القضاء على سلطان الأكاسرة
تقع نَهَاوَنْد وهمذان في صميم العراق العجمي، وهما لذلك من صلب المملكة الفارسية؛ فأهلهما من الفرس جنسًا ولغة ودينًا، لا يمتون إلى العراق العربي وأهله بنسب، ولا يعرفون من لغة العرب كلمة؛ لذلك كانت نكبة الفرس في نَهَاوَنْد نكبة في صميم ملك كسرى، فلم يكن له ولا لبني وطنه بعدها إلا الإذعان والنزول على حكم المسلمين، أو الحرب الضروس تنتهي بهم إما إلى نصر يخرج العرب من بلادهم، أو هزيمة تزيل الأكاسرة عن عرشهم، وتقضي القضاء الأخير على دولتهم وسلطانهم!
وكان الأمر كذلك بخاصة؛ لأن العراق العجمي يتوسط ولايات المملكة كلها: تقع إلى شماله أَذْرَبِيجَان وطبرستان وجيلان، وإلى شرقه سمان وصحراء إيران، وإلى جنوبه فارس وكرمان، وإلى غربه وجنوبه الغربي يقع العراق العربي وتقع خوزستان، وبالعراق العجمي مدن كبيرة تعد في حكم العواصم، منها أصفهان وهمذان والري، فإذا توغل المسلمون فيه واستولوا على هذه المدن فتح ذلك أمامهم أبواب إيران كلها فانساحوا فيها، وهيهات لقوة بعد ذلك أن تقف في طريقهم!
ولكن! كيف ليَزْدَجِرْد أن يقف تيار الغزاة الجارف؟ لقد رآهم منذ نصرهم بالقادسية يندفعون خلال العراق العربي إلى المدائن وجَلُولاء، ويقيمون البصرة والكوفة، ويحطمون مقاومة الهرمزان في خوزستان، ويواجهون قوات فارس مجتمعة بنَهَاوَنْد فيقضون عليها أيما قضاء، ألا يدل ذلك على أن الأقدار حالفتهم ووقفت في صفهم فلن يستطيع أحد صدهم! ومحالفة الأقدار هي التي طوعت لهم غزو هرقل بالشام وطرده إلى بزنطية والاستيلاء على بيت المقدس مهد النصرانية ومستقر هيكل سليمان، أليس خيرًا ليَزْدَجِرْد أن يصالح غزاة ذلك شأنهم، فيدع لهم ما فتحوا ويكتفي بما بقي له من ملك أجداده؟! ولعل القدر الذي تجهم له اليوم يكون أبر به غدًا! أم ترى تصده كبرياء الملك تأثَّل في فارس عشرات الأجيال والقرون عن أن يطلب الصلح مقهورًا، وتدفعه حماسة الشباب إلى مغامرة جديدة؟! الحق أنه اضطرب بين الأمرين أشد الاضطراب، فمن ذا يكفل له إذا طلب الصلح ألا يرفض خليفة المسلمين مطلبه، فيكون الرفض مذلة له شر مذلة؟! ومن ذا يكفل له إذا دعا قومه إلى مغامرة جديدة أن يجيب مرازبة فارس وأمراؤها نداءه، فإذا لم يجيبوه أقام في ملكه كأنه مخلوع عن عرشه، لا يسمع له أمر، ولا ينضوي أحد إلى لوائه؟! لذا ترك الأمر للقدر يجري به كما يشاء، من غير أن يكون له في رحمة القدر كبير رجاء.
وأضعف رجاءه انصراف الأمراء والمرازبة كل إلى شأنه، لقد تعاهدوا على نصرته يوم تولى العرش وجلس بالمدائن في إيوان كسرى؛ لأن المملكة كان لها يومئذ جيش تعتز به، ويحمل الناس على طاعته، وقد انضووا إلى لوائه وبعثوا بالجيوش إلى نَهَاوَنْد لمقاتلة عدوه يوم كان الرجاء في صد الغزاة لا يزال قويًا في نفوسهم، أما وقد تضعضع جيش الدولة، وضعف الرجاء في جلاء الغزاة، فقد اضطربوا وانصرف أكثرهم يفكر كل أمير في إمارته وفي مصير ولايته: أيدافع المسلمين عنها، أم يصالحهم على أن يظل واليًا باسمهم عليها، لم تبقَ صلة هؤلاء الأمراء بيَزْدَجِرْد صلة ولاء ونظام، بل صلة مجاملة لمليك أوهن القدر سلطانه، فجعل يتنقل تنقل الشريد بين بلاد مملكته، فإن يكن القدر قد كتب في لوحه قرب خاتمته فلهم العذر أمام أنفسهم عما صنعوا، وإن تكن الأخرى فلهم إلى يَزْدَجِرْد عودة، وهو لا ريب يقدر يومئذ حكم الضرورة عليهم.
أنت في حل من التثريب على هؤلاء الأمراء لهذا التفكير؛ فالدول لا تقوم ولا يرتفع شأنها بمثله، لكن هذا التفكير كان طبيعيًّا بحكم الأحداث التي أصابت فارس في العهد الأخير، وكان طبيعيًّا؛ لأنه كان وليد التاريخ الفارسي منذ أقدم الحقب، فقد استقر الفرس في الأرض التي أطلق عليها اسمهم قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، وكانوا يوم استقروا بها شعبًا شديد الحرص على بساطة العيش، صعب المراس، صلب القناة في الحرب، شديد الطموح إلى التوسع والفتح، وقد التقوا هم والميديون في العراق العجمي، ودارت بين الفريقين حرب طاحنة انتهت إلى صلح أذعن به أهل ميديا لسلطان الفرس وانخرطوا في سلكهم، واندفعوا وإياهم يقاتلون عدوهم، وتخطى الفرس بلاد إيران إلى ما بين النهرين، وساروا منها إلى مصر وإلى بلاد الإغريق، فكانت بينهم وبين مدن اليونان وقائع ردهم بها الإغريق عن أوروبا، وكانت فارس يومئذ ولايات استقر في كل ولاية منها أمير من أمرائها المحاربين، فنصب نفسه ملكًا عليها، واستقل بإدارة شئونها، ثم اجتمعت هذه الولايات في اتحاد قام كسرى على رأسه، وتولى توجيه شئونه العامة، واتخذ «الملك الأعظم» لقبًا له، وقاتل الفرس الدول المجاورة لهم في الشرق والغرب فانفسح سلطانهم، حتى دهمهم الإسكندر المقدوني، فغلبهم على أمرهم ومد سلطانه في أرجاء بلادهم، وكانت سياسة الإسكندر تدع شئون الحكم الداخلي لأهل البلاد؛ لذا بقي أمراء فارس ولهم ما كان لهم من سلطان مطلق في الولايات التي أقاموا أنفسهم ملوكًا عليها، فزاد ذلك في استمساكهم بهذا الملك وحرصهم عليه، واستردت فارس استقلالها بعد الإسكندر، وقام بنو ساسان بأمرها فكانوا أكاسرتها، وكانت المدائن عاصمتها، وإن احتفظ أمراؤها ومرازبتها بسلطانهم في مختلف ولاياتها، وعاد بنو ساسان بفارس سيرتها الأولى تقاتل وتمد سلطانها، وتدفقت إليها الأموال من مختلف الأرجاء في البلاد المفتوحة تدفقًا نزع بأهلها إلى الترف، فأخذوا من أسبابه بأعظم حظ وأوفر نصيب، واطمأن الفرس إلى هذا الترف عهودًا طوالًا تفننوا في أثنائها في أسبابه، فتحدر بهم شيئًا فشيئًا إلى الشهوات الدنيا، فأورثهم رخاوة أضعفت فيهم صفات البطولة والإقدام التي كانت لآبائهم وأجدادهم، ثم لم يستعيضوا عن هذه الصفات صدق العزم وقوة الجلد مما تبعثه الحضارة السليمة إلى نفوس الآخذين بها، فانكمش بذلك سلطانهم شيئًا فشيئًا، وقد حاولوا استعادة هذا السلطان في أوائل القرن السابع المسيحي، فحاربوا الروم وظفروا بهم واستولوا على بيت المقدس وعلى مصر، وانهزم الروم أمامهم بسبب ما فشا فيهم من سوء الحكم وفساد النظام، فلما تولى هرقل أمر الروم رد الفرس على أعقابهم، واسترد الصليب الأعظم منهم، ولم يقف أثر الهزيمة بالفرس عند ارتدادهم إلى تخومهم، بل ضعفت نفوسهم، وفشت الفوضى في بلاطهم، وتزعزعت ثقتهم بأنفسهم، فلما فاجأهم العرب زادتهم هذه العوامل رخاوة، فلم يستطيعوا الثبات في وجه غزاتهم، فجعل كل منهم يتلمس النجاة لنفسه، وجعل أمراؤهم يلتمسون السلطان الزائف في كنف الفاتح يستمتعون به ولو إلى حين، تاركين كسرى رمز وحدتهم وعزتهم تجري الأقدار في أمره بما تشاء.
كان ذلك شأن عاهل الفرس وشأن كثيرين من المرازبة والأمراء في دولته، أما عمر فلم يلبث حين اطمأن إلى انتصار جنده بنَهَاوَنْد ومصالحتهم أهل همذان أن ذكر قول الأحنف بن قيس: إن الفرس لن يزالوا يقاومون المسلمين ما دام يَزْدَجِرْد بين أظهرهم، فلم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يُخرج أحدهما صاحبه، لا مفر إذن من تعقب الفرس في أرجاء ملكهم حتى يجلو عنه كسرى فيصير خالصًا للمسلمين، فأي الخطط أنجع لبلوغ هذه الغاية؟
لم يكن لعمر أن يسير الألوية التي عقدها لتنساح في أرض فارس قبل أن يفتح العراق العجمي كله، فيحمي بذلك ظهره، ويأمن خط رجعته، ويسيطر على الطرق التي تسير خلالها الأمداد من العراق العربي ومن شبه الجزيرة لتعزيز جنده، ولكن! هل تسير القوات في هذا العراق العجمي من همذان إلى الري تفتحها، أم تنحدر من نَهَاوَنْد إلى أصبهان لتخضع من هذه الولاية المترامية الأطراف أفسح أرضها رقعة، وأكثرها بخوزستان وبالعراق العربي اتصالًا؟
فقد كان يَزْدَجِرْد مقيمًا بالري حين دخل العرب نَهَاوَنْد وهمذان، فلما رآهم اقتربوا من مقره خف إلى أصبهان يحرض أهلها على المقاومة، وبلغ ذلك عمر فأمر بالسير إلى أصبهان وكان رجاؤه أن يتولى يَزْدَجِرْد الدفاع عنها فيقع أسيرًا، فتتحطم بأسره مقاومة الفرس كلها؛ لذلك أمر عبد الله بن عبد الله بن عتبان فسار إليها فيمن كان معه من جند الكوفة ومن تبعه من جند النعمان بن مقرن بنَهَاوَنْد.
وفي رواية أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان فقال له: ما ترى؟ أبدأ بفارس أم بأَذْرَبِيجَان أم بأصبهان؟ وأجابه الهرمزان: إن فارس وأَذْرَبِيجَان الجناحان وأصبهان الرأس، فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس، واطمأن عمر إلى هذا الرأي فأمر بالسير لفتح أصبهان.
وأصبهان، أو أصفهان، مدينة عظيمة كانت عاصمة إقليم من أقاليم العراق العجمي يطلق عليه اسمها، وكانت تتألف من مدينتين متجاورتين: جي واليهودية، وهذه الأخيرة كانت مستعمرة يهودية الأصل، أنشأها يَزْدَجِرْد الأول إجابة لرغبة زوجه اليهودية شوشن دخت، أما جي فهي القصبة، وهي من أصح المواضع تربة وأطيبها هواء وأعذبها ماء، ولذلك اختارها الملوك مسكنًا لهم، وتقع أصبهان في نهاية المنطقة الجبلية من جهة الجنوب، وهي خصبة الأرض واسعة الرقعة، تصل الطرق المعبدة بينها وبين شتى أرجاء المملكة، فالطريق منها إلى الري يمر بقاشان ثم بقم.
ورأى الفرس فارسهم المعْلَم صريعًا فاضطربوا، ثم جلوا عن هذا الرستاق فنزله المسلمون وسموه لذلك رستاق الشيخ، وتراجع الفرس إلى جي، يحتمون بأسوار أصبهان، على حين أقام المسلمون في خطوطهم الجديدة ينظمون خطتهم لمهاجمة المدينة العظيمة الحصينة.
بينا يقاتل المسلمون ليفتحوا أصبهان كانت بلاد الشمال الواقعة جنوب بحر قزوين تجتمع إلى إسفنديار الرازي أخي رستم الذي هُزم وقتل بالقادسية، تعد العدة معه لدفع المسلمين عن الري، وعرف أهل همذان اجتماعهم فتشجعوا ونقضوا الصلح الذي عقدوه مع المسلمين بعد نَهَاوَنْد، وبلغت عمر أنباء الانتقاض في همذان، فأمر نعيم بن مقرن أن يطير إليها وأن يدخلها عَنْوَةً عقابًا لأهلها حتى لا يعودوا لمثل فعلتهم، ولكي يعتبر غيرهم بهم فلا يجرؤ قوم من بعدها على نقض عهدهم مع المسلمين، وسمع أهل همذان اسم نعيم وعرفوا سيره إليهم، فذكروا نَهَاوَنْد وذكروا الفيرزان ومصيره بثَنِيَّة العسل فسُقِطَ في أيديهم وتولاهم الرعب، وأيقنوا أنهم محصورون مقهورون لا محالة، وزاد بهم الجزع حين ترامى إليهم استيلاء نعيم على ما حول همذان من البلاد، ولم يبق لديهم ريب فيما قدر لهم من سوء المصير، فلما انتهى نعيم إليهم وحاصر مدينتهم بعثوا إليه يطلبون الصلح وهم في ريب من قبوله ما طلبوا، وكيف يطمئن إليهم وقد نكثوا من قبل عهدهم؟ وما كان أشد اغتباطهم حين رأوه يقبل منهم الجزية على أن تقيم بهمذان قوة من المسلمين يذكر وجودها أهل المدينة بالعهد ويقبض أميرها منهم الجزية، ترى أقبل نعيم منهم ولم يفتض مدينتهم ضنًّا بأرواح رجاله أن يُصاب منهم أحد؟ أم ترامت إليه أنباء إسفنديار والذين اجتمعوا إليه فآثر أن يحتفظ بقوته كاملة يواجه بها هذه الجموع المتزايدة تريد مهاجمته طمعًا في أن تدفعه عن الري، وأن تجليه عن همذان، وأن تسترد ما كسبه هو وما كسبه أخوه النعمان من قبل؟
كان نعيم قد بعث إلى عمر بإخضاع همذان ومصالحته أهلها، وذكر له ما ترامى إليه من اجتماع الديلم وأهل الري وأَذْرَبِيجَان لقتاله، وفزع عمر لهذا النبأ وجعل يدعو الله أن يؤازر جنده وأن يؤيدهم بنصره، وأقام بالمدينة ينتظر أنباء هذا الجند وهو أشد ما يكون إشفاقًا عليهم، وإنه لكذلك إذ قدم عليه عروة بن زيد الخيل، وكان قدم عليه من قبل بنبأ غزوة الجسر حيث قتل أبو عبيد الثقفي وانهزم المسلمون، فلما رآه عمر قال: بشير! وأجاب الرجل: بل عروة، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! عند ذلك فطن عروة فقال: بل أحمد الله فقد نصرنا وأظهرنا، وحدثه بما كان، فلما أتم حديثه قال عمر: هلا أقمت وأرسلت؟ وأجاب عروة: قد استخلف أخي وأحببت أن آتيك بنفسي، ومن يومئذ سماه عمر البشير، وأمر عمر فقرئ الكتاب الذي حمله عروة من نعيم بالفتح والنصر، فحمد الناس الله وصلوا شكرًا لأنعمه.
وعاد عروة إلى همذان يحمل من عمر إلى نعيم كتابًا فيه: «أما بعد فاستخلف على همذان وسر حتى تقدم للري وتلقى جمعهم، ثم أقم بها فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد.» ولم يلبث نعيم حين قرأ هذا الكتاب أن أقر يزيد بن قيس على همذان وسار بالناس إلى الري وهو لا يشك في أن الله سيفتحها عليه، وكيف يخامره في ذلك شك أو تخالط نفسه فيه ريبة، وقد لقي جموع الري مع الديلم وأهل أَذْرَبِيجَان، فهزمت وقتل منهم موتا ملك الديلم! ولعله أفرط في تفاؤله؛ فقد كان الملك بالري يومئذ سِياوَخش بن مهران بن بهرام جوبين، وكان قد أيقن بعد واج روذ أن المسلمين لن يصيروا حتى يهاجموه ليفضوا عليه عاصمته؛ لذلك استمد أهل دُنْبَاوَنْد وطبرستان وقومس وجرجان وقال لهم: قد علمتم إِنْ هؤلاء حلوا بالري أنَّه لا مقام لكم، فأمدوه بقوات اجتمعت فكانت أضعاف القوات التي سار بها نعيم عددًا وعدة، وتحصنت هذه القوات كلها بالري، وكان سياوخش قد زاد معاقلها مناعة وقوة؛ فلما رأى ما اجتمع في هذه المعاقل أيقن أن المسلمين لن يظفروا به، ولن يستطيعوا أن يفضوا عليه حصونه.
لم يكن عجبًا أن يجتمع أهل الشمال للدفاع عن الرى؛ فقد كانت العاصمة الكبيرة لهذه الأرجاء، والحصن الحصين تلوذ به وتلجأ إليه، وكان بها من المعابد القائمة حول بيوت النار ما جعل نفوس كثيرين تهوي إلى زيارتها في المواسم الدينية، وترى في الاعتداء عليها اعتداء على قدس يجب الدفاع عنه، ثم إنها كانت بموقعها من الأقاليم المحيطة بها، ملتقى تجارة واسعة تجلب إليها من الشرق ومن الغرب، وتجعل أهلها في رخاء ورفه عيش، وكان أهلها وأهل الأقاليم المحيطة بها مطمئنين لمناعتها، مطمئنين بذلك إلى مقامهم بها أو في جوارها، فلما رأوها تتعرض للغزو تعاهدوا للدفاع عنها وذهبوا بجموعهم إلى واج روذ يصدون غزاتها، ثم لم تثنهم الهزيمة عن الاجتماع كرة أخرى والتحصن بالمدينة والدفاع عنها.
ولعل حماستهم في الدفاع عنها كانت تكلف المسلمين الضحايا الكثيرة لفتحها، لولا أن أرادت الأقدار أن يتم هذا الفتح بأيسر مما قدر له نعيم وأصحابه؛ فقد أساء سياوخش ملك الري لقاء الزينبي أبو الفرخان بعد وقعة واج روذ، وعنفه على ارتداده أمام المسلمين وعزله عن عمله، وأحفظ الزينبي ما حدث، فخرج من الري حين عرف مقدم نعيم لفتحها، فلقيه بظاهرها فتحدث إليه مسالمًا وحالفه على سياوخش، ونزل المسلمون في سفح جبل الري، فلقيهم حماتها وأنشبوا معهم قتالًا لم ينته آخر النهار إلى ظفر أي الفريقين، فلما كان الليل قال الزينبي لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فابعث معي خيلًا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا إليك لم يثبتوا لك، واطمأن نعيم لقوله، فبعث معه من الليل خيلًا عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة دون أن يشعر بهم أحد، وبات نعيم يشاغل حُماة الري يرميهم بالنبل والنُشَّاب فشغلهم عما يدور داخل مدينتهم، فلما كان الفجر برزت خيل المسلمين بالمدينة وعلت أصوات الفرسان بالتكبير، فأيقن الفرس حين سمعوه أنهم أخذوا على غرة من ورائهم فانهزموا، فاتبعهم المسلمون يمعنون فيهم قتلًا، ودخل نعيم المدينة، وانهزم سياوخش فلم يقف له أحد على أثر، واستفاء المسلمون من الري نحوًا من فيء المدائن، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بأخماس الفيء.
ما عسى أن يكون مصير الري بعد أن تم فتحها؟ أليس من أبنائها من يصالح المسلمين عليها؟ نعم! صالح نعيم الزينبي على أهل الري ونصبه مكان سياوخش مرزبانًا عليهم بعد أن هدم قلاعهم وخرب حصونهم، وأمر ببناء مدينة جديدة بجوار مدينتهم العتيقة، بذلك سقط آل بهرام، وآل شرف الملك من قِبَل المسلمين إلى الزينبي الأمير وأبنائه، وبقيت الري مع ما أصابها مدينة عظيمة وثغرًا من ثغور المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس، على أن نجمها هوى من بعد ومنذ بنيت طهران على مقربة منها إلى شمالها الغربي، وإن بقيت أطلالها إلى اليوم بارزة للعيان تُحدث عما كان لها حين عزها من جلال وعظمة.
وكان نصر المسلمين بالري حاسمًا؛ لذلك أسرعت المدن والأقاليم القريبة منها تطلب الصلح وتؤدي الجزية، فلما سار سُوَيْد بن مُقَرِّن بأمر عمر إلى قومس لم يقم له أحد فأخذها سلمًا، وعسكر بها وصالح أهلها، وكان أهل دنباوند قد صالحوا أخاه نعيمًا بعد انهزام الحلفاء عن الري وعود كل منهم إلى مقره.
ودنباوند مدينة قائمة على جبل قريب من الري، وكان أهلها قد دخلوا حصون الري للدفاع عنها، فلما فتحت المدينة أبوابها، وجلا حلفاؤها ومنهم أهل دنباوند مرتدين إلى منازلهم لم يكن أمام أهل دنباوند غير الصلح عقدوه على جزية مائتي ألف درهم يدفعونها كل سنة، على ألا يُغار على أرضهم وألا يدخل عليهم بغير إذنهم ما وفوا بعهدهم، أما قومس فكورة كبيرة واسعة بها مدن وقرى ومزارع، تقع إلى الجنوب من جبل طبرستان ممتدة بين الري ونيسابور، وتفصل طبرستان بينها وبين بحر قزوين.
تقع جرجان إلى الجنوب الشرقي من شاطئ قزوين، وتقع طبرستان إلى الجنوب من هذا الشاطئ مجاورة جرجان، وتقع أَذْرَبِيجَان إلى جنوبه الغربي مجاورة طبرستان، وإذ رأى ملك طبرستان أن المسلمين أحاطوا به من الجنوب باستيلائهم على الري ومصالحتهم أهل قومس، ومن الشرق بصلحهم مع أهل جرجان؛ وأنه لم يبقَ له منفذ إلى أرض فارس إلا من طريق أَذْرَبِيجَان المهددة بالغزو هي كذلك، فقد آثر الصلح وراسل سويدًا فيه، فتوادعا وتصالحا على طبرستان وجبل جيلان بأن يدفع أهلها جزية كل عام، وهم من بعد ذلك آمنون لا يغار عليهم ولا يتطرق أحد إلى أرضهم إلا بإذنهم.
تجاور أَذْرَبِيجَان طبرستان من الغرب، ويتاخم شمالها بلاد الديلم، كما يتاخم جنوبها بلاد العراق الغربي وبلاد الجزيرة، وكانت أَرْدَبِيل الواقعة على مقربة من مكان تبريز اليوم أجل مدنها، وهي بلاد جبلية ترتفع أرضها فوق سطح البحر نحو خمسمائة وألف متر، وبها قمم يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف من الأمتار، وكلمة أَذْرَبِيجَان بالفارسية معناها أرض النار أو معابد النار، وإنما أطلق على هذا الإقليم هذا الاسم لكثرة معابد النار التي كانت قائمة في ذلك الحين به، فلما خمدت في الفرس عبادة النار ودان أهلها بالإسلام أبدل اسم أَذْرَبِيجَان باسم مازندجران.
بينما كان سُوَيْد بن مُقَرِّن يسير في جرجان وفي طبرستان ويعقد الصلح مع أهلهما كان أخوه نعيم ينظم شئونها مستعينًا بالزينبي الذي أقامه واليًا عليها، فلما اطمأن إلى أمرها أمد عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله اللذين سارا بأمر عمر لإخضاع أَذْرَبِيجَان بسِمَاك بن خَرَشَةَ الأنصاري في قوة من غزاة الري، وإن بكيرًا ليتقدم في قواته إذ لقيه إسفنديار بن الفرخزاد عائدًا في جنوده من هزيمة واج روذ، فالتحم الفريقان في قتال عنيف انتهى بإسفنديار إلى الهزيمة والأسر، ولم يقتله بكير بل أمسكه عنده، ذلك أن إسفنديار قال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ وأجاب بكير: بل الصلح، فاستطرد القائد الفارسي قائلًا: فأمسكني عندك، فإن أهل أَذْرَبِيجَان إن لم أصالح عليهم أو أَجِئْ إليهم لم يقيموا لك وجلوا إلى الجبال فتحصنوا إلى يوم ما. وتحطمت مقاومة أَذْرَبِيجَان حين تقدم عتبة بن فرقد إلى حيث عسكر بهرام أخو إسفنديار فهزمه وألجأه إلى الفرار، عند ذلك صالح عتبة إسفنديار عليها وأعطاه كتابًا بالأمان لأهل أَذْرَبِيجَان، سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم.
كان طبيعيًّا أن يتابع المسلمون مسيرتهم في شمال فارس حتى لا يبقى به لمقاومة أثر، وكان على بحر قزوين إلى جانب أَذْرَبِيجَان فُرْضة يقال لها الباب أو باب الأبواب، وكانت محصنة، قد وضعت على أفواهها سلاسل فلا مخرج لسفينة منها ولا مدخل لسفينة إليها إلا بإذن، وكان أمير الباب يدعى شَهْرَبَراز، فلما عرف مقدم المسلمين كتب إلى أميرهم عبد الرحمن بن ربيعة واستأمنه، ثم لقيه وقال: «إني بإزاء عدوٍّ كلبٍ وأمم مختلفة، ولست أنا من القَبَج ولا من الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا منكم، ويدي مع أيديكم، وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون، فلا تذلونا بالجزية فتوهنونا بعدوكم.» فبعث به عبد الرحمن إلى سراقة بن عمرو، وكان الأمير على الجيش، فأعاد عليه شَهْرَبَراز حديثه، وقبل منه عبد الرحمن فأعفى من يقوم مع المسلمين في حرب العدو، أما من أقام ولم ينهض فعليه الجزاء، وصار ذلك سنة فيمن يحارب العدو من المشركين، وقد كتب به سراقة إلى عمر بن الخطاب فأجازه وحسنه.
فرغ سُراقة من الباب فوجه قواده إلى الجبال المحيطة بها، فرضي أهلها الجزية دون قتال؛ إلا مُوقان، فإنها تحصنت من بكير ففضها على أهلها، ثم تراجعوا على الجزية، وفي هذه الأثناء مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج عبد الرحمن يريد غزو الترك، فقال له شَهْرَبَراز: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب، وأجابه عبد الرحمن: لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم! وسأله الأمير الفارسي عن هؤلاء الأقوام من هم؟ فأجابه: أقوام صحبوا رسول الله ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية؛ فازداد حياؤهم وتكرمهم، فلا يزال هذا الأمر لهم دائمًا، ولا يزال النصر معهم، حتى يغيرهم من يليهم، وحتى يُلفتوا عن حالهم، على أنه لم يمضِ في فتح الترك إذ جاءته الأنباء بوفاة عمر، وكان أهل هذه المنطقة قد اعتصموا من المسلمين بالجبال، فعاد عنهم زمنًا ثم عاد إلى غزوهم في عهد عثمان.
ها قد رأيت كيف تحطمت مقاومة الشمال الفارسي كله بعد همذان والري، وكيف كان ملوكه ومرازبته يسارعون فيطلبون الصلح فتقبل طائفة منهم الجزية، وتؤثر طائفة أن يقف القادرون من أبنائها محاربين في صف المسلمين لتعفى من ذل هذه الجزية؛ ثم رأيت سائر الولايات الفارسية، فيما وراء العراق العجمي إلى الشرق وإلى الجنوب، لا تمد إلى هذا الشمال يد معونة، أفكان ذلك غدرًا بالشمال وتخليًا عنه؟ أم شُغلت هذه الولايات بنفسها فلم تفكر فيه؟ من حقك أن تلتمس لهذه الولايات عن قعودها عذرًا؛ فقد روعها المسلمون بانتصارهم في شتى الأرجاء من مملكتهم، فشلَّ الروع تفكيرهم في إمداد غيرهم لمقاومة قوة حالفتها الأقدار فلا تقف قوة في وجهها، ثم إن الولايات جميعها كانت تتوقع أن يغير المسلمون عليها، وتفزع إذ تتخيلهم يجتاحون أرضها، فكانت منهم في موقف الخائف الوجل يريد أن يدفع عن نفسه خطرًا ما أضعف رجاءه في القدرة على دفعه، ولن يطلب أحد إلى مذعور أن يمد لغيره يد معونة وهو عاجز عن عون نفسه.
بل لم يكن توقعهم غزو المسلمين مجرد وهم يجسمه خيالهم؛ فقد كانت الأحوال كلها تؤيده وتجعله حقيقة تراها أعينهم ولا ينقصها إلا الزمن لتدهمهم بكل آثارها، وكيف كان لهم أن يتناسوها وقد أصبح المسلمون في خوزستان وفي العراق العجمي يجاورون ولاية فارس من شمالها، ويجاورون خراسان من غربها، فإذا تخطوا إلى فارس وإلى خراسان انفسحت أمامهم كرمان ومكران في الجنوب، وأصبح ما وراء خراسان إلى أقصى الحدود من أرض الفرس ميدانًا لانسياحهم، وقد اعتاد الفرس أن يروا غزاتهم ينحدرون إليهم ويجتاحون أرضهم كأنهم القدر النازل لا محيص منه ولا سبيل لاتقائه، بل لقد ذكر أهل ولاية فارس ما أصابهم منذ سنين حين تخطى العلاء بن الحضرمي خليج فارس على السفن إليهم، وما كان بينه وبينهم من قتال أعانتهم الأقدار يومئذ فيه، ترى أتعينهم الأقدار اليوم كما أعانتهم بالأمس؟ أم ينحدر المسلمون إليهم من البصرة ويتخطون إليهم الخليج الفارسي من البحرين، ثم يجتاحون أرضهم كما اجتاحوا العراق وخوزستان وأصفهان والري وغيرها من أراضي الملك الأعظم؟
لم يكد نعيم بن مقرن يفتح الري حتى أذن عمر للأمراء الذين عقد لهم الألوية أن ينساحوا في أرض الفرس كلها، فاندفعت القوات المعسكرة بأصفهان إلى خراسان وتدفقت قوات من البصرة ومن البحرين إلى فارس وكرمان، وسارت الأمداد من بلاد العرب تعزز الجيوش المنتشرة في مختلف الأرجاء من أرض كسرى، ولا يشك عمر في أن الله سيفتح عليه هذه الأرض جميعًا ويورثها المسلمين، فهو لا يريد أن يدع للفرس متنفسًا تجتمع في أثنائه كلمتهم أو تفكر في أثنائه ولاية في أمر غيرها، وكذلك أصبحت بلاد كسرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مسرحًا لحرب عوانٍ كانت جيوش المسلمين في كل غزواتها قلة أبدًا، ثم كانت مع ذلك منتصرة فيها جميعًا، وكان الملك الشريد كسرى يَزْدَجِرْد يتتبع أخبار هذا القتال حيثما كان من منازل فراره فلا يرى لنفسه ملجأ يأوي إليه ليستقر فيه، بل يضطر إلى النقلة من ملجأ إلى ملجأ، والاعتصام بمدينة بعد مدينة، فتنفضه الملاجئ كلها فلا يجد في مدينة عاصمًا، فيستأنف الفرار والنقلة حتى يخرج من بلاده كَشَرِّ ما يخرج مليك طريد يلتمس النصرة من قوم غير قومه، وناس غير أهله.
اندفع المسلمون من البحرين ومن البصرة لغزو ولاية فارس، فركب عثمان بن أبي العاص الثقفي السفن عابرًا الخليج الفارسي إلى جزيرة أيزكاوان فاستولى عليها، ثم تخطاها إلى أرض فارس، فسار بجنوده إلى مدينة تَوَّج الحصينة يحاصرها، هناك ألفى مجاشع بن مسعود وقد انحدر من البصرة فاستوقفه الفرس عند توج، وقاومت المدينة الحصينة هذه القوات المتدفقة إليها من الشمال ومن الغرب ما استطاعت فلما طال بها الحصار وهنت مقاومتها، ففتحها المسلمون وقتلوا من المدافعين عنها مقتلة عظيمة، واحتووا ما فيها وفرضوا عليها الجزية، وكذلك أذعنت توج منكسة الرأس، ولقد طالما فاخرت من قبل بأنها ردت العلاء بن الحضرمي على أعقابه.
وسار مجاشع إلى سابور وأردشير ففتحهما بعد قتال، أما عثمان بن أبي العاص فسار يريد إصطخر عاصمة هذا الإقليم ومدينته الكبرى، وجمع الهربز كل قواته للدفاع عن العاصمة العتيدة وقد عزم أن يرد غزاتها أو يموت دونها، ذلك أن إصطخر كان لها في نفوس الفرس مكانة سامية بلغت حد القدسية؛ فقد كانت أول عاصمة للفرس حين نزلوا هذا الإقليم من أرض إيران، كما كانت موطن الساسانيين أكاسرة الفرس في الزمن الذي نتحدث عنه، فساسان جد الملك أردشير الأول كان قَيِّمًا على بيت نار في إصطخر يقال له: بيت نار الإلهة أناهيذ، وكانت المدينة بعد قيام الساسانيين تعد مركزًا دينيًّا للدولة؟ ثم ظلت عاصمتها زمنًا غير قصير، وبها لذلك مقابر الكثيرين من ملوكها، لا عجب وذلك شأنها أن يجمع الفرس جموعهم لصد غزاتها، وأن يعقدوا العزم على الاستماتة في الدفاع عنها.
وتجاور إصطخر موقع برسوبوليس القديمة عاصمة هذا الإقليم في عهد الأكمينيين الذين سبقوا بني ساسان، فالصخور التي دفن بها بعض الملوك الساسانيين بإصطخر تجاور مقابر من قبلهم من ملوك الأكمينيين ببرسوبوليس، والراجح أن إصطخر أنشئت عقب اضمحلال برسوبوليس في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر؛ ولذلك استخدمت أطلالها في بناء كثير من عمائر المدينة الجديدة، وأسرعت إصطخر بعد بنائها إلى النماء والازدهار إذ أصبحت العاصمة الرسمية لدولة بني ساسان، ثم أدى مركزها الديني إلى أن تقام بها أفخم العمائر، وصف المقدسي مسجدها الكبير وذكر عمده الكثيرة الهائلة ورءوسها الضخمة المنقوشة على صورة رأس الثور، وروى أن هذا المسجد كان بيت نار في العهد الغابر، استعملت في بنائه مواد أخذت من برسوبوليس، وقد أشاد المقدسي بعظمة الجسر المقام على النهر في إصطخر كما اشاد بجمال حدائقها الغناء، وكانت الجبال التي تجاورها غنية بالمعادن المختلفة، فكان ذلك سببًا في زيادة نمائها وازدهارها.
جمع الهربز كل قواته للدفاع عن المدينة العتيدة، وخرج إلى ظاهرها بضاحية جور، وهناك لقيه عثمان بن أبي العاص فانتصر عليه ورده إلى أسوار إصطخر، وتحصنت القوات بالمدينة وقاومت المسلمين مقاومة عنيفة، لكن الأمداد كانت تصل تباعًا إلى المسلمين فتزيد الحصار على الفرس ضيقًا، وطال بالهربز وجنوده ما يلاقون من شدة هذا الحصار فوهنت عزائمهم، وفتحت المدينة أبوابها، ودخلها المسلمون فقتلوا حماتها وأصابوا منها ما شاءوا وفر من أهلها من فر، ثم دعا ابن أبي العاص الناس إلى الجزاء والذمة فعادوا وعاد الهربز، ونزلوا جميعًا على حكم الغزاة.
وبلغ عثمان أن بعض المسلمين أخذ من المغنم لنفسه قبل قسمة الفيء، فقام في الناس فقال: «إن الله إذا أراد بقوم خيرًا كفهم ووفر أمانتهم، فاحفظوها؛ فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، فإذا فقدتموها جدد لكم كل يوم فقدان شيء من أموركم.» وجمع عثمان الفَيْء وكان عظيمًا، فخمسه وبعث إلى الخليفة بخمسه، وأكبر عمر فعال عثمان فأقامه واليًا على البحرين.
ترى أأذعنت إصطخر لما أصابها عن رضًا ونزلت على حكم القدر؟ كلا! بل بقي ماضيها المجيد يصور لها هول ما أصابها ويحرك دخيلتها فلا تفتأ الحين بعد الحين تضطرب بنُذُر الثورة والانتقاض، وقد انتقضت بعد قليل من صلح الهربز مع ابن أبي العاص ثم انتقضت كرة أخرى في عهد عثمان بن عفان، فكان نصيبها في المرتين أن ردت إلى الطاعة وأكرهت على احترام العهد،
ومما ساعد انتقاضها في المرة الأولى أن شَهْرَك ملك فارس كان قريبًا من كسرى في مقره بكرمان، فلما عرف ما أصاب إصطخر بعث يحرض أهلها ويبذر بذور الثورة في الإقليم كله، ويذكر الناس بمواقفهم المجيدة قبل سنين قليلة حين جاء العلاء بن الحضرمي من البحرين يحاول غزوهم، وانتقضت إصطخر، وانتقض في فارس كل مكان استطاع الانتقاض، وتابعوا شهرك وانضموا إلى لوائه، وسار الحكم بن أبي العاص أخو عثمان للقاء شهرك، فنزل في توج وحصنها واتخذها مقر قيادته، وجعل يغير منها على ما حوله من المدن ثم يعود إليها يسوق أمامه مغانمه، ولم تسلم أقاليم سابور وأردشير وأرجان وإصطخر من هذه الغارات، وأثارت فعال المسلمين شهرك فسار بقواته يلقى الحكم بتوج، واستبقى في مؤخرته كتيبة أمر رجالها بقتل كل فارسي يرتد عن الميدان، والتقى هو والحكم في موقعة حامية ظلت متأججة الوطيس زمنًا غير قليل، ولا يعرف أحد لمن يكون النصر فيها، على أن غبارها ما لبث أن تكشف عن انتصار المسلمين وفرار الفرس ومقتل شهرك وابنه، وكان لهذه المعركة من الأثر أن حطمت ما بقي من قوة معنوية في نفوس الناس، حتى لقد انتقل عثمان بن أبي العاص من البحرين لنجدة أخيه فكان يسير من هذا الإقليم الفسيح حيث شاء فلا يلقى مقاومة تُذكر.
ويذكر البلاذُري أن أبا موسى الأشعري سار بأمر عمر من البصرة، وأنه انضم إلى عثمان بن أبي العاص في هذه المرحلة من قتال فارس، ففتح معه أرجان صلحًا على الجزية والخراج، ثم فتحا شيراز على أن يكون أهلها أهل ذمة يؤدون الخراج إلا من أحب منهم الجلاء، وألا يُقتلوا ولا يُستعبدوا، كما فتحا سينير من إقليم أردشير وتركا أهلها عمارًا للأرض، وأتى عثمان بن أبي العاص دَرَابْجِرْد، وكانت منزل علم ودين لأهل فارس، فصالحه الهربز عنها على مال أعطاه إياه، وعلى مساواة أهلها بغيرهم ممن فتحت بلادهم بفارس، ثم صالحه مثل هذا الصلح على مدينة فَسَا القريبة من دَرَابْجِرْد.
يخالف الطبري ومن أخذ عنه، رواية البلاذُري في فتح فسا ودَرَابْجِرْد، ويذكرون أن سارية بن زنيم هو الذي قصد إلى هذين البلدين، فلما انتهى إلى عسكر الفرس بهما نزل عليهم وحاصرهم وأطال حصارهم، فاستمدوا فاجتمع إليهم أكراد فارس وأتاهم الفرس من كل جانب، فلما صاروا في قوة لا قبل للمسلمين بها عزموا مهاجمتهم في غدهم، ورأى عمر بن الخطاب تلك الليلة فيما يرى النائم انبلاج الصبح وابتداء المعركة وموقف الفريقين وعددهم، وأن المسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أُحيط بهم، وإن لجئوا منها إلى جبل هناك جعلوه خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد فكان ذلك أكفل لنصرهم، فلما أصبح وكان في الساعة التي رأى فيها ما رأى أمر مناديه فنادى، الصلاة جامعة، ثم قام في الناس فقال: أيها الناس: إني رأيت هذين الجمعين وأخبرهم بما رأى، ثم صاح وهو يخطب: يا سارية بن زُنَيْم! الجبلَ، الجبلَ، ثم أقبل على الناس وقال: إن لله جنودًا، ولعل بعضها أن يبلغهم!
في تلك الساعة أجمع سارية ومن معه على الاستناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا الفرس من وجه واحد فظفروا بهم وقتلوا منهم، واستولوا في المغانم على سَفَط فيه جواهر استوهبه سارية من الجند وبعث به وبالفتح إلى عمر، وبلغ رسول سارية المدينة، فألفى عمر يُطعم الناس فأكل معهم فلما انصرف تبعه الرجل إلى داره، فظن عمر أنه لم يشبع فأدخله معه، وجيء بغذاء الخليفة، خبز وزيت وملح جريش، فنظر عمر إليه ونادى امرأته: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ فقالت: إني لأسمع حس رجل، فقال عمر: أجل! فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال اشتريت لي غير هذه الكسوة! ورد عليها عمر: أوما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت علي وامرأة عمر؟! وأجابته أم كلثوم من خدرها إجابة عتب بل سخط: ما أقل غناء ذلك عني! فالتفت عمر للرجل فقال: ادْنُ فكل، فلو كانت راضية لكان غداؤنا أطيب مما ترى!
فرغ عمر من طعامه، فذكر له الرجل أنباء سارية فسُرِّي عنه، ثم ذكر له نبأ السفط وأن سارية استوهبه من المسلمين وجعله لأمير المؤمنين، فتجهم وصاح به؛ لا ولا كرامة، حتى تقدم على ذلك الجند فتقسمه بينهم؛ وفتح الباب يطرد الرجل من بيته واعتذر الرجل وذكر أنه أنضى بعيره، فأبدله عمر بعيرًا من إبل الصدقة، وجعل بعيره مكانه، ورجع الرجل مغضوبًا عليه محرومًا.
هذه رواية الطبري ومن أخذ عنه في فتح فسا ودَرَابْجِرْد، وهي الرواية المشهورة فإن تكن هي الصحيحة فمن حقك أن تسأل: أثم صلة بين صيحة عمر يا سارية الجبل، وبين استناد سارية وأصحابه إلى الجبل في تلك اللحظة؟ أم هي مصادفة بحتة، فعمر في شغله بشئون المسلمين الذين يقاتلون في فارس قد رأى في نومه ما رأى، وسارية في موقفه الحربي، قد استند بجنده إلى الجبل؟ تجرى رواية بأن أهل المدينة سألوا رسول سارية إذ كان بين أظهرهم: هل سمعوا بفارس شيئًا يوم الوقعة، فقال: نعم! سمعنا: «يا سارية الجبلَ الجبلَ.» وقد كدنا نهلك: فلجأنا إليه ففتح الله علينا، ولا أراني أجد تفسيرًا علميًّا يقنعني بهذه الرواية، فالوحي قد انتهى بوفاة رسول الله ﷺ، والإذاعة اللاسلكية لم تكن معروفة، بل لم تكن تجري في خيال أحد ذلك العهد، ولست أستطيع أن أقطع بأن الأمر جاء من طريق انتقال الأفكار، وأن نفحة من روح عمر تسلطت على نفس سارية، فكان ينفذ أمر الخليفة كما ينفذ النائم في التنويم المغناطيسي أمر منومه، ومع ذلك فهذا التأويل الأخير، على تعذر تصوره، أدنى إلى تفسير هذه الرواية إن صحت، وفي هذه الحالة يكون سارية، إذ أمر أصحابه أن يستندوا إلى الجبل، قد ذكر لهم أنه سمع هذا الأمر في صوت من السماء.
كان يَزْدَجِرْد بكرمان حين سار المسلمون إليها يفتحونها، فلما رآها لا تقاوم أكثر مما قاوم غيرها، فر منها إلى خراسان وأكبر رجائه أن يثبت أهلها وأهل سجستان للمسلمين، وإنما بعث إلى نفسه هذا الرجاء أن خراسان وسجستان كان بينهما وبين البصرة والكوفة وغيرهما من مسالح المسلمين آماد غير قليلة؛ فليس إرسال الجنود لغزوهما يسيرًا كإرسالها إلى العراق العجمي، أو إلى فارس وكرمان.
تقع سجستان إلى الشمال من مكران، وكان عمر بن الخطاب قد عقد لواءها لعاصم بن عمرو، فقصد إليه ولحقه عبد الله بن عمير بها، ولقي أهل سجستان غزاتهم على تخوم بلادهم، فلم يثبتوا لهم بل انسحبوا إلى الداخل وتحصنوا بِزَرَنْجَ عاصمتهم، وحصرهم المسلمون بزرنج، ثم بثوا كتائبهم تغير على ما حول العاصمة وتغنم وتسبي، وأيقن المدافعون عن زرنج أن طول الحصار أضر بإقليمهم، فطلبوا الصلح على أن تكون مزارع سجستان حمى لا يطؤها المسلمون، وقبل المسلمون ما طلبوا، ثم كانوا إذا ساروا تحاموا الأرض خشية أن يصيبوا منها شيئًا فينقضوا العهد، فتقوم لأهل سجستان الحجة عليهم فلا يدفعوا الخراج، وبذلك حفظ كل من الفريقين عهده وقام بواجبه.
كيف أسرعت سجستان إلى التسليم وهي فيما يقول المؤرخون: «أعظم من خراسان وأبعد فروجًا، يقاتلون القندهار والترك وأممًا كثيرة»؟ أيسر التعليل أنهم رأوا كسرى يسرع إلى الفرار كلما رأى جيوش المسلمين مقبلة على مكان يقيم به، فكان طبيعيًّا أن يقتدوا به وألا يقاوموا مقاومة تجر عليهم النكال، فلِمَ يقاومون والملك الأعظم لا يقاوم! ثم لِمَ يضحون بأرواحهم، والملك الأعظم لا يضحي براحته!
ترى أيقاوم الملك الأعظم في مقره الأخير بخراسان؟ لم يكن له إلا أن يفعل! فلو أنه فر من خراسان كما فر من حلوان ومن الري ومن أصبهان ومن كرمان لما بقي له في أرض فارس ملجأ، ولكان بين أن يسلم نفسه لأعدائه وينزل على حكمهم كما فعل الهرمزان، أو يتخطى تخوم بلاده إلى بلاد التتار أو بلاد الصين، فيقيم في حماية عاهلها يلتمس منه العون، فإما أعانه فنصره على عدوه فرده إلى ملكه، وإما تباطأ عنه فقضى في مقره حياة عار ومذلة لا نجاة له منها إلا أن يموت بائسًا حزينًا.
كان يَزْدَجِرْد مقيمًا بمرو حين تخطى الأحنف بن قيس تخوم خراسان على رأس القوات التي عقد له عمر بن الخطاب لواءها، وخراسان بلاد واسعة؛ تتاخم العراق العجمي من الغرب، وأفغانستان والهند من الشرق، وتقع كرمان وسجستان إلى جنوبها وتمتد في الشمال إلى أقصى تخوم إيران، ومن أمهات مدنها نيسابور وهَراة ومَرْو وبَلخ، وكانت خراسان في ذلك العهد ذات ثروة زراعية، كما كانت تصنع بها المنسوجات القطنية والحريرية النفيسة، وقد طمع يَزْدَجِرْد حين أقام بها يحرض أهلها، في أن تصد الغزاة عما بقي له من أرض آبائه وأجداده، ونسي أو تناسى أنه جمع قوات فارس كلها وقذف بها إلى نَهَاوَنْد، فدارت الدائرة عليها، وحطمها المسلمون هناك كل محطم.
والواقع أن المؤرخين المسلمين لم يبالغوا حين سمو غزوة نَهَاوَنْد فتح الفتوح؛ فلم يكن الفرس يثبتون بعدها للمسلمين في الوقائع الكثيرة التي دارت في شمال فارس وفي جنوبها، ولم تكن خراسان أكثر من غيرها ثباتًا، دخلها الأحنف بن قيس من الطَّبَسين، فلم يلقَ مقاومة تُذكر حتى بلغ هراة، وهراة مدينة عظيمة قائمة في قلب خراسان، تحف بها الجبال من كل جانب، وتتشعب المياه في دورها وطرقاتها، ولها تجارة واسعة جعلتها من أكثر المدن رخاء وثروة، وأتاحت لها أن تحتفظ داخلها بأقوات تكفيها الشهور الطوال، ثم إنها كانت إلى مناعة موقعها الطبيعي، محصنة تحصينًا زادها منعة، فكان بها حصون كثيرة تحيط بها، وسور يرد غائلة المعتدين عليها، مع هذا كله لم يطل وقوف الأحنف بن قيس أمامها، بل فتحها عَنْوَةً فدانت له وصالحته.
كان سقراط هراة نذيرًا بسقوط خراسان كلها، وقد خلف الأحنف فيها كتيبة من جنده، وبعث بقوات إلى نيسابور وإلى سَرَخْس، وسار بنفسه على رأس الجيش يريد مرو الشاهِجَان حيث يقيم يَزْدَجِرْد، ومرو هذه تقع إلى شمال هراة وتقع نيسابور بينهما، وكانت مرو عاصمة خراسان ومدينتها الكبرى، لكن موقعها الطبيعي لم يكن في مناعة موقع هراة؛ فقد كانت في أرض مستوية بعيدة عن الجبال، وكانت المياه والأقوات حولها وفيرة ميسورة؛ لذلك لم يلبث يَزْدَجِرْد حين سمع بمسيرة الأحنف إلى مرو أن خرج إلى مرو الروذ، وهي مدينة قريبة منها، تقوم على نهر عظيم يمكن التحصن به، لكن الأحنف لم يمهله حتى يتحصن، فقد جاءته أمداد من الكوفة استطاع بها أن يتابع مسيرته، وأن يزعج كسرى مرة أخرى، فيخرج من مرو الروذ إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ثم اتبعهم الأحنف حين حاصروا المدينة القائمة على تخوم فارس وطَخَرِسْتان، وكان طبيعيًّا ألا تقاوم بلخ أكثر مما قاومت هراة أو مرو، وكان طبيعيًّا أن يفر يَزْدَجِرْد منها، فهو قد جعل الفرار أمام المسلمين دَأبه ودَيْدَنه، ودخل الأحنف بلخ على رأس جند الكوفة، فلما اطمأن إلى إذعانها أقام ربعي بن عامر عليها وعلى ما حولها، وعاد هو فنزل مرو الروذ واتخذها معسكرًا لجنده ومقرًّا لقيادته.
لم يبقَ ليَزْدَجِرْد في أرض مملكته موضع يقر فيه أو يفر إليه؛ لذلك فر هذه المرة مجتازًا النهر الذي يفصل بين فارس وأرض التتار، فنزل بسمرقند على خاقان الترك لائذًا به لاجئًا إليه، وكان قد كتب إلى خاقان الترك وإلى إمبراطور الصين، منذ كان بمرو الشاهجان يستمدهما ويستعديهما على المسلمين، فأبطأ رسله إليهما ولم يعودوا إليه من عندهما بجواب، فلما دفعه المسلمون فلجأ إلى خاقان الترك، دفعت النخوة هذا الأخير لنجدته، ولعل خاقان الترك رأى في تقدم المسلمين ما يهدد ملكه، فآثر أن يصدهم قبل أن يجتازوا إليه أرضه، واتخذ من لجوء كسرى إليه حجة يحرك بها نخوة قومه، وحشد خاقان جنده وحشد معهم أهل فَرْغانة والصَّفَد، وسار بهم وبيَزْدَجِرْد يلقى المسلمين بخراسان.
كان الأحنف بن قيس قد كتب في هذه الأثناء إلى عمر بفتح خراسان وغلبته على المَرْوَيْنِ وبَلخ، فلما قرأ عمر كتابه تهلل وجهه وصاح: هو الأحنف وهو سيد أهل الشرق! لكنه ما لبث، بعد هذا الإعجاب بقائده الظافر، أن عاد إلى التفكير فيما يجب أن يعقب هذه الخطوة، فعاوده حذره فقال: «لوددت لو أني لم أكن بعثت إلى خراسان جندًا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار!» وخشي أن يتقدم الأحنف بجنوده إلى ما وراء خراسان من أرض المشرق، كما خشي أن تأخذ المسلمين نشوة الظفر فتطغيهم فيعيثوا في الأرض فسادًا، فكتب إلى الأحنف يقول له: «أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا على الذي دخلتم به يَدُمْ لكم النصر، وإياكم أن تعبروا فتنفضُّوا!»
وقد كان لهذا الحذر من جانب عمر ما يسوغه؛ فقد اتسعت رقعة الفتح في الشرق فتناولت أرض فارس كلها؛ وقد طالت خطوط المسلمين وتوزعت قواتهم في أرجاء الشام والعراق وفارس، ولا يأمن الخليفة انتفاض بعض هذه البلاد على نحو ما حدث إذ حُصر أبو عُبَيْدَةَ بحمص، هذا إلى أن التقدم فيما وراء فارس قمين أن يثير به التتار والمغول دفاعًا عن أنفسهم وعن بلادهم، فمن الخير ومن حسن الرأي أن يقف الفتح زمنًا حتى يستتب الأمر ويطمئن أهل البلاد المفتوحة إلى حكم المسلمين، ومن الخير لذلك ألا يتقدم الأحنف أو غير الأحنف من أمراء الجند إلى ما وراء تخوم فارس.
دلت الحوادث من بعد على أن عمر كان حصيف الرأي، بعيد النظر في حذره؛ فقد سار خاقان الترك في جنده ويَزْدَجِرْد إلى جانبه فعبروا النهر إلى بلخ، واضطروا جند الكوفة أن يتراجعوا إلى مرو الروذ، وأن ينضموا إلى الأحنف وجنده، وتعقبهم خاقان في تراجعهم وقد زاد عدد جنده بمن انضم إليهم من الفرس، وبلغ مرو الروذ في جمع عظيم مزعج، ورأى الأحنف دقة الموقف لكثرة عدوه، كما رأى أنه إن تم له النصر فردهم إلى بلخ وإلى ما وراء النهر لم يكن له أن يعبره، فذلك رأي أمير المؤمنين، لهذا رأى أن ينسحب بجنوده إلى موضع يجري نهر مرو الروذ أمامه، ويقوم جبل خلفه، حتى يكون النهر خندقًا بينه وبين عدوه، ويكون الجبل حصينًا يكفل له ألا يؤتى من خلفه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: «إنكم قليل وإن عدوكم كثير فلا يهولنكم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم وقاتلوهم من وجه واحد.» وانسحب الجند إلى هذا المكان، وأقبل الترك فوقفوا قبالتهم.
لم يكتفِ الأحنف بما صنع من ذلك، بل حرص على أن يعرف الترك وخاقانهم أمر عمر ألا يجتاز المسلمون النهر إلى بلادهم، فبعث دسيسًا أذاعوا هذا النبأ فيهم، واطمأن خاقان إلى صحة النبأ حين رأى المسلمين لا يحاولون اجتياز النهر إليهم ولا يدعونهم لقتالهم، فقد أقام الجيشان أيامًا والترك يغادون المسلمين ويراوحونهم، فإذا جاء الليل تنحوا عنهم، ثم لا يخرج المسلمون إليهم، وبعث الأحنف عيونه فدلوه على مكان القوم بالليل، ثم خرج ليلته طليعةً لأصحابه حتى كان قريبًا من معسكر خاقان، فلما تنفس الصبح خرج فارس ثانٍ من طليعة الترك كأنما كان يتحدى المسلمين، فبارزه الأحنف فقتله، وخرج فارس ثانٍ من الطليعة فأورده الأحنف حتفه، وخرج ثالث فكان مصيره مصير صاحبيه.
رجع الأحنف بعد ذلك إلى عسكره وهو على تعبئة، وخرج خاقان الترك من قبته فرأى الفرسان الثلاثة الذين قُتلوا، ورأى النهر بينه وبين المسلمين، ورأى الأحنف ورجاله لا يدعون لقتال، وأيقن صحة ما نُمي إليه من أمر عمر فقال لرجاله: قد طال مقامنا وما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا، وارتد بالجيش حتى بلغ بلخ، وقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فأجابهم: أقيموا بمكانكم ودعوهم، بذلك ثبت في نفس خاقان الترك اليقين بأن المسلمين لا يريدون قتاله، وأنهم لن يجتازوا النهر عند بلخ إلى أرضه فازداد حرصًا على ترك فارس إلى عاصمة ملكه، وترك المسلمين يصفي يَزْدَجِرْد معهم حسابه.
وكان يَزْدَجِرْد حين انسحب جند الكوفة من بلخ وانضموا إلى الأحنف بمرو الروذ قد فصل في قوة فارسية من بلخ إلى مرو الشاهجان، فحصر حارثة بن النعمان ومن معه من المسلمين بها، واستخرج خزانته من موضعها، وعهد إلى أمنائه في السهر عليها فلما انسحب خاقان من مرو إلى بلخ وبلغت يَزْدَجِرْد أنباء عن عزم هذا الحليف على الانسحاب من فارس كلها إلى بلاده، أراد أن يحمل الخزائن وأن يلحق بحليفه، وكانت هذه الخزائن عظيمة تحوي جواهر كسرى وكل ما جمعه من خزائن فارس في أثناء فراره، وكانت من ثم ثروة يخطئ تقديرها الإحصاء، وعرف أهل فارس عزم يَزْدَجِرْد على حملها والفرار بها، فسألوه: أي شيء تريد أن تصنع؟ وأجابهم، أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلًا! إن هذا رأي سوء؛ فإنك إنما تأتي قومًا في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم يلون بلادنا، وإن عدوًّا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكةً من عدو يلينا في غير بلادنا، فأبى عليهم وأبوا عليه، قالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ولا نخرجها من بلادنا إلى غيرها، فخالفهم يَزْدَجِرْد وأصر على رأيه، فخرجوا إليه وثاروا به وقاتلوه وحاشيته، واستولوا على خزائنه، ففر فيمن معه إلى بلخ، فإذا خاقان سبقه إلى الانسحاب منها، فتابع فراره حتى بلغ فرغانة عاصمة الترك بسمرقند.
وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه وعاهدوه، ودفعوا إليه خزائن كسرى وأمواله، ورجعوا إلى بلادهم فاطمأنوا بها، فسار الأحنف بجند الكوفة من مرو الروذ إلى بلخ فأنزلهم بها، ثم عاد إلى مقر قيادته، وقد كان ما استفاءه المسلمون في هذه المواقع عظيمًا، حتى بلغ نفل المحارب مثله يوم القادسية.
ألا إن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبرًا يضر بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبعٌ آخر ذلك أوله، فقوموا من أمره على رجل يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تبدلوا ولا تغيروا فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تُؤتى إلا من قِبَلكم.
فر يَزْدَجِرْد من أرض فارس إلى أرض الترك؛ فتم بفراره القضاء على دولة الأكاسرة من بني ساسان، مع هذا أقام في مقره سنين يداعب الأمل والغرور خياله أن يعود يومًا إلى ملك آبائه وأجداده، لذا كان يكاتب من يطمئن إلى مكاتبتهم من أهل خراسان، طامعًا أن تثور الأرض بالمسلمين يومًا فتتاح له فرصة الثأر منهم، وقد ثارت خراسان في زمن عثمان بن عفان، فخيل إلى يَزْدَجِرْد أن الفرصة تاحت، فسار من بلاد الترك حتى نزل مرو واجتمع بمن كان يكاتبهم، لكن المسلمين ما لبثوا أن قضوا على الثورة وأخذوا بيدهم زمام الأمر في الأرض التي كفرت بسلطانهم، عند ذلك رأى أصحاب يَزْدَجِرْد أنه لا طاقة لهم بما يريد، فاختلفوا معه وانفضوا من حوله، فعاد يحاول الفرار والرجعة من حيث أتى، لكن الفرار لم يكن هذه المرة يسيرًا؛ فقد تخلت عنه الأرض كلها، وقد بث المسلمون عيونهم من الفرس ليحيطوا به ويقتادوه إليهم أسيرًا، وعرف الملك الشريد ما دُبر له، فأوى إلى طاحونة على شاطئ النهر، وهناك قُتِل شر قتلة، قيل: إن أهل خراسان أحاطوا به في ملجئه: ثم دخلوا عليه فقتلوه وألقوا بجثته في النهر، وقيل: إن صاحب الطاحونة رأى عليه حلته فلما نام قتله، وإن الترك خفوا لنجدته فوجدوه قُتل، فانتقموا له من صاحب الطاحونة وأهله فقتلوهم جميعًا، ثم وضعوا جثته في تابوت وحملها بعضهم إلى إصطخر، وقيل: إن صاحب الطاحونة ذهب إلى أمير مرو فأخبره خبره، فعرفه وقال لجنده: اذهبوا فجيئوني برأسه، فدخل عليه الطحان فقتله وحز رأسه ودفع بها إلى الجند ورمى بجثته في النهر، وأيًّا ما صح من هذه الروايات فكلها تتفق على أن سليل الأكاسرة العظام قُتل وهو في ملجئه عند ذلك الطحان، وبمقتله انتهت دولة الأكاسرة من بني ساسان.
تم فتح فارس وفرار يَزْدَجِرْد في عهد عمر، فهل ترى أذعن الفرس لحكم المسلمين من أول الأمر عن طواعية ورضًا؟ لا ريب في أنهم رأوا هذا الحكم أكثر إنصافًا ومعدلة وأقل إرهاقًا لهم من حكم الأكاسرة؛ فقد تركهم العرب لم يزعجوهم عن دينهم ولم يتدخلوا في شئونهم، ثم جعلوا لأمراء الولايات من الاستقلال أكثر مما كان لهم في عهد يَزْدَجِرْد وأسلافه، كما تركوا المناصب العامة للفرس لم يحاولوا استغلالها لأنفسهم مكتفين بالجزية يقتضونها وفاقًا للمعاهدات المعقودة بينهم وبين مختلف الولايات، لكن أبناء فارس لم يلبثوا أن شعروا بما في حكم الأجنبي من مذلة لهم وعار عليهم، وأن أدركوا ما يحتويه نص ورد في المعاهدات كلها من جرح لشعورهم وإذلال لكرامتهم؛ فقد جاء في الفقرة الأخيرة من صلح أصبهان: «ومن سب مسلمًا بُلغ منه، فإن ضربه قتلناه.» وكان صلح الري يلزم أهلها بأن «يَقرُوا المسلمين يومًا وليلة، وأن يفخموا المسلم، فمن سب مسلمًا أو استخف به نُهك عقوبة، ومن ضربه قُتل.» ونص صلح جرجان على أن «من سب مسلمًا بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه.» أفيغني ترك الفرس أحرارًا في دينهم، وعدم التعرض لهم في التمتع بأموالهم عن الكرامة المهدورة والدم المباح كلما استخف فارسي بمسلم أو سبه أو ضربه؟! لذلك بدأ الفرس ينتقضون بعد قليل من استقرار المسلمين بينهم، مما اضطر عثمان إلى إرسال القوات المسلحة الحين بعد الحين لتأديبهم.
ولم يكن تأديبهم وردهم إلى الطاعة عسيرًا؛ فلم يكن عمر قد فاته أن أمة عريقة في الحضارة والمجد كأمة الفرس لن تذعن من بادئ الأمر لسلطان الأجانب عنها، فأقام المسالح في شتى أرجائها، واحتاط بذلك لكل انتقاض يمكن أن تقوم به طائفة من أبنائها، وقد كان عمر في هذا الأمر كما كان في كثير غيره حصيفًا بعيد النظر، فالشعور بالكرامة أقوى أثرًا في النفس من كل شعور، ولن يستطيع كبحه إلا قوة تضطر الثائر، لمهانة نزلت به، أن يختار بين كرامته وحياته، وتجعل الشعور بالكرامة وغريزة الاحتفاظ بالحياة يقفان وجهًا لوجه، وقد كان لهذه الوقفة أثر بعيد في حياة الشعب الفارسي أدت به إلى أن يدين بالإسلام، ثم كان له من الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية ما لا يدخل تفصيله في نطاق هذا الكتاب.
دخل الفرس في الإسلام أفواجًا عقب الفتح، ولذلك أسباب كثيرة يمكن ردها جميعًا إلى سببين اثنين؛ أولهما: أن الإسلام كان دين الحاكمين، والثاني: أن الفرس لم يكونوا يعنون إلا قليلًا بالدين الرسمي للدولة السابقة، هذا إلى أن العقيدتين كانتا تلتقيان في مواضع كثيرة، فلم يكن الانتقال من إحداهما إلى الأخرى ليثير نفوسًا تزعزع إيمانها بعقيدتها الأولى؛ فقد ضعف إيمان الفرس بتعدد الآلهة، وأصبح تصورهم أرْمُزْد قريبًا من فكرة الألوهية الإسلامية، ثم إن بساطة العقيدة العربية كانت منجاة للفرس من تعقيد الشعائر المَزْدية، وكانت الزكاة المفروضة في القرآن تقابل بل تسمو على ما تدعو إليه «الأفِيسْتا» من الصدقة والإحسان، أما ما جاء في القرآن عن الجنة والنار وعن الآخرة فكان مذكورًا في كتبهم، بذلك لم يغير الإسلام في نظر الشعب الفارسي شيئًا من عقائده الأساسية إلا أن جاءه باسمين جديدين: الله ومحمد، وأن أحل الكلمات الثمان التي تعتبر قواعد الإسلام محل الكلمات الإحدى والعشرين التي تقوم عليها عقيدة الفرس.
كان لهذا الانتقال الديني أثره في الناحية السياسية، فالعقيدة الفارسية تجعل السلطان للملك على أنه ابن الله، فله المجد والقدسية بحكم مولده الأسمى، وقد أدت ثورة الفرس وانتقاضهم على سلطان المدينة وسلطان دمشق إلى اجتماعهم حول الوارث الشرعي لمحمد: ابن عمه علي العربي الذي أقصي عن الخلافة، وإلى أن يحيطوه بهالة من الجلال والقدسية ألف أسلافهم أن يحيطوا بها ملكهم القومي، وكما ألف أسلافهم أن يلقبوا كسرى: «الملك المقدس ابن السماء.» وأن تصفه كتبهم بأنه «السيد والمرشد.» كذلك فعلوا في عهدهم الإسلامي فدعوه الإمام، وكان هذا اللقب على بساطته جليل المعنى إذ جمع صاحبه السلطان الدنيوي والتوجيه العقلي.
فلما قبض علي اجتمع الفرس حول ولديه الحسن والحسين، ثم اجتمعوا من بعدهما حول عقبهما، وقد قيل: إن الحسين تزوج بنت آخر الأكاسرة الساسانيين، فتركزت الإمامة بذلك في عقبه بازدواج الحق المقدس، ثم بارك دم الحسين بسهول كربلاء على هذه الوحدة التي جمعت بين الإسلام وفارس القديمة.
وكانت الثورة التي خلعت بني أمية وأجلست العباسيين ذوي قرابة رسول الله على العرش من صنع الفرس، بذلك حققوا مبدأهم في الإمامة، وإن لم يتوجوا بالسلطان من بذلوا كل جهدهم في سبيل تتويجه … إلخ.
أما وقد فرغنا من فتح فارس فلننتقل إلى ميدان آخر كانت أسلحة المسلمين مشهورة فيه حين كانت أسلحتهم مشهورة في أرض كسرى، وكان لها من مجيد الفعال هناك ما كان لها من مجيد الفعال هنا، ثم كان قائدهم عمرو بن العاص أوسع قواد المسلمين حيلة وأشدهم ذكاء.
هذا الميدان الآخر هو مصر.
هوامش
سار عبد الله بن عتبان بأمر الخليفة عمر إلى جي، وكان عليها واحد من الفاذوستان الأربعة وهم حكام الدولة الفارسية.