غزوة نَهَاوَنْد
سمع عمر إلى الأحنف بن قيس ثم قال له: «صَدَقْتَني والله وشرحتَ لي الأمر عن حقه.» فلما جاءته أنباء نَهَاوَنْد لم يبقَ للتردد في نفسه موضع.
وكان طبيعيًّا أن تزيل هذه الأنباء كل أثر للتردد من نفسه؛ فإن أمراء الفرس في شتى الولايات لم يلبثوا، حين عرفوا ما أصاب الهرمزان وجنوده، أن أُلقي في روعهم أنه مصيبهم ما أصابه إذا ظلوا فيما هم فيه من تخاذل وانحلال، فتكاتبوا وأرسل بعضهم إلى بعض الرسل أن يجتمعوا كلمة واحدة لدفع هؤلاء الغزاة الذين كانوا، إلى سنوات قلائل، يدينون ببأس فارس وسلطانها، ولا يستطيع أحدهم أن يرفع رأسه من هيبتها، فأصبحوا اليوم يغزونها في عقر دارها، ويمدون سلطانهم على ولايات واسعة منها، ثم لا يفتئُون يتقدمون فيها، وكأن ليس لأحد على وجه الأرض ببأسهم قِبَل.
وكان أول ما اتفق هؤلاء الأمراء عليه أن كتبوا إلى يَزْدَجِرْد ليكون على رأس حركتهم، حتى يجتمع الناس حولها وينضموا إلى لوائها؛ فهو كسرى عنوان فارس ووارث مجدها وصاحب نظامها، يدين له الناس بالطاعة في شتى أرجائها، ولا يختلف عن أمره كبير ولا صغير من أبنائها، وكان يَزْدَجِرْد قد اضطرب في أرجاء فارس بين مختلف العواصم منذ فر من المدائن، فكانت الحوادث تدفعه من حلوان إلى الري إلى أصبهان إلى إصطخر إلى مرو، ثم تزيده أنباء المسلمين على السنين اضطرابًا، فلما جاءته كتب الأمراء ورأى ما فيها من اجتماع كلمتهم وشدة حماستهم لدفع عدوه وعدوهم، عاودته من شبابه نفحة بدلت بأسه أملًا واضطرابه طمأنينة، فكتب إلى أهل إيران كلها، سهلها وجبلها، يحثهم ويحرك حماستهم، كتب إلى الباب وإلى خُراسان وحُلوان وسِجستان وطَبَرستان وجُرْجان ودَمَاوند والري وأصفهان وهَمذان وسائر الولايات والبلاد في مملكته، يشجع أهل فارس ويذكر لهم أن غزو العرب ليس إلا عاصفة ثائرة لا تلبث أن تمر، وسحابة عارضة لا تلبث أن تنقشع، وأن الأمر في انقشاع السحابة ومرور العاصفة إلى تكاتفهم وتضامنهم وثباتهم في وجه عدوهم، فإذا ثبتوا طردوه من ديارهم وردوه على أعقابه خائب الظن كاسف البال يتحدث بفعالهم.
انتشرت أنباء خوزستان والهرمزان في فارس كلها، فانزعج الناس كبارًا وصغارًا لها، فلما جاءهم كتاب كسرى أسرعوا إلى تلبية ندائه، فبعث كل أمير من جنده إلى نَهَاوَنْد حتى بلغ عددهم مائة وخمسين ألفًا اجتمعوا بإمرة الفيرزان، فلما اجتمعوا عنده وجلس إليه أمراء هذا الجند المقبل من شتى الأرجاء قال لهم: «إن محمدًا الذي جاء العرب بهذا الدين لم يتعرض لبلادنا، وقام أبو بكر من بعده فلم يتعرض لنا في دار ملكنا، ولم يثر بنا إلا فيما يلي بلاد العرب من السواد، وهذا عمر بن الخطاب لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى غزانا في عقر دارنا فأخذ بيت المملكة وانتقصكم السواد والأهواز، وهو آتيكم إن لم تأتوه، وليس بمنتهٍ حتى تُخرجوا مَن في بلادكم من جنده وتقلعوا هذين المصرين، البصرة والكوفة، ثم تشغلوه في بلاده وقراره.»
نقل الأمراء هذا الحديث إلى الجند فاشتعلت حماستهم، فأقاموا ينتظرون اليوم الذي يواجهون فيه عدوهم ويقسم كل منهم أن لن يرجع إلى موطنه حتى يتم النصر لكسرى وجنوده، وبلغت هذه الأنباء عمر بن الخطاب نبأ إثر نبأ، فأيقن أن الأحنف بن قيس صدقه الرأي، ولم يبقَ لديه ريب في أنه إن لم يوجه للفرس الضربة القاضية القاصمة فلن يزالوا يناوئونه، وقد يبسم لهم الحظ يومًا فإذا خيولهم تغير على العراق العربي من جديد، وإذا هذه الدولة العربية التي اطمأن عمر إلى قيامها تتعرض للاضطراب، بل للضياع.
وزاد في شغل عمر بأمر العراق ومصيره ما أبدى بعض العرب الذين استقروا به من ميل إلى الخصومة والشغب، أغراهم به ما استراحوا إليه من رخاء جعلهم يتنافسون ويَنْفَسُ بعضهم على بعض، ثم لم يصرفهم عنه تهيؤ الفرس لحربهم وإعدادهم لقتالهم، فبينما يرسل سعد بن أبي وقاس أنباء يَزْدَجِرْد والفيرزان والجند الذين اجتمعوا بنَهَاوَنْد إلى أمير المؤمنين إذا جماعة من أهل الكوفة، على رأسهم الجراح بن سنان الأسدي يؤلبون على سعد ويثورون به ويشكونه إلى عمر في كل شيء حتى يقولوا: إنه لا يحسن الصلاة، ولقيهم عمر بالمدينة وسمع شكاتهم، ثم قال لهم: «إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في الأمر وقد استعد لقتالكم من استعد، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم!» وكان عمر قد أقام محمد بن مَسْلَمَةَ على تحقيق ما ينسب من الشكايات إلى عماله، فأوفده إلى الكوفة، فجعل يسأل الناس عما نُسب إلى سعد، فيقولون: لا نعلم إلا خيرًا ولا نشتهي به بدلًا؛ لم يخالف عن ذلك إلا الذين اتهموه، وعاد ابن مَسْلَمَةَ إلى المدينة ومعه سعد والجراح بن سنان وأصحابه، فاستمع إليهم عمر فلم يجد ما يُؤاخذ به سعدًا، لكنه آثر مع ذلك ألا يدعه في هذا الموقف الدقيق على عمله، وبالكوفة من يثيرون الناس به، فسأله من استخلفت على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان، وكان ابن عتبان شيخًا كبيرًا من أشراف الصحابة، فأقر عمر نيابته على الكوفة واستبقى سعدًا بالمدينة معزولًا من غير عجز ولا خيانة، ولولا ما كان سعد قد أبلغه إلى عمر عن اجتماع الفرس بنَهَاوَنْد وما كان قد شافهه به، بعد قدومه المدينة، من تهيئتهم للقتال وتعاهدهم عليه، لرده إلى عمله ولما سمع فيه لشكايات لم يثبت شيء منها عنده.
وأرسل ابن عتبان إلى عمر من أنباء الفرس ما أيد أقوال سعد عن تأهبهم، وما زاد الخليفة إشفاقًا من تدبيرهم، وتواترت الأنباء بعد ذلك مروعة تهز القلوب رعبًا، فهذه قوات فارس التي اجتمعت بإمرة الفيرزان قد سارت إلى هَمَذَان، وهي الآن قد تابعت مسيرتها تقصد حلوان، بل ها هي ذي في طريقها إلى الكوفة وعما قريب تبلغها، ترى ماذا يصنع أمير المؤمنين؟! لقد أدرك بفِراسته ما في هذه الأنباء من مبالغة يصورها الفزع؛ إذ يدفع إلى النفوس من خوف الخطر ومن توقعه ما يجعلها تتوهم الأشياء وتجسمها إلى أضعاف الواقع من حقيقتها، لكن الأمر الذي لا ريب فيه أن الفرس قد جمعوا وأعدوا، وأنه إلا يواجههم ويبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وقد تنتهي بهم جرأتهم إلى تهديد ما استولى عليه جنده في خوزستان والعراق العربي، الخطر إذن جسيم، والتأهب لملاقاته واجب مقدس.
وأراد عمر أن يستشير الناس، كدأبه في مثل هذه الأمور، فنادى مناديه فيهم: الصلاة جامعة، فلما التأم عقدهم بالمسجد صعد المنبر وذكر للناس ما أنهاه إليه عماله عن تهيؤ الفرس واجتماعهم وكثرة عدوهم، ثم قال: «إن هذا اليوم له ما بعده، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أفمن الرأي أن أسير فيمن قِبَلي ومن قدرت عليه حتى أنزل وسطًا بين هذين المصرين فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءًا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب؟» وتكلم القوم، فأشار بعضهم بأن يسير أمير المؤمنين بالجيوش إلى العراق، وأن يدعو جنده بالشام وباليمن، ليواجه الفرس ويغزو بلادهم، وأشار آخرون أن يقيم بالمدينة وأن يبعث كل من قدر عليه من الجند لغزو الفرس، وكان قوم أكثر من هؤلاء ومن أولئك حذرًا، وكان بينهم علي بن أبي طالب إذ قام فكان مما قاله: «يا أمير المؤمنين! إنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم صارت الروم إلى ذَرَاريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهمَّ إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، وإنما مكانك من العرب مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحلَّ تفرق ما فيه وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدًا، وإن الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا قالوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكَلَبهم فتألَّبوا عليك، أما ما ذكرتَ من عدد القوم فإنَّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكنَّا كنَّا نقاتل بالنصر، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة؛ فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان وليُقم الثلث واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم.»
اقتنع عمر برأي علي وسُر به فأعلن في الناس أنه مقيم بالمدينة ومرسل الجيوش تلو الجيوش أمدادًا لقتال الفرس، ثم قال: «أشيروا عليَّ برجل أوَلِّه أمر هذه الحرب وليكن عراقيًّا.» قالوا: أنت أفضل رأيًا، وأحسن مقدرة، وأبصر بجندك، وقد وفد عليك أهل العراق وجنده فرأيتهم وخبرتهم، قال: «أما والله لأولين أمرهم رجلًا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا، النعمان بن مقرن!» قال الناس: هو لها!
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النُّعْمان بن مُقَرِّن سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نَهَاوَنْد، فإذا أتاك كتابي هذا فَسِرْ بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلًا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، فسر في وجهك هذا حتى تأتي ماه؛ فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، والسلام عليك.
وكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان والي الكوفة بعد سعد بن أبي وَقَّاصٍ، أن استنفر من أهل الكوفة مع النُّعْمان بن مُقَرِّن كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها وليسر بهم إلى نَهَاوَنْد، وقد أمرت عليهم حذيفة بن اليمان حتى ينتهي بهم إلى النعمان، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، وإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نُعَيم بن مقرن. ودفع عمر هذا الكتاب إلى السائب بن الأقرع ليسير به إلى الكوفة، وجعل السائب أمينًا على الفَيْء وقال له: «إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إليَّ باطلًا، وإن نُكِب القوم فلا تريني ولا أرينك.»
وكتب في اليوم نفسه إلى أبي موسى الأشعري أن سر بأهل البصرة إلى ماه والأمير النعمان بن مقرن، وكتب إلى سلمى بن القين وحرملة بن ريطة وأمراء الجند الذين كانوا بين فارس والأهواز أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري، وإنما أراد عمر بأمره هذا أن يقطع عن أهل نَهَاوَنْد أمداد فارس فلا يزيدوا الفيرزان قوة على قوته.
بهذا كله تجهز عمر لمواجهة الخطر الذي تواترت لديه أنباؤه، وهيأ الجو حوله ليقوم المسلمون في وجه الفرس غير وانين ولا مترددين، وسارت الجيوش إلى ماه فانتهت إلى النُّعْمان بن مُقَرِّن، وفيها الفرسان والأبطال أولو البأس والخطر، ومنهم من حضر القادسية والمدائن وغيرهما من الوقائع فأراد أن يضيف إلى فخاره فخارًا جديدًا، ومنهم من لم يحضر القادسية فخف يريد نَهَاوَنْد لكي لا يفاخره غيره ويستعلي عليه بحسن بلائه.
وبلغوا حلوان، فأراد النعمان أن يتنطَّس أخبار الفرس ليعرف أبثوا من العيون والأرصاد على الطريق ما يجب الاحتياط له، فبعث طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي وعمرو بن أبي سلمى المزني طليعة يرتادون ويتبينون، وسار ثلاثتهم يومًا إلى الليل، ثم رجع عمرو بن أبي سلمى فأخبر القوم أنه لم يرَ شيئًا، وسرى طليحة وعمرو بن معدي كرب طول الليل ثم رجع عمرو فسأله الناس: ما رجعك؟ قال: سرنا يومًا وليلة ولم نرَ شيئًا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ومضى طليحة ولم يحفل بصاحبيه حتى انتهى إلى نَهَاوَنْد، فعلم علم القوم وعرف أنباءهم، ثم عاد فدخل على النعمان فأخبره أن ليس بينه وبين نَهَاوَنْد شيء يكرهه، عند ذلك نادى النعمان بالرحيل، وسار في جنوده على تعبئة حتى نزل قريبًا من حصون أعدائه، وهناك كبر المسلمون ثلاث تكبيرات زلزلت الأعاجم وملأت قلوبهم رعبًا.
عرف الفيرزان أنباء المسلمين وأنهم جاءوا ثلاثين ألفًا يقاتلونه فلم يستهن بهم، ولم يخدعه أنه قبالتهم في خمسين ومائة ألف متعاهدين على القتال إلى الموت، متحصنين في بروج ذات منعة؛ فقد حضر القادسية ورأى من بأس هؤلاء العرب ما راعه، ثم انتهت به الهزيمة كما انتهت بالهرمزان إلى الفرار؛ لذا بعث إلى عسكر المسلمين أن أرسلوا إلينا رجلًا نكلمه، وسار إليه المغيرة بن شعبة فاجتاز الميادين المحيطة بنَهَاوَنْد وتخطى أسوارها وانتهى إلى مقر الفيرزان فيها، وكانت نَهَاوَنْد مدينة عظيمة تقع في العراق العجمي بين حلوان وهمذان على ثلاثين فرسخًا إلى الشرق من حلوان وعشرة فراسخ غرب همذان، وبها مراعٍ فسيحة وأنهار وبساتين تدر على أهلها الرخاء ورفاهة العيش، وفي وسطها حصن متين البناء قوي الجدران يحمي أسوارها الرفيعة المنيعة، وأدخل المغيرة على الفيرزان فإذا هو جالس فوق سرير من ذهب وعلى رأسه التاج ومن حوله حراسه كأنهم الشياطين يكاد التماع حرابهم ونيازكهم يخطف البصر، ودار بين الرجلين حديث ما أشبهه بما دار بين يَزْدَجِرْد ووفد المسلمين بالمدائن، انتهى منه الفيرزان إلى قوله: «وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجُّسًا لجيفكم، فإن تذهبوا نُخَلِّ عنكم، وإن تأبوا نُرِكم مصارعكم.» وانتهى منه المغيرة بعد موافقته على الذي كان من شقاء العرب إلى قوله: «والله ما زلنا مذ جاءنا رسول الله نتعرف من ربنا الفتح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على ما بأيديكم أو نقتل بأرضكم.»
استراح الحاضرون جميعًا إلى هذا الرأي واستجادوه، فأمر النعمان القَعْقَاع بن عمرو أن يذهب صبح الغد فيهاجم المدينة بالقوة التي في إمرته، فإذا برز الفرس له أظهر الفرار بين أيديهم، وتقدم القَعْقَاع في الجند فرمى المدينة بالنبل، وأظهر العزم على اقتحام الأسوار، وأبدى من ضروب البأس ما جعل الفرس ينهدون إليه في حذر يصدون هجومه، وأعجل المسلمون كل من برز إليهم فأثاروا حماسة عدوهم، فخرجوا إليهم فرأوهم قلة يمكن التغلب عليها، فاجتازوا الأسوار والحسك إليهم يقاتلونهم وثبت لهم القَعْقَاع زمنًا حتى لا تنكشف حيلته، ثم ولى بجنده مدبرًا أمامهم، فلما رأوا فراره خرجوا في أثره يريدون القضاء عليه، وكان النعمان قد أمر جنده بالتقهقر إلى ما وراء مرمى النبل من حصون المدينة وأسوارها، فتراجعت القوات في بكرة الصبح إلى حيث استطاع أكثرها الاختفاء عن أعين العدو بمرتفع توارت وراءه، وتابع القَعْقَاع فراره، وتابع الفرس مطاردته، ملتزمين أول الأمر من الحذر ما جعلهم ينقلون أمامهم حسك الحديد يحتمون به من كرة العدو إذا حاول الرجعة لمهاجمتهم، وكان القَعْقَاع قد أيقن ابتعاد جند المسلمين في تراجعهم فأمعن في الفرار، وأمعن الفرس في تعقبه وقد ثبت عندهم أن هزيمة المسلمين تمت فلا حاجة للحذر منهم والاحتياط لهم، وتركوا حسك الحديد وراءهم وأسرعوا يطلبون هؤلاء الفارين ليستأصلوا شأفتهم، واندفع الجيش كله والفيرزان على رأسه يريد أن يطهر أرض فارس من هؤلاء الغزاة الأجلاف، فخلت نَهَاوَنْد من حماتها ولم يبقَ بها إلا حراس أبوابها، فلما بعدوا عن المدينة ولم يبق لهم مطمع في حماية حصونها وأسوارها ريعوا، فقد رأوا المسلمين يقفون، ورأوا القَعْقَاع ومن معه كأنما يريدون أن يثبتوا لهم، لكن روعهم لم يلبث أن سكن، وحسبوها مكيدة أراد القَعْقَاع بها أن يحمي ظهر الجيش المتقهقر في هزيمته، حتى لا يفنيه الفرس ويقضوا بذلك على سلطان المسلمين القضاء الأخير.
وانضم القَعْقَاع بقواته إلى سائر الجند، وأقام مع الناس ينتظر أمر النعمان بالهجوم، وكان اليوم يوم جمعة، وكان النعمان قد أمر الناس ألا يقاتلوا الفرس حتى تزول الشمس ثم يأذن لهم، وأدرك الفرس المسلمين قبيل الزوال، فرموهم بالنشاب فأفشوا فيهم الجراحات، فأشار قوم على النعمان في الحملة فلم يفعل، وقال له المغيرة بن شعبة: لو أن الأمر إليَّ علمت ما أصنع، وأجابه النعمان في سكون وتؤدة: «رُوَيْدًا تَرَ أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك! ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث.»
وحان للشمس أن تزول، فركب النعمان برذونًا له أحوى قريبًا من الأرض؛ وجعل يمر على الرايات راية راية يشجعهم ويحرضهم ويحركهم بأحسن ما فيهم، يذكر أن الله أنجز لهم صدور وعده بنصرهم، فلم تبقَ إلا أعجازه وأكارعه، ويذكرهم ما مضى إذ كانوا أذلة، وما استقبلوا من هذا الأمر وهم أعزة، وأن عدوهم إنما يخاطر بأرضه في حين يخاطرون هم بدين الله ودينهم فلا يكن الفرس على دنياهم أحمى من المسلمين على دينهم، «فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثًا، فإذا كبرت الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، وإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض، وإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معي، اللهم أعز دينك وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.»
جعل النعمان يقول هذه العبارات ومثلها لكل راية مر بها، فلما فرغ من حث الناس وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه وأعين الجند مشدودة إليه وهو مُعْلَم ببياض القباء والقَلَنْسُوَة، فكبر الأولى والثانية والثالثة والمسلمون عطاش للحرب يريدون أن يطيروا إليها وأن يفنوا عدوهم فيها، وليس منهم أحد يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتل أو يَظفر، وما لبث النعمان حين أتم تكبيراته أن اندفع واللواء في يده، فانقض على الفرس انقضاض العقاب على فريستها، وجعل يطيح بالرءوس ويجدل الفرسان، فإذا هم حوله صرعى يتخبطون في دمائهم، وشد المسلمون حوله، فكان كل منهم النعمان بطشًا وبأسًا، ورأى الفرس صدق المسلمين في حملتهم فشدوا كذلك عليهم، فالتقى الفريقان متصافحين بالسيوف، فلم يكن يسمع إلا وقع الحديد على الحديد، وإلا صيحات الأبطال وكلهم الحماسة المتقدة والشجاعة التي لا تعرف من الموت فرارًا، وبلغ القتال من الشدة مبلغًا لم يسمع السامعون بمثله في غير هذه الموقعة، وكثر القتل في الفرس لكثرة عددهم ولاستماتة المسلمين في قتالهم حتى تخضبت الأرض بدمائهم، واستحرت الحرب وانهمرت الدماء، فكان الناس والدواب تزلق عليها لكثرة ما تلطخ به أديم الأرض منها، وتحدرت الشمس إلى ناحية المغيب والنعمان على جواده واللواء في يده يهزه يَمْنَةً فتهوي بسيوف المسلمين رءوس الفرس يمينًا، ويهزه يَسْرَةً فتهوي رءوسهم يسارًا.
وبينا يشق طريقه في قلب العدو زلق جواده في الدماء فصرعه، وأراد الله أن يستجيب في هذه الساعة لدعائه، فيستشهد في سبيله، فأصابه سهم في خاصرته، ورآه أخوه نعيم هوى فسجَّاه بثوبه، وأخذ اللواء من يده ودفعه إلى حذيفة بن اليمان، فأقامه حذيفة مكان أخيه وأمره بإخفاء ما حدث حتى لا يتزعزع الناس، وسار باللواء إلى حيث كان النعمان فأقامه، وأقبل الليل والوطيس حامٍ والمسلمون يدفعون عدوهم أمامهم ويندفعون في صدره يضعضعون روحه، وانتشر الظلام وقد أصاب الفرس الإعياء فانكشفوا وتراجعوا منهزمين، فإذا حسك الحديد وراءهم يقف تراجعهم، فيُمعن المسلمون فيهم قتلًا، فيردي ألوفهم وكأنهم غنم مصرعة، وأراد الناجون اتقاء الحسك فانحرفوا، فإذا من خلفهم خندق عميق أعماهم الخوف عنه وستره الظلام عنهم، فهووا فيه بخيولهم، فهلك منهم فيه خلق كثير قدره بعض المؤرخين بثمانين ألفًا غير الذين قتلوا في المعركة وكانوا ثلاثين ألفًا، وكذلك قُضي على هذا الجيش اللجب الذي اجتمع من كل أرجاء فارس يريد أن يُجلي المسلمين عنها، فإذا المسلمون يذيقونه الموت نكالًا فلا يفلت منه إلا الشريد.
وكان الفيرزان فيمن فر يطلب النجاة بنفسه، فاندفع وحيدًا شريدًا يركض جواده نحو همذان يرجو الاحتماء بها، ورآه نعيم بن مقرن فدفع القَعْقَاع بن عمرو في أثره، فأدركه القَعْقَاع حين انتهى إلى ثَنِيَّة همذان، إذ كانت دواب من الحمير والبغال تحمل العسل سائرة في الثَّنِيَّة بين الجبال، فسدت على القائد الهارب طريقه، فترجل يريد النجاة في الجبل، فاتبعه القَعْقَاع وأدركه وقتله، وعرف المسلمون يومئذ ما حدث فقالوا: «إن لله جنودًا من عسل.» فصارت مثلًا، وسميت تلك الثَّنِيَّة من بعد: «ثَنِيَّة العَسَلِ».
ومضى الفلال من جيش الفرس مشردين حتى بلغوا همذان، ولم يدعهم المسلمون يدخلونها آمنين، بل طاردوهم إليها وحصروهم فيها، وأقسموا لا يبرحونها حتى تفتح أبوابها، وعرف أميرها ما أصاب الفيرزان وجنوده: فبعث إلى المسلمين يستأمنهم ويصالحهم عليها، وصالحه القَعْقَاع على أن يضمن لهم همذان ودَسْتَبَى، وألا يؤتى المسلمون منهم، وأن يؤمنهم المسلمون فلا يغير عليهم مغير، بذلك أمن الناس وعاد كل هارب، وسكنوا إلى طمأنينة الحياة.
رجع القَعْقَاع ومن معه من المسلمين فألقوا حذيفة دخل نَهَاوَنْد بعد المعركة بجيشه واستولى على ما فيها من الأسلاب والغنائم، ودفعها إلى السائب بن الأقرع الذي عينه عمر على الأقباض، وقد بلغت الأنفال يومئذ مبلغًا فاق كل ما توقعه المسلمون، فقد قسمها حذيفة بن اليمان في الفاتحين، ونقل ذوي النجدات، وأعطى من أرصدهم من الجند ليحفظوا ظهر المقاتلين حتى لا يُؤتوا من خلفهم، كما أعطى من كان ردءًا للمسلمين ومنسوبًا إليهم مثل الذي أعطى لأهل المعركة، مع ذلك بلغ نفل الفارس من هؤلاء جميعًا ستة آلاف ونقل الراجل ألفين.
هذا، ثم إن كسرى كان قد استودع صاحب المعبد الذي به بيت النار جواهر أعدها لنوائب الزمان ولم يكن المسلمون قد عثروا بها، وإنهم لفي جذلهم بما أفاء الله عليهم إذ أقبل صاحب بيت النار مستأمنًا لنفسه ولمن شاء على أن يدل حذيفة على الذخيرة الثمينة، وأمنه حذيفة؛ فأخرج له سفطين مملوءين جوهرًا ثمينًا لا يقوَّم، ورآهما المسلمون وكانوا قد أترعوا مما نالهم من الفيء، فَعَفُّوا عنهما، ورأوا أن يجعلوهما لعمر خاصة، فلما اطمأن الناس إلى مقامهم وإلى فيئهم، حمل السائب بن الأقرع السفطين وخمس الفَيْء وسار إلى المدينة يبلغ عمر أنباء النصر ويدفع إليه هذه المغانم العظيمة.
بينا يجري كل ذلك بنَهَاوَنْد كان عمر بالمدينة يتسقط أنباء المسلمين، وهو أشد ما يكون إشفاقًا أن يبلغه منها ما لا يحب؛ لذلك لم يكن يذوق النوم إلا غرارًا، ثم يقضي سائر ليله يستنصر الله لجنده، فلما كانت تلك الليلة التي قدر للقائهم، جعل يخرج ويتلمس الخبر، وقد أُلقي في روعه أن الله نصر جنده وأنجز وعده، وكان حذيفة قد بعث طريف بن سهم ليسرع بالخبر إلى المدينة، فلما بلغها وسأله عمر ذكر له ما أنعم الله به على المسلمين من نصر وفتح وكتم عنه إلا ما سره، واغتبط عمر والمسلمون بما سمعوا، فرفعوا أكفهم إلى الله تضرعًا وخشية، وهرعوا إلى المسجد فصلوا شكرًا لله، ثم خرج عمر في جماعة من أصحابه وكله الشوق أن يقف على الجلية من الأمر، وأمعنوا في الطريق الذي يؤدي إلى فارس، فبصروا عن بعد براكب توسم فيه عثمان بن عفان أنه السائب بن الأقرع، فلما دنا منهم وسلم عليهم قال له عمر: ما وراءك! قال: البشرى والفتح، وسأل عمر: فما فعل النعمان؟ قال: زلت فرسه في دماء القوم فصرع فاستشهد، قال عمر وقد أفزعه النبأ وهزه: إنا لله وإنا إليه راجعون! ولم يتمالك أن بكى حتى نشج كأنما أصيب في بعض ولده أو في أعز عزيز لديه، فلما سكنت عنه ثورة الحزن سأل السائب عمن قُتل من المسلمين فذكر له أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال: وآخرون من أفناء الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين، قال عمر، والحزن لا يزال آخذًا بخناقه: وما ضرهم ألا يعرفهم عمر! لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة! وما يصنعون بمعرفة عمر!
وانطلق القوم والسائب معهم، حتى إذا دخلوا المدينة أدخلوا خمس الفَيْء إلى المسجد وأمر عمر نفرًا من أصحابه، منهم عبد الرحمن بن عَوْفٍ وعبد الله بن أَرْقَمَ، بالمبيت فيه، ليقسمه بين المسلمين متى أصبح.
وقام عمر فدخل منزله، فاتبعه السائب فأخبره خبر السفطين وما فيهما من جواهر لا تقوَّم، وذكر له أن أهل الغزاة جعلوهما لأمير المؤمنين خاصة، روى الطبري عن السائب بن الأقرع أنه قال: «فأخبرته خبر السفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك، فأدخلتهما بيت المال وخرجت سريعًا إلى الكوفة، وبات عمر تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما أصبح بعث في أثري رسولًا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة وأنخت بعيري وأناخ بعيره على عُرْقُوبَيْ بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن، قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله فركبت معه حتى قدمت على عمر، فلما رآني قال: ما لي ولابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب وما لي! قلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارًا يقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالًا بعد.»
وفي رواية أخرى أوردها الطبري كذلك أن السائب اتبع عمر بذينك السفطين حين دخل منزله وأخبره خبرهما، فقال له عمر: يا بن مُلَيْكَةَ! والله ما دروا هذا ولا أنت معهم، فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تأتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليهم! فانطلق السائب راجعًا حتى انتهى إلى حذيفة فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف قسمها بين من أفاءها الله عليهم، فنال كل فارس منها أربعة آلاف درهم غير ستة الآلاف التي أصابها من قبل.
كان اغتباط أهل المدينة لفتح نَهَاوَنْد عظيمًا، لكنه لم يغتبط أحد بهذا الفتح اغتباط أهل الكوفة، حتى لقد سموه فتح الفتوح، ولعلهم كذلك فعلوا؛ لأن زهرة المقاتلة في المعركة كانوا من الكوفيين، أو لأن الكوفة كانت أقرب إلى مكان المعركة من المدينة، فكان أهلها أشد إشفاقًا منها وأدق تقديرًا لنتائجها؛ فلما تم النصر فيها دعوها بهذا الاسم تيمنًا وتعبيرًا عما بعثته إلى نفوسهم من الطمأنينة على موطنهم، وأيًّا ما كان السبب فقد كانت نَهَاوَنْد فتح الفتوح بالفعل؛ إذ لم تقم للفرس بعدها قائمة، بل غزاهم المسلمون في عقر دارهم، وأزالوا سلطانهم عن كل ولاياتهم، ثم لم يُغْنِ عنهم تجمعهم لصد تيار المسلمين المتدفق في أرضهم، بل انتهى الأمر إلى إخراج كسرى من فارس شريدًا يلتمس العون من غير أهله والنجاة في غير بلاده، ثم يموت بعيدًا عن مواطن ملكه، كأن لم يستقر بها يومًا ولم يكن بها صاحب السلطان.
وكان عمر أشد من أهل الكوفة بنَهَاوَنْد اغتباطًا، وأكثر لغزاتها تقديرًا وبهم إعجابًا، حتى لقد زاد عطاء الذين أحسنوا البلاء فيها، فمنح كل واحد منهم ألف درهم فوق فيئه تشريفًا لهم وإظهارًا لشأنهم، وكيف لا تبلغ منه الغبطة هذا المبلغ وكان يعلم أن جيش الفرس بنَهَاوَنْد قد جمع كل الأبطال من شتى أرجاء المملكة، وأن أشراف فارس وأمراءها جميعًا تعاهدوا على إخراج العرب من أراضيهم، وردهم مهيضي الأجنحة إلى شبه جزيرتهم! وها هم أولاء الأبطال يفرون منهزمين، والأشراف والأمراء يلتمسون ملجأ من خزي هزيمتهم فلا يجدونه، بل لا يجدون أمامهم إلا العرب ينتشر سلطانهم، وتعلو كلمتهم، ويهز اسمهم الأسماع والقلوب في ولايات كسرى جميعًا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق.
رأيت همذان وإسراع أهلها إلى طلب الصلح التماسًا للأمن حين عرفوا مصير نَهَاوَنْد والفيرزان، وكان أبو موسى الأشعري أميرًا على جند البصرة الذين قاتلوا بنَهَاوَنْد، فلما سار منصرفًا عنها مر بالدينور، فأقام عليها خمسة أيام لم يقع قتال إلا في اليوم الأخير منها، ولم يكد هذا اليوم ينتهي حتى طلب أهلها الصلح، وأقروا بالخراج والجزية، وسألوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فصولحوا على ما طلبوا، وصالح أبو موسى أهل السيروان على مثل صلح الدينور، وصالح عامله أهل الصَّيْمرة على حقن الدماء وترك السباء والصفح عن البيضاء والصفراء، وعلى أداء الجزية وخراج الأرض وفتح جميع الكور بمهرجان قذق، وصالح حذيفة بن اليمان دنبارًا الفارسي على بلدة ماه، وأعطى أهلها عهدًا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضهم، لا يُغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، لهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، وعلى كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل وأصلحوا الطرق وقروا جنود المسلمين من مر بهم فأوى إليهم يومًا وليلة ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة.
أما وقد أصاب الفرس كل هذا الفزع بهزيمة نَهَاوَنْد فازدادوا اضطرابًا وازدادت معنوياتهم انحلالًا فليس إلا أن يأخذهم عمر وهم فيما هم فيه، وأن يدفع قواته في سائر ولاياتهم حتى تذعن كلها لسلطانه ولا يبقى فيها لمقاومة أثر، ولا تحدث أميرًا من أمرائها نفسه بمثل ما كانت تحدثه به من قبل؛ لذلك عقد بنفسه ألوية عهد إلى أصحابها بالانسياح في أرض فارس جميعًا، فجعل لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء دَرَابجِرْد إلى سارية بن زُنَيْم الكناني، ولواء كَرْمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو، ولواء مُكْران إلى الحكم بن عمرو التغلبي، وأمرهم أن يكونوا على أهبة المسير إلى هذه الأمصار والولايات.
وكذلك كانت نَهَاوَنْد من فتح فارس ما كانت القادسية من فتح العراق العربي، وقد حاول يَزْدَجِرْد بعدها أن يقاوم بالري وبمرو وبإصطخر كما حاول أن يقاوم بالمدائن، وقد أمده أمراء الولايات بأَذْرَبِيجَان وخراسان وفارس ومكران، وحاولوا الوقوف إلى جانبه لصد تيار المسلمين عنهم والاحتفاظ لوطنهم بعزته وكرامته، وسنرى من محاولاتهم، ومن اضطراب يَزْدَجِرْد بين ولاياتهم، ومن أمر المسلمين معه ما نجمله في الفصل التالي.