التفكير في فتح مصر
بينما كانت أسلحة المسلمين تنساح في بلاد الفرس، بإمرة الأحنف بن قيس ونعيم بن مقرن وسويد أخيه وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وغيرهم من أمراء الجند ذوي المكانة والبأس، كان عمرو بن العاص يتقدم بجنوده في مصر؛ يفتح مدنها، ويجلي الروم عنها ويديل دولتهم فيها، وقد بدأ عمرو مسيرته إلى مصر في شهر ذي الحجة للسنة الثامنة عشرة من الهجرة، وتخطى إلى أرضها في مستهل السنة التاسعة عشرة، ثم سار في قتال أهلها وقتال الروم بها حذرًا أول الأمر، فلما جاءته الأمداد من الخليفة طوعت له سرعة السير وكفلت له الغلبة والنصر.
وكانت مسيرة عمرو إلى مصر بإذن من عمر بن الخطاب، لكن عمر لم يأذن بهذا السير إلا بعد تردد طويل، فالمتواتر أن ابن العاص خاطب الخليفة في غزو مصر حين فتحت بيت المقدس أبوابها، وبعد أن صالح أمير المؤمنين أهلها في السنة السادسة عشرة من الهجرة، ولعل عمرًا قد ذكر في حديثه يومئذ أن قائد الروم الأطربون انسحب بقوات الروم من فلسطين إلى وادي النيل، فمن الخير تعقبه وهو منهزم قبل أن تتاح له فرصة التحصن في بلاد وافرة الخصب عظيمة الثروة؛ يستطيع أن يجد في حصونها المنيعة وفي مِيرتها الوفيرة، من وسائل الدفاع وأسباب المقاومة، ما ينسي هرقل هزيمته وفراره من المدينة المقدسة، ولعل عمرًا ذكر كذلك في حديثه ما تعج به مصر من خيرات ينال الروم أكثرها ولا يبقى للمصريين منها إلا القليل الذي يقيم أودهم ليعملوا في أرضها المعطاء، ولعله أعاد هذه الأحاديث غير مرة على الخليفة، وعززها بأن علاقات مصر بحكامها من الروم ليست خيرًا مما كانت علاقة العراق بحكامها من الفرس؛ وأن النزاع المذهبي قد أثار على ضفاف النيل حفائظ المصريين وأضعف من حماستهم لحكامهم، إن لم يدعهم للتمرد عليهم، وهذه كلها عوامل تكفل للعرب الظفر بأعدائهم في الوادي الخصيب، فإذا أضيف إليها ما استقر في نفوس الناس لذلك العهد من بأس المسلمين ومن أن الله معهم فلا غالب لهم، لم يبقَ موضع للتردد في غزو مصر ونشر لواء الإسلام فيها، ثم كان للمسلمين من ثراء مصر ومن خيراتها الوفيرة ما يضاعف حظهم من نعيم الدنيا، بقدر ما يضاعف الاستشهاد حين الجهاد حظهم من نعيم الآخرة.
سمع عمر هذه الأحاديث ومثلها غير مرة، وكان ينصت لها ويطيل التفكير فيها، فالإغراء بغزو مصر لمن استطاع غزوها قوي شديد، وأين منها العراق والشام ثروة ونضرة! وهل يحدِّث تاريخ في بقاع الأرض بمثل ما يحدث تاريخها، أو تنهض في المشرقين آثار في جلال آثارها! لكن عمر كان يتردد كلما حُدِّث في أمرها، فلا يأذن لابن العاص في غزوها، فلما انتهى بعد سنتين إلى الإذن بهذا الغزو وجد جماعة من كبار الصحابة بالمدينة راغبة عنه، خاشية سوء مغبته، تحاول حمله على الرجوع عنه، ورد ابن العاص عن السير إليه.
وقد تداولت عمر أسباب متلاحقة حملته على هذا التردد، وأول هذه الأسباب أن سياسته في الفتح كانت إلى آخر السنة السابعة عشرة من الهجرة سياسة عربية بحتة؛ فهو لم يكن يريد أن يتعدى العراق والشام بعد أن ضمهما إلى شبه الجزيرة، وكان يرى أن يضمهما إليها؛ لأن القبائل العربية التي نزحت إليها طوعت للخميين والغسانيين أن يقيموا ملكًا عربيًّا خضع لنفوذ كسرى ولنفوذ قيصر، ومن الحق أن يكون هذا الملك للعرب وحدهم، يستقلون به ويكونون أصحاب السلطان فيه، حتى يجتمع العرب في وحدة تمتد من خليج عدن والمحيط الهندي إلى أقصى الشمال من بادية السماوة، ولذلك أبى على سعد بن أبي وَقَّاصٍ أن يتخطى سهول العراق إلى جبل فارس، وود لو أن بين السواد والجبل سدًّا من نار، فلا يخلص الفرس إليه ولا يخلص هو إليهم، وقد ظل حريصًا على هذه السياسة حتى لم يكن للمسلمين من قتال الهرمزان مفر، فلما جمع الفرس لهم بعد ذلك بنَهَاوَنْد وأظفر الله المسلمين بهم، أمر عمر بالانسياح في بلادهم ليخرج يَزْدَجِرْد منها، وليقضي على كل خارج عليه فيها.
وسبب آخر حمل عمر على التردد في فتح مصر، ذلك أن الشام لم تكن خضعت كلها لسلطان المسلمين إلى آخر السنة السادسة عشرة، وقد بقي شمالها يناوئهم ولا يستقر لهم فيه أمر حتى قضى أبو عبيدة بن الجَرَّاحِ وخالد بن الوليد على مقاومتهم، وذلك حين بعث هرقل قواته تحملها السفن من الإسكندرية إلى أنطاكية، وحين خرج أهل الجزيرة يمدونه، ثم انتهى الأمر بهؤلاء وأولئك إلى الفرار، هذا، ثم إن قَيْسَارِيَّة ظلت في موقعها الحصين على شاطئ البحر تقاوم قوات المسلمين وتهدد مراكزهم بفلسطين إلى أن افتضها معاوية بن أبي سفيان. لم يكن لعمر، وذلك كان شأن سورية وفلسطين إلى أخريات السنة السابعة عشرة من الهجرة أن يغامر بإرسال قواته من الشام لمواجهة الروم بمصر، أتراه يقدم على هذه المغامرة إذا فتح الله عليه الشام؟ كان يتردد في هذا، وكان يجد من عثمان بن عفان ومن غيره من الصحابة المقيمين بالمدينة من يزيده دون الإقدام والمغامرة ترددًا.
فلما خضعت الشام كلها طرأ سبب جديد أبقاه في تردده؛ فقد فشت المجاعة في شبه الجزيرة وهددت أهلها بالفناء، فشغلت عمر عن التفكير فيما سواها، وكيف يفكر في غزو الروم بمصر والناس في شبه الجزيرة جياع لا يصلحون مددًا لأي جند يواجه الروم أو يواجه الفرس! ولم تكد المجاعة تنقضي حتى فشا طاعون عمواس بفلسطين وامتد منها إلى الشام والبصرة، فأزعج عمر والمسلمين جميعًا، حتى لقد ساورتهم الخشية من انتقاض العراق والشام بهم؛ ورجعة الفرس والروم للقضاء ثَمَّ على سلطانهم، وكان طبيعيًّا أن ينسى عمر في أثناء المجاعة والطاعون كل ما حدثه به عمرو بن العاص عن مصر وأن ينصرف كل الانصراف عن التفكير في غزوها.
ولزم ابن العاص الصمت في أثناء هذه الحوادث فلم يخاطب عمر في غزو مصر، لكن الأمل في إقناع الخليفة عند سنوح الفرصة لهذا الفتح العظيم ظل مع ذلك ماثلًا أمامه، ولما عادت شبه الجزيرة إلى مألوف حياتها، وبرئت الشام من الوباء وجاء الخليفة إليها يصلح شئونها وينظم جندها، لقيه عمرو بالجابية وسار معه في أرجاء البلاد وعاد يحدثه في فتح مصر ويدلي إليه بحجج جديدة حسبها تزيل تردده، فلو أن المسلمين قنعوا، بعد الذي أصابهم من هول المجاعة والطاعون، بالاستقرار في البلاد التي فتحوها لظن أعداؤهم بهم الضعف، ولأغراهم هذا الظن بمهاجمتهم، وهذا الأطربون بمصر قد جمع إليه الجند وأعد للقتاء العدة، فإذا لم يجد من يهاجمه خرج في قواته إلى فلسطين يقاتل المسلمين، أليس الخير أن يفاجئه المسلمون في مأمنه؛ فالهجوم خير وسائل الدفاع؟! وإذا تقدمت قوات العرب لغزو مصر أيقن الروم أن المسلمين لا يزال بأسهم شديدًا كما كان، فهابوهم ووقفوا منهم موقف المدافع، بذلك تأمن الشام رجعتهم لغزوها، وكيف لهرقل أن ينقل الجند على السفن من مصر إلى أنطاكية أو غير أنطاكية والمسلمون يهاجمونه في مصر نفسها! فإذا فتح الله مصر يومًا للمسلمين وأورثهم إياها، وذلك ما يؤمن ابن العاص به، فذلك الفوز الذي لا فوز يعدله؛ وإن تكافأت القوتان فطلب الروم الصلح، أمن المسلمون جانبهم في الشام وفي جزيرة العراق، وفي سائر الأرجاء التي دانت من قبل بأسلحة أمير المؤمنين، ولا خوف من أن يهزم المسلمون في مصر وأن تؤدي هزيمتهم إلى كارثة تضيع ما كسبوا من ملك قيصر، فقد أصبحت الشام كلها حصينة بقوات المسلمين المنتشرة فيها، وبانضمام العرب من أهلها إلى بني عمومتهم في الدفاع عنها، وباطمئنان غير العرب من أهلها إلى أن المسلمين خير من الروم حكمًا، وأكثر منهم عدلًا وإنصافًا.
سمع عمر إلى هذه الحجج وقلَّبها في نفسه فمالت به إلى مشاركة ابن العاص في رأيه، وزاده ميلًا إلى هذه المشاركة ما رآه من إيمان عمرو بالقدرة على فتح مصر إيمانًا مستندًا إلى منطق تتعذر معارضته، هذا إلى أن الإغراء بفتح مصر شديد؛ فقد كان عمر وكان كثيرون من العرب في عهده يعرفون الشيء الكثير عن مصر وثروتها، وعن برم أهلها بسلطان الروم وأساليب حكمهم؛ لذلك لم يرفض طلب عمرو ولكنه استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، وأقام ابن العاص ينتظر هذا الكتاب ويدبر في أثناء انتظاره خطة السير إلى مصر.
كان عمر وكان كثيرون من العرب يعرفون الشيء الكثير عن مصر، ولم يكن علمهم بها مقصورًا على ما ينقله عنها من يذهبون في تجارتهم إليها من أمثال عمرو بن العاص، بل كان أوسع من ذلك مدى وأكثر دقة وإحاطة، فبين مصر وبلاد العرب صلات ترجع إلى أقدم الحِقَب، ذلك أن مصر كانت دولة بحرية منذ عهد الفراعنة، فكانت أساطيلها الحربية والتجارية تشق عُبَاب البحرين الأبيض والأحمر من أقدم عصور التاريخ، وكانت سفن من هذه الأساطيل تذهب إلى الجنوب من بلاد العرب تحمل إليه التجارة وتجيء منه بمختلف السلع، وفي مقدمتها العطور والروائح التي توضع في حنوط الموميات، وكانت هذه السفن تسير وترسو من حيث تقع القُصَيْر اليوم، ثم ينقل ما تجيء به إلى مصر في طريق امتد في عهد الأسر الفرعونية الأولى بين القصير على البحر الأحمر وقِفْط على ضفة النيل، وقد أثبت الأثريون ما سجلته نقوش الكرنك وطائفة من المعابد المصرية من صور لهذه السفن المصرية وما تحمل من تجارة، كما أثبتوا ما سجلته نقوش الدير البحري من قيام الملكة الفرعونية «هاناسو» بشق طريق ملاحي يصل النيل بالبحر الأحمر عند خليج السويس مارًّا بالبحيرات المرة، وفي هذا الطريق الملاحي كانت السفن تنتقل بين البحرين الأبيض والأحمر، تحمل تجارة مصر والمغرب إلى الشرق، وتحمل تجارة مصر والشرق إلى الغرب، فكانت مصر يومئذ، أكثر مما هي اليوم، مركز التجارة للعالم المعروف كله، وكان تيسير الانتقال لهذه التجارة بعض ما يوليه ملوكها أعظم العناية.
ولم تكن الأساطيل البحرية وحدها أداة هذه الصلات القديمة المتصلة على القرون بين مصر وبلاد العرب، بل كان برزخ السويس أداة اتصال بينهما لم تنقطع في عصر من العصور، وكان في شبه جزيرة سيناء طريق عبَّده المصريون القدماء إلى مناجم النحاس الواقعة بها، وكان هذا الطريق يجري في شمال الحجاز حتى يتصل عند تَيْمَاء بالطريق المؤدي إلى بابل على شاطئ الفرات، وكانت بابل وكان العراق كله تابعًا لمصر في عصور مختلفة؛ فكان هذا الطريق وسيلة الصلة بين البلدين في التجارة كما كان سببًا لنشوب الحرب بينهما في بعض العصور.
وكان هذا الطريق الممتد من سيناء في شمال الحجاز يتصل كذلك بطريق القوافل المنحدر إلى مكة وإلى اليمن، وفي هذا الطريق كان جانب كبير من تجارة مصر وبلاد البحر الأحمر ينقل إلى اليمن وفارس، وإلى الهند وبلاد الشرق الأقصى، كما كان جانب عظيم من تجارة اليمن وفارس والهند والشرق الأقصى ينقل إلى مصر وبلاد البحر الأبيض في الطريق عينه، فكان المصريون الذين يصحبون تجارتهم يجتازون بلاد العرب أثناء سير القوافل بها، وكان العرب الذين ينقلون متاجر الشرق إلى مصر يدخلونها بقوافلهم ويقيمون بها ريثما يعودون منها بتجارة جديدة، وكان ذلك يحدث من أقدم العصور، ثم ظل متصلًا مع إلف الناس البحر ونقلهم التجارة في السفن على متنه.
ومؤرخو العصور القديمة يذكرون أن هذا الاتصال أدى إلى استقرار عدد غير قليل من العرب ببوادي مصر منذ عهد الفراعنة، وإلى استقرار جالية من المصريين عند واحة على طريق القوافل، وأن هذه الجالية كانت النواة التي نشأت حولها مدينة يثرب، مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
لم تكن صلة التجارة وحماية القوافل هي وحدها التي ربطت بين العرب والمصريين في العصور القديمة، بل ربطت بينهما كذلك صلة رحم إن نسيها أهل اليمن لم ينسها أهل الحجاز، وما كان لأهل مكة بخاصة أن ينسوها، فإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أبو العرب، و«هاجر» أم إسماعيل مصرية صميمة، فقد ارتحل إبراهيم مع زوجه «سارة» من العراق إلى فلسطين ثم إلى مصر، فأهدى إليه ملكها هاجر، فولدت له إسماعيل، وغضبت سارة حين رأت إبراهيم يسوي بينها وبين هاجر، فأقسمت لا تساكنها، فذهب إبراهيم بهاجر وابنها إلى بلاد العرب وأنزلهما بالوادي الذي تقوم مكة اليوم به، وتزوج إسماعيل فتاة ولودًا من جُرْهُم أعقبت له اثني عشر ولدًا هم آباء العرب المستعربة، فهؤلاء العرب ينتمون من ناحية خُئولتهم في جرهم إلى العرب أبناء يَعْرُب بن قحطان، وينتمي أبوهم إسماعيل من ناحية خئولته إلى مصر.
نزل إبراهيم مصر وانتقل بهاجر إلى بلاد العرب، فربط بين الجنسين برابطة النسب لمائة وألفي سنة قبل مولد المسيح، وأضاف بذلك صلة جديدة إلى صلة التجارة القائمة بين الشعبين من أقدم الحقب، وبعد قرنين اثنين من هذا النسب نشأت بين الشعبين صلة سياسية تركت أثرًا باقيًا على التاريخ؛ فملوك مصر الرعاة «الهكسوس» عرب نزحوا إلى فلسطين واستقروا بها، ثم ساروا منها إلى مصر فغزوها وأقاموا بها ملكًا دام خمسة قرون متعاقبة، من أوائل القرن المتمم العشرين إلى أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وقد ظل ملكهم ممتدًا في وادي النيل كل هذه القرون، ثم أجلاهم المصريون عنه، فخرجوا من مصر وقد بلغ عددهم قرابة ربع المليون، ويذكر بعض المؤرخين أن هؤلاء الهكسوس هم بنو إسرائيل، وأن قصة يوسف الصِّدِّيق حدثت في عهدهم.
ظلت هذه الصلات في التجارة والسياسة والنسب متصلة بين مصر وبلاد العرب، تضعف حينًا وتقوى حينًا آخر، وقد أضعفها استيلاء الروم على مصر زمنًا، ثم عادت إلى مثل ما كانت عليه، ذلك أن العرب ظلوا يقومون برحلة الصيف إلى الشام، ثم كان منهم من ينحدر من طريق القوافل عند أَيْلَة — العقبة — إلى مصر، وكان أكثرهم يسيرون إلى الشام، فإذا بلغوها وقضوا وطرًا من تجارتهم فيها توجهوا إلى مصر، وذلك ما كان عمرو بن العاص يصنعه في الجاهلية وفي الإسلام.
ولم يكن طريق البحر أقل إدامة للصلة بين مصر وبلاد العرب من طريق القوافل، فقد كانت السفن عليها الملاحون المصريون ترسو بجُدَّة وغيرها من فُرُضَات بلاد العرب، تبادلها التجارة ويأخذ الملاحون منها ما يحتاجون إليه من أقوات، وأدت هذه الصلات إلى نزول بعض المصريين بلاد العرب وإقامتهم بها، كما كان بعض العرب الذين يذهبون في رحلة الصيف ينزلون مصر ويقيمون بواديها، وكتب السيرة تذكر أن السيل طغى على بناء الكعبة فتهدم لسنوات قبل مبعث النبي العربي، وأن البحر رمى إذ ذاك بسفينة قادمة من مصر مملوكة لتاجر رومي اسمه «باقوم» فحطمها فابتاع أهل مكة أخشابها لإدخالها في بناء الكعبة، واستعانوا بقبطي يقيم بمكة ويعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم وأن يعاونه «باقوم» ولم يكن هذا القبطي المصري الوحيد المقيم بالبلد الحرام.
كان العرب بحكم هذه الصلات يعرفون الشيء الكثير عن مصر، وقد تحدث القرآن عنها في مواضع كثيرة منه، فزاد المسلمون بها علمًا، لقد كانوا يعرفون عن نهرها العظيم، وأرضها المعطاء وزروعها الناضرة، وخيراتها الوفيرة ما يذكره لهم أهلوهم الذين يتجرون بها، فلما أورد القرآن قصص يوسف وموسى زادهم بحديث أهلهم علمًا وتثبيتًا، يقول تعالى في سورة الدخان تعقيبًا على ما كان من غرق فرعون وقومه: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، ويقول في سورة الدخان: وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ويقول على لسان بني إسرائيل: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ، ويذكر في غير موضع صروح مصر وآثارها ويشير إلى تاريخها وعبادات أهلها، وهذه الآيات ومثلها مما ورد في وصف مصر إنما ورد حين قص القرآن حديث إبراهيم ويوسف وموسى والأنبياء، فأثار في نفوس المسلمين صورة مصر الطبيعية، كما أثار في نفوسهم صورة من تاريخها منذ أقدم العهود إلى عهدهم.
أعاد حديث موسى إلى ذاكرتهم صورة من حياة ابن عمران منذ مولده، وبعد أن أمر فرعون بقتل كل مولود ذكر في مملكته استجابة لمن فسروا له أضغاث أحلامه، فقد ألقت أم موسى رضيعها في النيل، فالتقطه آل فرعون وعُنُوا به، فلما شب موسى نصر رجلًا من قومه بني إسرائيل على مصري، فوكز المصري فقضى عليه، فقتل نفسًا بغير حق، وفر موسى مخافة المصريين ونزل مدين فتزوج ابنة شيخها وآجره عشرة حِجَج عاد بعدها من طريق الطور يريد مصر، فناداه ربه من جانب الوادي الأيمن وألقى عليه رسالته، وذهب موسى وأخوه هارون إلى فرعون ومَلَئِه يدعوانهم إلى الله، فاستكبر فرعون ونادى في قومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ، وقال لوزيره: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا، وأظهر موسى معجزاته، فدعا فرعون السحرة، فلما رأوا عصا موسى تلقف ما صنعوا آمنوا به، واتبع بنو إسرائيل موسى، فرأى فرعون في بقائهم إثارة للفساد في الأرض، فأراد القضاء عليهم، وفر موسى وبنو إسرائيل يريدون أرض المعاد، فأتبعهم فرعون وجنوده فأغرقه الله في اليَمِّ، فهلك تاركًا وراءه جنات وعيونًا وزروعًا ومقامًا كريمًا ونعمة كان هو وقومه فيها فاكهين.
وذكر العرب بحديث يوسف بما بمصر من نعمة وترف كان لحكامها منهما الحظ الأوفى، فقد ابتاع عزيز مصر يوسف، فأنزلته امرأته منزلة الكرامة عسى أن ينفعهم أو يتخذوه ولدًا، فلما ترعرع وبدت فتنة جماله جُنَّتْ به امرأة العزيز غرامًا، وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ، وأصر يوسف على إبائه فسجن، فلم يرَ النسوة اللاتي قطعن أيديهن ما يدفعهن إلى لوم المرأة المفتونة به على ما فعلت، ولبث في السجن بضع سنين، ثم خرج بعد أن فسر رؤيا الملك: سبع بقرات سِمان يأكلهن سبع عِجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، وجعله الملك على خزائن الأرض، فأحسن تدبيرها حتى عاد إليها النماء والخصب كأحسن ما كانت، وحتى عادت جنة ناضرة تنبت أرضها من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ما شاء الله أن تنبت.
في هذا الحديث عن يوسف وعن موسى صورة من طبيعة مصر وثروتها، ومن عبادات أهلها وعقائدهم، ومن عاداتهم وأخلاقهم، ومن تاريخهم وصورة الحكم فيهم في العصور الأولى، وإنما أوجزنا فيما تقدم بعض ما ذكره القرآن عن مصر، وطبيعي أن يتتبع المسلمون الأولون كل ما جاء فيه عنها، وأن يثير تَتَبُّعه في نفوسهم كل ما يذكرونه من أمرها، وكان اليهود والنصارى يجادلونهم في أمر موسى وعيسى والأنبياء وما ورد في القرآن عنهم، فيزيدهم الجدال علمًا، ويزيد علمهم بمصر فسحة وعمقًا.
ولم تكن معرفة المسلمين مصر مقصورة على ما كان من أمرها في العصور الأولى، بل كانوا يعرفون من أمرها في زمانهم أكثر مما يعرفونه من تاريخها، ذلك أن العرب كانوا يتابعون ما يجري بين فارس والروم بعناية بالغة، حتى لقد انقسموا في ذلك أحزابًا يتشيع فريق منهم لفارس وفريق للروم، فلما كان العقد الثاني من القرن السابع وانتصر الفرس على الروم وفتحوا مصر والشام، كان رسول الله ﷺ قد بُعث، وكان خصومه يتشيعون للفرس ويذكرون أن الروم هزموا؛ لأنهم أهل كتاب كالمسلمين.
وتشيع المسلمون للروم، واشتد تشيعهم لهم حين نزل قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، وأقام الفريقان يتابعان ما يجري بين الدولتين العظيمتين، ويعلقان بما يعنُّ لهما على ما يبلغهما من أنباء الوقائع التي تشتبكان فيها.
وقد اتصل القتال بين الدولتين في مصر زمنًا غير قليل ذلك لأن الفرس دخلوها في سنة ٦١٦ لميلاد المسيح، وأقاموا بها تسع سنوات حتى أجلاهم هرقل عنها وعن الشام، وفي أثناء هذه السنوات كان المسلمون يمدون أبصارهم إلى تلك الأرجاء، مؤمنين بأن الروم سيغلبون الفرس لا محالة، كما أوحى الله إلى نبيه، فلما تمت كلمة ربك وارتد الفرس إلى بلادهم كان رسول الله قد هاجر إلى المدينة، وكانت سراياه تسير منها إلى ما حولها، فلما استتب له الأمر، بعث رسله إلى كسرى وإلى قيصر وإلى ملوك الحيرة وغسان وإلى أمراء الجنوب من شبه الجزيرة وإلى حاكم مصر يدعوهم جميعًا إلى الإسلام.
واختيار النبي حاطب بن أبي بلتعة لأداء رسالته إلى المقوقس، واختياره عمرو بن العاص في الوقت نفسه رسولًا إلى ملكي عُمَان، يشهد بأن حاطبًا كان كثير التردد على مصر في التجارة، ويبعث على الظن بأنه كان يعرف لغة المصريين، ولو أن عمرو بن العاص كان أهدى بهذه البلاد وأكثر علمًا بلغة أهلها لآثره النبي على حاطب ولاختاره رسولًا إلى المقوقس.
ولا ريب في أن المسلمين قد ازدادوا معرفة بمصر وعلمًا بما فيها بعد أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وبعد أن فتحوا العراق والشام واستقروا بهما واتصلوا بأهلهما مدى السنوات التي انقضت قبل أن يفاتح عمرو بن العاص أمير المؤمنين في فتح مصر، فقد ظل الفرس حكامًا لمصر عشر سنوات قبل أن يجليهم هرقل عنها، فعرفوا من مواقعها وحصونها وثروتها وحضارتها ما أفضوا به إلى العرب الذين اتصلوا بهم من بعد، وكانت الصلة بين مصر والشام وثيقة؛ إذ كانتا جميعًا في حكم الروم، وإذ كان أهل الشام يذهبون إلى مصر يبادلون أهلها التجارة، وقد عرف المسلمون منهم ما يعرفونه هم عن مصر؛ لذلك كانت صورة مصر واضحة في ذهن عمر، وفي ذهن ابن العاص، وفي ذهن كثيرين حتى بدأ عمرو يفاتح الخليفة في فتحها.
وكانت هذه الصورة مغرية أيما إغراء؛ فقد كان خصب مصر ووفرة إنتاجها مضرب المثل في العالم كله؛ وكان ما يفيض عن حاجات أهلها من القمح والشعير وغيرهما من أنواع الغلال يغذي الإمبراطورية الرومية، ثم إنها كان بها غير الغلال أرزاق لا تُحصى، وكانت ثروتها من الأحجار والمعادن فوق الحصر، وقد كانت، مع خضوعها لسلطان الروم وما كان من اجتياح الفرس أرضها في قتالهم قيصر أعظم مركز في العالم اجتمع فيه العلم والفن والصناعة والزراعة والتجارة اجتماع نماء وازدهار يأخذ بالنظر، ويستهوي اللب، وكانت عاصمتها الإسكندرية قد احتفظت بكل ما كان لها يوم أنشأها الإسكندر المقدوني من بهاء وجمال، وأضافت إليه في أثناء القرون العشرة التي انقضت منذ إنشائها ما زادها جلالًا وعظمة، وما جذب الناس من أقطار الأرض للمقام بها، فكان سكانها يزيدون على المليون، وكانوا يمثلون الأجناس والعقائد المختلفة المعروفة لذلك العهد، فلم يكن المصريون الخُلَّص منهم يزيدون على نصفهم، وكان النصف الآخر من الروم واليونان والفينيقيين والعرب وغيرهم؛ ومن هؤلاء من كانوا يدينون باليهودية، ومنهم من كانوا يدينون بالمسيحية، وكلهم يعيشون في جو المدينة الساحر مطمئنين إلى رخائها وجلال عظمتها، وأية عظمة وأي جلال! كانت منارتها الكبرى، منارة فاروس إحدى عجائب الدنيا السبع، وكان بها من المعابد الضخمة وساحات الفن الفسيحة والقصور الفخمة والمسارح والحمامات العامة ما لا يقع تحت حصر، وكان ذلك كله يبهر السائح القادم إليها من أعظم المدن رقيًّا وحضارة، وكانت أكبر أسواق العالم وأكثر ثغوره ازدحامًا بالحركة، وكانت بها تجارة عظيمة في القمح والكتان والورق والزجاج، وغير ذلك من مزروعات مصر ومصنوعاتها، ثم كانت تحمل إليها مقادير كبيرة من الذهب والعاج مجلوبة من بلاد النوبة وإثيوبيا، ومن أنواع البهار والحرير والفضة والجواهر وغيرها آتية من بحار الهند والصين إلى البحر الأحمر منتقلة إلى النيل في القناة التي تصل ما بين البحرين، جارية بعد ذلك فوق النهر العظيم إلى الإسكندرية.
لم يكن عجبًا وتجارة الإسكندرية بهذه الضخامة، أن تكون ميناؤها أكبر موانئ العالم، وأن تكون صناعة السفن أكبر صناعاتها، كانت ميناؤها تتسع لاثني عشر ألف سفينة من مختلف الأحجام، وكان بناء السفن فيها متصلًا لا ينقطع في يوم من أيام العام، وكان الخشب اللازم لبناء السفن يحمل إليها من الشام، وكانت مصر تنبت نوعًا متينًا من الكتان اسمه «الدقس» تصنع منه حبال السفن وتنسج قلاعها، وكانت السفن الحربية تصنع بالإسكندرية كما كانت تبنى بها السفن التجارية.
وكان يُبنى بها من السفن الحربية نوعان: أحدهما ضخم تحمل السفينة منه ألف رجل، والآخر خفيف تحمل السفينة منه مائة رجل، وكان النوعان يجهزان بآلات تقذف «النار الإغريقية» المهلكة المؤلفة من مواد سريعة الالتهاب شديدة الاشتعال لا يمكن إطفاؤها، ذات قوة على النسف والتحريق، تحدث تخريبًا كبيرًا، وتلقي في النفوس الرعب، وكان في بعض السفن الضخمة صروح عالية فوق ظهرها، فإذا حاذت إحداها أسوار مدينة محصنة كان جند السفينة مع المدافعين عن المدينة على علو سواء، فأمكنهم أن يثِبوا من الصروح إلى الأسوار، أو يقيموا جسرًا بين الصرح والأسوار يعبرون عليه.
أما السفن التجارية التي كانت تصنع بالإسكندرية فكان بعضها يبلغ من الضخامة أن يحمل أربعة آلاف إردب من القمح وكان الكثير منها يسير بالتجارة في البحر الأحمر، ويرسو في فُرضات شبه الجزيرة، فينقل بما يحمل من التجارة الناتجة في مصر أو المجلوبة إليها صورة من حياة هذا الشعب المصري الدائم الدأب والجد إلى عرب الحجاز وعرب اليمن حضرهم وبدوهم.
لم يكن النشاط التجاري والصناعي كل ما امتازت به الإسكندرية على غيرها من مدن العالم! فقد كانت، منذ أنشأها الإسكندر الأكبر واستقر بها البطالسة إلى أن فتحها العرب، مركز النشاط العقلي والعلمي في العالم كله، صحيح أن هذا النشاط كان يخبو أحيانًا ويضطرم أحيانًا أخرى، وأن بعض المدن كانت تشارك فيه الإسكندرية في بعض الحِقَب، وبخاصة أيام حكم الرومان مصر، لكن العاصمة المصرية ظلت دائمًا مرجع هذا النشاط، وظل أبناؤها من العلماء والشعراء والكتاب وأرباب الفن يوجهون الحياة العقلية في العالم عشرة قرون كاملة، إليهم يرجع الفضل في نشر الثقافة الإغريقية التي سبقت إنشاء مدينتهم، وفي إقامة مذاهب جديدة يمت بعضها بأوثق الصلة إلى مذاهب الإغريق، ويخالف بعضها هذه المذاهب، ويستقل بعضها بنفسه كل الاستقلال، ولم يكن ذلك عجبًا وقد كانت الإسكندرية ملجأ العلماء ورجال الفن والأدب من كل أمة وملة، وكان بها من المكتبات العامة ومن مناهل العلم ومدارسه ما لم يكن لغيرها.
وقد سمت مدرسة الطب في الإسكندرية إلى مكانة لم تَسْمُ إليها مدرسة أخرى في العالم كله؛ فكان الأطباء الذين يتخرجون فيها مشهودًا لهم، وكانوا موضع الإكبار حيثما نزلوا من بقاع الأرض، كذلك ازدهرت فيها دراسات الفقه والإلهيات ازدهارًا بدا واضحًا في المذاهب الفلسفية التي اختصت بها مدرسة الإسكندرية، والتي حاولت التوفيق بين المسيحية في أساسها الروحي ومذاهب الإغريق الفلسفية المستندة إلى منطق العقل وحده، وكان ازدهار الفقه لذلك العهد بعض ما قويت به النزعة الدينية التي أقامت مصر وأقعدتها، ووقفتها في وجه الروم وقفة بلغت قبيل الفتح العربي حد العنف، وكان الفلك والرياضة وتقويم البلدان والهندسة من فروع العلم التي تدرس في معاهدها، وقد وضع علماؤها مؤلفات لم يبقَ منها إلا ما ذكره المؤرخون من بعد عنها، هذا إلى تعلق الكتاب والأدباء بالشعر تعلقًا جعلهم يفتنون فيه، وجعل العلماء أنفسهم ينظمون العلم شعرًا.
لا عجب، وذلك شأن العلوم والآداب، أن تزدهر الفنون وأن يزداد أهلها براعة، وأن تظهر آثارها في نشاط أهل الإسكندرية وفي حياة مدينتهم، وقد اشتهرت مصر منذ عهود الفراعنة الأولين ببراعة بنيها في هندسة العمارة، فكان طبيعيًّا أن تجمع عمارة هذا العهد المسيحي بين جلال المعابد القديمة وزخرف العمار الإغريقية، وأن تُجَمَّل مباني الإسكندرية بالمرمر المصري البديع ونقوش الفسيفساء ذات الألوان، والفسيفساء الزجاجية، والحق أن تنظيم الإسكندرية وعمارتها كانا من الروعة بما يقف النظر ويبهر الفؤاد؛ فقد خُطَّت على صورة رقعة الشِّطْرَنْج: ثمانية طرق تجري بين الغرب والشرق، تقاطعها ثمانية أخرى تجري من الشمال إلى الجنوب، والطريقان المتوسطان منها فسيحان تقوم على جانبيهما أفخم مباني المدينة، وكانت أسوار المدينة وحصونها وقصورها وكنائسها مشيدة من مرمر ناصع البياض يغشى النظر دونه، فكان ظاهر أكثرها يُغطَّى نهارًا بنسيج أخضر من صناعة مصر.
هذه صورة من عاصمة مصر لذلك العهد، وهي تشهد بترف أهلها وسمو مكانتهم في الحضارة، وبأنها اجتمع لها من ألوان الثقافة ومتاع العقل ما لم يجتمع لغيرها من عواصم العالم يومئذ، فقد كانت تتجاور فيها المذاهب الفلسفية والدينية المتناقضة جوار كفاح كلامي لم يبلغ حد العنف في غير العهود التي حاول الأباطرة فيها أن يفرضوا مذهبهم على أهل مصر، أما في غير هذه العهود فكان التراشق الجدلي أقصى ما بلغه النضال بين أصحاب هذه المذاهب، كان الأبِيقوريُّون يدعون إلى المتاع بالحياة والنهل من موردها السائغ، لا يُنسيهم المتاع أن الحياة سخرية مستطابة ونعيم قتَّال، وكان الرِّواقيون يسخرون من الأبيقوريين ويدعون للزهد في المتاع؛ لأنه يتلف العقل ويفسد طهارة النفس، وكان المتطهرون من المسيحيين ينأون بجانبهم عن مغريات المدينة، ويلتمسون في عزلة الصحراء القريبة منها سكينة نفوسهم وطمأنينة قلوبهم، أما في عهود الاضطهاد الديني فكان الأمر يختلف، وكثيرًا ما كانت تصبح الإسكندرية الرافلة في حلل النعيم مسرحًا لاضطرابات تفسد جوها المرح، وتشيع فيها القلق والفوضى.
كان فرار بنيامين نذيرًا أزعج القبط وأفزع أهل الدين منهم، فرأوا في دعوة قيرس إلى المذهب الجديد كفرًا لا كفر بعده، ولم يُغْنِ عن قيرس تظاهره أول ما نزل مصر بأنه جاء مسالمًا، وأنه لا يفرض المذهب بالقوة بل يدعو إليه ويحاول الإقناع به؛ فقد تنكر له القبط اليعاقبة وتنكر له الملكانيون على سواء، ورأوا جميعًا في دعوته بِدْعة هي الضلالة بعينها، وازداد الناس نفورًا من هذه البدعة حين جاء صُفْرنيوس من بيت المقدس إلى مصر، وقام على رأس الملكانيين فيها، فلما جمع قيرس مجلسًا دينيًّا بالإسكندرية ودعا أعضاءه لبحث ما يدعوهم إليه أظهر صفرنيوس أنه يحاول أن يثني قيرس عن عزمه، بالحجة تارة وبالتوسل أخرى، ورأى قيرس نفور الشعب من دعوته وعداوته لها، فلجأ إلى البطش والتعذيب يُكره الناس بهما على الدخول فيما يريدهم عليه.
لجأ قيرس إلى البطش والتعذيب، ولج في «الاضطهاد الأعظم» عشر سنوات حسومًا، وكان التعذيب وحشيًّا لم يعرف عصر من العصور مثله، عُذِّب أخو الأسقف بنيامين بأن أوقدت له المشاعل وسلطت على جسمه، فأخذ يحترق حتى سال دهنه من جانبيه إلى الأرض، فلما لم يتزعزع إيمانه خلعت أسنانه ووضع في كيس مملوء بالرمل وحمل إلى الشاطئ، ثم عرضت عليه الحياة إذا آمن بالمذهب الجديد فأبى، وتكرر العرض وتكرر الإباء ثلاث مرات ألقي العابد بعدها في البحر فمات غرقًا، وتلقى الأب صمويل في ديره بالصحراء كتابًا يحمله إليه أمير فرقة عدتها مائة جندي يدعوه إلى المذهب الجديد، فطوى صمويل الكتاب وقال: «ليس لنا من رئيس إلا بنيامين، ولعنة الله على ذلك الكتاب الكَفَّار الذي جاء من الإمبراطور الروماني، ولعنة الله على مجمع خلقدونية وكل من آمن بما أقره.» وضرب صمويل حتى ظُن أنه مات، لكنه عاد إلى نفسه وإلى محاربة قيرس، وأمر قيرس فجيء به مكتوف اليدين من خِلاف وفي عنقه طوق من الحديد، فسار مستبشرًا وهو يقول: «سأمنح إن شاء الله اليوم الشهادة بأن يُسفَك دمي في سبيل المسيح.» ثم جعل يسب قيرس لا يخشى شيئًا، ودخل قيرس فأمر جنده أن يضربوه حتى سال دمه، ثم قال له: «صمويل أيها الزاهد الشقي، من ذا أقامك رئيسًا للدير، وأمرك أن تعلم الرهبان أن يسبوني ومذهبي؟ وأجابه العابد: إن البر في طاعة الله وطاعة وليِّه البطريق بنيامين لا في طاعتك والدخول في مذهبك الشيطاني، يا سلالة الطاغوت! ويا أيها المسيح الدجال!» وأمر قيرس جنده بضرب صمويل على فمه وقال له: «لقد غرك يا صمويل أن رهبانك يُجِلُّونك ويعلون من شأن زهدك: ولهذا تجرأت وقويت نفسك ولكني سأشعرك أثر سبابك للعظماء إذ سولت لك نفسك ألا تؤدي ما ينبغي عليك أن تؤديه لعظيم رجال الدين وكبير جباة المال في أرض مصر.»
وأجاب العابد: «لقد كان إبليس من قبل كبيرًا على الملائكة، ولكن كبره وكفره فسقا به عن أمر ربه، وهكذا أنت أيها الخادع الخلقيدوني؛ فإن مذهبك مذموم، وإنك أشد لعنة من الشيطان وجنوده.» وضاق قيرس بكلام العابد ذرعًا فأومأ إلى الجند أن يقتلوه؛ واستنقذه حاكم الفيوم من يديه فأمر به أن يُنفى من الأرض.
هاتان الصورتان من تعذيب أخي بنيامين وتعذيب صمويل تصفان بطش قيرس في الاضطهاد الأعظم، كان الذين يأبون الدخول في المذهب الجديد يُجلَدون ويعذبون ويلقون في غيابات السجون ويلاقون الموت، وكان أثر هذا الاضطهاد أن ازداد الناس كراهية لهرقل ولقيرس، حتى لقد هاجر كثيرون من مصر إلى بلاد النوبة وإلى إثيوبيا فرارًا إلى الله بدينهم، أما الذين لم يستطيعوا الفرار ولم يطيقوا العذاب ففُتِنوا عن دينهم كارهين، فأظهر كثيرون منهم غير ما يبطنون، وقد خُدِع غير هؤلاء وأولئك بسلطان المال والجاه، فارتضوا المذهب الجديد، لا حبًّا فيه ولا إيمانًا به، بل حرصًا على ما ييسره لهم من مطامع هذه الحياة الدنيا، على أن ما لقيه الشعب في هذه السنوات العشر قد زرع في قلبه لبزنطية ولقيصر ولقيرس كراهية امتزجت بحياته وجرت مجرى الدم في شرايينه.
أفكان التعصب الديني هو وحده الذي دفع شعب مصر للنفور من المذهب الجديد كل هذا النفور، ولمحاربته هذه الحرب العَوان؟ قد لا يخطئ من لا يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب؟ فالتوجه الديني أصيل في الشعب المصري بحكم طبيعته، كذلك كان شأنه في عهود الفراعنة، وكذلك ظل شأنه على القرون، ولعل بساطة عقيدته، مع تغير الأديان التي دان بها، كانت ذات أثر في تمسكه بمذهبه: فهو موحد من أقدم العصور، وهو على توحيده يشعر بأن الإله الخالق المنعم جل شأنه أعظم من أن يسمو سواد الناس إلى الاتصال بذاته وإن تطهرت قلوبهم، فلا بد من زُلفى تقربهم إلى الله، وتحلهم منه محل الرضا.
لكن هذا التوجه الديني لم يكن وحده هو الذي دفع المصريين ليقاوموا في سبيل مذهبم ما قاوموا سني الاضطهاد الأعظم؛ فقد دانوا بالمسيحية بعد وثنيتهم الفرعونية، ثم كان لهم في فقه مذهبهم القبطي بحوث تَبَحَّر رجال الدين فيها ما تبحر أسلافهم في العهود الفرعونية في فقه مذهبهم، ثم دانوا بعد ذلك بالإسلام، فكان الفقه الإسلامي موضع عنايتهم به وتبحرهم فيه، ولم يُحْمَلوا على المسيحية وعلى الإسلام بالاضطهاد والإكراه، بل دعوا إليهما بالحجة فرأوا الخير في قبولهما فقبلوهما، فما لهم نفروا من مذهب هرقل الرسمي لأول ما عرض عليهم بل أبوا أن ينظروا فيه؟ ثم ما لهم قاوموه من بعد هذه المقاومة التي اضطرت قيرس إلى اضطهادهم وفتنتهم على النحو البشع الذي رأيناه؟
لا ريب أنه كان للعامل السياسي في هذا الأمر أثر عظيم، فقد ضاق الشعب المصري بحكم الرومان ضيقًا أثاره برومية ثم بيزنطية ثورات عنيفة غير مرة، وهو لم يكن أقل ضيقًا بهذا الحكم قبل تغلب الفرس على فوكاس واستئثارهم بأرض مصر ولا بعد تغلب هرقل على الفرس وإجلائهم عن مصر، فقد كان حكم فوكاس حكم بطش وإرهاق ثارت مصر به فآزرت هرقل في ثورته على القيصر الطاغية، وقد شعر المصريون في السنوات العشر التي استقر الفرس فيها بينهم بحرية لم يكن لهم بمثلها في عهد فوكاس عهد، ذلك أن الفرس تركوا لهم أمر الحكم على نحو من اللامركزية المألوفة في بلادهم، وأعفوهم من كثير من الأعباء التي كانت ترهقهم، وإن أقاموا بينهم سادة متعالين، فلما انتصر هرقل على الفرس، واسترد مصر، فرح المصريون؛ لأنهم مسيحيون مثله، ولأنهم طمعوا في أن يذكر لهم يدهم عنده أيام ثورته بفوكاس، وعظم رجاؤهم ألا يرهقهم حكمه، لكنهم سرعان ما رأوا الحكم الروماني القديم عاد كما كان، ورأوه شرًّا من حكم الفرس بمراحل.
لم يكتفِ صاحب السلطان من قبل قيصر بأن يأخذ منهم غلاتهم ومصنوعاتهم ليرسلها إلى بيزنطية مقابل الضرائب المفروضة عليهم، بل اعتبرت الأرض ملكًا تفرض على أصحابها جزية، وإن شئت فقل تكليفًا، يدفعونها أجرًا للأرض التي يزرعونها … وربما احتمل الناس الضريبة والجزية بشيء من الصبر أيام الرخاء، لكن مصر عادت إلى هرقل في سني شدة وبأساء، فقد انتهى الإضراب في عهد فوكاس إلى تعطيل القناة التي كانت تصل البحر الأحمر بالنيل فالبحر الأبيض، ثم لم يُعِدْها الفرس ولم يعدها عمال هرقل، فتدهورت التجارة تدهورًا أفلس بسببه كثير من اليهود واليونان المشتغلين في أسواق الإسكندرية وتدهورت أسعار الحاصلات والمصنوعات في داخل البلاد تدهورًا أدى إلى أزمة انزعج لها الناس أيما انزعاج، وما قيمة صناعة الزجاج أو صناعة المنسوجات أو صناعة الورق من البردي أو غيرها من الصناعات المصرية التي كانت زاهرة في مصر السفلى وفي مصر الوسطى، إذا لم تجد أسواقًا في الخارج لتصريفها، واقتصر أمرها على أن تؤخذ جزية لقيصر! لذا كَرِه الناس حكم الروم، وودوا لو استطاعت مصر أن تتخلص منه وأن تستقل بنفسها، لكن الروم كانوا قد حَرَّمُوا على مصر صناعة الأسلحة واستعمالها، وكانت الطبقة المستنيرة من المصريين الموظفين في الدولة قد ذلت لوظائفها، فلم يكن بد من التذرع بوسيلة ينفس بها الشعب عن نفسه، وذلك بأن ينزع للثورة، وسرعان ما جاء قيرس بالمذهب المسيحي الجديد يحاول فرضه على مصر حتى هب رجال الدين في وجهه يلعنونه، بذلك فتحوا للشعب بابًا يروي ظمأه للانتقاض، فكان الاضطهاد الأعظم الذي رأيت، والذي زاد المصريين كراهية لقيصر ولقيرس ولحكمهما ولمذهبهما الجديد.
لم يكن علم ذلك كله ليخفى على أمير المؤمنين ولا على المستنيرين حوله من المسلمين، فقد دام الاضطهاد والتعذيب في مصر عشر سنوات، بدأت قبيل وفاة النبي واستمرت طيلة خلافة الصديق، وظلت متصلة في عهد عمر إلى أن دخل العرب مصر، وفي هذه السنوات العشر كان المصريون والعرب يتبادلون التجارة كما كانوا يفعلون من قبل، فكانت أنباء العرب البارزة تبلغ المصريين، وكانت أنباء المصريين البارزة تبلغ العرب، وزاد العرب علمًا بأنباء مصر متاخمتهم لها بالشام، ولا جرم قد كان عمرو بن العاص من أكثر الناس بها علمًا؛ إذ كان بفلسطين، أدنى الأرض من ميدان الاضطهاد والتعذيب، ومن ثورة المصريين بقيصر وبعماله؛ لذلك لم يغب عنه أن شعب مصر المضطهد لن تأخذ منه الحماسة فيعاون الروم إذا قاتلهم العرب في أرض مصر، وإن أيقن أن هذا الشعب لن يقاتل الروم في صف العرب من خشية أن تدور على العرب الدائرة، ولأنه ليس بينه وبين العرب صلة تثير الحماسة في قلبه، فهو ليس من جنسهم، وليست لغته لغتهم ولا عقيدته عقيدتهم.
وزاد ابن العاص اقتناعًا بما ظنه من فتور المصريين عن نصرة الروم ما كان الناس في مصر وفي غير مصر يعرفونه يومئذ عن سياسة المسلمين، وأنها كانت تدع الناس أحرارًا في دينهم، لا تحاول صرفهم عنه أو حملهم على تغييره، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن استمسك بدينه ورضي الجزية فله ما اختار، أما وقد كان الاضطهاد الديني دعامة الثورة بالروم، ثورة تتلظى بها نفوس المصريين جميعًا، فلا عجب أن يلقوا تسامح المسلمين الديني بالغبطة، وأن يقفوا من قتالهم الروم موقف المتفرج: لا يغضبون الروم بمظاهرة المسلمين عليهم، ولا تدفعهم لقتال المسلمين حماسة لعقيدة مشتركة بينهم وبين حكامهم، أو طمأنينة إلى عدل يسوي بينهم وبين هؤلاء الحكام.
لقي ابن العاص أمير المؤمنين حين جاء إلى الشام بعد طاعون عمواس، وسار معه من الجابية في أرجاء فلسطين وسورية، وجعل يعيد على سمعه ما كان قد فاتحه فيه من أمر مصر، ويذكر له ما سبق إلى ذكره من حجج تؤيد رأيه، ويدلي إليه بحجج جديدة، حين انتهى عمر إلى الاقتناع برأيه، وإن استمهله في تنفيذه حتى يكتب إليه من المدينة بعد عوده إليها.
وزاد عمر ميلًا إلى الاقتناع بهذا الرأي ما يعرفه من جرأة ابن العاص في الحرب، ودهائه في السياسة، واقتداره لذلك على أن يسير بإذن الله في ذلك الفتح سيرًا موفقًا، وقد دلت الحوادث على أن أمير المؤمنين لم يخطئ في تقديره، وأن شخصية عمرو وما اجتمع فيها من الدهاء والإقدام قد جعلته الرجل المختار في فتح مصر، فلم تكن جرأته في الحرب جرأة مغامرة كجرأة خالد بن الوليد، بل كانت جرأة الداهية الذي يرى النجاح في المكث أكثر مما يراه في الحث، ويرى المطاولة والصبر حتى تحين فرصة الإقدام، وحين يثق بأن النجاح حليف هذا الإقدام، هذا إلى أن دهاءه كان يجنبه إثارة غير المحاربين به، فكان يؤثر ملاينتهم في حزم على البطش بهم إلا أن يضطر إلى البطش اضطرارًا فإذا اضطر إليه لم يتردد دونه، على ألا يتجاوز به قدر الحاجة إليه، ثم إنه كان أكثر أمراء الجند إيمانًا بأن الحرب خدعة، فليس للمعايير المعروفة للفضل والنبل وزن في أثنائها، قائد ذلك شأنه جدير بتوفيق الله إذا سار لفتح مصر.
وقد هداه رجحان عقله من بعد إلى الإسلام، ذلك أنه رأى رسول الله هاجر إلى المدينة، ورأى كلمته تعلو بين العرب، فساوره الشك في مقدرة قريش على النيل منه فآثر أن ينصرف إلى تجارته ينميها، وعاد سيرته الأولى يسافر في هذه التجارة إلى الشام واليمن والحبشة ومصر، فلما كانت غزوة الأحزاب واشترك مع أهل مكة فيها فآبت قريش بالهزيمة، أيقن أن قريشًا لم يبقَ لها بمحمد قِبَلٌ، عند ذلك جمع رجالًا من قريش وقال لهم: «والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوًّا منكرًا، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير.» وأقر سامعوه رأيه وساروا معه إلى الحبشة وقد قر رأيهم على المقام بها حتى ينتهي ما بين قريش ومحمد إلى وضع ثابت، فلما عقد محمد عهد الحديبية مع قريش فتهادنا عشر سنين، واتفقا على ألا يدخل محمد مكة عام العهد وأن يدخلها للعمرة العام الذي يليه، أيقن عمرو أن أمر محمد يزداد علوًّا، وأن مُقامه بالحبشة سيطول، فلما استدار العام، وعرف أنباء عمرة القضاء وما كان من دخول المسلمين مكة وطوافهم بالكعبة وسعيهم بين الصفا والمروة، أيقن أن محمدًا على الحق، فخرج إلى مكة فلقي خالد بن الوليد متأهبًا للسير إلى المدينة ليسلم، فذهب الرجلان فأسلم ابن الوليد وبايع، ودنا ابن العاص من محمد فقال: «يا رسول الله! إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.» وأجابه محمد: «يا عمرو بايع، فإن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.» فبايع عمرو وانصرف.
تُرى هل اندفع عمرو إلى الإسلام بعد ما أيقن أن محمدًا منتصر على قريش لا محالة فآثر أن يسبق قومه إلى صف المنتصر؛ أم أنه تدبر رسالة محمد حين طال مقامه بالحبشة فآمن بها فدعاه إيمانه إلى أن يسلم؟ رُوي أن فتى من قريش ذهب إليه فقال له: يا أبا عبد الله! إن القوم قد ظنوا بك الميل إلى محمد؛ فواعده عمرو ميقات الظل من جبل حراء، فلما التقيا سأل عمرو الفتى: أنشدك الله، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ وأجابه الفتى في غير تردد: بل نحن، فاستطرد عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن لنا هذه الدنيا وهم فيها أكثر أمرًا! قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق ليُجزى المحسن في الأخرى بإحسانه والمسيء بإساءته.
ولئن صحت هذه الرواية لتكونن بالغة في الدلالة على اتجاه عمرو في تفكيره، وعلى أنه كان يؤمن بنظرية المنفعة إيمانًا قويًّا، فهو قد أنكر على محمد مع قومه، فلما ذهبت ريح قريش راجع نفسه ونظر في أمر النبي وفيما يدعو إليه من الإيمان بالله إيمانًا يدخل صاحبه الجنة، وقد يجعل له هذه الدنيا، فبادر إلى الإسلام عن بينة وإيمان، لا عن خوف ولا عن إذعان؛ وذلك قد يفسر ما رُوي عنه ﷺ أنه قال: «أَسْلَمُ الناسِ وآمنُ الناسِ عمرُو بن العاص.»
وأسرع عمرو إلى كسب ثقة النبي حتى لقد كان يقول: «ما عدل بي رسول الله ﷺ وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في حربه منذ أسلمنا.» ولا عجب أن تعظم ثقة رسول الله بالرجلين وقد عرفهما بمكة، وعرف مكانهما من قومهما، ورأى موقفهما في خصومته حين الغزوات التي كانت بينه وبين قريش وخبر بأسهما، ثم إنه عرف من دهاء عمرو وحزمه ما زاده ثقة به، كان عمرو على إمارة المسلمين في غزاة ذات السلاسل في الشمال من أرض الحجاز، فلما انتصر على القبائل من أعدائه أبى على أصحابه أن يتعقبوهم! وأمر الجند ألا يوقدوا نارًا يصطلون عليها، وتوعد المخالف أن يلقيه فيما يوقد، وعاد إلى المدينة، فشكا أصحابه، فسأله رسول الله في الأمر، فكان جوابه: «كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون للعدو مدد.»
عظمت ثقة النبي بعمرو على حداثة عهده بالإسلام، فكان فيمن بعثهم رسلًا للملوك والأمراء يدعونهم لدين الله، بعثه إلى عمان على الخليج الفارسي يدعو أميريها جيفرًا وعبَّادًا ابني الخُلَنْدَى للدخول في الإسلام، وكانت عمان في ذلك العهد خاضعة لنفوذ فارس، مع ذلك لم يتردد عمرو في الذهاب إليها وأداء الرسالة التي عهد النبي إليه في أدائها، وقد تحدث إلى عباد فجعل يقنعه بالحجة تارة، ويعده تارة، ويتوعده وأخاه تارة، ويذكر له أن رسول الله يقيم جيفرًا إذا أسلم أميرًا على عُمان، كما أقام باذان من قبله أميرًا على اليمن، وعند ذلك يأخذ جيفر الصدقات من أغنياء عمان ليردها على فقرائها، وأقام الأخوان أيامًا يتشاوران، ورأى جيفر أمر المسلمين يعظم، وخشي ما توعدهم به عمرو أن يوطئ محمد خيله أرضهم، فدخل في الإسلام وبقي أميرًا على عمان، وأقام ابن العاص إلى جانبه يبث الدعوة لدين الله ويفقه الناس فيه، وظل كذلك حتى قُبض رسول الله وتولى أبو بكر خلافة المسلمين، فلما فشت الرِّدَّة في العرب عاد عمرو إلى المدينة يتلقى أوامر أبي بكر في مقاومة المرتدين.
هذه المقدرة التي أبداها عمرو في السياسة وفي الحرب جعلته شديد الاعتداد بنفسه، ولوعًا بالإمارة، حتى لا يرضى أن يتأمر عليه أحد إلا كارهًا. لما أرسله النبي إلى شمال الحجاز يقاتل القبائل في ذات السلاسل، خاف هو أن يدهمه العدو بجند عظيم، فاستمد النبي فبعث إليه أبا عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ في المهاجرين الأولين ومنهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عُبَيْدَةَ حين وجهه: «لا تختلفا». وحان وقت الصلاة وأراد أبو عُبَيْدَةَ أن يؤم الناس فأبى عليه عمرو وقال: إنما جئت مددًا لي، قال أبو عُبَيْدَةَ: لا! ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وأجابه عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عُبَيْدَةَ: يا عمرو! إن رسول الله ﷺ قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك، قال عمرو: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي، قال أبو عُبَيْدَةَ: فدونك؛ وصلى عمرو بالناس.
هذا الحديث بين الرجلين يكشف عن جانب من نفس عمرو، ويشهد بحبه الإمارة حبًّا ملك عليه نفسه، فلأبى عبيدة سابقة في الإسلام ليست لعمرو بن العاص، بل ليست لعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة أمين الأمة على لسان رسول الله، وقد أمَّره رسول الله في هذا المدد على أبي بكر وعمر، مع ذلك أصر عمرو على أنه جاء مددًا له، ويجب لذلك أن يكون مرءوسًا له، وكان أبو عُبَيْدَةَ رجلًا لينًا سهلًا هينًا عليه أمر الدنيا، وكان إلى ذلك يؤمن بأمر رسول الله الإيمان كله، فلما رأى تشبث عمرو بالإمارة نزل على إرادته وقاتل مرءوسًا له.
وكان عمرو أميرًا على اللواء الذي بعثه أبو بكر في قتال المرتدين بقضاعة، فلما قضى على ردتهم، وقضى على الرِّدَّة في بلاد العرب كلها، وعزم الصديق فتح الشام، وأرسل إليه الجيوش على أحدها أبو عُبَيْدَةَ وعلى آخر عمرو بن العاص، وجعل لأبي عُبَيْدَةَ القيادة العامة إذا اجتمعت جيوش المسلمين بالشام في غزاة، توجه ابن العاص إلى عمر بن الخطاب وسأله أن يكلم أبا بكر ليجعله أميرًا على المسلمين بالشام، فقال له عمر: «لا أكذبك، ما كنت لأكلمه في ذلك أبدًا، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك.» وألح ابن العاص يقول: «إنه لا ينقص أبا عُبَيْدَةَ شيئًا من فضله أن ألِيَ عليه.» فكان جواب ابن الخطاب على إلحاحه: «ويحك يا عمرو! إنك لتحب الإمارة! والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله يا عمرو ولا تفعل بشيء من سعيك إلا وجه الله، فاخرج إلى هذا الجيش، فإنك إن لم تكن أميرًا هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرًا ليس فوقك أحد.» وخرج ابن العاص مذعنًا لإمارة أبي عُبَيْدَةَ لا عن رضا، لكن إذعانه لم ينقص من قدره عند أبي عُبَيْدَةَ ولا عند غيره من أمراء الجند، بل كانوا جميعًا يعرفون له ذكاءه ودهاءه ورجحان عقله وبعد نظره، وكانوا لذلك يلتمسون عنده الرأي كلما حزب الأمر، فيجدون في مشورته خير ما يدفع الخطر، ويضيء السبيل إلى الظفر.
ولعل حبه الإمارة وحرصه عليها لم يكن مرجعهما إلى اعتداده بنفسه وكفى، بل كانا يرجعان كذلك إلى حسبه ونسبه ومكانه من قريش؛ فقد كان من قبيلة بني سهم القرشية صاحبة الرياسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش، فكان زعيمها يتصرف في هذه الأوقاف بما تقضي به سنة القوم لذلك العهد، وكان أبناؤها لذلك يحسنون القيام على الأموال إحسانًا ظهرت آثاره في مقدرة عمرو بن العاص على جمع المال وتثميره، سواء في حياته الخاصة أو فيما تولاه من المناصب العامة، وقد كان لبني سهم إلى ذلك منصب الفصل في المنازعات، وهو منصب أفاد أفرادها منه حسن الرأي والأناة ودقة التقدير، لهذا ولذاك زاد ثراء بني سهم وارتفعت مكانتها، واجتمعت لها أسباب القوة، فاستطاعت أن تجير قبيلة بني عدي قوم عمر بن الخطاب حين أجلاها بنو عبد شمس عن منازلها القائمة عند الصفا، كما استطاع العاص بن وائل السهمي أبو عمرو أن يجير عمر بن الخطاب حين أعلن في الناس إسلامه فأراد بنو سهم قتله، وكان العاص بن وائل وافر الثراء، حين كان يلبس الديباج مزررًا بالذهب، لا عجب، وذلك نسب عمرو وتلك قبيلته، أن يزداد اعتزازًا بنفسه وأن يطمح إلى الإمارة ويحرص عليها.
وجعله حبه الرياسة يتوسم سيماها في غيره. سمع وهو بالمدينة يومًا خطبة من خطب زياد فأعجب ببلاغتها وقال: «لله در هذا الغلام! لو كان من قريش لساق العرب بعصاه.» وهذا الطموح إلى الإمارة هو الذي دعاه لمناصرة معاوية على علي، فقد رأى المسلمين لذلك العهد مقبلين على الدنيا راغبين عما يدعو علي له من التقشف والزهد، ورأى معاوية يتألفهم بالمثوبة والعطاء، ويظهر لهم المحبة والود، فأيقن أن الدنيا مقبلة عليه مدبرة عن علي، لكنه، فيما يُروَى، لم يُخفِ على معاوية رأيه الحق في أمره، والمطامع التي دفعته إلى مناصرته، سمع معاوية يومًا يكثر من الحديث في رغبته عن الدنيا وعن إمارة المؤمنين لولا حرصه على خير المسلمين، فغصَّ عمرو بما سمع من ذلك، فلما خلا إليه قال له: «يا معاوية أحرقت قلبي بقصصك! أترى أننا خالفنا عليًّا لفضل منا عليه؟ لا والله! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك!»
لم يكن تطلع عمرو للإمارة وحبه المال وإقباله على الدنيا ليصرفه عن التفقه في الدين والعلم بكلام الله، فكان من أكثر المسلمين علمًا به وفقًا فيه، كما كان من أغزر العرب ثقافة وأكثرهم علمًا بمعارف عصره، ثم إنه كان كريم النفس رضيَّ الخلق، رقيق القلب، ذواقًا للجمال، يطرب للشعر، ويقبل على الغناء ويحبه حبًّا جمًّا، وقد ملك بصفاته هذه أفئدة الناس، كما فرض ذكاؤه عليهم احترامه، وكان جَوَّاب آفاق كبني قومه، وجَوْبُه الآفاق في تجارته وفي سفارته هو الذي ذهب به إلى اليمن وإلى الحبشة وإلى الشام ومصر، ولسنا نشك في أنه تردد على مصر غير مرة، وإن ذهب بعض المؤرخين إلى أنه لم يذهب إليها إلا مرة واحدة هي التي دفعته في ظنهم إلى التفكير في فتحها.
وقصة ذهابه إلى مصر هذه المرة الواحدة طريفة في روايتهم، طرافة تدعونا لذكرها وإن رأيناها أدنى إلى الأساطير، فقد زعموا أن عمرًا قدم بيت المقدس لتجارته في نفر من قريش، وإن شماسًا روميًّا من أهل الإسكندرية جاء بيت المقدس حاجًّا وكان نازلًا من الجبال، فمر بعمرو وهو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكان الشماس قد أجهده العطش لشدة الحر في ذلك اليوم، فاستسقى عمرًا فسقاه حتى رَوِي، ثم إن الشماس نام مكانه إلى جانب حفرة خرجت منها حية عظيمة بصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، واستيقظ الشماس ورأى الحية، وقص عليه عمرو نبأها، فأقبل الشماس فقبل رأس عمرو وقال له: قد أحياني الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية؛ فما أقدمك هذه البلاد؟ وذكر له عمرو أنه جاء في تجارته، وأنه يرجو أن يصيب ما يشتري به بعيرًا، وعرف الشماس أن دية الرجل في العرب مائة من الإبل قيمتها ألف دينار، فقال لعمرو: هل لك أن تتبعني إلى بلادي ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ فإن الله عز وجل أحياني بك مرتين، وعرف عمرو أن الشماس من الإسكندرية، وأنها بلد لم يدخل قط مثلها، فاستشار أصحابه واستصحب أحدهم يأنس به، وسار مع الشماس حتى بلغوا الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال، فأعجب بها وقال: ما رأيت مثل مصر قط وكثرة ما فيها من الأموال، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدًا فيها عظيمًا يجتمع له الأمراء والأشراف وأهل المدينة، فألبس الشماس عمرًا ثوبًا من ديباج وذهب به إلى هذا العيد، وكان الملوك والأمراء يترامون في هذا العيد بكرة لهم من ذهب مكللة، فمن وقعت الكرة في كمه واستقرت به لم يمت حتى يملكهم، وإنهم ليترامون بالكرة في ذلك اليوم إذ أقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو بن العاص، وعجب الناس لذلك وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا! هذا ما لا يكون أبدًا! ثم إن الشماس جمع لعمرو ألفي دينار من أهل الإسكندرية ودفعها له، وبعث معه دليلًا رده هو وصاحبه إلى بيت المقدس، يقول ابن عبد الحكم: «فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالًا.»
أحسب القارئ يوافقني على أن هذه القصة مع طرافتها أدنى إلى الأساطير، وأنها لا يمكن بحال أن تكون سبب التفكير في فتح مصر، ولعل رواية الرواة لها هي التي جعلت البلاذُري والمقريزي وابن عبد الحكم وغيرهم من المؤرخين يروون ما قيل من أن عمرو بن العاص سار إلى فتح مصر من تلقاء نفسه في ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي وأن عمر غضب لذلك وكتب إليه يوبخه ويعنفه على افتتانه برأيه، وهذا القول لا يزيد عندنا على أنه حديث خرافة، فلو أن عمرًا سار إلى غزو مصر من تلقاء نفسه لكان أيسر جزائه عند عمر أن يعزله، وإنما دعا للتفكير في فتح مصر ما سقناه مما أدى بعمر إلى الميل لمشاركة ابن العاص في رأيه، مع ذلك استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، فلما نزلها جمع أولي الرأي فيها وذكر لهم حجج عمرو وشاورهم في الأمر فانقسم رأيهم، وإذ كان عمر يرى الفتح، فقد كتب إلى عمرو يأمره بالشخوص إلى مصر، وبعث بالكتاب مع شريك بن عبدة، وفيه يقول: «اندب الناس إلى السير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به.» وكان عمرو محاصرًا قَيْسَارِيَّة حين جاءه كتاب أمير المؤمنين، فاستخلف معاوية بن أبي سفيان على حصارها، وفصل في قوة صغيرة اختلف أكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة أم أربعة آلاف، ثم إنه رد شريك بن عبدة رسول الخليفة يطلب المدد حتى لا تضعف مسالح الشام، وسار متمهلًا بساحل البحر، جاعلًا وجهته إلى العريش، آملًا أن يلحقه المدد حتى يدخل أرض مصر، وإنه لفي مسيرته وتمهله إذ جاء النبأ بأن الذين يرون في فتح مصر خطرًا على المملكة الناشئة وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، قد ازداد نشاطهم بالمدينة، فخشي أن يُضطر عمر آخر الأمر إلى النزول على رأيهم فلا يبعث إليه بمدد بل يرده عن مسيرته.
ولم يخطئ عمرو في تقديره؛ فقد كان عثمان والذين معه يرون تلك الغزاة عظيمة الخطر ولا يفتئون يكررون ذلك على مسامع عمر، بل لقد زاد عثمان فقال: «يا أمير المؤمنين، إن عمرًا لمُجَرَّأ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا.» تُرى ماذا يفعل عمر وقد سمع ما سمع؟ أيرد قائده عن السير بعد أن أمره به، وبعد أن مال إلى رأيه؟ وإن فعل وكان ابن العاص قد تخطى حدود مصر، أفلا يكون ارتداده خذلانًا للمسلمين قد يُجرئ عليهم عدوهم؟! لكنه خشي كذلك أن تثور ثائرة عثمان والذين معه، إن أعرض عن رأيهم ولم يظهر الرضا عما يقولونه، ثم إن مخاوفهم قد تبطل إذا هو أمد عمرًا بقوات تجعل ظفره بجيوش الروم في مصر أمرًا محققًا! لذلك كتب إلى عمرو يقول: «إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك، وإن كنت قد دخلت فامض لوجهك واعلم أني ممدك.» ودفع بالكتاب إلى رسول يحمله إلى القائد السائر إلى مصر.
وإنما دفع عمرو رجاله للسير في أرض مصر؛ لأنه خشي إن هو أقام بالقرية التي نزلها حتى يجيئه المدد أن يزداد عثمان بن عفان والذين يرون رأيه نشاطًا، فيحبس الخليفة المدد عنه ثم يرده إلى أرض فلسطين، فتفوت المسلمين بذلك فرصة يؤمن ابن العاص بقدرته على انتهازها، فقد كان يرى الروم بمصر أشد عجزًا عن القتال منهم بالشام، ومصر أكثر الأرض أموالًا، فإذا فُتحت كانت قوة للمسلمين ليس كمثلها قوة.
وسار عمرو في أربعة الآلاف الذين معه إلى العريش، فألفوها خلاء ليس بها للروم قوة، وشد ذلك من عزم عمرو ودفعه لمتابعة سيره، ورجع رسول الخليفة إلى المدينة وذكر له أن عمرًا دخل أرض مصر وسار يطلب الروم فيها، فلن يرتد عنها إلا إذا اضطرته الهزيمة إلى الارتداد، عند ذلك لم يبق في وسع الذين رأوا في إقدامه مخاطرة تعرض المسلمين للخطر إلا أن يمسكوا حتى يتبين لهم أمره، فإما خُذل فكان خذلانه دليلًا على حسن رأيهم وبعد نظرهم، وإما ظفر فكانوا أول المعجبين به والمهنئين له!
وقد كتب القدر لعمرو أن يكون الظفر نصيبه، وأراد الله أن تدخل مصر في حمى الإسلام، وأن تصبح الدُّرة الغالية في تاج الإمبراطورية الإسلامية.