يخلُصون إلينا ولا نخلُص إليهم! حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.» وكان عمر مخلصًا في هذه السياسة كل الإخلاص، والواقع أنها كانت خطوة جديدة في سياسة الإسلام؛ فقد كان رسول الله يحرص كل الحرص على تأمين شبه الجزيرة وتخومها حتى لا يعتدي الفرس أو الروم عليها، وكان يرجو أن يهدي الله كسرى وقيصر وأمراء مصر والشام والعراق إلى الإسلام بلا قتال، وكانت هذه سياسة أبي بكر حين أنفذ بعث أسامة لقتال الروم على تخوم الشام كما أمر به رسول الله، فلما دخل المُثنى بن حارثة الشيباني العراق وأمده الصديق بخالد بن الوليد فانتصر على الفرس، ثم لما بدأ الفتح في الشام، لم يَدر بخاطر أبي بكر ولا بخاطر عمر أن يتخطيا حدود العراق والشام إلى ما وراءهما، فقد كان بالعراق والشام من قبائل العرب التي نزحت من شبه الجزيرة وأقامت مملكة الحيرة ومملكة غَسَّان من يمتُّون إلى المسلمين بأوثق الصلة؛ فمن حق المسلمين أن يطمعوا في مؤازرتهم وانضمامهم إليهم، فأما ما وراء ذلك من أرض الفرس وأرض الروم فلم يكن للخليفتين الأولين مطمع في غزوه وفتحه.
على أن الحوادث كثيرًا ما كانت أقوى من الرجال، وكثيرًا ما حملتهم على تعديل اتجاههم وتغيير سياستهم، وقد حملت الحوادث عمر على تعديل سياسته بإزاء الفرس وبإزاء الروم على كره منه بادئ الأمر، ثم ملأته حماسة للسياسة الجديدة بعد أن حالف النجاح هذه السياسة إلى مدى لم يتوقعه الخليفة ولم يتوقعه أحد غيره.
فأنت تذكر أن الهرمزان أحد قواد الفرس بالقادسية قد نجا من الموت وفر بعد الهزيمة فلجأ إلى الأهواز وأقام بها، وأن يَزْدَجِرْد عاهل الفرس فر بعد فتح المدائن إلى حلوان ثم إلى الرِّي، وأن سائر جنود فارس وقوادها فروا أشتاتًا في مختلف أرجائها، فلما أمر عمر سعدًا ألا يتعقبهم وأن يتولى تنظيم العراق وإصلاحه، خيل إلى الفرس أن العرب أمسكوا عن تعقبهم خوفًا منهم، فأطمعهم ذلك فيهم وأغراهم بمناوشتهم، وكان أهل الأهواز أسبق من غيرهم إلى المناوشة، فكانوا لذلك أول من اصطدم بالمسلمين، فدارت الدائرة عليهم، فكانت هزيمتهم طليعة ما تلاها من هزائم الفرس واندحارهم.
والأهواز تقع إلى الجنوب الشرقي من العراق العربي وتتصل به، ويجري فيها من فروع دجلة نُهَيْر دُجيل ونهير كارون، ولا يفصلها عن العراق العربي جبل فارس الرفيع الذرى، وإن فصلت بينهما في بعض الأماكن مرتفعات يتعذر اجتيازها إلا من مسالك مألوفة لأهل تلك الأرجاء، وكان موقع الأهواز على مقربة من الأبلة والبصرة، سببًا في اشتباك أهلها بالعرب قبل غيرهم من أهل فارس، فأكثر الروايات على أن المسلمين فتحوا الأبُلة في عهد أبي بكر أول ما ذهب خالد بن الوليد إلى العراق، وأن الفرس استردوها بعد ذلك فبقيت في سلطانهم حتى فتحها عُتبة بن غزوان في عهد عمر بن الخطاب.
ذلك أن عمر عزل المغيرة بن شعبة عن البصرة وولاها أبا موسى الأشعري، وأمره أن يُشخص المغيرة إليه ليحاكمه، فقد كانت أم جميل إحدى نساء بني هلال تغشى الأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فغشيت المغيرة يومًا فهبت ريح فتحت كوة داره، فرآه أبو بَكْرَةَ وجماعة معه عليها، ثم خرج المغيرة ليؤم الناس للصلاة، فمنعه أبو بَكْرَةَ وقال له: لا تصَلِّ بنا، وكتب إلى عمر بما حدث، ودعا عمر أبا موسى الأشعري إليه أول ما قرأ الكتاب وقال له: «يا أبا موسى إني مستعملك، إني أبعث بك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل الله بك.» وأجاب أبو موسى: «يا أمير المؤمنين أعني بعدة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به.» قال عمر: «فاستعن بمن أحببت.» فاستعان أبو موسى بتسعة وعشرين صحابيًّا.
وبلغ أبو موسى البصرة ومعه كتاب عمر إلى المغيرة، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس: «أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرًا، فسلم ما في يدك، والعجل!» وكتب أمير المؤمنين إلى أهل البصرة: «أما بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرًا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليُمضي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم، وليتقي لكم طرقكم.»
وارتحل المغيرة ومُتَّهِموه حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم، فشهد ثلاثة شهادةً كاملة، وشهد الرابع بما يؤيد أقوالهم، ولكنه أجاب بأنه لم يعرف المرأة ولم ير الفعل، فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد، قال المغيرة موجهًا القول إلى أمير المؤمنين: «اشفني من الأعبد.» يريد بذلك أن يُرد إلى البصرة، لكن عمر نظر إليه شزرًا وقال: «اسكت! أسكت الله نأمَتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك!» وكذلك ظل أبو موسى على ولايته البصرة.
رأى أهل الأهواز هذا التغيير في ولاة البصرة، فخُيل إليهم أنه سيجر إلى اضطراب يثير المسلمين بعضهم ببعض ويمكنهم من الثورة بهم، أليسوا قد ألفوا مثل ذلك في بلاط كسرى! ألم يروا صلات أشرافهم وأمرائهم يكتنفها جو من الدسائس يجعل كل أمير يثور بخصومه ما أمكنته الفرصة! لذلك نقضوا عهدهم وأبوا أداء الجزية التي صالحوا المغيرة عليها، وزاد في تشجيعهم على الثورة بالمسلمين أن العلاء بن الحضرمي أمير البحرين اجتاز الخليج الفارسي بالجند في السفن لغزو المنطقة المقابلة له، منطقة فارس، ونزل بجنوده فسار قاصدًا إصطخر العاصمة العظيمة بعد ما تغلب على من لقيه من جنود الفرس، لكنه نسي أن يحمي ظهره، فقطع الفرس عليه خط رجعته إلى السفن، وكان العلاء قد اندفع إلى هذه المغامرة من غير أن يستأذن أمير المؤمنين، مع ما يعرفه من كراهية عمر ركوب البحر، وإنما فعل ذلك؛ لأنه نَفِس على سعد بن أبي وَقَّاصٍ أن يفتح المدائن، فأراد هو أن ينافسه فيفتح إصطخر فيكون له مثل فخاره، فلما أخفق وأحيط به استغاث، فأمر عمر حامياته بالبصرة والكوفة فأنقذوه وأنقذوا من معه، وعزل عمر العلاء عن البحرين وجزاه عن مغامرته بأن جعله مرءوسًا لسعد بن أبي وَقَّاصٍ بالعراق.
شجعت هذه العوامل الفرس على الثورة بالمسلمين، فأبوا أداء الجزية التي كانوا قد ارتضوها، فلم يكن بد من مناجزتهم، حتى لا يغريهم سكوت المسلمين عنهم بالإمعان في الثورة، والتفكير في المقاومة، والاسترسال من ذلك إلى اجتياز التخوم وانتهاك حرمة العراق العربي؛ لذلك جمع أبو موسى قواته ودفعها إلى مدينة الأهواز، ففتحها بعد أن كانت قد فتحت مناذر ونهر تِيري.
من هم أمراء الجند الذين تولوا قيادة المسلمين في هذا الغزو؟ ومن الذين واجهوهم من قواد الفرس وقاتلوهم فانهزموا أمامهم؟ وكيف كانت مسيرة الجيوش؟ وماذا كانت خطة القتال؟ تختلف الروايات على إجمال ذلك وتفصيله اختلافًا كبيرًا، على أنها تنتهي جميعًا إلى أن المسلمين اجتازوا تخوم خوزستان، وساروا في أرضها وحصروا الأهواز وفتحوها؛ وأن الفرس طلبوا الصلح بعد فتح الأهواز فأجابهم المسلمون إليه على أن يظل ما فتحوه من أرض خوزستان في حوزتهم وسلطانهم، وأن يقر الفرس في بلادهم ولا يتخطوها.
والروايات على اختلافها تتفق في تأييد المعروف من سياسة عمر وحرصه على أن يقف بالفتح في حدود العراق العربي، كما أنها تقص من التفاصيل ما يكشف عن جانب له قيمته في هذا المعنى، لذلك يجمل بنا أن نلخص هذه الروايات في إيجاز لا يجني عليها.
يطيل الطبري الحديث عن فتح مناذر ونهر تيري، وعن موقف الهرمزان من المسلمين، وخلاصة روايته أن الهرمزان فر من القادسية إلى الأهواز، وجعل يُغير بأهلها على مَيْسان ودَسْت ميسان المجاورتين للعراق العربي متجهًا إليهما من وجهين هما مناذر ونهر تيري، وقد استمد عتبة بن غزوان سعد بن أبي وَقَّاصٍ لقتاله فأمده، فوجه سلمى بن القَيْن وحَرْملة بن رَبْطة فنزلا على حدود ميسان ودست ميسان واستمدَّا غالبًا وكُلَيْبًا، من أبناء عمومتهم من العرب الذين استوطنوا الأهواز، ودفعوهم للقاء الهرمزان، واتحد هؤلاء العرب من أبناء العم، فلقوا الفرس وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأخذوا مناذر ونهر تيري، وبلغوا دجيلًا واجتازوه إلى سوق الأهواز، وعرف الهرمزان ما أصاب قومه، فطلب إلى المسلمين الصلح فأجيب إليه على ألا يجلو المسلمين عما فتحوا من أرض خوزستان.
ثم حدث أن اختلف الهرمزان مع غالب وكليب على تخوم ما بينهما من البلاد، ولم ينزل على حكم سلمى وحرملة، بل استعان بالأكراد حتى كَثُف جنده، ونقض ما بينه وبين المسلمين من عهد، وأحيط عمر علمًا بما حدث فأمَّر حرقوص بن زهير السعدي الصحابي على الجند الذي نهد لقتال الهرمزان، فأجلاه عن الأهواز، واضطره أن يفر مشرقًا إلى رَامَهُرْمُز، ثم أمر حرقوص جزء بن معاوية بمطاردته، فلما رأى الهرمزان أن لا قِبَل له بقتال المسلمين طلب الصلح كرة أخرى، فأذن عمر بإجابته إليه، وكتب إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه، وأذن لجزء عمارة البلاد، فشق الأنهار وعمر الموات.
هذه خلاصة وجيزة لرواية ابن جرير، وقد أخذ ابن الأثير في تاريخه الكامل بهذه الرواية، أما ابن كثير فقد أوجز في تلخيصها، فلم يزد على القول بأن المسلمين نصروا على الهرمزان وفتحوا مناذر والأهواز ونهر تيري، وقتلوا من جيشه جمًّا غفيرًا، وسلبوا ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تُسْتَر، وابن خلدون أكثر إيجازًا، ولعل ما بين رواية ابن جرير ورواية البلاذُري من خلاف هو الذي دعاهم إلى هذا الإيجاز.
وخلاصة رواية البلاذُري أن المغيرة بن شعبة غزا سوق الأهواز بعد أن هزم البيرواز وصالحه على مال، فلما وُلي أبو موسى البصرة مكان المغيرة نكث البيرواز، فغزاه أبو موسى ففتح الأهواز، وأصاب المسلمون من الفرس سبيًا كثيرًا، لكن عمر كتب إليهم: «إنه لا طاقة لكم بعمارة الأرض، فخلوا ما في أيديكم من السبي، واجعلوا عليهم الخراج.» فردوا السبي ولم يملكوهم، وسار أبو موسى من بعد إلى مناذر فحاصر أهلها فاشتد قتالهم، واستشهد المهاجر بن زياد في حربهم، فجزوا رأسه ونصبوه بين شرفتين من شرفات قصرهم، وتولى الربيع أخو المهاجر إمارة المقاتلة، ففتح مناذر عَنْوَةً بعد أن قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكتب عمر إلى أبي موسى: «إن مناذر كقرية من قرى السواد، فردوا عليهم ما أصبتم.»
أنت ترى أن اختلاف الروايات لا يقتصر على أسماء الذين قاموا بهذه الغزوات وكيف قاموا بها، بل يتجاوز ذلك إلى تعاقبها التاريخي، والخلاف على تعيين بدئها ليس بأقل من الخلاف على أمراء الجند فيها؛ فقد قيل: إنها بدأت في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وقيل: في السنة السادسة عشرة، وقيل: في السنة السابعة عشرة، وقيل: في السنة التاسعة عشرة، وقيل: في السنة المتممة العشرين، وأكبر الظن أنها بدأت في أواخر السنة الخامسة عشرة، وأن ما كان ينقضي بين كل صلح ونقضه جعلها تستطيل على الزمان كل هذه السنوات.
على أن الروايات المختلفة تتفق كلها على أن عمر كان حريصًا على سياسته ألا يتخطى الفتح حدود العراق العربي، ولذلك كان يجيز الصلح كلما طلبه الفرس بعد هزيمتهم، وكان يأمر برد السبي إلى حريتهم والاكتفاء منهم بالخراج، ثم يأمر رجاله بتعمير البلاد وشق الأنهار خلالها وإصلاح الموات من أرضها وإقامة العدل بين أهلها، ولو أن الفرس أذعنوا للأمر وارتضوا هذه السياسة وأخلصوا في عهدهم مع المسلمين، لبقي ليَزْدَجِرْد سلطان فارس ولما امتد الفتح الإسلامي في عهد عمر إلى ما امتد إليه.
لم يكن قتال الفرس والتغلب عليهم ثم الظفر بهم بالأمر اليسير في هذه الأرجاء؛ فقد كانوا يقاومون أشد المقاومة، وكانوا يقفون المسلمين مواقف بالغة غاية الدقة، ويضطرونهم أحيانًا إلى الارتداد عن موقع إلى غيره حين يرون هذا الموقع أمنع من أن يُنال، ولقد خرج جزء بن معاوية يتعقب الهرمزان في تراجعه إلى رامهرمز، حتى إذا انتهى إلى قرية الشُّغْر أعجزه الهرمزان، فمال إلى قرية لا يُطيق أهلها منعها.
عرف يَزْدَجِرْد مقاومة بني وطنه، فطمع في استرداد ما ضاع من ملكه، فجعل يثير حمية الفرس ويحرك حماستهم بإظهار الألم على ما سلف من هزائمهم وما استولى عليه العرب من بلادهم، قيل: إنه كان بمرو وقتئذ، وقيل: كان بإصطخر، أو بقم، وإنه كتب إلى أهل فارس يذكرهم الأحقاد ويؤلبهم «أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه والأهواز، ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحركوا أهل فارس تنتصروا.» وتكاتب أهل فارس وأهل الأهواز وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة.
بلغت هذه الأنباء حرقوص بن زهير وأمراء المسلمين، فأبلغوها عمر، فكتب إلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ أن ابعث إلى الأهواز بعثًا كثيفًا مع النُّعْمان بن مُقَرِّن وعجل، وسمَّى جماعة من أبطال المسلمين يسيرون معه لينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره، وكتب إلى أبي موسى أن ابعث إلى الأهواز جندًا كثيفًا عليهم سهيل بن عدي، وسمى طائفة من الأبطال يسيرون على رأس الجند معه.
أفكان ذلك عدولًا من عمر عن سياسته أن يلزم المسلمون العراق العربي، فهو يريد بهذه البعوث أن يوغل في أرض فارس؟ أم كان تأديبًا للفرس، فإذا أذلتهم الهزيمة لم يعودوا إلى الغدر؟ الواقع أن عمر كان مترددًا بين هذا وذاك، ثم كان أشد ميلًا إلى الاستمساك بسياسته منه إلى الاستيلاء على أرض فارس، قدم عليه وفد من جند البصرة فيهم الأحنف بن قيس، فتحدث إليهم ثم وجه الكلام إلى الأحنف يقول له: «إنك عندي مصدَّق، وقد رأيتك رجلًا! فأخبرني: أأن ظُلِمت الذمة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟» وأجابه الأحنف، «لا! بل لغير مظلمة والناس على ما تحب.» قال عمر: «فنعم إذن، انصرفوا إلى رحالكم!» فلما بلغته أنباء يَزْدَجِرْد وتحريضه أهل فارس على المسلمين أراد أن يُلقي على هؤلاء الغَدَرَةِ العَجَزَةِ درسًا لا ينسونه، فبعث إليهم النعمان بن مُقَرِّن وسهيل بن عدي.
وكان سهيل بن عدي قد سار من البصرة يريد لقاء الهرمزان، فلما بلغته أنباء النعمان واستيلاؤه على رامهرمز وانحياز الهرمزان إلى تستر، مال من سوق الأهواز، فجعل وجهته إلى هذه المدينة الحصينة، وبلغها، فألفى النُّعْمان بن مُقَرِّن سبقه إليها ووقف بجنده أمام حصونها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء فنزلوا جميعًا على أسوارها، وحاصرت كل هذه القوات تلك المدينة المنيعة، وقد تحصن الهرمزان وجنوده من أهل فارس ومن أهل الأهواز بخنادقها، ووقفوا قبالة عدوهم مطمئنين إلى منعة حصونها منعة تحول دون اقتحامها وترد كل عاد إليها.
ولم يخطئ الهرمزان في تقديره؛ فقد حاول المسلمون اقتحام أسوار المدينة فردوا عنها، وزاحفهم الفرس غير مرة، فارتدوا على أعقابهم أحيانًا، وردوا المسلمين عن مواقفهم أحيانًا أخرى، وطال الحرب سجالًا بين الفريقين، وأيقن المسلمون بأس عدوهم بعد أن اجتمع إلى الهرمزان داخل أسوار المدينة جند عظيم جاء لنصرته من شتى الأرجاء ملبيًا نداء كسرى، لا قبل للمسلمين إذن باقتحام المدينة إلا أن يجيئهم مدد يزيدهم قوة، وكان أبو سَبْرَةَ على جند الكوفة وجند البصرة جميعًا، فكتب إلى عمر يصف له منعة تستر وقوة الفرس المتحصنين بها ويستمده، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يسير في جند البصرة جميعًا مددًا لأبي سبرة، وأن يضع نفسه وقواته تحت إمرته، وسار أبو موسى بجنده يُمِدُّ أبطالًا شهدوا المواقع وأبلوا فيها بلاء كفل انتصارهم بها جميعًا.
واستمر الحصار واشتد القتال، وكان الفرس يخرجون من أسوار المدينة يزاحفون المسلمين ثم يرتدون إلى الحصون بعد أن يُصاب من الفريقين عدد كبير، وكتب أبو موسى إلى عمر يصف له ما يلقونه، فكتب الخليفة إلى عمار بن ياسر، وكان على الكوفة، أن يسير مددًا إلى أبي سبرة، وأن يقيم عبد الله بن مسعود على إمارة الكوفة مكانه.
ورأى المسلمون حين أدركهم عمار وجنوده أن لا مقام لهم حول الأسوار، فلا بد أن يقتحموا المدينة بعد أن طال حصارهم لها شهورًا، ورأى الهرمزان من أعلى الحصون تجهز المسلمين للقتال فأمر جنده بالخروج إليهم والشدة عليهم، وكله اليقين أنه ظافر بهم فردُّوهم على أعقابهم، وخرج هو بنفسه، حتى إذا كان على أبواب المدينة يقاتل المسلمين ويقتل منهم، لقيه البراء بن مالك وعرفه فاندفع إليه يريد قتله، ولم تخدع البراء نفسه؛ فقد كان البطل المجرب والفارس المعلم، عرف له المسلمون مواقفه في حروب الرِّدَّة وفي حروب العراق والشام جميعًا، وشهدوا له بأنه لا يُغلب، ولقد أردى أمام تستر مائة مبارز خرجوا إليه ينازعونه الشجاعة والبأس، لكن الهرمزان لم يكن دونه قوة وبأسًا؛ لذلك انفلت من ضربة سددها إليه خصمه، ورمى البراء بضربة أصمته قتيلًا، وخرج مجزأة بن ثور يأخذ بثأر البراء فلم يكن أحسن منه حظًّا، فاستشهد كما استشهد غيره من خيرة أبطال المسلمين وشجعانهم.
لكن المسلمين كانوا يعلمون أن تستر عاصمة خوزستان وأكثر بلادها منعة، وأنها إن تغنم تُخضد شوكة الفرس وتُضَعْضع عزمتهم؛ لذلك لم يفلَّ من عزمهم مقتل الصناديد من إخوانهم، بل زادهم استشهاد هؤلاء حبًّا للقتال وإقدامًا عليه وبلاء فيه وإقبالًا على الموت ابتغاء الظفر، ومالت الشمس آخر النهار وقد تولى الفرس الإعياء، فلم يكن لهم بد من التراجع إلى المدينة والتحصن بقلاعها وأسوارها، وأصبح الصباح فلم يخرج منهم للقتال أحد، ذلك بأنهم رأوا المسلمين استحبوا الموت على الحياة، وأقسموا لا يبرحون تستر أو يفنوا عن آخرهم.
تحصن الهرمزان بقلعته، فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء، فأطل عليهم وقال لهم: «إن في جعبتي مائة نُشَّابة، ووالله ما تصلون إليَّ ما دام معي منها نشابة، وما يخيب لي سهم! فما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح!» وإنما وجه إليهم هذا القول وهو موقن أنه لا محالة مقتول إذا أُسر في قتال، وأن لا أمل له في حياة إلا على صلح، وقال له القوم: ماذا تريد؟ فأجابهم: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، وأجابه القوم إلى ما طلب، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقًا وساروا به إلى أبي موسى وذكروا ما كان بينهم وبينه، فحمل الهرمزان مع أنس بن مالك والأحنف بن قيس إلى عمر فكان بين الرجلين حديث طويل نقصه في ختام هذا الفصل.
كان تسليم الهرمزان نفسه إيذانًا بإذعان تستر؛ لذلك كف من بقي من أهلها عن المقاومة وألقوا بأيديهم، فتسلم المسلمون المدينة، واستولوا على ما فيها من الأموال، فاستأثروا لأنفسهم بأربعة أخماسه، وجعلوا الخمس لأمير المؤمنين، وقد بلغ نفل الفارس يومئذ ثلاثة آلاف، ونفل الراجل ألف درهم.
يجمل بنا، قبل أن نتابع جيوش المسلمين في مسيرتها لفتح ما بقي من أرض خوزستان، أن نقف هنيهة نلتمس ما ينطوي عليه فتح تستر من عبرة، فتستر عاصمة خوزستان كما رأيت، وكانت من أشد مدن الفرس منعة وأقواها حصونًا، وكان يَزْدَجِرْد قد وعد الهرمزان أن يطلق يده بالسلطان في خوزستان وفي منطقة فارس الواقعة في جنوبها، فكان ذلك من أقوى الحوافز دفعًا له إلى الاستماتة في المقاومة والوقوف في وجه المسلمين أشهرًا، فكيف تُسَوِّل لرجل من أهل تستر بعد ذلك نفسه أن يدل العرب على مدخلها ويكشف لهم عن عورتها؟ بل إن بعض الروايات لتجري بأن جماعة من أمراء الفرس انضموا برجالهم إلى المسلمين المحاصرين تستر وعاونوهم في قتال بني وطنهم منحدرين بذلك إلى هاوية سحيقة من الانحلال النفسي، ثم ما للهرمزان يرضى، بعد أن أبلى ما أبلى في الدفاع عن المدينة الحصينة، أن يسلم آخر الأمر نفسه، وأن ينزل على حكم خليفة المسلمين في حياته وفي موته؟
لا أراني في حاجة إلى أن أكرر هنا ما ذكرته تعليقًا على القادسية من ضعف الشعور القومي في النفس الفارسية لذلك العهد ضعفًا جعل حب الذات والحرص على الحياة أقوى سلطانًا على هذه النفس من كل اعتبار معنوي، وما أدى ذلك إليه من اضطراب البلاط واقتتال الأمراء على السلطان، وإنما أريد أن أرتب على هذه الحال المعنوية الآثار التي انتهت إلى هزيمة تستر وما تلاها من الهزائم.
فحيثما أدى انحلال الروابط الاجتماعية في أمة من الأمم إلى انحلال روحها المعنوي، ضعفت مناعة هذه الأمة فقصرت عن أن تمد ببصرها إلى المستقبل، وأن تقدر لما يصيبها فيه، فالروابط الاجتماعية ملاك الحياة المعنوية وقوامها في الأمة، ومكان القوة المعنوية من الأمة مكان غريزة الاحتفاظ بالحياة في الفرد، وكما تدعونا هذه الغريزة للاحتفاظ بكل عضو من أعضائنا سليمًا ما استطعنا الاحتفاظ به والدفاع عنه، فإذا أوجب الاحتفاظ بحياتنا بتر عضو من الأعضاء لم نتردد في بتره بدافع من هذه الغريزة نفسها، كذلك تدعو القوة المعنوية القائمة من الجماعة مقام تلك الغريزة من الفرد لأن تدافع الجماعة عن كل فرد من بينها إلى غاية ما تستطيع الدفاع عنه، فإذا لم يكن بد من التضحية بطائفة من الأفراد محافظة على كيان المجموع لم تتردد الجماعة في التضحية بهم، واستحب هؤلاء الأفراد هذه التضحية دفاعًا عن الكيان القومي الذي أعزهم، والكفيل وحده بأن يعز أبناءهم وحفدتهم.
وكما يحدث أن تنحل حيوية الجسم، فإذا كل عضو من أعضائه يؤدي وظيفته لحسابه لا لحساب مجموع الجسم فتضعف بذلك غريزة الاحتفاظ بالحياة ضعفًا ينتهي إلى الموت، كذلك يحدث أن تضعف القوة المعنوية في الأمة بانحلال الروابط الاجتماعية بين أبنائها واقتصار كل منهم على التفكير في نفسه ولنفسه، غير معتد بما بينه وبين سائر أفراد الأمة من تضامن هو الحفيظ لكيان الجماعة، عند ذلك تضعف الأمة بعد قوة، وتذل بعد عز، وتنحل معنوياتها انحلالًا هو النذير بانقراضها بوصفها جماعة لها كيانها.
الأمة التي تبلغ الروح المعنوية فيها أوج قوتها لا تعرف اليأس ولا الاستسلام وتؤثر الموت على حياة ضعف ومذلة ومثل هذه الأمة لا يمكن أن تذل أو تضعف، ولا يمكن أن تفنى؛ لأن حيويتها المعنوية تتغلب على كل ضعف وتحول دون كل انحلال … أفرادها فيما بينهم كتلة واحدة متضامنة على الزمان كتضامنها في المكان، فإذا فقدت الأمة طائفة منهم قامت طائفة غيرها مكانها وأدت عملها، حتى تسترد بالتعويض الطبيعي ما فقدت، فتعود أكثر مناعة وأشد بأسًا مما كانت، وهذه الأمة لا يمكن أن يقوم من أبنائها من يدل عدوها على عورتها حرصًا على أمنه في الحياة أو على حياته نفسها، فإذا أحيط برجل من رجالاتها ما أحيط بالهرمزان آثر الموت مجاهدًا ليكون جهاده ويكون موته مثلًا عاليًا لمعاصريه، ودرسًا ساميًا لمن يجيء بعده، وإذا قضى القدر أن تُغلب هذه الأمة يومًا فلتعود في غدها فتسترد قوتها وتثأر لنفسها، وتحيا بذلك مع سائر الأمم حياة عزة وبأس وسلطان.
أما وقد انحلت الروابط الاجتماعية في الأمة الفارسية لأسباب أشرنا إليها في غير موضع من هذا الكتاب فأدى هذا الانحلال إلى تداعي قوتها المعنوية، فقد كان طبيعيًّا أن يغلبها الروم وأن يغلبها العرب؛ إذ كان أبناؤها لا يلبثون حين يرون الدائرة تدور عليهم أن يدلوا عدوها على عورتها، وأن يكونوا إلبًا عليها معه ليجتنوا لأنفسهم أمن الحياة وإن جنوا بأنفسهم على أمن الوطن، وقد رأيت على ذلك أكثر من مثل: رأيت اضطراب البلاط ودسائسه، ورأيت فرار القواد والجنود، ثم رأيت فرار يَزْدَجِرْد نفسه من المدائن وحلوان، فلا عجب وذلك شأن الحياة المعنوية في أمة أن يغدر بها من أبنائها من ينسى أنه ابنها وأن فضلها عليه عظيم، ثم لا عجب أن يلتمس كل واحد الحياة لنفسه، والمجد لنفسه، والجاه لنفسه، ما دامت الروابط القوية قد عراها التفكك والانحلال.
تقع تُسْتَر على نهر كارون شمال الأهواز، على نحو خمسين فرسخًا منها، وتقع سوس على بضعة فراسخ إلى الغرب من تستر؛ لذلك كانت المناوشات مستمرة بين أهل سوس والمسلمين في أثناء حصارهم تستر، فلما فرغوا منها كان طبيعيًّا أن يتجهوا إلى سوس ويحاصروها ويقاتلوا أهلها، وقد فعلوا، ولقي المسلمون جهدًا في قتالهم الذي طال حتى نفد ما في المدينة من طعام، ولم يجد أهلها مفزعًا من الموت إلا إلى الصلح، فسألوا دهقانها أن يفاوض المسلمين فيه، وطلب الدهقان إلى أبي موسى أن يؤمنه على حياة مائة من أهله ففعل، وسمى الدهقان المائة ونسي نفسه فأمر به أبو موسى أن يُقتل، فنادى: «رويدك! أعطك مالًا كثيرًا.» وأبى أبو موسى وضرب عنقه، ولو أنه ذكر حكم أبي بكر، يوم عفا عن الأشعث بن قيس حين نسي نفسه في مثل هذا الموقف، لما قتل رجلًا أسلمه مفاتح مدينته.
أورد الطبري في الروايات التي جرت عن فتح السوس أن سياه الأسواري كان قد خرج من أصبهان بأمر يَزْدَجِرْد لقتال المسلمين، فلما رآهم غلبوا على تستر بعد أن احتلوا بلاد الأهواز، دعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه وذكر لهم فعال المسلمين وأنهم لا يلقون جندًا إلا فلوه، ولا ينزلون حصنًا إلى فتحوه؛ فانظروا لأنفسكم، وأنه اتفق معهم فبعث إلى أبى موسى يقول: «إنا قد رغبنا في دينكم، فنُسلم على أن نقاتل معكم العجم ولا نقاتل معك العرب وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتُلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك.» وأجابهم أبو موسى: بل لنا ما لكم وعلينا ما عليكم، فلم يرضوا، وكتب أبو موسى إلى عمر بما حدث، فأجابه: «أعطهم ما سألوك.» فأسلموا، وفرض لهم أبو موسى، وجعل لمائة منهم ألفين ألفين، ولستة هم زعماؤهم ألفين وخمسمائة.
وكتب أبو موسى إلى عمر يذكر له أن بالسوس قبر النبي «دانيال» وأن جسده مكشوف يستسقي به الناس، فأمره عمر أن يكفنه وأن يدفنه، ولا يزال قبر دانيال حتى اليوم بهذه المدينة موضع الإجلال والاحترام، وقد أقيم حوله في القرن التاسع عشر المسيحي معبد يزار ويتبرك به.
فرغ المسلمون من السوس فخرجوا إلى جُنْدَيْ سابور الواقعة على مقربة منها إلى الشمال الشرقي، فأقاموا على حصارها زمنًا، ثم إذا أبوابها تُفتح لهم فجأة، كأن الصلح بينهم وبين أهلها قد تم، وبعث المسلمون يسألونهم في ذلك مخافة أن تكون مكيدة، فذكروا أنهم قبلوا الأمان الذي بعثه المسلمون إليهم، وأقروا لهم بالجزية على أن يمنعوهم، وعجب المسلمون، ثم تبينوا أن عبدًا من عبيدهم هو الذي كتب لأهل المدينة بالأمان، وكتبوا إلى عمر بما حدث، فأمر بإجازة الصلح والوفاء به.
كانت أنباء هذه الفتوح تبلغ عمر في مواقيتها، فلا يسعه كلما بلغه نبأ منها إلا أن يسجد شكرًا لله على توفيقه المسلمين وتسديد خطاهم، وكان يزيده شكرًا ما يعرفه من أمر هذه المدن التي تُفتح، وما يذكره له الرسل من صفة ما لم يره منها، فالأهواز، أو هرمزشير على لغة الفرس كانت مدينة عظيمة تضم سبع كور على طراز المدائن، وكانت آهلة بالتجارة والسكان، وكان الفرس يعظمونها في مختلف الأرجاء من مملكتهم، وتستر عاصمة خوزستان ذات الصيت الذائع في عالم يومئذ، ومعقل الفرس الأمنع في الجنوب الغربي من سهل إيران، والسوس، وهي شوشان القديمة التي ظلت عاصمة ميديا زمنًا طويلًا، كانت فتنة الناس جميعًا بجمالها وروعتها. وخوزستان كلها، المملكة الفسيحة الأرجاء، الممتدة ما بين العراق العربي والعراق العجمي، كانت درة من أغلى الدرر في تاج الأكاسرة، لقد نصر الله المسلمين وأعزهم في كل مواقفهم بهذه البلاد، أفيتابع عمر الفتح فيأمر باقتحام فارس إلى أقصى الشرق، أم يقف من هذه الفتوح عند ما استولى عليه، ويدع الفرس فيما وراء ذلك لا يزعجهم ولا يحرك الثارات في نفوسهم، فيدفعهم إلى مقاومة جيوشه مقاومة لا يعلم إلا الله ما تكون نتائجها؟
بينا يفكر عمر في هذا الأمر، ويستخير الله فيما يصنع، كان أنس بن مالك والأحنف بن قيس يسيران من تستر في رجالهما يحملون خمس الفَيْء والهرمزان معه إلى أمير المؤمنين، فلما اقتربوا من المدينة ألبسوا الهرمزان لباسه من الديباج الموشى بالذهب ووضعوا على رأسه تاجه «الآزين» المرصع بالدر والجوهر، وأمسك بيده صولجانًا من الذهب الخالص المكلل بالياقوت واللآلئ، ليرى عمر وأهل العاصمة الإسلامية صورة البهرج العظيم الذي يتزين أمراء الفرس به، وبلغوا المدينة وقصدوا دار عمر، فعلموا أنه ذهب إلى المسجد يلقى وفدًا من أهل الكوفة، فانطلقوا يطلبونه هناك فلم يروه وبصر بهم غلمان من أبناء المدينة عرفوا ما يريدون، فذكروا لهم أن أمير المؤمنين نائم في ميمنة المسجد متوسد برنسه، وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس له، فلما خرجوا عنه نزع برنسه ثم توسده فنام، وعاد الأحنف وأنس والهرمزان واتبعهم الغلمان والنظارة الذين أخذوا بمنظر الأمير الفارسي في حلة إمارته فساروا في أثره يملئُون أنظارهم منه، حتى دخلوا المسجد وأجالوا نظرهم في أرجائه، ورأوا عمر وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، فجلسوا سكوتًا مخافة إزعاجه، ولم يفطن الهرمزان إلى قصد القوم من هذه الحركات المتعاقبة ذهابًا وجيئة؛ لأنه لم يفهم شيئًا مما يقولون، فلما رآهم اطمأنوا بالمسجد وليس فيه إلا ذلك الرجل النائم في يده درة معلقة خُيل إليه أنهم سيصلون قبل أن يلقوا مليكهم، فلم يدر بخاطره إلا أن يكون عمر الساعة في إيوانه دونه حُجَّابه، فهذا الملك القادر الذي قهرت جيوشه فارس والروم لا بد أن يكون له إيوان على بابه حجاب، ومهما يكن من حديث الناس عن بساطة عيشه، فلن تبلغ البساطة منه أن يستغني هذا الملك الواسع عن دواوين ترعى نظامه، ولا بد لأمير المؤمنين من إيوان وحجاب ينتظم بهم وقته وعمله! ورأى الأحنف بن قيس يشير إلى كل هامس أن يمسك فلا يزعج الخليفة عن نومه، فسأل بعض ممن يعرفون لغته: فأين عمر؟ قالوا وأشاروا إلى النائم: هو ذا، وأخذ الأمير الفارسي بما رأى مما لم يكن يجري له بخاطر، فوجم هنيهة ثم سأل: وأين حرسه وأين حجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا إيوان، وزاد عجب الهرمزان فقال لمن حوله أو قال في نفسه: «ينبغي أن يكون هذا الرجل نبيًّا فإلا يكن فإنه يعمل عمل الأنبياء!»
وأيقظ الهمس عمر فاستوى جالسًا، فرأى الأمير على مقربة منه عليه حلته وفي يده صولجانه يشع منهما لألاء الجوهر فقال: الهرمزان! قال القوم: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه وقال: «أعوذ بالله من النار وأستعين الله! الحمد لله الذي أذل للإسلام هذا وأشياعه! يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بهدي نبيكم ولا تُبطرنكم الدنيا فإنها غرارة!» قال الوفد الذين جاءوا من تستر: «هذا ملك الأهواز فكلمه.» وأجاب عمر: «لا! حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.» وكيف يكلم أمير المؤمنين رجلًا قتل من أبطال المسلمين وشجعانهم من قتل وهو في حلة الملك وزيه، وقد ينتهي أمره إلى التنكيل به وقتله!
ونزع القوم كل ما على الهرمزان إلا ما يستره، وألبسوه ثوبًا صفيقًا، فلما رآه عمر على هذه الحال قال له: «هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟!» وأجاب الهرمزان: «يا عمر! كنا وإياكم في الجاهلية وقد خلى الله بيننا وبينكم فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا.» قال عمر: «إنما غلبتمونا بالجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، والآن فما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟» ورأى الهرمزان الغضب في عين عمر وهو يُلقي عليه هذا السؤال فقال: «أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك!» قال عمر: «لا تخف ذلك!» واستسقى الهرمزان ماء فأُتي به في قدح غليظ فقال: «لو مت عطشًا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا؟» فأُتي به في إناء يرضاه، فلما أخذه جعلت يده ترتجف وقال: «إني أخاف أن أُقتل وأنا أشرب الماء.» قال عمر: «لا بأس عليك حتى تشربه.» فأكفأ الهرمزان الإناء وأراق ما فيه من ماء، فقال عمر: «أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.» قال الهرمزان: «لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به.»
عند ذلك جرى بين الرجلين حوار تدخل فيه الأحنف بن قيس وأنس بن مالك، وكان فيه من جانب عمر عنف وشدة، وقد أورد الطبري وابن كثير هذا الحوار كما يلي:
وأقر الأحنف بن قيس ومن حوله كلام أنس، وذكروا جميعًا أن أمير المؤمنين أمَّن الهرمزان، فنظر إليه عمر مغضبًا وقال: «خدعتني! والله لا أنخدع إلا لمسلم!» وأسلم الهرمزان، وفرض له عمر ألفين، وأنزله المدينة.
ويروي البلاذُري عن أنس بن مالك حديثًا مسندًا إلى مروان بن معاوية عن حميد عن أنس أنه قال: «حاصرنا تستر فنزل الهرمزان فكنت الذي أتيت به إلى عمر، بعث بي أبو موسى، فقال له عمر: تكلم، فقال: أكلام حي أم كلام ميت، فقال: تكلم لا بأس، فقال الهرمزان: كنا معشر العجم ما خلى الله بيننا وبينكم نقضيكم ونقتلكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: ما تقول يا أنس؟ قلت: تركت خلفي شوكة شديدة وعدوًّا كلبًا؛ فإن قتلته يئس القوم من الحياة فكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم في الحياة، قال عمر: يا أنس، سبحان الله؟ قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور السدوسي؟ قلت: فليس لك إلى قتله سبيل، قال: ولم؟ أعطاك؟ أصبت منه؟ قلت: لا! ولكنك قلت له: لا بأس، فقال: متى؟ لتجيئن معك بمن شهد وإلا بدأت بعقوبتك؟ فخرجت من عنده فإذا الزبير بن العوام قد حفظ الذي حفظت فشهد لي فخلى سبيل الهرمزان فأسلم ففرض له عمر.»
كان المغيرة بن شعبة يتولى ترجمة كلام الهرمزان إلى عمر وكلام عمر إلى الهرمزان، وكان لا يحذق الفارسية ما يحذقها زيد بن ثابت، فدعا عمر بزيد فجاء فتولى الترجمة، فلم يجد عمر في كلام الهرمزان جوابًا على نقضه عهد المسلمين مرة بعد مرة، عند ذلك وجه عمر القول إلى الوفد الذين جاءوا من تستر فسألهم: لعل المسلمين يُفضون إلى أهل الذمة بأذى فلهذا ينتقضون بكم، قال رجال الوفد: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال عمر: فما بالهم ينتقضون؟ وتتابع رجال الوفد يحاول كل منهم أن يجد لهذا الانتقاض علة مع وفاء المسلمين لهم، فلم يجد عمر في كلام أحد منهم شيئًا يشفيه ويبصره، عند ذلك قال الأحنف بن قيس «يا أمير المؤمنين أخبرك، إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، فلم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يُخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئًا بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وملكهم هو الذي يحرضهم ويبعثهم ولم يزل هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم ونخرجه من مملكته وعز أمته، هنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويسكن جأشهم.»
استمع عمر إلى الأحنف مليًّا، وأطرق إطراقة طويلة، ثم قال له: «صدقتني والله وشرحت لي الأمر عن حقه.» وعرف الهرمزان حديث الأحنف فأقره، فازداد عمر ثقة به واطمئنانًا له، ثم إن الأنباء جاءت باجتماع أهل نَهَاوَنْد لقتال المسلمين، فلم يبقَ لدى أمير المؤمنين في صدق هذا الحديث ريب، فخرج من تردده، ورأى أن الوقوف بالفتح في حدود العراق لم يعد مستطاعًا، وأن الحوادث تحمله طائعًا أو كارهًا على العدول عن هذه السياسة، وتدفعه للتوسع في بلاد الفرس حتى يجلي يَزْدَجِرْد عن أرضها جميعًا؛ لذلك أذن أن ينساح المسلمون في بلاد فارس وعبأ الألوية لقتال أهلها.
وأقام الهرمزان بالمدينة وحسن إسلامه، وصار لا يفارق عمر ولا يضن عليه بالمشورة، فلما قُتل عمر اتهم الهرمزان بالممالأة عليه وتدبير المؤامرة لاغتياله، وقد اقتنع عبيد الله بن عمر بذلك، فقتله وقتل جُفينة معه، وسنفصل ذلك من بعد ونتحدث عن آثاره.
والآن، فلنعد إلى فارس لنرى ما حدث بها، وكيف اجتمع أهل نَهَاوَنْد لمقاومة المسلمين فيها، ولننظر كيف نظم عمر سياسته الجديدة، وسياسة التوسع في الفتح فاستولى على فارس كلها، وعلى مصر كلها.