الفصل الثاني

إسلام عمر

المشهور أن عمر بن الخطاب أسلم بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى وعشرين امرأة، وتزيد روايات في هذا العدد وتنقص أخرى منه، وقد لاحظ ابن كثير في «البداية والنهاية» أن عمر أسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، وأن عدد الذين هاجروا إليها قارب التسعين بين رجال ونساء، وأن عمر ذهب بعد هجرتهم يريد محمدًا وأصحابه والمسلمين بدار الأَرْقَمِ عند الصفا فكانوا أربعين رجالًا ونساء، أنت إذن في حل من القول بأن الذين سبقوا عمر إلى الإسلام يقرب عددهم من ثلاثين ومائة، وإن تعذر عليك أن تصل من ضبط العدد إلى أكثر من هذا التقريب المخالف للمشهور.

أما الروايات في سبب إسلامه فتختلف، وأشهرها أن عمر ضاق ذرعًا بما فرقت دعوة محمد من كلمة قريش، وما حملته وأمثاله على إيذاء من أسلموا ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى دين قومهم، فلما أشار محمد على أصحابه أن يتفرقوا في الأرض فرارًا إلى الله بدينهم، ونصح لهم أن يذهبوا إلى أرض الحبشة، ورآهم عمر يترحلون، رق لهم وشعر بالوحشة لفراقهم. رُوي عن أم عبد الله بنت أبي حَثْمَةَ أنها قالت: «والله إنا لنترحَّل إلى أرض الحبش إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليَّ وهو على شِركه، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، وقف وقال: إنه لَلِانطلاقُ يا أم عبد الله؟ قلت: نعم والله! لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجًا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه، فيما أرى، خروجنا.» وعاد زوجها، فذكرت له هذا الحديث الذي دار بينها وبين عمر وأنها طمعت في إسلامه، فقال لها: لا يسلم هذا حتى يسلم حمار الخطاب.

وتجري الرواية بأن عمر حزن لترحل بني قومه عن وطنهم، بعد أن عذبوا وأوذوا، وجعل يفكر في الوسيلة التي تنقذهم مما هم فيه، فرأى أن هذا الأمر لا ينجح فيه إلا علاج حاسم، هنالك عزم أن يقتل محمدًا؛ فليس إلى اجتماع كلمة قريش مع بقائه بينها سبيل، فغدا يومًا متوشحًا سيفه يريد رسول الله ورهطًا من أصحابه ذُكر له أنهم اجتمعوا بدار الأَرْقَمِ عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، وفيما هو في طريقه لقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد؟ قال: أريد محمدًا، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أخلاقها، وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! قال عمر: وأي أهل بيتي؟ فأجابه صاحبه: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما.

فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه، وكان عندهما خَبَّاب بن الأرَتِّ ومعه صحيفة يقرئهما فيها سورة «طه»: فلما سمعوا حس عمر اختفى خباب في مخدع لهم وأخفت فاطمة الصحيفة، ودنا عمر من البيت، وسمع قراءة خباب فقال حين دخل: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالت فاطمة: ما سمعت شيئًا، قال: بلى والله، لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بسعيد بن زيد، فقامت فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالا له: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمدٌ، وأجابته أخته: إنا نخشاك عليها: قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إليها متى أتم قراءتها، وأعطته فاطمة الصحيفة، فلما قرأ منها صدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب عبارته خرج من مخبئه وقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فاللهَ اللهَ يا عمر! عند ذلك قال عمر له: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا في نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، وسار حتى ضرب الباب على رسول الله وأصحابه، وسمع القوم صوته ونظر أحدهم من خلل الباب فرآه متوشحًا السيف، فرجع فزعًا يقول: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف، قال حمزة بن عبد المطلب: فأْذَن له، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه، وقال رسول الله : ائذنْ له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال له: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة! فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله؛ فكبر رسول الله تكبيرة عرف منها أصحابه أن عمر قد أسلم.

هذه أشهر الروايات في إسلام عمر، وثَمَّ روايات أخرى، من أشهرها ما أسند إلى عمر نفسه أنه كان يقول: «كنت للإسلام مباعدًا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم، فلم أجد فيه منهم أحدًا، فقلت: لو أني جئت فلانًا الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرًا فأشرب منها، فخرجت إليه فلم أجده، فقلت: لو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعًا أو سبعين! فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول! وخشيت إذا أنا دنوت منه روَّعته! فجئت من قِبَلِ الحِجْر فدخلت تحت ثياب الكعبة، فجعلت أمشي رويدًا، ورسول الله قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائمًا في مكاني حتى قضى رسول الله صلاته ثم انصرف يريد بيته فتبعته، حتى إذا اقترب من بيته أدركته، فلما سمع حسي عرفني وظن أني إنما اتبعته لأوذيه، فزجرني ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة! قلت: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، فحمد الله ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، وانصرفت عن رسول الله مؤمنًا بدينه.»

ولهذه الرواية المنسوبة إلى عمر صورة وردت في مسند الإمام أحمد بن حنبل لعلها تكمل ما تقدم، وهي تجري بأن عمر قال: «خرجت أتعرض رسول الله قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ. قلت: كاهن! فقرأ: وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.»

هذه هي الرواية التي تلي الأولى في الشهرة، وابن إسحاق يثبت الروايتين ويردفهما بقوله: «والله أعلم أي ذلك كان.»

هاتان الروايتان ومثلهما مما أوردته الكتب عن إسلام عمر تصور اليوم الذي ترك عمر فيه دين آبائه وأجداده، وأشهد رسول الله على إيمانه بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، لكنها جميعًا لا تصور التصور النفسي الذي أدى بعمر إلى أن يُسلم، أفكان ذلك أمرًا مفاجئًا؟ أفبلغ من مباعدة عمر للإسلام وعداوته له أنه أبى النظر فيه والتدبر لشيء من أمره، ثم قذف الله بالإيمان إلى قلبه، وجعل الصحيفة التي كان خباب يقرؤها لأخته، أو القرآن الذي كان رسول الله يتلوه في صلاته، وسيلته جل شأنه لهداية هذا الرجل الذي كان لدينه عدوًّا؟ أم كان الأمر غير هذا، وأن عمر قد سمع القرآن قبل أن يقرأه في صحيفة خباب، وقبل أن يختفي تحت ثياب الكعبة فيسمعه من رسول الله، وأنه قلب فيه نظره بينه وبين نفسه، ثم كان يعود إلى التفكير في أمره وأمر محمد ومن اتبعه، وأن تفكيره الطويل هداه بإذن الله إلى ما اهتدى إليه؟

لا تصور لنا روايات المؤرخين عن إسلام عمر ما كان من هذا أو ذاك، مع أن تصويره ليس بالأمر العسير، ومع أن هذا التصوير يحسم أمرًا يعتبره الجمهور من المسلمات، ونراه مرجوحًا لا يثبت للنقد لحظة.

هذا الأمر هو ما جرت به الرواية المشهورة من أن عمر ذهب يقتل محمدًا وهو في أصحابه عند الصفا لولا أن هداه الله حين قرأ الصحيفة التي كان خباب يُقْرِئُها خَتَنَه وأخته، فليس بمعقول أن يقصد عمر إلى قتل محمد بالسيف وهو بين أربعين من أصحابه فيهم حمزة بن عبد المطلب وأبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ وغيرهما من أبطال مكة، ثم يحسب مع ذلك أنه قادر على تنفيذ مقصده، قد يصح أنه عزم التخلص من محمد بالقتل، وأنه فكر في الوسيلة لتنفيذ عزمه، فلما قرأ الصحيفة ورأى ما فيها حسنًا رجع عما فكر فيه ثم أسلم، أما أنه أراد القتل على النحو الذي تصوره القصة المشهورة في إسلام عمر فلا يسيغه العقل، وهو لذلك مرجوح عندي، والراجح ما ورد في الرواية الثانية على لسان عمر نفسه وما أيده ابن حنبل في مسنده.

وهذا الراجح يتفق وما عُرف عن نفسية عمر وشخصيته، فقد كان من صميم قومه، وكان متعصبًا لهم، حريصًا على نظامهم وعلى مكانة بلدهم، ثم إنه كان رجل عمل، قيمة الفكرة عنده أثرها الفعال في الحياة، فأما التأمل للتأمل، وأما الهيام بالفكرة لذاتها وإطالة التقليب فيها ابتغاء الحقيقة المطوية في جوانبها، ولو لم يكن للحقيقة ولا للفكرة مظهر يتأثر الناس في حياتهم به، فذلك ما لم يكن يغريه أو يخرجه عن إلف قومه، كان ذلك رأيه في شئون الحياة جميعًا، بل كان رأيه في شئون العاطفة نفسها، فهو لم يكن يطمئن أن يقضي الشاب وقته يتلطف بامرأة أو يتغنى بمفاتنها، يريد بذلك أن يفتنها، بل كان يرى ذلك ضعفًا غير جدير برجل كملت رجوليته؛ لذلك لم يعطف يومًا على أولئك الغزلين الذين يتخذون من التغني بالحب صناعة لهم، أما مظهر رأيه هذا في أمر العقيدة، فكان في شدة بَرَمِه بابن عمه زيد بن عمرو؛ لأنه صبأ عن دين قومه، وذهب يلتمس دين الحق عند غيرهم، هذا كله كان في رأي عمر خيالًا لا أثر في الحياة له، ولا يتفق مع ما فُطِرَ عليه من حرص على نظام الجماعة، وعلى مكانة مكة بين العرب جميعًا.

وقد كان هذا الاتجاه الفكري متفقًا مع خَلْق عمر؛ فقد كان قويًّا في بدنه، وكان لذلك يؤمن بالقوة في كل مظاهرها، وكان أشد بمظاهر القوة إيمانًا أول ما بعث النبي؛ لأنه كان في فتوة شبابه، لمَّا تخفف تجاريب الحياة من حدته واندفاعه، لهذا كان يعذب من يستطيع تعذيبهم ممن يتبعون رسول الله ليفتنهم عن دينهم، ولو استطاع أن يحاربهم جميعًا لحاربهم، لكنه كان يعلم أن قبائل قريش تمنع رجالها، وأن من قبيلته بني عدي من لم يكونوا على رأيه؛ لذلك وقف أمره كما وقف أمر غيره من قريش عند تعذيب المستضعفين، دون أن يستطيعوا البطش بأبي بكر وعثمان بن عفان وأبي عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ وأمثالهم ممن كانت قبائلهم تمنعهم، وإن لم يصدهم ذلك عن مقاطعتهم وإيذاء من يستطيعون إيصال الأذى إليه منهم.

على أن عمر كان إلى هذا كله رقيق القلب، دقيق الحس بمعنى العدل، ومن آيات رقته ما كان منه حين قامت أخته تكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما رأى ما بها من الدم ندم وارعوى، وهذه رقة كثيرًا ما نجدها في الأقوياء والباطشين حين يرون أنفسهم جاوزوا الحد اعتمادًا على قوتهم، وحواره مع أم عبد الله بنت أبي حَثْمَةَ يوم أزمعت الرحيل مع المهاجرين إلى أرض الحبشة، يشهد بهذه الرقة ويدل عليها أبلغ الدلالة، وقد بلغ من تأثر أم عبد الله بنت أبي حَثْمَةَ بهذه الرقة أن قالت لزوجها حين رجع إليها: «لو رأيت عمر آنفًا ورقته وحزنه علينا، حتى طمعت في إسلامه.» هذه الخصال مجتمعة تفسر لنا إسلام عمر من بعدُ.

لقد كان حريصًا على نظام مكة وعلى مكانتها، مشفقًا أن تسيء الدعوة للدين الجديد إليها، فلما رأى النبي وأصحابه يدعون إلى ربهم بالحسنى ولا يثيرون في الأرض فسادًا، ثم رآهم إلى ذلك أقوياء في دينهم كل القوة، ورأى عقيدتهم أثمن عندهم من كل ما في الحياة ومن الحياة نفسها، عاد يفكر في أمرهم وفي موقفه منهم، فقد هُدِّدوا وأوذوا وعذبوا، فما استكانوا وما ضعفوا، وما كان جوابهم على ما أصابهم إلا أن قالوا ربنا الله، وزاد بهم الأذى والعذاب، فآثروا التضحية بوطنهم على التضحية بعقيدتهم، فركبوا البحر مهاجرين إلى أرض الله فرارًا بدينهم، ليس هذا الدين إذن فكرة نظرية لا أثر لها في حياة أصحابها، ولا في حياة الجماعة التي يعيشون فيها، بل هو قوة دافعة جسيمة الأثر في الحياة الفردية والحياة القومية كلتيهما، وقد بدا هذا الأثر في حياة مكة منذ بدأ الإسلام فيها، وسيكون هذا الأثر أعظم على الأيام وأكثر وضوحًا، فماذا يئول إليه أمر مكة ومكانتها إذا اتصلت هذه الهجرة، وتسامع العرب أن أبناءها لا يقيمون بها؛ لأنهم يُظلمون فيها مع ما بينهم وبين القبائل التي تتألف منها أم القرى من صلة القربى وآصرة المودة، ويظلمون لغير شيء إلا أنهم خالفوا قومهم عن عقيدتهم، وفي بلاد العرب شتى العقائد: فيها المؤمنون بمختلف الأصنام والأوثان، وفيها من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وفيها مجوس يتبعون فارس، أليس خيرًا لمكة أن يترك هؤلاء المسلمون لا يُضارون في عقيدتهم ولا يُفتنون عنها، وأن تترك الحرية لمن شاء أن يدخل في دينهم وأن يكون معهم؟! وهل لرجل كعمر تعلم ما لم يتعلمه غيره، وعرف من حكمة الفرس والروم واليهود والنصارى أكثر مما عرفوا، أن يظل مباعدًا للمسلمين، وألا ينظر في دينهم نظر البصير الناقد لا نظر المتعصب الحاقد؟!

لقد سمع وقومه دعوة محمد والقرآن الذي يوحى إليه، وقد عرف نبأ الذين خرجوا يستمعون إلى رسول الله وهو يصلي في أثناء الليل في بيته، وكيف عادوا ليلة بعد أخرى يستمعون إليه، وعرف ما كان من تلاومهم، ثم عرف أن أبا الحكم بن هشام سئل عما سمع من ذلك فقال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا! والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه!» ولهذا ظل أبو الحكم ومن معه يعذبون المسلمين بغيًا بغير حق، وظل المسلمون على دينهم لا يفتنهم العذاب، بل يزيدهم له حبًّا وبه تمسكًا، أليست هذه حجة دامغة على أنهم على الحق، وأن أبا جهل إنما أبى أن ينظر في دين محمد، وأن يؤمن به أو يصدقه، لما بين بني عبد شمس وبني عبد مناف من تنافس؟! فما لعمر لا ينظر في هذا الدين، ولا تنافس بين بني عدي وبني عبد مناف؟! لهذا ذهب عمر يستتر بثياب الكعبة ليرى محمدًا يصلي، وليسمع ما يتلو في صلاته من قرآن ربه، ولهذا حرص على أن يتلو سورة طه في الصحيفة التي كانت عند أخته، ولقد نظر في هذا كله وأطال فيه الفكر فاهتدى، فأيد الله به دينه، ونصر به رسوله.

كان النبي عليه السلام شديد الحرص على أن يؤيد الإسلام برجل قوي جريء الجنان، لا يخشى أن يناهض خصومه في سبيل عقيدته، ولذلك كان يدعو ربه: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب!» وكان أبو الحكم رجلًا حديد الوجه، حديد اللسان، قوي الشكيمة، لا يبالي الحرب ولا يهابها، وكان عمر بن الخطاب ما رأيت، فإسلام أحدهما جدير بأن يُؤيد المسلمين، وأن يدفع الكثير مما يصيبهم من الأذى، لكن أبا الحكم كان متأثرًا بما قدمنا من عامل المنافسة بين عشيرته وعشيرة محمد، فلم يكن إيمانه بالدين الذي جاء به محمدًا أمرًا ميسورًا، أما عمر فقد ظلت الدوافع تؤدي به إلى طريق الحق شيئًا فشيئًا، وتحطم من حوله قيود التعصب لقومه ولنظام مدينته رويدًا رويدًا، وتغلب في نفسه عناصر العدل الأصيل فيها على سائر العناصر، حتى انتهى إلى ما قدمنا، فجاء إلى محمد وهو بين أصحابه في دار الأَرْقَمِ عند الصفا، أو تبعه في الطريق من مصلاه عند الكعبة إلى بيته، فلما سأله رسول الله: ما جاء بك؟ قال في غير تردد: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.

وكذلك أسلم عمر عن بينة بعد أن تبين ما لهذا الدين من أثر قوي في نفوس المؤمنين به، يتعدى أفرادهم إلى حياة الجماعة ونظامها؛ لذلك دخل في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، وحرص على أن يكون لجماعة المسلمين نظام يدافعون عنه كما تدافع قريش عن نظامها، فما لبث حين أسلم أن عمل على أن يذيع في قريش كلها إسلامه، روي أنه قال: «لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت على أبي جهل بابه، فخرج إليَّ فقال: مرحبًا وأهلًا بابن أختي! ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله! وقبح ما جئت به!»

وكان عبد الله بن عمر يوم أسلم أبوه غلامًا يعقل ما يرى: وقد ذكر من حرص أبيه على إذاعة إسلامه، وتحديه قريشًا في ذلك فيما رُوي عنه أنه قال: «لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجُمَحي، فغدا عليه فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، حتى إذا وقف على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش — وهم في أنديتهم حول الكعبة — ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ! فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، عند ذلك ثاروا به، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيا عمر فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأقسم بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا، فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حُلَّة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟! قالوا: صبأ عمر! قال: فَمَهْ! رجل اختار لنفسه أمرًا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلوا عن الرجل، فوالله لكأنما كانوا ثوبًا كشط عنه …»

فلما هاجر عمر سأله ابنه عبد الله: يا أبت! من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ فقال عمر: ذاك يا بني العاص بن وائل السهمي.

والعاص بن وائل السهمي هو أبو عمرو بن العاص، وقد بلغ من حمايته عمر حين أسلم أكثر مما رأيت، توعدت قريش عمر بعد أن انفضت عنه، فبات في داره خائفًا يترقب، قال عبد الله بن عمر: فبينما هو في الدار خائف إذ جاءه العاص بن وائل السهمي وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال عمر: زعم قومك أنهم سيقتلونني أن أسلمت، قال: لا سبيل إليك، وبعد أن قالها أمن عمر، فقد خرج العاص من عنده فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فسألهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: قد صبأ عمر فما ذاك! فأنا له جار! فتفرق الناس.

ولم يكن عجبًا أن يجير العاص عمر بن الخطاب بعد الذي قدمنا من جوار بني سهم لبني عدي بن كعب في الجاهلية، وذلك حين نافس بنو عدي بني عبد شمس فغُلِبوا على أمرهم، وأجلاهم بنو عبد شمس عن منازلهم عند الصفا، واضطروهم إلى جوار بني سهم، وقد زاد هذا الجوار عمر جرأة في إسلامه، وتحديًا لقريش، ودفعًا لأذاها عن المسلمين، بذلك زادت شخصيته بروزًا واعتداده بنفسه ظهورًا، فكان له من المواقف ما لم يكن لغيره ممن سبقه إلى الإسلام، وما يسجله له المؤرخون تسجيل ثناء عليه وإعجاب به أي إعجاب.

رُوي أن عمر راح يسأل النبي: يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «بلى! والذي نفسك بيده إنكم على الحق إن متم أو حييتم.» قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن! فما لبث النبي أن خرج في صفين أحدهما فيه عمر والآخر فيه حمزة، ولهما كديد١ كأنه الطحين، فدخلوا المسجد وقريش تنظر وتعلوها كآبة، فلا يجرؤ سليط منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان.

إنه أسلم، فيجب أن يعرف الناس جميعًا أنه أسلم: ليغضب منه من شاء أن يغضب، وليحاربه منهم من شاء أن يحاربه، وليتألب عليه من اجتمعوا في أنديتهم حول الكعبة وليناضلوه، وليبلغ ذلك منه حتى يناله الإعياء، فلن يصرفه ذلك عن تحديهم ومصارحتهم بأنه محاربهم، وبأن المسلمين متى بلغوا ثلاثمائة رجل فستكون الحرب حتى يجلي المسلمون المشركين عن مكة، أو يجليهم المشركون عنها، ولن يرده ما يعرفه من حدة أبي جهل وبأسه عن أن يذهب إليه في داره فيضرب عليه بابه ليقول له إنه أسلم، هو قوي مؤمن بالقوة، وهو شاب أشد بالقوة إيمانًا، وهو جريء صريح لا يهاب الأقران ولا يخشى أحدًا؛ لذلك لم يَسْتَخْفِ كما استخفى غيره من المسلمين، بل أقسم ليصلين مع المسلمين عند الكعبة، وذلك بعد أن كانوا يصلون مستخفين في شعب من شعاب الجبل المحيط بمكة.

ولقد برت يمينه، كان عبد الله بن مسعود يقول: «كان إسلام عمر فتحًا، كانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا.» وكان يقول: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.» ورُوي عن صُهَيْبِ بن سِنان أنه قال: «لما أسلم عمر أظهر الإسلام ودعا إليه علانية، وجلسنا حول البيت حِلَقًا وطُفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.»

والحق أن عمر لم تطب نفسه إلا أن جاهد قريشًا، ليكون له ولإخوانه المسلمين ما لغيرهم من حق في بيت الله والصلاة لله حوله، وهو ما لبث حين جاهدها أن رأى معه حمزة بن عبد المطلب يجاهد جهاده، ويخرج وإياه مع المسلمين إلى موقف إيجابي لم يقفوه من قبل، موقف النضال ليكون لهم من الحقوق ما لغيرهم من قريش، وليكون لهم من حرية الدعوة إلى دينهم، ما لا سبيل لقريش أو لغير قريش أن تقف دونه.

وكان لهذا الموقف الإيجابي أثره في قبائل قريش جميعًا، كان فيها كثيرون تهوي قلوبهم إلى الإسلام، ثم يمنعهم الخوف من أذى قريش أن يدينوا به، فلما رأوا عمر أسلم وقاتل قريشًا وصلى عند الكعبة وصلى المسلمون جميعًا عندها، دخلوا في دين الله وظنوا أنهم أصبحوا بمنجاة من الأذى ومن العذاب، عند ذلك قالت قريش بعضها لبعض: «إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها.» وجعلوا يفكرون في هذا الموقف الجديد كيف يواجهونه.

وانتشر النبأ بإقبال كثيرين من قريش على الإسلام، ثم انتقل هذا النبأ من الحجاز إلى الحبشة، وعرفه المسلمون الذين هاجروا إليها، فعادوا إلى وطنهم، فلما دنوا من مكة بلغهم أن ما تحدثوا به من إسلام أهلها لا يتفق والواقع، ذلك أن قريشًا ما لبثت حين رأت كثيرين من أبنائها يقتفون أثر عمر ويتبعون محمدًا، أن تعاهدت قبائلها فيما بينهم فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على بني هاشم وبني المطلب، على ألا يَنْكِحوا إليهم ولا يُنْكِحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم، ورأى الذين هوت أنفسهم إلى الإسلام ولما يسلموا ما صنعت قريش، فترددوا، فوقفوا دون اتباع رسول الله، بذلك عادت الحرب العوان بين قريش والمسلمين، وعرف المسلمون الذين عادوا من الحبشة ما كان من ذلك، فلم يدخل أحد منهم البلد الحرام إلا بجوار أو مستخفيًا، ورجع منهم إلى الحبشة كثيرون.

عادت الحرب العوان بين قريش والمسلمين، وصار عمر يتعرض لما يتعرض له أصحاب رسول الله، ويصيبه ما يصيبهم، ويتبع الوحي الذي ينزل من عند الله ثم يزداد بقوة إيمانه ودقة نظامه وحسن رأيه قربًا من النبي وحظوة عنده، ليكون له من بعد في صحبة رسول الله، وفي عهد أبي بكر، وفي حياة الإسلام ذلك الأثر البالغ الذي جعل اسمه علمًا على القوة والعدل والرحمة والبر مجتمعة، وجعل عهده من أعظم العهود في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، بل في تاريخ الحضارة الإنسانية.

هوامش

(١) الكديد: التراب الناعم إذا وطئ ثار غباره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤