الحياة الاجتماعية في عهد عمر
ما أعظم التطور الذي تم في بلاد العرب خلال السنوات الخمس عشرة التي تلت فتح مكة! وعظمته تجعلك غير مبالغ إذا لم تُسَمِّه تطورًا! إنما هي طفرة لم يعرف تاريخ العالم لها نظيرًا، ففي هذا الزمن الوجيز انتقل العرب من وثنيتهم إلى الإسلام، ومن تفرقهم قبائل وأممًا متنافرة إلى وحدة متضامنة لها سياسة عامة وغرض مشترك، ومن انكماشهم في حدود شبه الجزيرة إلى تسلطهم على الإمبراطورية الفسيحة التي جمعت لهم سلطان الفرس وسلطان الروم، ومن شَظَفِ البداوة الذي يسود أكثر مَوَاطنهم إلى رخاء لم يألفوه من قبلُ، لا عجب وذلك شأنهم أن تتأثَّر حياتهم الاجتماعية بهذه الانتقالات السريعة وأن تتغير نظرتهم للحياة ومطالبهم فيها.
وذلك ما حدث بالفعل، فقد كان لكل من العوامل التي أدت إلى هذه الطفرة أثره في حياتهم أفرادًا وجماعات، كان للعامل الديني أثره، وللعامل السياسي أثره، وللعامل الاقتصادي أثره، وكانت هذه الآثار متناقضة في بعض الأحيان، لكنها تفاعلت واندمجت بعضها في بعض، فأدت إلى انتقال في الحياة الاجتماعية يلفت النظر ويدعو للتفكير فيما ترتب عليه من بعد في حياة الإسلام والمسلمين.
يجمل بنا لنقدر مدى هذا التطور أن نرجع البصر إلى ما كان العرب عليه في حياتهم الاجتماعية قبل الإسلام، لقد كان أكثرهم أهل بادية، وكان الأقلون أهل المدن والأمصار، ذلك لأن شبه الجزيرة لم تكن بها أنهار منتظمة الجريان، ولم تكن أمطارها تهتن في فصول معينة من السنة هتنًا متقارب القَدْر، بل كانت الأمطار تنهمر سيولًا مُخرِّبة أحيانًا، وتكف فصولًا متعاقبة أحيانًا أخرى، فلم يكن تنظيم الزراعة ميسورًا إلا في بعض الأرجاء، من ثم كانت المدن والأمصار إنما تقوم حيث تغزر الينابيع، ثم يظل ما وراء ذلك بادية ينبت بها المرعى حين ينزل الغيث ويجف حين يمسك، ولهذا كانت بادية اليمن، كغيرها من البوادي، تشمل القسم الأكبر من أهل اليمن، وإن كانت نسبة حضر اليمن إلى باديته تزيد على نسبة حضر نجد والحجاز وسائر بلاد العرب إلى بواديها.
وأساس الاجتماع في البادية القبيلة، والقبيلة تتألف من أحياء يربط النسب وتربط القرابة بين الذين يتألف الحي منهم، وكل أهلٍ في الحي يقيم في بيت من الشَّعر يسهل حمله كلما أرادت القبيلة الظعن تنتجع المرعى لإبلها والرزق لبنيها، وكان أكثر تنقُّل القبائل في الربيع والصيف، حين يكثر العشب والكلأ حول ينابيع المياه الصغيرة في البادية، فإذا أقبل الشتاء وجف المرعى، تحملوا إلى الحضر فأقاموا على مقربة منه، يلتمسون عند أهله؛ بالتعامل معهم أو الغارة عليهم ما يعيشون به عيش كَفَاف يرضيهم؛ لأنه يكفل لهم الحرية التي كانت أعزَّ عليهم من طيب الطعام ولبس الشُّفوف.
وكان لكل قبيلة شيخها ولكل حي زعيمه، ولكل بيت ربه، ورب البيت هو الأب، فله على كل من فيه سلطة مطلقة، وكان أعظم سلطانه على زوجه؛ فقد كان مكان المرأة من زوجها مكان الخادم من سيده، لا رأي لها معه، ولا تستطيع أن ترد له كلمة أو تعصي له أمرًا، وإنما عملها أن تقوم بخدمة البيت، وأن تزيد في نسل ربها، ولهذا كان العُقْم أهم أسباب الطلاق، وكان تعدد الزوجات لا حد له حتى يبلغ النسل غاية مداه، ذلك لأن العرب كانوا حريصين أشد الحرص على كثرة البنين ليقووا بهم على حماية القبيلة وحماية الأهل، وأنت تذكر قصة عبد المطلب بن هاشم جد النبي حين نذر إن وُلد له عشر بنين ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لَيَنْحَرَنَّ أحدَهم لله عند الكعبة، وتذكر أنه أدى نذره، فافتدى عبد الله بمائة من الإبل.
وكان العرب يؤثرون الزواج من غير قبيلتهم، لاعتقادهم أن النسل من مثل هذا الزواج أقوى وأزكى، ولأن الزواج من بنات القبيلة كثيرًا ما كان يؤدي إلى التنازع والشحناء، واعتقادهم هذا هو الذي كان يحملهم على إمساك سبيات الحرب لينسلن لهم، كما كان أول ما يطلبونه دية قتيل فتاتين من بنات الحي الذي منه القاتل، لا ينزلون عنهما وإن نزلوا عن غيرهما من الإبل والشاء والأموال، مع هذا كان لابن العم أولوية على غيره إذا خطب ابنة عمه، فلا يستطيع أبوها أن يمسكها عنه ما دفع المهر المتعارف في القبيلة، وإن أغلى غيره مهرها أضعافًا مضاعفة.
كانت خِطْبَةُ الشاب الفتاة إلى أهلها، والتزوج منها بعد مهرها، ونقلها معه إلى حيه وقبيلته، هي الصورة المألوفة عند العرب، على أنهم كانوا يألفون صورًا غيرها من الزواج، بقي بعضها بعد الإسلام، وعفَّى الإسلام على سائرها، من ذلك أن يتزوج رجل من امرأة فيذرها في قومها، فإذا مر بهم في تجارته أو رحلاته نزل عندها، وكان بعض النسوة يؤثرون البقاء في أهلهن إذ كن ذوات مال وحسب، فكن لا يَرْضَيْنَ مفارقة مالهن ومن يقومون على الاتجار فيه وتثميره، وكان الأبناء يبقون مع أولئك الأمهات حتى يشبون، ولذلك كانوا ينسبون إليهن وإلى قبيلتهن، وذلك كان شأن سلمى بنت عمرو أحد بني النجار من الخزرج أهل يثرب، فقد كانت امرأة ذات شرف ومال يتجر لها فيه قومها، ومر هاشم بن عبد مناف يومًا بيثرب عائدًا من الشام، فرآها تطل على قومها، فأعجبته فخطبها إلى نفسها فرضيته زوجًا، على أن تكون عصمتها بيدها … وولدت له شيبة، فأقام معها بين أخواله بني النجار حتى مات أبوه، ثم عاد به عمه المطلب إلى مكة مردفًا إياه على بعيره، فلما رأته قريش ظنوه عبدًا اشتراه فقالوا: «عبد المطلب.» فغلب عليه هذا الاسم، ولم يَدْعُه أحد من بعد باسمه «شيبة».
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا الزواج أصل زواج المتعة الذي أبيح في صدر الإسلام إلى أن حرمه عمر، ولا يزال زواج المتعة حِلًّا عند الشيعة إلى اليوم.
وكان للزواج المؤقت صورة أخرى، وكان للمرأة في هذا الزواج أن تفصم عروته إذا شاءت، وحَسْبُها لذلك أن تغير موقع الباب من خبائها ليعلم صاحبها أنها لم تبقَ له زوجًا، ويذكر ابن بَطُّوطة في رحلته أن مثل هذا الزواج كان باقيًا في أحياء زبيد حين كان هو في بلاد اليمن.
ومما يذكره مؤرخو اليمن كذلك أن المِلْك كان مشاعًا بين أفراد الأسرة في عهد من العهود، وأن المرأة كانت بعض هذا الملك المشاع، فكانت زوجًا أو خليلة لأفراد الأسرة جميعًا، فإذا دخل أحدهم خباءها لوطر ركز عصاه عند الباب، فلا يفتحه عليه أحد، ولكن مبيتها كان مع رب الأسرة دائمًا، مع ذلك كان زنا هذه المرأة مع أجنبي جريمة عقابها الموت، ومما يُروى في ذلك أن ابنة أحد الأمراء كانت في أسرة متاعًا لأهلها، وأنها أحبت شابًّا من غير أبناء هذه الأسرة، فكانت كلما جاءها ركزت عصا عند الباب حتى لا يفاجئها أحد متلبسة بجريمتها، واجتمع رجال الأسرة كلهم يومًا، فرأوا العصا المركوزة عند الباب، فعرفوا ما أتت الفاجرة فجَزَوْها به.
وقد يبدو هذا النوع من الزواج عجبًا، وأعجب منه نكاح الاستبضاع، ذلك حين كان الزوج يدع زوجته لغيره، حتى إذا حملت ردها ونسب حملها إليه، ولعلهم لم يكونوا يلجئون لهذا المنكر إلا لعقم الرجل وحرصه على الولد، على أنه قد كان له في التبني مندوحة عن مثل هذا الأمر، فقد كان العرب يجيزون تبني البنين دون البنات، وكانوا يجعلون للمتبنَّى مقام الابن في الانتساب إلى من تبناه وإلى قبيلته، ويبلغون به أحيانًا أن يجعلوا له حق الاشتراك في الميراث على سواء مع أبناء الرجل من صلبه، ومهما يكن إنكارنا لهذا النكاح، وإنكار الإسلام له وللتبني جميعًا؛ فالمؤرخون يذكرونه على أنه بعض عادات العرب في الجاهلية.
ذكرنا هذه الصور من الزواج لما فيها من دلالة على امتهان المرأة عند العرب، والحق أن مكانتها كانت أدنى إلى مكانة الرقيق، وحَسْبُكَ شاهدًا على ذلك أن وارث رب البيت، أبًا كان أو أخًا أو ابنًا، كان من حقه أن يذهب إلى الأرملة فيلقي عليها رداءه ويمهرها فتصبح له زوجًا، كما كان له أن يزوجها من غيره إذا شاء ويقبض مهرها، ولم يكن للمرأة مفرٌّ من هذا المصير إلا إذا رجعت إلى أهلها قبله، عند ذلك يرجع الأمر في زواجها إليها أو إلى وليها.
ولم يكن للمرأة رأي في فصم عروة الزواج إلا في زواج المتعة وهو الزواج المؤقت، أما غيره فكانت عروة الزواج تنفصم بالخُلْع أو بالطلاق، وكان الخلع يتم باتفاق بين الزوج وولي الزوجة، ولم يكن الطلاق يقع إلا إذا ذكره الزوج ثلاث مرات توكيدًا لنيته فيه.
وكانت المرأة لا ترث، أمًّا كانت أو زوجًا أو بنتًا أو أختًا أو ذات رحم، ذلك لأن العرب كانوا يقولون: إنما يرث من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، أما البنون فكانوا يرثون حصصًا متساوية، وكل ما للأكبر منهم من امتياز على إخوته أنه كان يدعى لاختيار النصيب الأول.
كان سلطان الرجل على زوجه ما رأيت، وكان سلطانه على بنيه عظيمًا، وعلى بناته أعظم، فقد كان الرجل في بعض القبائل يئد ابنته خوف العار أو المَتْرَبَة، فإذا وأدها لم يسأله أحد حسابًا، ولم يكن للبنت ولا لأمها رأي في زواجها، بل كان الرأي للأب وحده وكان عليه لذلك أن يحميها بعد أن تنتقل إلى بيت زوجها، في قبيلتها كان هذا البيت أو في قبيلة غيرها، فإذا أساء زوجها إليها أو طلقها، رجعت إلى بيت أبيها وعاشت في كنفه ورعايته، أما الابن فكان يختار من يخطبها، ثم يحرص على أن ينال رضا أبيه عن خطبته، فإذا استقل بعد زواجه ببيت كفل لامرأته فيه معيشتها، ضَعُفَ سلطانُ أبيه عليه، وإذا بقي معها في بيت أبيه، فلأبيه عليه سلطان مطلق.
هذه صورة موجزة من نظام الأسرة والأهل في البادية، وقد كانت في جملتها صورة لنظام الأسرة والأهل في المدن والأمصار العربية، فقد كان أهل هذه المدن والأمصار قبائل كأهل البادية سواء، وكان أكثرهم يمتون بأصلهم إلى البادية، ثم هوت نفوسهم إلى حياة الحَضَر فركنوا إليه واستقروا به، ولعلك وقد ألممت بها تجد من آثارها ما لا يزال باقيًا إلى اليوم في حياة البدو حيث كانوا، وإن كان الإسلام قد عفَّى على الكثير منها، بل إنك لتجد بعض هذه الآثار في حياة من ينتسبون إلى العرب من أهل الحضر في مصر وفي غير مصر من البلاد التي تتكلم العربية، فكثيرون يَحْرمون بناتِهم من الميراث، وينظرون إليهن نظرة تجعل ما للرجال عليهن من درجة فسيحَ المدى يكاد يبلغ ما كان مألوفًا في البادية قبل الإسلام، وكثيرون لا يقيمون لرأي البنت ولا لرأي أمها وزنًا في زواجها، ولا تزال البنت تأوي إلى بيت أبيها إذا مات عنها زوجها أو طُلِّقت أو أسيئت معاملتها، وسلطة الأب على أبنائه الذين يقيمون معه لا تزال عظيمة ما كانوا غير قادرين على الكسب.
كان العرب من أهل البادية ومن أهل الحضر يتشابه عندهم نظام الأسرة والأهل لكنهم كانوا يختلفون اختلافًا كبيرًا في أسباب العيش وما نسميه اليوم النظام الاقتصادي، فأهل الحضر كانوا يعتمدون في عيشهم على التجارة وعلى ما يزرعه لهم الفلاحون في الحدائق والكروم والمزارع المحيطة بهم والمملوكة ملكًا خاصًّا لهم، وكان ربحهم من تجارتهم ومن زراعتهم غير قليل، وكان كثيرون منهم يُقرضون أموالهم لمن يريد أن يتجر فيها أو أن يثمِّرها لقاء فوائد فاحشة تضاعف ما أقرضوا في زمن قصير، هؤلاء جميعًا كانوا يعرفون من متع الحياة وأنعمها ما لا يعرفه أهل البادية، كانوا يعرفون مجالس الشراب والغناء والميسر ويتوفرون عليها، وكانوا يجدون في إشباع شهواتهم ما يرضيهم عن الحياة ويزيدهم اطمئنانًا لها، لكن ابن خلدون يبالغ إذ يقول عنهم إنهم: «قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخُلُق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من فنون الملاذ وعادات الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على حب المال والكذب والشهوات، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فكان الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عن ذلك وازع الحشمة لما أخذتهم به عادات السوء من التظاهر بالفواحش قولًا وعملًا، وعلى الجملة فهم أهل غدر وخديعة ونقض عهد.» ولقد كانت لهم من غير شك فضائل ومزايا، ولولا ذلك لبارت تجارتهم، ولما استطاعوا مقاومة الطبيعة القاسية المحيطة بهم، لكنهم كانوا تجارًا أولي حيلة، وكانت الحيلة تدفعهم إلى بعض ما يروي ابن خلدون من نقائصهم، فقد كانت أرباحهم من التجارة ومن الربا تيسر لهم الانغماس في الملذات، والاستهانة بكثير من فضائل الخلق الكريم.
أما عيش البادية فكان قِوامه انتجاع المرعى، والانتفاع بلحوم الإبل وألبانها، ولم يكن البدوي يملك لنفسه غير بيت الشَّعر الذي يقيم فيه، وما قد يغرس حوله من غلال وفاكهة، فقد كانت القاعدة أن الزرع لمن زرعه، على أن هذا الملك كان قليل الشأن، فقد كان البدو يعافون الزراعة ويرون الفلاحة دون ما يليق بهم، فأما ما كان يحيط بمنازل القبيلة من المرعى فكان ملكًا مشتركًا للقبيلة، وكذلك كان الكلأ الذي تنبته الصحراء في حمى تلك المنازل، وكان للقبائل المتجاورة حق تبادل المرعى في مقابل.
وكانت منازل القبائل محدودة بالعرف والاتفاق، فإذا أجدبت قبيلة فانتجعت المرعى بعيدًا عن منازلها، لم يَجُزْ لغيرها من القبائل أن يحل محلها فيها أو يتعرض لقتال أهلها وأصحابها، ونحن لذلك نستطيع أن نتعرف منازل أهل هذه القبائل إلى وقتنا الحاضر على الخرائط الجغرافية، على أن مثل هذا العدوان وما يجر إليه من قتال بين القبائل لم يكن نادرًا، بل كان مألوفًا في حياة الجاهلية؛ لذلك كان البدوي محاربًا بنشأته، وكانت حياة القبائل في كثير من الأحيان حياة غزو وانتهاب، فكانت الغارات وانتهاب الأسلاب والفرار بها إلى المضارب من مألوف أهل البادية، فإذا رجعت القبيلة من غزوها أقامت في مضاربها على حذر تنتظر أن يغير عليها غيرها ليثأر لنفسه منها أو يسلب مالها مثلما سلبت هي غيرها ماله، وذلك قول ابن خلدون في أهل البادية إنهم «أهل انتهاب وعبث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مناسبة وركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ورئيسهم محتاج إليهم غالبًا للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطرًّا إلى إحسان ملكتهم وترك مُرَاغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم.»
وطبيعي أن يزيد الخوف من الثأر والغارات تضامن القبيلة، وأن يدفع رجالها لتعزيزه بذكريات الماضي وما كان لأسلافهم فيه من بطولة وإقدام، وذلك هو السر في حرصهم على معرفة أنسابهم، يفاخرون بها غيرهم، ويقوون تضامنهم، ويرتفعون إلى أسلاف اشتهروا بالشجاعة والكرم وحماية الجار وما إليها من صفات غرستها هذه الحياة فيهم، وجعلتها بعض شمائلهم وسجاياهم، وكان حتمًا على أبنائهم أن يقتدوا بهم في هذه الصفات فهي وحدها التي تجعل عيش البادية مستطاعًا، فابن البادية معرض لغارة غيره عليه، وعيش البادية عيش شَظَفٍ يبلغ الفاقة أحيانًا، فإذا لم يكن أهلها كرامًا يُؤْوُون الضيف، ويحمون الجار، تعرَّض كثيرون للهلاك، وحياة البادية حياة مغالبة للطبيعة ومقاومة للمعتدين، فإذا لم يكن أهلها شجعانًا ذوي حيلة وجَلَد نَاءُوا بعِبْءِ الحياة، وإذا لم يكن لهم من الدعاية ما يجعل غيرهم يخشاهم تعرضوا للشر، ولذا كان أكثر شعرهم ونثرهم في الفخر والحماسة وذكر الكرم، والتحدث عن شتى الفضائل التي توجبها هذه الحياة وتدفع أهلها للحديث عنها.
لم يكن العرب يثأرون من المعتدين على منازلهم فحسب، بل كان الثأر للنفس وللمال وللعرض وللإهانة ولكل ما يوجب الثأر نظامًا قائمًا بينهم، وكانت القبيلة ترى واجبًا عليها أن تثأر لكل واحد من بنيها، فإذا قُتِلَ رجل منهم حمل أبناؤها كلهم السلاح حين تدوِّي بينهم صيحة أهل المقتول: «يا لثارات العرب!» وكان الأمر كذلك بخاصة إذا كان القاتل من قبيلة أخرى، فإذا كان منزل القاتل قريبًا أحرق، وقتلت إبله وأغنامه، وأبيحت كل حرماته ثلاثة أيام كاملة، وفي هذه الحال لم يكن لقبيلة القاتل أن تؤاخذ أولياء الدم وقبيلتهم بما صنعوا، على أن القاتل كثيرًا ما كان يلجأ بعد ارتكاب جريمته إلى من يجيره ويستطيع منعه، فإذا استجار وأجير وجبت عليه الدية، وقد جرت العادة في الدية بأن يطلب أصحاب الثأر من أهل القاتل بناتٍ وإبلًا وأموالًا، وأن يبدأ أهل القاتل بالقبول، ثم تجري مساومات ينزل صاحب الثأر على أثرها عن الكثير مما طلبه، لكنه لم يكن ينزل أبدًا عن أن تكون في الدية فتاتان من حي القاتل، يأخذهما لنفسه، أو يهبهما لمن يشاء.
فأما الثأر للعرض وللإهانة فكان يؤدي أغلب الأمر إلى قتال بين القبائل يطول أمده سنين متعاقبة، فإذا كانت القبيلة الطالبة للثأر أضعف من أن تثأر لنفسها، عرضت على أحياء العرب ما لحقها من هضم حقوقها وعدوان على كرامتها، واسْتَعْدَتْ غيرها من القبائل المجاورة أو المحالفة لها لتنهض معها في ثأرها، والمحالفات لهذا الغرض كانت مألوفة، ولعلك تذكر حِلف الفُضول الذي اشترك فيه محمد قبل بعثه، إذ تعاهدت قبائل مكة وتعاقدت لَيَكُونُنَّ مع المظلوم حتى يُؤدَّى إليه حقه، وكانت غزوة الأحزاب للمدينة بعد هجرة الرسول إليها نتيجة التحالف بين يهود المدينة وقبائل مكة وغيرها من قبائل العرب، ومثل هذه المحالفات كانت كثيرة في الجاهلية، وأخبارها لذلك مستفيضة في كتب التاريخ وكتب الأدب.
من شأن حياة الثأر والغزو والمغامرة أن تدعو إلى التفاؤل وإلى التطيُّر، يتفاءل الظافر إذا أدى إلى ظفره أمر لم يكن في حسبانه، ويتطير المقهور لمثل هذا السبب، والعرب كانوا أكثر الأمم تفاؤلًا وتطيرًا، ولم يكن ذلك شأنهم في أمر القتال وحده، بل كان كذلك في كل شئون الحياة، وإن بعض المؤرخين لينسبون تسمية العرب أبناءهم بأسماء الحيوان إلى تطيرهم وتفاؤلهم، فيذكرون أن أحدهم كان إذا أنجب أبناء فماتوا ثم وُلد له ولد، أطلق عليه اسم حيوان كثعلب أو ثور أو أو كلب أو ذئب أو فهد أو أسد، ويذكر هؤلاء المؤرخون أن نسبة كثير من القبائل إلى أسماء الحيوان ترجع إلى أن جدها الأعلى أطلق عليه اسم هذا الحيوان تحرزًا من الموت، فإذا صح هذا التعليل وجب إطلاقه على غير العرب أيضًا، فتسمية الناس بأسماء الحيوان أمر حادث في الأمم كلها، ونسبة الأسر إلى الثعلب أو الذئب أو غيرهما من الحيوان بعض ما نجده عند الإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم، وقد يكون مرجعه إلى تطيرهم وتفاؤلهم كمرجع مثله عند العرب.
كانت عبادة الأصنام والاستقسام عندها بالقِداح مما زاد في تطير العرب وتفاؤلهم، فقد كان أحدهم إذا أراد أمرًا جاء بأزلام الاستخارة، وهي قطع من خشب أو حجر كُتب على أحدها «آمر» وعلى الثاني «ناه» وترك الثالث غُفْلًا، ثم خلطها في حمى صنم كهُبَل، وأخرج منها واحدًا، فإذا خرج الآمر أقدم على ما عزم وإذا خرج الناهي أحجم، وإذا خرج الغفل استأنف الخلط والاستقسام، وكان اعتقادهم أن الصم الذي يعبدونه ويستقسمون عنده هو الذي يخرج الأزلام على النحو الذي تخرج به، ولذلك كانوا يطيعونها على أنها آية آلهتهم وأمرها.
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة، وكان أعظمها عندهم هُبَل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى؛ ولذلك جعلت له قريش يدًا من ذهب، وكان إساف ونائلة صنمين عند الصفا والمروة، هذا إلى أوثان أخرى ذكر ابن الكلبي أكثرها في كتاب الأصنام، وذُكِرَ سائرها في تاج العروس وفي مروج الذهب وفي غيرهما من كتب المؤرخين.
ولم يكن العرب ينكرون وجود الله حين يعبدون الأصنام، بل كانوا يُشركونها معه جل شأنه ويتخذونها إليه زُلْفَى، ولهذا كانوا يذكرون الله في تلبيتهم حين حجهم الكعبة ويذكرون الأصنام على أنها شركاؤه، فكانت بعض القبائل تقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.» وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: «واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغَرانيق العُلا، وإن شفاعتهن لترتجى!» وفي ذلك يقول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ.
كان لهذا القضاء على الشرك أثر عميق في النفس العربية، وفي الحياة الاجتماعية العربية، لم يبقَ لمسلم ولي من دون الله، بل أصبح ولاؤهم جميعًا له جل شأنه، ولم يبقَ لمسلم أن يستقسم بالأزلام أو أن يستخير الأصنام، وإنما يستخير الله وحده، عليه يعتمد، وإياه يستعين، وإليه يركن، وهو الذي يهديه سبيله، بذلك تحرر العقل العربي وتحرر الضمير العربي من رِقِّ الوثَنِيَّة، وأصبح هذا العقل وهذا الضمير هما اللذان يوجهان صاحبهما فيما يعزم القيام به أو الإحجام عنه، وبذلك أصبحا دون سواهما وساطة المرء إلى ربه، ولذلك لم يبقَ للتفاؤل ولا للتطير موضع، ولم يبقَ لسوانح الطير ولا لبوارحها أثر في إرادة الإنسان، ولم يبقَ لأحد أن يقرأ في النجوم مصاير الأفراد والأمم؛ فإنما يجري كل شيء في الكون وفاق سنة الله، ولن تجد لسنة الله تحويلًا ولا تبديلًا.
تحرر العقل العربي من رق الوثَنِيَّة، وآمن بالله خالق كل شيء، وتحرر بذلك من رق الوهم والعبودية لكثير من الشعائر التي فرضتها عليه الجاهلية، فتفتح للنظر فيما جاء من عند الله وتهيأ للأخذ به، وكان لهذا التحرر أثره العظيم في الحياة الاجتماعية، كما كان له أثره العظيم في الحياة الدينية.
ولا ريب أن هذه الثورة كانت أعنف فعلًا في نفوس العرب من الثورة العقلية التي انتهت إلى تحطيم الأصنام، ونفي الشرك، وتوحيد الله، فقلوبنا وعقولنا تسرع إلى الحرية تستضيء بنورها، متى حُطِّمت من حولها الأغلال التي تقيدها، والأمر كذلك ما كان مقصورًا على تفكيرنا وعلى عقائدنا الذاتية؛ فإذا امتد الأمر إلى سلطاننا في الحياة وصلاتنا بغيرنا فلشَدَّ ما نتردد في الإذعان له والتسليم به، وإذا سلمت عقولنا حاولنا مع ذلك أن نستبقي سلطاننا أو نسترد ما ضاع أو نقص منه؛ لأن شهواتنا تحملنا على ذلك حملًا وتدفعنا إليه دفعًا، ومهما يَسْمُ العقل على الشهوة، ومهما يستطيع التحرر لإدراك المعاني العليا، فللغريزة التي تستند إليها الشهوة حكمها، ولا أدل على ذلك فيما نحن بصدده من حديث لعمر بن الخطاب نفسه، روى مسلم بإسناده أن عمر قال: «والله إن كنا في الجاهلية لا نَعُدُّ للنساء أمرًا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقَسَمَ لهن ما قسم، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا؟ فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا، وما تكلفك في أمر أريده! فقالت لي: عجبًا لك يا بن الخطاب! ما تريد أن تُراجَعَ أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان! قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله ﷺ حتى يظلَّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه! فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله ﷺ إياها! ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت لي أم سلمة: عجبًا لك يا بن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله ﷺ وأزواجه! قال عمر: فأخذتني أخذًا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد فخرجتُ من عندها.»
جرى هذا الحديث بين عمر وحفصة وأم سلمة في السنة التاسعة من الهجرة، بعد أن أنزل الله تعالى في النساء ما نزل وقسم لهن ما قسم، فإذا كان ذلك شأن عمر، وهو من هو قربًا من رسول الله وامتثالًا لتعاليمه، فما بالك بغيره من العرب المنتشرين في شتى الأرجاء من شبه الجزيرة! لا شك أنه كان بينهم وبين أزواجهم وبناتهم وذوي قرابتهم مثل الذي كان بين عمر وابنته وأم سلمة أو أعنف منه، ولا شك أن النساء قد أصررن على ما فرض الله لهن من حق لم يكن للرجال أن ينكروه عليهن أو يناقشوهن فيه وقد آمنوا بالله وكتابه ورسوله.
كان ما نزل في النساء من هذه الآيات وأمثالها جديرًا بأن يؤدي إلى انقلاب اجتماعي خطير في الحياة العربية، فالمرأة أساس الأسرة، والأسرة أساس القبيلة والأمة والاجتماع كله، واحترام الرجل للمرأة واشتراكها معه فيما تؤهله لها طبيعتها من شئون الحياة، يدفع إلى الحياة روحًا وقوة لا سبيل إليهما إذا هي عوملت معاملة الرقيق وأقصيت عن كل شركة في شئون الحياة، هذا إلى أن إكرام المرأة يسمو بالفن الجميل إلى ذرًى يقصُر دونها إذا هي حُبست في حدود أنها متاع الرجل وخادم بيته، ولعلك تلحظ ذلك في الشعر الجاهلي؛ فأكثر ما فيه عن المرأة يضعها موضع المتاع، ولا يجعل لها مكانًا من قلب الرجل أو من تقديره إلا في حدود هذا المتاع، والمعلقات السبع تشهد بهذا وتؤيده، وأنت تذكر أن نساء قريش خرجن مع مقاتليها للثأر من هزيمة بدر، فلما التقوا هم والمسلمون في أُحُدٍ، كُنَّ يحرضن الرجال فيقلن:
فلم يكن الظفر بالعدو، إعزازًا للوطن وثأرًا للكرامة، جزاءً كافيًا لأبطال قريش في نظر نسائها، بل كان عناقهن الرجال وفرشهن النمارق لهم جزاء أوفى لمن أقبل، وكان فراقهن الرجال عقابًا أنكى لمن أدبر ونكص على عقبيه، ولو أن علاقة الرجل والمرأة لم تُقْصَر على المتاع كشأنها في الجاهلية، بل قامت على المودة والرحمة على ما جاء في القرآن، لكان لنسوة قريش غير هذا الرأي في مثوبة أبطالها وفي عقابهم.
لم يكن الانقلاب الاقتصادي الذي جاء به القرآن دون الانقلاب الاجتماعي أثرًا، فقد كان للأغنياء من التجار والمرابين ومن إليهم مكان في الجاهلية يتطلع إليه الفقراء والعمال بعين الإكبار، وإن لم يحملهم الإكبار على النزول عن حريتهم وأنفتهم، وكان الأغنياء لذلك إذا أعطوا فقيرًا أعطوه مشفقين، ثم مَنُّوا بإشفاقهم مَنَّهم بعطائهم، واتخذوا العطاء وسيلة ترتفع بها مكانتهم بين الناس فوق رفعتها.
هذا توجيه جديد من اليسير عليك أن تقيم على أساسه مذهبًا كاملًا للاشتراكية الإسلامية، وهو توجيه لم يكن مألوفًا بين العرب بمثل هذه القوة، فالناس في كل العصور يتحدثون عن الإحسان وعن العطاء على أنهما فضل ممن أعطى، وليسا حقًّا لمن أخذ، أما القرآن فيعتبرهما حقًّا هو وحده الذي يطهر مال الغني مما يخالطه من الإثم؛ لذا كان لهذه النغمة أثرها القوي في انتشار الإسلام أول نزوله، وكان لها أثرها من بعد في تطور الجماعة الإسلامية هذا التطور السريع الذي رأيت.
كان لهذا التنظيم الاقتصادي أثره في الحياة الاجتماعية، وكان هذا الأثر قويًّا عميقًا زاده عمقًا وقوة أنه لقي التأييد الحار من جانب الكثرة الكبرى من المسلمين، ولذا ظل المسلمون ينكرون الربا بكل ما أوتوا من قوة إلى هذا العصر الأخير.
اقترن الانقلاب الديني والانقلاب الاجتماعي في بلاد العرب بالانقلاب السياسي الذي أدى إلى وحدتها بعد شتات، وبالتوسع في الفتح توسعًا رأينا أي مدى بلغ في عهد عمر، وقد تضافرت هذه العوامل فنقلت العرب، في حياتهم العمرانية وفي حياتهم الاقتصادية، نقلة لم تَدُرْ لهم ولا لآبائهم بخاطر، فقد انتقل الألوف وعشرات الألوف من أهل البادية إلى حضر الشام، وأقام الكثيرون منهم بين الرياض والغياض في دمشق وحمص وقِنَّسْرين والمدائن والكوفة والبصرة وفي غير هذه من المدن الزاهرة والعامرة، وقد رأوا في الإسكندرية وفي منف وطيبة وفي غيرها من بلاد مصر عمارة وصناعة وريفًا خصبًا وظلًّا وارفًا، وقد اجتمع لهم من الفَيْء والعطاء رزق حسن يجنبهم شظف العيش بل يعوِّدهم لينه وييسِّر لهم مُتَعه، ثم إنهم رأوا في بنات الأصفر من الروم والشام وفي عذارى مصر وظباء العراق جمالًا غير الذي ألفوا في بدوهم وحضرهم، جمال الحياة الناعمة اللينة، كما وجد بعضهم في نبيذ هذه البلاد المفتوحة طعمًا سائغًا وفعلًا رفيقًا، وإلى جانب هذا كله كانت تقوم آثار الفن بارعة رائعة في معابد الروم ومقابرهم وما فيها من تماثيل وفنون أبدع صناعها في تصويرها أي إبداع، وفي كنائس المسيحيين وأديارهم وما فيها من صور تكاد تنطق بما أراد مصوروها أن تنطق به، هذا إلى ما كانت مدرسة الإسكندرية تذيعه في الناس من مبادئ وآراء، ومن علوم وفنون، وما كان يذيعه الروم والفرس في دمشق والمدائن من تعاليم وآداب أثمرتها حضارات نضجت على القرون ثم آن للعفاء أن يجر عليها ذيله.
ترى أي أثر أدى إليه اجتماع هذه العوامل الكثيرة في حياة العرب الاجتماعية لذلك العهد؟
تقتضينا الإجابة على هذا السؤال أن نضم إلى هذه العوامل عاملًا وجَّهها جميعًا، هذا العامل هو عمر نفسه؛ فقد كان لاجتهاده في الفقه والسياسة والاقتصاد والاجتماع أثر أعظم الأثر في الجماعة الإسلامية كلها وفي العرب جميعًا، سواء من أقام منهم في شبه الجزيرة ومن استوطن البلاد المفتوحة، وسنفصل شيئًا من هذا الاجتهاد في الفصل التالي، وهذا الاجتهاد هو الذي عصم الحياة الاجتماعية في عهده من التدهور، وهو الذي حفظ للروح الإسلامي سُؤْدده على نفوس المسلمين حيثما كانوا، وهذا فضل لعمر عظيم يضاف إلى سيرته العادلة في الحكم، وإلى اضطلاعه بأعبائه في قوة وبراعة.
فقد أدرك بإلهامه أن النفس الإنسانية، حين تندفع إلى السمو الروحي، مُعَرَّضة دائمًا لجواذب الأهواء تميل بها إلى المستوى الذي يلائم طباعها وسلائقها، كطائرة ترتفع محلقة في الجو، وهي معرضة أبدًا للانحدار، بحكم جاذبية الأرض، إذا ضعفت القوة التي رفعتها في أجواز الأثير، فإذا لم يصرف أمير المؤمنين عنايته لمقاومة أسباب الضعف في نفسه أولًا ليكون الأسوة لغيره، ولمقاومة أسباب الضعف في نفوس الناس جميعًا، خيف أن تنحرف المبادئ التي أدت إلى السمو والقوة عن وجهتها وأن تتغلب عليها السلائق والأهواء الدنيا، وأن يعود الناس سيرتهم الأولى مُصَوَّرة في ظاهر جديد يظن الناظر إليه أنه يتفق مع مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقد رأيت كيف بلغ عمر من القسوة بنفسه، كيما يحس إحساس أفقر المسلمين وأضعفهم، حتى أشفق أصحابه في حين من الأحيان على حياته، وقد جعلته قسوته بنفسه في حلٍّ من أن يقسو بكل من يراه مخالفًا لموجب العدل والتقوى، أو منحرفًا عن سبيل النزاهة والخلق القويم، بذلك استطاع أن يحاسب عماله الحساب العسير، وأن يعزل منهم من رأى فيه اعوجاجًا مع المحافظة على هيبة المحسنين منهم وتقوية سلطانهم، وأن يجتهد في بعض الحدود والأحكام اجتهادًا لم يعرفه الناس في عهد أبي بكر ولا في حياة الرسول، وأن يستن في الاقتصاد والاجتماع سننًا صارمة رآها تكفل لمبادئ الدين القيِّم أن تظل في صفائها ونقائها.
ومن الشطط أن يطلب إنسان إلى أمة العرب لذلك العهد أن تنتقل في فلسفة التوحيد إلى ما فصله الغزالي والفارابي وابن رشد وغيرهم من بعد، وحسبها أنها آمنت بالعقائد والقواعد التي جاء بها الرسول من عند الله، وأنها اتخذت هذه العقائد والقواعد أساسًا لعباداتها ونظم حياتها ومعاملاتها، ثم حسبها بعد ذلك فخارًا أن أقامت القواعد من الإمبراطورية، فشاد أبناء هذه الإمبراطورية رويدًا رويدًا مبادئ الحضارة التي وجهت الإنسانية قرونًا طويلة من بعد، فإذا ذَكَرْتَ أن هذا الانتقال لم يكن بالأمر الهين وذكرت جهاد رسول الله وأصحابه في سبيله، وقدرت حال العرب في ذلك الطور من حياة الإنسانية، وجب عليك أن تنظر في كثير من التسامح ما بقي بين العرب من عاداتهم القديمة التي لم يحرمها الإسلام، وإلى ما اندفعوا إليه بحكم التطور الذي أقام الإمبراطورية، بعد أن أفاء عليهم من الأموال والنعم ما لم يكن لهم من قبل به عهد.
والواقع أن العرب لم يكونوا في ذلك طرازًا وحدهم، ولم يخرجوا فيه على مألوف الجماعة الإنسانية في كل العصور، فما أكثر ما في التاريخ من شواهد على أن الثورات لا تغير من ميول البشر وعاداتهم، بقدر ما تغير من مسارح تفكيرهم ونظم جماعتهم! فهم ينتهون إلى التسليم برأي من الآراء أو بمبدأ من المبادئ وإلى الإيمان به، ومع ذلك تراهم لا يلبثون أن يكيفوا ما تفرضه عليهم سليقتهم من ميول وأهواء ليسلكوها في نطاق هذا المبدأ، وفي نطاق النظام الذي يقوم على أساسه، ذلك بأن الكثرة الكبرى من الناس تتأثر بدوافع الغريزة ومغرياتها أضعاف ما تتأثر بالمُثُل العليا التي تُرسم لهم وتتراءى أمامها، وهذه الكثرة شديدة الرجاء دائمًا في التخلص من الجزاء الذي يترتب على اندفاعها مع أهواء الغرائز ودوافعها، وهي تلتمس هذا الرجاء في الاستتار عن أعين الناس حينًا، وفي شبهة القاضي يدرأ بها الحد حينًا آخر، وفي مغفرة الله دائمًا، أليس عفوه وغفرانه قد وسعا كل شيء؟ أَوَلَا تُجْزَى الحسنة عنده بعشر أمثالها، ولا تُجزى السيئة إلا بمثلها؟ ويا بؤس الإنسان إذا لم يكن له في عفو الله مطمع! وما أكثر ما يجد الإنسان في خلق الله من متاع! فمن استحل منه ما أحل الله، وحرم على نفسه ما حرم، وعمل صالحًا، فله أجره عند ربه، ومن زلقت به القدم وأغرته النفس الأمارة بالسوء ثم تاب وأناب، فإن الله يقبل التوبة من عباده.
ماذا بقي من عادات الجاهلية في حياة العرب الاجتماعية بعد إسلامهم؟ وماذا طرأ عليهم في هذه الحياة حين انفسحت إمبراطوريتهم، واستقر الألوف منهم خارج شبه الجزيرة؟
أيها الناس إن الله تعالى أَذْهَبَ عنكم نَخْوَةَ الجاهلية وفَخْرَها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى.
مع ذلك بقيت العصبية القبلية متأصلة في نفوس أكثر العرب، وبقي التعصب للجنس العربي قويًّا فيهم جميعًا؛ بل لقد تضاعف هذا التعصب للجنس بانتشار العرب في ملك فارس والروم وحكمهم أهله، وأيقن العرب أن ما ألقاه القدر عليهم من رسالة وَقْفٌ عليهم لا يشاركهم فيه أحد.
والأمثلة على بقاء التعصب للقبيلة كثيرة في التاريخ، وقد حدث من ذلك في حياة النبي أن تفاخر الأوس والخزرج وذكروا يوم بُعَاث وقال أحدهم: «إن شئتم والله لَنُعِيدَنَّها جَذَعَة.» ولولا أن تدخل النبي بينهم وأعاد إليهم إخاءهم لكان بين الفريقين شر، وقد سكن التعصب للقبيلة في العهد الأول من حكم الخلفاء؛ لأن اشتغال المسلمين بالفتح أمات ما بينهم من منازعات، فلما اختلف علي ومعاوية عادت العصبية للقبيلة سيرتها الأولى، وعاد ما كان بين بني هاشم وبني أمية إلى مثل ما كان في الجاهلية، ولا تزال هذه العصبية للقبيلة قوية في العرب أهل البادية إلى وقتنا الحاضر، سواء في ذلك من أقام منهم في شبه الجزيرة ومن أقام خارجها.
وليس لنا أن نؤاخذ العرب بتعصبهم لجنسهم؛ فالتعصب للجنس كان ولا يزال سنة في الأمم تأخذ بها وتعمل على تقويتها، ألا يزعم الجنس الأبيض اليوم أن القدر اختاره ليرقى بالأجناس الملونة، على تعبيرهم، في مدارج الحضارة! أوَلَا يزعم الجنس الآري أنه أفضل من الجنس السامي ومن سائر الأجناس؛ وأنه أحدُّها ذكاء، وأدقها منطقًا، وأكثرها في العلم والفن ابتكارًا وإنتاجًا! والجنس السكسوني والجنس الألماني يدعي كل منهما لنفسه مثل هذه الدعوى التي يتشدق بها كل من بسم له الحظ، فجعل له سلطان البطش بالشعوب الأخرى في طور من أطوار التاريخ الإنساني، وهؤلاء جميعًا يتشدقون بهذه الدعوى وهم يعرفون ما يثبته التاريخ من أن السلطان دول، فهو ينتقل بين الأجناس والألوان والأمم في أطوار تتصل بالحياة المعنوية حينًا، وبالحياة الاقتصادية حينًا آخر، ولا علاقة له البتة بجنس بذاته ولا بلون بذاته، فإذا كان العرب قد بالغوا في التعصب لجنسهم، يوم كانوا الغالبين وكانت مقاليد الحضارة في أيديهم، فلهم من العذر أنهم جروا على السنة التي تجري عليها الأجناس كلها والشعوب جميعًا؛ فتعصبوا لعربيتهم، وإن خالف هذا التعصب مبادئ الإسلام، ودعوته الصريحة القوية إلى الإخاء والمساواة.
سكنت العصبية للقبيلة، وسكنت الثارات في عهد عمر؛ لأن المسلمين شغلوا بالجهاد والفتح، على أن ما أفاءه الفتح عليهم من مغانم، وما بدله مِن حياة مَن سكن الحضر في العراق والشام ومصر من أهل البادية، أثار في كثير من النفوس نزعتها الأولى للمتاع المادي بالحياة.
فقد كان للعرب في جاهليتهم غرام بالنبيذ والخمر، وولع بالنساء والغناء، وافتتان في إشباع الشهوات بالقدر الذي ييسره لهم حظهم من الرخاء أو من شَظَف العيش، فلما كان الفتح وعظم حظهم من الرخاء فصارت أسباب المتاع في متناول أيديهم، هرع الكثيرون منهم إلى إرضاء ما أحبت نفوسهم من قبل، وما أسرع ما هيأ لهم المنطق وسيلة الاقتناع بأنهم لا يخالفون في ذلك ما أمر الله به وما نهى عنه وما أقام حدوده! بذلك عاد منهم إلى الشراب من عاد، وهو يزعم أن لا إثم عليه فيما يتناوله منه؛ فلم يفرض الله حدًّا لشارب، ولم ينزل رسول الله ولم ينزل أبو بكر بشارب عقابًا، أما النساء فقد أرضى وَلَعَ الكثيرين بهن ما ملكت أيمانهم منهن؛ فقد كانت سبايا الفرس والروم، ومنهن فاتنات الجمال والدلال، يُقْسَمْنَ بين الجند كما تُقسم أموال الفيء، ويعرضن في الأسواق رقيقًا يبتاع منهم من شاء أن يُرضي بهن هواه.
وإن كتب الأدب وكتب التاريخ لتقص من ألوان هذا المتاع بالخمر والميسر والنساء الشيء الكثير، سقنا من قبل حديث أولئك النفر من المسلمين الذين شربوا الخمر بالشام فسألهم أبو عبيدة، فلم ينكروا لكنهم تأولوا وقالوا: خُيِّرنا فاخترنا؛ قال: هل أنتم منتهون، ولم يعزم علينا. وقصصنا كذلك حديث عبد الرحمن بن عمر حين شرب الخمر بمصر، وذهب إلى عمرو بن العاص ليقيم عليه الحد، وذكرنا نبأ أولئك الذين رآهم عمر ليلة يشربون بظاهر المدينة، فلما سأل أحدهم الغداة عما كانوا يفعلون أجابه: ألم ينهك ربك عن التجسس! وهذه أمثال سقناها في مناسباتها، وهي مع ذلك تدل على أن الشراب كان فاشيًا في بعض طبقات المسلمين لذلك العهد، مع ما كان من شدة عمر في تحريمه وإقامة الحد عليه.
وما يُروى عن حديث النساء أكثر استفاضة، وبعضه ينسب إلى أشخاص لهم مكانتهم، وقد رأينا كيف كان اصطفاء ذوات الجمال من السبايا أمرًا جاريًا مجرى العادة، لا ينكره أحد، ولا يلام من أجله أحد، وقد اصطفى علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وغيرهما من كبار الصحابة سبيات من الفرس والروم أنجب بعضهن ولم ينجب بعضهن الآخر، ويروي صاحب الأغاني أن عبد الرحمن بن أبي بكر استهيم بليلى بنت الجودي الغساني، وكان قد رآها ليلة في بيت المقدس في جوارٍ ونساء يتهادين، فإذا عثرت إحداهن قالت: يا ابنة الجودي، وإذا حلفت إحداهن حلفت بابنة الجودي، وكانت ليلى تقيم بدمشق؛ فلما فتحها المسلمون سبوها وغنموها لعبد الرحمن، فسار بها إلى المدينة وأقام معها مفتونًا بها فتنة جنون، وتحدث الناس بغرامة وما يصنع، حتى كلمته شقيقته عائشة أم المؤمنين وذكرت له حديث الناس، فلم يزد على أن قال: «يا أُخَيَّة دعيني، فوالله لكأني أرشف من ثناياها حب الرمان!»
وبادلته ليلى أول الأمر حبًّا بحب وغرامًا بغرام، وسرها أنها كانت في بيته الملكة المتفردة بالأمر على كل ما فيه ومن فيه، لكن مر الأيام دسَّ إلى قلبها حنينًا لأهلها، ولما كانت تستمتع به من مكان الملك بينهم، ولا عجب، فأين حياتها بالمدينة من حياتها في قصر الإمارة بدمشق بين الغياض والرياض من جناته الفيحاء! وأين عيشها مع عبد الرحمن مما كان لها في قصر أبيها من أسباب الخفض والنعمة! كان لها في هذا القصر بساط يُمد لها إذا ذهبت إلى حاجتها، وكان يُرمى بين يديها برمانتين من ذهب تتلهى بهما في طريقها، وكان لها بدمشق جَوارٍ يخطئهن العَدُّ، وهي بالمدينة جارية وإن نالت عند سيدها من الحظوة ما نالت، وزاد بها الحنين، فكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها ثم رجع إليها رأى في عينيها البكاء، فإذا سألها: ما يبكيك؟ لم تُحِرْ جوابًا، وقال لها يومًا: اختاري خصالًا أيها شئت فهي لك: إن شئت أعتقتك وتزوجتك، وإن شئت رُدِدْتِ على قومك، وإن أحببت رددتك على المسلمين، وأبت كل ما عرضه، فألح عليها يسألها عن سبب بكائها فقالت: «أبكي الملك من يوم البؤس!» وحزت هذه الكلمة في نفس عبد الرحمن، ورأى فيها من التنكر له وإنكار جميله ما غير قلبه على ليلى، فأعرض عنها وزادها إعراضه ألمًا، فمرضت وشحب لونها وانطفأ نورها وذهب جمالها، فملَّها عبد الرحمن، وهانت عليه وأساء معاملتها، وبلغ من بؤس الأميرة الأسيرة أن تحرك قلب عائشة أم المؤمنين رفقًا بها وشفقة عليها، فقالت لأخيها: «يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تُنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها!» وجهزها عبد الرحمن فرجعت إلى أهلها كاسفة البال كسيرة الطرف، وقضت بينهم بقية حياة حُرمت خير أنعم الحياة.
ليست قصة عبد الرحمن بن أبي بكر فريدة في نوعها، وإذا كان لهذا النوع من القصص المنثورة في كتب الأدب والتاريخ دلالة، فهي أن العرب طبعوا على حبهم المرأة وغزلهم بالنساء بعد الإسلام، وأنهم وجدوا في سبايا الفتح ما زادهم في التعلق بالنساء افتتانًا، كانت قصة عبد الرحمن وأشباهها مما يقع بالمدينة، ما بالك بما كان يقع بالكوفة والبصرة وبدمشق وحمص وبالفسطاط والإسكندرية! وأنت تذكر قصة أم جميل إحدى نساء بني هلال، وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف، فغَشِيت المُغِيرة بن شُعْبَةَ وهو على ولاية البصرة، فاتهمه فيها قوم عند عمر فعزله عن ولايته، والطبري يسوق قصة أم جميل هذه وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف، ويقول: «وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها.» أي في عهد عمر.
ربما فسرنا بعض الذي كان من إقبال كثيرين على الشراب وعلى النساء وعلى غير هذين من مُتَعٍ كان العرب يحبونها قبل إسلامهم، أنهم كانوا في حرب دائمة وقتال متصل، فإذا رجعوا من الميادين كانوا على أهبة دائمة للعود إليها، فقد كانت البصرة والكوفة وبلاد كثيرة غيرها في العراق والشام مسالح تضم الجند العائد من القتال والمتأهبين له، ونحن نشهد اليوم والتاريخ يحدثنا في أنباء ما سلف من العصور أن الحرب تثير في كثير من النفوس شهواتها وتدفعها لإمتاع هذه الشهوات وإشباعها، والسر في ذلك أن الجند لا يجدون إذا فرغوا من القتال، ما يملئون به فراغهم إلا أن يذكروا فِعالهم يفاخرون بها، وفعال زملائهم الذين خروا صرعى في حومة الوغى يتحدثون عنها، ولم تكن المعارك في ذلك العهد تستنفد من الوقت ما تستنفده معارك هذا العصر، وقد رأينا معركة القادسية لا تستغرق أكثر من ثلاثة أيام، ورأينا معركة نَهاوند تنتهي في مثل هذا الوقت أو في أقل منه، ولم يكن القتال ليطول إلا أن يحاصر المسلمون مدينة منيعة كدمشق أو قَيْسَارِيَّة أو بابليون أو الإسكندرية، وكان الجند كلما انتصروا عادوا بالغنائم والأسلاب، ومن بينها السبايا من نساء البلد المفتوح وبناته، وكثيرًا ما يحدث في الحروب أن يستباح البلد المفتوح أيامًا عقب الفتح يُرْخى للجند فيها العنان، يأكلون ويشربون، ويستمتعون بكل ما طاب لهم أن يستمتعوا به، وكان الذين يعودون من الفتح بالسبايا في حلٍّ من الاستمتاع بما ملكت أيمانهم منهن، فأما من لم يكن له منهن حظ يرضيه، ثم هوت نفسه إلى المتاع، فقد كان يلتمس بعد أوبته وسيلة متاعه، ذلك شأن الجند في كل عصر، وهو شأنهم اليوم، وهو يفسر لنا بعض ما ترويه كتب الأدب والتاريخ لما حدث من مثله في عهد الفتح الإسلامي.
على أن هذا التفسير لا يكشف لنا عن السر في حرص العرب على هذا المتاع، بعد أن انقضى عهد الفتح والغزو، فقد ظل كثيرون يتوفرون على الشراب ويولعون بالنساء في عهد الأمويين، وفي عهد العباسيين، وفي عهود الانحلال التي تلت هذين العهدين، ولم يكن الرأي العام شديد الإنكار على أصحاب هذا المتاع، بل كان الناس يحسنون الاستماع لما يروى عنهم وما يوصف به متاعهم، ولا أحسبني أعرف شعرًا بلغ من الافتنان في الخمريات وفي الغزل ما بلغه الشعر العربي، والشعر الإسلامي يستمد الوحي في هذين البابين من الشعر الجاهلي أكثر مما يستمده منه في غيرهما، فإذا كان في طبيعة القتال أن يثير الشهوات وأن يدعو إلى الإمعان في إرضائها، فهو إنما يثير الشهوات الأصيلة في النفس ولا يخلق غيرها؛ لذا لم يزد الفتح العربي على أن أثار في بعض النفوس شهوات جاهلية وقف منها عمر موقفًا حازمًا نتحدث عنه بعد حين.
لكن عمر لم يقف مثل هذا الموقف مما أحله الإسلام من ألوان المتاع السائغ عند بني جنسه، من ذلك أن العرب كانوا من أكثر الشعوب حبًّا للغناء وولعًا بسماعه، بل كان الغناء من حاجات حياتهم وضرورات عيشهم، فحُداؤهم الإبل كان ينسيهم وينسي إبلهم وَعْثاء السفر ويهون عليهم مشقته، فإذا نزلوا منزلًا يستريحون فيه بعد طول السُّرى كان الغناء بعض سلوتهم، وبخاصة إذا كان بينهم مطرب رخيم الصوت حسن الإيقاع تحيي أنغامه ما في نفوسهم من حنين للأهل، أو حرص على الثأر، أو تطلع للمجد، وقد شاع ذلك في باديتهم وفي حضرهم، فكانت مجالس الغناء تعقد بمكة والمدينة وغيرهما من بلاد شبه الجزيرة، كما كانت تعقد في أرجاء البادية من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، وكان عمر نفسه، على ما عُرف من شدته وغلظته، يطرب للغناء ويردده أحيانًا. خرج رهط من الشبان في ركب فيه عمر وعثمان وابن عباس، وفيه رباح الفهري الذي كان يجيد الحداء والغناء، فلما أمسوا سأل الشبان رباحًا أن يَحْدُوَ لهم فأبى وقال: مع عمر؟ قالوا: احْدُ، فإن نهاك فانْتَهِ، فحدا فلم يعترض عمر، بل طرب لسماعه، فلما كانت ساعة السَّحَر قال له: كف! هذه ساعة ذِكْرٍ، وسأل الشبان رباحًا في الليلة الثانية أن ينصب لهم نَصْبَ العرب، وقالوا له حين أبى خوفًا من عمر: انصب فإن نهاك فانْتَهِ، وسمع له عمر حتى ساعة السحر ثم قال له: كف! فإن هذه ساعة ذكر، وسأل الشبان رباحًا في الليلة الثالثة أن يغنيهم غناء القِيان، فلم يَكَدْ يبدأ حتى صاح به عمر: كف فإن هذا ينفر القلوب!
وخرج عمر مرة للحج، فاقترح من معه على خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ أن يغنيهم من شعر ضِرَارٍ، قال عُمَرُ: بل دعوا أبا عبد الله فليغنِّ من بُنَيَّاتِ فؤاده، وغنى خَوَّات وطرب عمر، حتى إذا كان السَّحَر قال له: ارفع لسانك يا خَوَّات فقد أسحرنا.
وتغنَّى عمر وهو في ركب:
فاجتمع الركب يسمعون إليه، فلما رآهم اجتمعوا قرأ القرآن فتفرقوا، وتكرر ذلك منهم ومنه، فصاح بهم: يا بني اللقطاء! إذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم!
وَنَهْيُهُ رَباحًا عن غناء القِيان بعد استماعه له وهو يحدو وهو ينصب، وغضبه من الذين تفرقوا حين قرأ القرآن بعد اجتماعهم لسماعه يتغنى بالشعر، يشهدان بأنه كان يحب السماع ويحب الغناء، ولقد كان يحب الغناء يُحسن صاحبه التعبير عن المعاني التي ترضاها النفس الكريمة، ولا ينزل إلى حيث يستهوي في النفس نوازع ضعفها ونزغ شهواتها، وكان على حبه الغناء والاستماع له، يؤثر عليه سماع القرآن وتلاوته، ولا عجب وقد كان عمر إذا سمع القرآن وهو مغضب سكت عنه غضبه، وكثيرًا ما كان يستدرُّ مَآقيه دموعًا تعبر عن عمق إيمانه وصدق إسلامه، ولا عجب وقد كان ضعف النفس لأمرها بالسوء شر ما يعاب به الرجل عند عمر.
وإنما نهى عمر عما يحرك في النفس نوازع الضعف ونزغ الشهوة لما رأى من سوء أثره في حياة الجماعة، وحياة الجماعة وقوة هذه الحياة ونشاطها وتوثبها إلى الأغراض السامية واجبات يضطلع بها الحاكم، كاضطلاعه بحفظ النظام في الدولة والمحافظة على سلامتها؛ لأن هذه القوة وهذا النشاط وهذا التوثب كلها أدوات للنظام والسلامة، وليست الأقوال دون الأفعال أثرًا في هذه الحياة. كان المديح وكان الهجاء من أغراض الشعر العربي في الجاهلية ثم ظلا من أغراضه في الإسلام، ولا يزالان من أغراضه إلى اليوم، وكان بعض الشعراء يغلون في مدائحهم وأهاجيهم غلوًّا يحرك الحفائظ ويثير المنازعات، فكان عمر يؤاخذ هؤلاء الشعراء، ويأخذهم بالشدة التي تردعهم وتردهم عن الاسترسال في غيهم.
وكان عمر مشغوفًا بالشعر، يرويه ويتمثل به ويحث على روايته، فلما شكا الزبرقان إليه الحطيئة أراد أن يدرأ التعزير بالشبهة، فقال حين سمع هذا البيت: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة، ثم إنه سأل حسان بن ثابت وهو الخبير في الشعر، فلما شهد بإفحاش هذا البيت في الهجاء، حبس الحطيئة ثم أنذره ألا يعود إلى مثل ما فعل، ولم يعد الحطيئة إلى الهجاء إلا في خلافة عثمان.
وحبس عمر الشاعر الذي هجا بني العجلان بأبياته التي يقول فيها:
حبسه وضربه، وأنذره إن عاد لمثلها ضاعف عقوبته.
وإنما عاقب عمر الشعراء الهجائين فحبسهم وضربهم وعزرهم وأنذرهم، مع شغفه بالشعر وروايته، لما يعلمه من أن القول أعمق في حياة الجماعة الإنسانية أثرًا من كل ما سواه، فالناس، من طفولتهم إلى ختام حياتهم، يتأثرون به ويندفعون إلى أعمالهم بما يُلقنونه منه: عقائدنا وعاداتنا وعلمنا وتفكيرنا وعواطفنا وميولنا تتكيف كلها بما نسمعه منذ طفولتنا من أهلنا وأساتذتنا وأصحابنا، وما نقرؤه في كتب من سبقنا، والمديح والهجاء كانا سائغين في الجاهلية، بل كانا من المقومات الأساسية للحياة الاجتماعية فيها، ثم كانا صيحة الحرب والدعاية حين تندفع قبيلة لتثأر من قبيلة، وإذا كان القتال من مألوف الحياة إذ ذاك، فقد كان الشعراء يشيدون بمحاسن إحدى القبيلتين وينشرون مثالب الأخرى، أما وقد أصبح العرب أمة واحدة تقف في وجه عدوها صفًّا واحدًا، فقد وجب أن تزول هذه العادة الجاهلية من حياة الأمة الاجتماعية، وقد وجب على أمير المؤمنين أن يعمل لذلك جهده، وزوالها أوجب في عهد النضال والفتح، لما يقتضيه من تآلف القلوب وتضافر القوى واتجاه الأمة بأسرها في وحدة لا انفصام لها لمواجهة العدو والقضاء على كل مطامعه.
وقد كانت سياسة عمر في القضاء على هذه النعرة القَبَلية موفقة، بل كانت كلها السداد والحكمة وبعد النظر، أقرر هذا وأنا أشد الناس إيمانًا بحرية الرأي وحرية التعبير عنه بالقول وبالكتابة، وبكل ما عرفت الإنسانية وما ستعرف من وسائل التعبير، ذلك بأن الرأي شيء، والهجاء والقذف شيء آخر، الرأي فكرة أو مجموعة من الأفكار تصدر عن المنطق أو عن الوجدان، وغاية صاحبه منه أن يكون الناس أقل شقاء أو أسعد حالًا مما هم فيه، قد يخطئ صاحب الرأي وقد يصيب، وأنت في حِلٍّ من أن تحارب الرأي إذا اعتقدته خاطئًا، لكنك لا تملك أن تحارب صاحب الرأي إلا أن تقيم الدليل على سوء نيته في إبدائه، وعلى أنه لم يقصد به إلى خير عام ومصلحة يشترك فيها الناس جميعًا، فإذا استطعت إقامة هذا الدليل لم يَسُغْ لك مع ذلك أن تتناول من حياة صاحب الرأي الخاصة ما لا يتصل بالرأي الذي أبداه، أو بالعمل الذي يريد أن يرتبه على هذا الرأي، أو بما أقمت عليه الدليل من سوء قصده، في هذه الحدود وحدها أنت في حِلٍّ من أن تحاربه وأن تبلغ في حربه ما شئت من شدة وعنف، أما أن تتعرض إلى ما وراء ذلك من حياته فذلك هو القذف، وهو الهجاء والإقذاع فيه، وهو ما لا يجوز لقانون أو لحاكم أن يبيحه، بل يجب أن يعاقب مرتكبه عقابًا رادعًا في بدنه وفي ماله، وأن يبلغ هذا العقاب من الشدة بحيث يصون لأصحاب الرأي وللعاملين للخير العام حريتهم في رأيهم وفي عملهم، بقدر ما يصدهم النقد النزيه عن تجاوز الحق في الرأي والخير العام في العمل.
أدت سياسة ابن الخطاب في محاربة الهجاء والهجائين إلى استنامة الحفائظ وسكون كل ما يثيرها، ولا أدلَّ على ذلك مما تلوته من قول الحطيئة حين تغنى بعد عمر بأهاجيه: «رحم الله ذلك المرء! أما لو كان حيًّا ما فعلنا هذا.» لكن الهجاء لم يلبث أن عاد بعد عمر، وأصبح من مألوف الحياة الاجتماعية في الجماعة الإسلامية، على أنه لم يعد كما كان أداة دعاية للقبائل في منازعاتها بقدر ما أصبح أداة تكسب وارتزاق، أو أداة إرضاء للأهواء وإشباع للشهوات، وكذلك كان الشأن في غير الهجاء من مألوف الحياة الاجتماعية قبل الإسلام، ولا عجب فقد بقيت في نفوس أكثر العرب الذي أسلموا نزعات جاهلية لم يستطيعوا التغلب عليها، بل لعلهم لم يحاولوا هذا التغلب.
كان عمر من خير المسلمين إدراكًا لأصول الدين وقواعده، ومن أحسنهم تقديرًا لما يؤدي إلى إقرار هذه الأصول واستقرار هذه القواعد؛ لذلك حرص على أن ينفي عن الجمعية الإسلامية ما لا يقره الإسلام مما ألِف العرب في جاهليتهم، وأن يصبغها بصبغة الدين الجديد في مظاهر حياتها جميعًا، والإسلام إمبراطوري في جوهره، وإمبراطوريته روحية أولًا وقبل كل شيء، وهو لذلك يؤلف بين القلوب بروابط الإخاء والمساواة، «فلا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» لا مفر للأمين على مبادئ هذا الدين إذن من أن يذود عن مبادئه كل ما يخالف أغراضه أو يعطل تحقيقها.
•••
أنت ترى، من كل ما سقناه في هذا الفصل، أن الحياة الاجتماعية تطورت في عهد عمر متأثرة بعوامل كثيرة متباينة، لم يكن الكثير منها قائمًا في عهد النبي، ولم يكن قد أتيح لبعضها أن يظهر أثره في عهد أبي بكر، فمن تقاليد الجاهلية ما اندثر، منذ أعلن العرب إسلامهم قبيل وفاة رسول الله، ومن هذه التقاليد ما اختفى بحكم الأحوال، ثم جعل يبرز بين حين وحين بروزًا يدل على بقاء جذوره حية متأصلة، متأهبة لتنمو وتتفرع من جديد. هذا إلى ما أنشأه الإسلام في نفوس من أخذوا به من عقائد وتقاليد جديدة لم يكن لهم عهد بها من قبل، وإلى ما لقيه المسلمون في البلاد التي فتحوها من حضارة لم تكن مظاهرها مألوفة لهم، فلما خالطوا أهلها واتصلوا بهم أصبحت سائغة عندهم محببة إليهم.
ولم يكن العامل الاقتصادي أقل أثرًا من سائر العوامل في هذا التطور، فقد أفاء الفتح على كثيرين رخاء جعل المتاع بلين الحياة في متناول أيديهم، فأقبلوا عليه ينهلون منه، وكان الذين ذهبوا إلى العراق والشام ومصر أشد على المتاع إقبالًا؛ لأن الحَضَر والخِصب ييسِّران من ألوان المتاع ما لا تيسره البادية، أما الذين أقاموا في شبه الجزيرة فوجدوا في العطاء الذي فرضه عمر لهم ما جعلهم يفتنُّون، فيما عرفوا من ألوان المتاع في الجاهلية افتنانًا رأيت صورًا منه فيما قصصنا من قبل.
وقد أدى هذا التطور إلى نشاط في الحياة العقلية، اقتصر مداه عند العرب في ذلك العهد على اجتهاد الرأي فيما لم ينزل به وحي، ولم تَجْرِ به سنة من رسول الله، ولعلك تذكر قول أبي بكر في مرض موته: «وددت لو أنني سألت رسول الله عن ميراث ابنة الأخ والعمة، فإن في نفسي منهما شيئًا.» وقد اطرد اجتهاد الرأي في عهد عمر وفي العهود التي تلته، فكان الفقه الإسلامي ثمرته.
ثم أدى هذا التطور كذلك إلى اتجاه جديد في حياة الأمم التي فتحها المسلمون، وكان لهذا الاتجاه أثر عميق في حياة العرب أنفسهم، وقد بدا هذا الاتجاه الجديد في العراق والشام وفارس بنوع خاص، وإن اختلف في هذه الأمم باختلاف الأجناس التي تتكون منها، ذلك أن العراق والشام كان بهما من قبائل العرب من أقبلوا على الإسلام وتأثروا بتعاليمه، ومن احتفظوا بدينهم وتأثروا مع ذلك بما فرضه الفتح الإسلامي من نظم في السياسة والاقتصاد، أما فارس فاختلف اتجاهها عن العراق والشام، وسنرى أثر هذا الاختلاف عند الكلام عن مقتل عمر.
وقد تحدثت من قبل عن الأثر الذي تركه الفتح الإسلامي أول عهده في مصر، وإنما اختلف هذا الأثر عن مثله في العراق والشام وفارس؛ لأن سياسة ابن العاص في مصر لم تكن كسياسة خالد بن الوليد في العراق لعهد أبي بكر، ولا كسياسة الولاة الذين قاموا بالأمر في الشام بعد فتحه، ولم تكن مصر كفارس في وضعها السياسي إذ كانت فارس مستقلة ومصر ولاية رومانية، لكنها كانت تشبه فارس من حيث اختلاف أهلها عن العرب في الجنس واللغة والدين، مع ذلك لم تكن سياسة ابن العاص ضعيفة الأثر في تحويل المصريين ليكونوا أمة إسلامية لغتها العربية، وليكونوا من بعد ذلك قلب العالم الإسلامي ومركز الحضارة فيه.
كان لعمر أثر كبير في توجيه ما تم من تطور في الحياة الاجتماعية لبلاد العرب، ولا أخالني أغلو إذا قلت: إن فضله في هذه الناحية لا يقل عن فضله في الناحية السياسية، وأثره في توجيه هذا التطور لم يقف عند ما أشرنا إليه في هذا الفصل وفيما سبقه من فصول الكتاب، بل كان لاجتهاده رأيَه أكبر الأثر في هذا الأمر، كما كان له أكبر الأثر في غيره من أمور المسلمين.
وهذا ما سنُبينه في الفصل التالي عند الكلام عن اجتهاد عمر.