مقتل عمر
عشر سنوات وأشهُر قضاها عمر أميرًا للمؤمنين، متجردًا لله ولدين الله، منكرًا نفسه وأهله، متوجهًا بكل عقله وقلبه وجوارحه لينهض بالعبء العظيم الذي ألقاه القدر على عاتقه؛ فكان القائد الأعلى للجيش؛ والفقيه الأكبر بين فقهاء المسلمين؛ والمجتهد الذي يرجع الكل إلى رأيه، ويقر الكل اجتهاده؛ والقاضي النزيه العادل الذي يفصل في الخصومات، ويأخذ للضعيف حقه من القوي؛ والأب البار الرحيم بالمسلمين جميعًا، صغيرهم قبل كبيرهم، وضعيفهم قبل قويهم، وفقيرهم قبل غنيهم؛ والمؤمن الصادق الإيمان بالله ورسوله صدقًا زاده اعتدادًا بنفسه، واعتزازًا برأيه؛ والسياسي المُحَنَّك الذي يعرف ما يريد، ولا يريد إلا ما يقدر عليه، فإذا ازدادت قدرته، انفسحت إرادته؛ والإداري الحكيم يَسَّرت له حكمته أن يسوس الأمم المتباينة في الجنس واللغة والدين، ويدبر أمورها تدبيرًا ألانها له، وزادها تعلقًا به، لا عجب وذلك شأنه أن اندفع المسلمون في عهده يحركهم صدق إيمانهم، وعظيم حرصهم على الاستشهاد في سبيل الله، ففتحوا فارس والعراق والشام ومصر وما وراءها، ولا عجب وذلك شأنه أن أصبح العرب محط أنظار العالم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وكانوا قبل إسلامهم أمة بادية تعيش لنفسها وتخضع لنفوذ غيرها.
ما أعْظَمَ الجهدَ الذي بذله عمر لينهض خلال هذه السنوات العشر بهذا العبء العظيم! وقد رأيت صورًا من هذا الجهد مجلوة في هذا الكتاب، وهذه الصور لم تَصِفْ مع ذلك جهد عمر كله، وهل يستطيع كاتب أن يحيط بكل دقيق وجليل حين يصور حياة الرجل العظيم! إنما ينظر الكاتب إلى هذه الحياة من أحد جوانبها، وحَسْبُه أن يلقي على هذا الجانب من الضياء ما يبرزه في وضوح وجلاء، وأنا لم أقصد من هذا الكتاب إلا ما قصدت إليه من كتاب أبي بكر: أن أُؤَرِّخَ للإمبراطورية الإسلامية، لذلك لم أقف من حياة كلا الرجلين إلا عند ما يتصل بقيام الإمبراطورية وانفساح رقعتها.
كم كانت سن عمر بعد هذه السنوات العشر التي قضاها أميرًا للمؤمنين؟ أشرت من قبل إلى اختلاف المؤرخين في هذا الأمر، يقول ابن الأثير: «كان مولده قبل الفِجَار بأربع سنين، وكان عمره خمسًا وخمسين سنة، وقيل: ستين سنة، وقيل: ثلاثًا وستين سنة وأشهرًا، وهو الصحيح، وقيل: إحدى وستين سنة.» وفي رواية أنه كان خمسًا وستين، ومن هذه الروايات كلها يظهر أنه كان بين الخامسة والخمسين والخامسة والستين، وأكبر الظن أنه كان قد تجاوز الستين، أما وقد شق على نفسه وآثر الشظف في حياته طيلة خلافته حتى خاف قومه عليه الموت عام المجاعة، فطبيعي أن تُثقله هذه السن أكثر مما تثقل من عرف الرَّفه والدَّعة، وكانت جسامة تَبِعاته تزيدها ثقلًا عليه، وتجعله أكثر شعورًا بوطأة عبئها على كاهله، ثم لا يدعوه ذلك إلى الترفيه عن نفسه أو التخفيف من أعبائه في الاضطلاع بكل ما جل ودق من شئون الإمبراطورية في عهده.
كان عمر كما قدمنا يحج كل عام ويدعو ولاته وعماله فيوافونه أيام الحج بمكة كي يحاسبهم على أعمالهم، ويشاركهم في تدبير شئون ولايتهم، وقد حج كعادته في هذه السنة الثالثة والعشرين للهجرة؛ وحج معه أزواج رسول الله ﷺ، فلما قضى مناسكه وأفاض من منى، أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء ألقى عليها بطرف ثوبه؛ ثم استلقى عليها ورفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم كَبِرتْ سني ورقَّ عظمي وضعُفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم!» وهذا دعاء لا يقوله رجل قبل الستين، وبخاصة إذا كان سليم البنية قويها مثل ما كان عمر.
وشعور عمر بدنو أجله وليس به مرض، وليس به إلا شعور بضعف قوته ووهن جسمه، يدعو إلى شيء غير قليل من التفكير فقل من الناس من تحدثه نفسه وهو في صحته بمثل ما حدثت عمر نفسه، وإن شعر بعضهم في أول مرضه الأخير بدنو ساعته. أفكان عمر في هذه مُحَدَّثًا أُلْهِمَ ما سيكون قبل أن يكون؟ أم أن كبر سنه وضعف قوته وانتشار رعيته جعله يفكر في دنو أجله، ويدعو الله أن يضمه إليه؟ أنت في حِلٍّ من أن تختار لنفسك الجواب، أما المؤرخون المسلمون فساقوا في هذا الأمر روايات نقصها عليك بعد أن نفصل مقتل أمير المؤمنين.
خرج عمر من منزله قبل مطلع الشمس من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة، يؤم الناس لصلاة الفجر، وكان يوكِّل رجالًا في المسجد بالصفوف يسوونها قُبَيْلَ كل صلاة، فإذا استوت جاء هو فنظر إلى الصف الأول فإذا رأى فيه متقدمًا أو متأخرًا علاه بالدِّرَّة، حتى إذا انتظم الجميع في أماكنهم كبر للصلاة، ودخل في تلك الساعة من ذلك اليوم ولما يكد يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلما بدأ ينوي للصلاة ليكبر إذا رجل ظهر فجأة قُبَالته، فطعنه بخنجره ثلاث طعنات أو ست طعنات، إحداها تحت سُرَّته، وأحس عمر حر السلاح، فالتفت إلى المصلين باسطًا يديه يقول: «أدركوا الكلب فقد قتلني!» وكان الكلب أبا لؤلؤة النصراني فيروز غلام المغيرة، وكان فارسيًّا، أُسِرَ في نَهَاوَنْد ثم وقع في ملك المغيرة بن شعبة، وقد جاء إلى المسجد مُتَعَمِّدًا قَتْلَ عمر في هذه الساعة المبكرة من الغَلَس يخبئ تحت ردائه خنجرًا قَبْضَتُهُ في وسطه وله نَصْلانِ حادَّانِ، واختبأ في أحد أركان المسجد حتى إذا بدأت الصلاة ارتكب فعلته، ثم اندفع يريد الفرار نجاة بنفسه، وماج الناس مضطربين لما سمعوا، وأقبل كثيرون منهم على الكلب يريدون القبض عليه والتنكيل به، ولم يَدَعْهم فيروز يأخذون بِتَلابِيبِه، بل جعل يطعنهم يَمْنَةً ويَسْرَةً حتى طعن اثني عشر، مات منهم ستة على قول وتسعة على قول آخر، ثم إن رجلًا أتاه من ورائه فألقى عليه رداءه وطرحه أرضًا، وأيقن فيروز أنه مقتول لا محالة مكانه، فانتحر بالخنجر الذي ضرب به أمير المؤمنين.
كانت الطعنة التي أصابت عمر تحت سرته قد قطعت الصفاق والأمعاء، وكانت لذلك قاتلة، قيل: إن عمر لم يستطع الوقوف من حرها، بل سقط طريحًا، فاستخلف عبد الرحمن بن عَوْفٍ على الصلاة بالناس، فصلى بهم، بأقصر سورتين في القرآن: العصر والكوثر، وقيل: بل ماج الناس بعضهم في بعض لمصاب عمر ومصاب الذين طُعِنوا من حوله، واشتد اضطرابهم حين رأوا عمر محمولًا إلى داره في جوار المسجد، وظلوا في مرجهم واضطرابهم حتى قال قائل: الصلاة عباد الله! قد طلعت الشمس. فدفعوا عبد الرحمن بن عَوْفٍ فصلى بأقصر سورتين.
والرواية الثانية هي الراجحة لا ريب؛ فما كان الناس لتستوي صفوفهم للصلاة من جديد وهم في مرجهم واضطرابهم، وأمير المؤمنين طريح يدفق جرحه دمًا أمامهم، ودماء المطعونين تسيل من حولهم، والقاتل صريع بينهم! ولو أنا استطعنا أن نتصور عمر يفكر، مع ما أصابه من طعنات، في استخلاف عبد الرحمن بن عَوْفٍ على الصلاة — وهو تصور بعيد عن مألوف العقل — لما استطعنا أن نتصور الناس في هذه الساعة تلتئم صفوفهم وهم فيما هم فيه من روع وفزع، لا بد إذن أن يكون عمر قد حُمل إلى داره في جوار المسجد واعيًا أو فاقد الوعي من هول طعناته، وقد أحاط الناس به حين أدخل إلى أهله، وقد أُسعف الذين أصيبوا وأخرجوا من المسجد أو نقلوا إلى بعض جوانبه، وأخرجت جثة فيروز إلى البطيحاء، ثم عاد الناس إلى المسجد يتحدثون فيما وقع حتى نبههم إلى الصلاة من نبههم، فدفعوا عبد الرحمن بن عَوْفٍ فصلى بهم.
فرغ الناس من الصلاة وتفرقوا في جوانب المسجد وفي بُطَيْحَائه، ولا حديث لهم إلا هذا الحادث المروع الذي وقع بأعينهم، وانتشر الخبر في المدينة انتشار البرق، فاستيقظ من أهلها من لم يكن قد استيقظ، وأسرعوا جميعًا، رجالًا ونساء وصبيانًا، يريدون أن يقفوا على جَلِيَّة الخبر في هذا الأمر الجَلَل، ونقل المصابون الآخرون إلى منازلهم، ومنهم من أسلم الروح أو كاد، ومنهم من يتنزَّى ألمًا من جراحه، ودخل كبار أهل الرأي على عمر مستفسرين، قال عبد الله بن عباس: «فلم أزل عند عمر ولم يزل في غشية واحدة حتى أسفر الصبح؛ فلما أسفر أفاق فنظر في وجوهنا فقال: أصلى الناس؟ قلت: نعم، فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة.» ثم إن ابن عباس خرج إجابة لرغبة عمر، فنادى في الناس: أيها الناس! إن أمير المؤمنين يقول، أعن ملأ منكم هذا؟ وفزع الناس لسماع هذه الكلمات موجَّهة إليهم، فصاحوا كلهم بلسان واحد: معاذ الله ما علمنا ولا اطلعنا، وكيف يكون ذلك وإنهم لو علموا لافتدوا عمر بأبنائهم وأرواحهم! وسألهم ابن عباس: فمن طعن أمير المؤمنين؟ قالوا: طعنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
كان عمر ممددًا على فراشه ينتظر رجوع ابن عباس بالجواب عما سأل عنه، وينتظر طبيبًا طلب إلى أهله أن يدعوه إليه، فلما رجع ابن عباس وحدثه بحديث الناس، وذكر له أن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه وطعن معه رهطًا ثم قتل نفسه، قال: «الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط! ما كانت العرب لتقتلني!»
وجاء طبيب من العرب فسقى عمر نبيذًا، فأشبه النبيذ الدم حين خرج من الطعنة التي تحت السرة؛ فدعا عبد الله بن عمر طبيبًا من الأنصار، ثم آخر من بني معاوية فسقى عمر لبنًا فخرج اللبن من الطعنة أبيض لم يتغير لونه، فقال: يا أمير المؤمنين: اعْهَدْ، يريد أنه ميت لا محالة. قال عمر: صدقني أخو بني معاوية، ولو قلتَ غير ذلك لكذبتك، وتولى الحاضرين الجزعُ لقول الطبيب فبكوا، فقال عمر: «لا تبكوا علينا! من كان باكيًا فليخرج، ألم تسمعوا قول رسول الله ﷺ: يُعَذَّبُ الميت ببكاء أهله عليه!»
بينا كان عمر يسمع ما نقله ابن عباس عن الناس، ثم يستشير الطبيب ويصغي لنذيره، كان المسلمون بالمسجد وما حوله يتحدثون جماعات، يسأل بعضهم بعضًا عما دفع أبا لؤلؤة لارتكاب فعلته الشنعاء، وقد أورد المؤرخون في ذلك روايات لعلها بعض ما جرت به أحاديث هذه الجماعات، ولعل بعضهم كان يناقش هذه الروايات، فيقبل بعضها، وينفي بعضها، ويرى بعضها حديث خرافة، وسأبسط هذه الروايات جميعًا أمام نظر القارئ ليكون له فيها رأي، وإن رأيت واجبًا عليَّ قبل روايتها أن أعلن اقتناعي بأن مقتل عمر أدَّت إليه مؤامرة استغرق تدبيرها زمنًا قبل الحادث، ولم يتيسر للحاضرين بالمسجد على أثره أن يتبينوا دليلها، ثم قام هذا الدليل من بعدُ، فكان لقيامه من الأثر ما نقص نبأه بعد حين.
روى ابن سعد في الطبقات حديثًا أسنده إلى جُبَيْر بن مُطْعِمٍ أن عمر كان واقفًا في حجته الأخيرة على جبال عرفة إذ سمع رجلًا يصرخ فيقول: يا خليفة، يا خليفة؟ فسمعه رجل آخر وهم يعتافون فقال: ما لك؟ فك الله لَهَواتك؟ فصخب جُبَيْر على هذا الرجل قائلًا: لا تسبه، فلما كان الغد وقف عمر على العقبة يرميها وجُبَيْر معه إذ أصابت رأس عمر حصاة عابرة ففصدت، وسمع جُبَيْر رجلًا من الجبل يقول: «أُشْعِرْتُ ورب الكعبة لا يقف عمر هذا الموقف بعد العام أبدًا.» وكان هذا هو الذي صرخ بالأمس: «يا خليفة يا خليفة.» وروى ابن سعد كذلك عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن أختها عائشة أم المؤمنين أنها قالت: لما كانت آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين وصدرنا عن عرفة مررت بالمُحَصَّب، فسمعت رجلًا على راحلته يقول: أين كان عمر أمير المؤمنين؟ فسمعت رجلًا آخر يقول: ها هنا كان أمير المؤمنين؛ فأناخ راحلته ثم رفع عقيرته فقال:
فلم يحرك ذاك الراكب ولم يُدْرَ من هو، فكنا نتحدث أنه من الجن، فقدم عمر من تلك الحِجَّة فطُعن فمات.
لا أراني بحاجة إلى التعليق على هذه الروايات، ويتعذر الظن بأن هذا الذي قيل إنه من الجن، وذاك الذي قال: لا يقف عمر هذا الموقف بعد العام أبدًا، وقيل: إنه كان عائفًا، قد كان أيهما على علم بشيء مما كان يدور بخاطر فيروز أو كان يدبر معه، لكن ما رُوي من الأنباء، عما حدث بعد رجوع عمر إلى المدينة قبيل مقتله، جدير بقدر من التمحيص، لعله يدلنا على حقيقة لم يقطع بها أحد من المؤرخين الأولين.
روى الطبري وابن الأثير وغيرهما أن عمر خرج يومًا بعد عوده من حجه يطوف بالسوق، فلقيه أبو لؤلؤة فقال له: يا أمير المؤمنين أعِدْني على المغيرة بن شعبة فإن عليَّ خراجًا كثيرًا، قال عمر: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم، قال عمر: وما صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد، قال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول، لو أردتُ أن أعمل رَحًى تطحن بالريح فعلت! قال: نعم، قال عمر: فاعمل لي رحى، قال: لئن سَلِمتُ لأعملن لك رحى يتحدث بها مَن بالمشرق والمغرب! ثم انصرف عنه، قال عمر: لقد توعدني العبد آنفًا!
ودخل عمر منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهدْ فإنك ميت في ثلاثة أيام، وكان كعب هذا من كبار أحبار اليهود في عهد النبي ﷺ، وكان يتردد عليه مظهرًا الميل إلى الإسلام، مرجئًا إعلان إسلامه حتى يتحقق من كل الأمارات التي يجدها في كتب قومه عن النبي العربي وأصحابه، فلما انتهى أمر الخلافة إلى عثمان أعلن إسلامه، وعجب عمر لنذير كعب، فسأله، وما يُدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل: التوراة، ودهش عمر لهذا الكلام فقال: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة! قال كعب: لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك، وإذ كان عمر لا يحس وجعًا ولا ألمًا فقد زادت دهشته لهذا الحديث، ثم لم يُعِره عناية خاصة.
فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يوم وبقي يومان، وفي الغداة من ذلك اليوم قال له: ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها، وفي فجر الغداة طعن أبو لؤلؤة عمر طعناته المميتة، فلما دخل الناس على أمير المؤمنين ودخل كعب معهم ورآه عمر قال:
ساق سير وليم مور قصة كعب هذه في كتابه «الخلافة الأولى» وأردفها بقوله: «يتعذر علينا أن نعرف كيف نشأت هذه القصة العجيبة، وربما أنذر كعب عمر حين رأى ما بدا على أبي لؤلؤة من مظهر التحدي والوعيد.» والذي نستطيع نحن أن نستخلصه من حديث أبي لؤلؤة مع عمر، ومن قصة كعب، أن الفارسي تَوَعَّدَ أمير المؤمنين، وأن اليهودي عَيَّنَ الموعد الذي تم فيه القتل قبل حدوثه بثلاثة أيام، وما إخال أحدًا يظن أن الكتب السماوية تعين الأحداث التي تقع لأفراد الناس بمثل هذه الدقة؛ فهذه الكتب كلها تُرْجِعُ علم الغيب إلى الله وحده، لا بد إذن أن يكون كعب عرف سر ما كان يجري، فوجه النذير إلى عمر، وأغفل عمر أمر هذا النذير بعد أن توعده أبو لؤلؤة بما توعده به فحدث ما حدث، ونذير كعب وطعنات أبي لؤلؤة تدل على أن في الأمر سرًّا لم يظهر ساعة ارتكاب الجريمة، لكنه ظهر من بعد، وسنبينه في موضعه.
كان الناس في المسجد يتساءلون عما دفع أبا لؤلؤة لارتكاب جريمته، وكان عمر في داره ممدَّدًا على فراشه، يشير الطبيب عليه بأن يَعْهَدَ، ويتحدث إليه كبار المسلمين في هذا الذي أصابه وأصاب المسلمين فيه، وفيما يتوقعونه إذا قضى الله في الخليفة العظيم بقضائه، وكان التفكير فيمن يخلف عمر أكبر ما يشغل بالهم وبال عمر، أتراه يصنع صنيع أبي بكر فيختار خليفته، أم يدعهم يصنعون ما صنعوا في اجتماعهم بسقيفة بني ساعدة حين اختار الله إليه رسوله؟ رُوي أن ابن عمر قال لعمر بن الخطاب: لو استخلفْتَ؟ قال: مَن؟ قال: تجتهد فإنك لست لهم برب! أرأيت لو أنك بعثت إلى قَيِّم أرضك، ألم تكن تحب أن يستخلف رجلًا حتى يرجع إلى الأرض؟ قال: بلى، قال: أرأيتَ لو بعثتَ إلى راعي غنمك، ألم تكن تحب أن يستخلف رجلًا حتى يرجع؟ قال عمر: «إن أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هو خَيْرٌ مني، وإن أترك فقد ترك مَنْ هو خير مني.» وروي أن سعد بن زيد بن عمرو قال لعمر: إنك لو أشرت برجل من المسلمين ائتمنك الناس، فقال عمر: إني قد رأيت من أصحابي حرصًا سيئًا، ثم قال: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حُذَيْفَة وأبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ، وفي رواية أن عمر قال: مَنْ أَسْتَخْلِفُ؟ لو كان أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ! فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، فأين أنت من عبد الله بن عمر؟ وأجابه عمر: قاتلك الله! والله ما أردتَ الله بهذا! أستخلف رجلًا ليس يُحسن أن يطلِّق امرأته! ويُروى كذلك أن عمر دعا إليه عبد الرحمن بن عوف بعد أن حُمل إلى داره إثر طعنته، فقال له: إني أريد أن أعهد إليك، قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، إن أشرتَ عليَّ قبلتُ منك، قال عمر: وما تريد؟ وسأله ابن عَوْفٍ: أنشدك الله! أتشير عليَّ بذلك؟ قال عمر: اللهم لا! وكانت كلمة عبد الرحمن بعد هذه المشورة أن قال: والله لا أدخل فيه أبدًا!
تدل هذه الروايات على أن اختيار الخليفة لم يكن له نظام مقرر في الإسلام، وتدل كذلك على أن المسلمين كانوا قد بدءوا، لأول ما انفسحت الإمبراطورية أمامهم، يُنَافِسُ بعضهم بعضًا ويَنْفَسُ بعضهم على بعض، وذلك قول عمر؛ «إني قد رأيت من أصحابي حرصًا شيئًا.» وهذا الحرص السيئ هو الذي جعله يتردد في استخلاف أحدهم مكانه على نحو ما صنع أبو بكر حين استخلفه، فأما قوله إنه كان يستخلف سالمًا مولى أبي حذيفة أو أبا عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ لو أن أحدهما كان حيًّا، فإنما قصد به — أكبر الظن — إلى التخلي عن موقف دقَّ حتى على عمر الذي عرف طيلة حياته بالصراحة والحزم وعزم الأمور.
عرف الناس ما صنع عمر فسكنوا إليه، ودعا عمر هؤلاء النفر الذين جعل الخلافة شورى بينهم فقال: «أَنْشُدُكَ اللهَ يا علي إن وَلِيتَ من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس! أَنْشُدُكَ الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني أبي مُعَيْطٍ على رقاب الناس! أَنْشُدُكَ الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس! وناشد الآخرين مثل هذه المناشدة، ثم قال: قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم، وليصل بالناس صُهَيْبٌ.»
كان عمر يود لو يتم القوم التشاور، ويختاروا خليفته قبل أن يُقبض، ليموت مطمئنًّا إلى مصير الإسلام ومصير الإمبراطورية من بعده؛ لذا جعل ابنه عبد الله معهم يشاورونه وليس له من الأمر شيء ليكون الصلة بينهم وبينه، قال عبد الله بن عمر: فقاموا يتشاورون، فدعاني عثمان مرة أو مرتين ليدخلني في الأمر، ولا والله ما أحِب أني كنت فيه، علمًا أنه سيكون في أمرهم ما قال أبي، والله لقلما رأيته يحرك شفتيه بشيء قط إلا كان حقًّا، فلما أكثر عثمان عليَّ قلت له: ألا تعقلون! أتؤمِّرون وأمير المؤمنين حي! فوالله لكأني أيقظت عمر من مرقده، فقال: «أمهلوا، فإن حدث بي حدث فليصل بكم صُهَيْب ثلاث ليال، ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.»
وكان طلحة بن عبيد الله غائبًا من المدينة يوم طُعِنَ عمر؛ لذلك قال بعد أن استمهل القوم: «انتظروا أخاكم طلحة ثلاثة أيام، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم.»
وكأنما خشى عمر أن يختلف القوم بينهم بعد موته، فيؤدي اختلافهم إلى الثورة؛ ينصر بنو هاشم عليًّا، وينصر بنو أبي مُعَيْطٍ عثمان، وينتصر من الجند من ينتصر للزبير أو لطلحة أو لسعد، وكلهم من كبار القواد؛ لذلك دعا إليه الأنصار وقال لهم: «أدخلوهم بيتًا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا واضربوا أعناقهم.» ودعا أبو طلحة الأنصاري وكان من الشجعان المعدودين فقال له: «قم على بابهم فلا تَدَعْ أحدًا يدخل إليهم.» وفي رواية أنه قال: «يا أبا طلحة! كن في خمسين من قومك الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم، فقم على ذلك الباب بأصحابك، فلا تترك أحدًا يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمِّروا أحدهم، اللهم أنت خليفتي عليهم!»
لم يَكْفِ عمر أن يجعل الشورى في الستة الذين تُوفي رسول الله وهو عنهم راضٍ، بل حرص أن يعهد للخليفة من بعده بما يراه أقوم سياسة تطمئن بها أمور الدولة ويزداد بها عز الإسلام، وكان مما قاله في ذلك: «أُوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وبالمهاجرين الأولين أن يحفظ لهم حقهم وأن يعرف حرمتهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم ردء الإسلام وغيظ العدو، وجباة المال ألا يُؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضًا منهم، وأوصيه بالأنصار الذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يؤخذ من حواشي أموالهم فيُرَد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يُوفي لهم بعهدهم وألا يُكَلَّفوا إلا طاقتَهم، وأن يقاتل من وراءهم.» ويضيف بعض المؤرخين إلى هذه الوصية أنه قال، «اللهم هل بلغت؟ لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة.»
وأنت تذكر أن عمر قد استفتح عهده أول خلافته فأمر الناس أن يردوا سبايا أهل الرِّدَّة إلى عشائرهم، وقال لهم: «إني كرهت أن يصير السبي سُنَّةً في العرب.» وقد كان لهذا الأمر أثر أعظم الأثر في امتداد الفتح، وأهل الرِّدَّة جميعًا كانوا في شبه الجزيرة، وكان من بطون العرب وقبائلها من نزح إلى الشام وإلى العراق، ومن وقع أسيرًا في يد المسلمين في أثناء الغزوات المتلاحقة التي تمت فيها، فلما رأى عمر أنه مُوفٍ على أجله أراد أن يزيد وحدة العرب قوة، ويزيد العرب بأنفسهم اعتزازًا؛ لذلك قال وهو على فراشه: «من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله.» ولم يكن هذا القول اجتهادًا منه خالف به سابق رأيه، إنما هو تطبيق دقيق لقوله: «إني كرهت أن يصير السبي سنة في العرب.» ولعله خشي ألا يطبق خليفته هذا الرأي الذي اجتهده يوم استخلف، فلم يرد أن يترك الدنيا قبل أن يتم ما بدأه، وقبل أن يذر العرب جميعًا أحرارًا.
فكر عمر إذن في مصير المسلمين من بعده، وفكر فيما كان من اجتهاده، ثم فكر كذلك فيما عليه من دَيْنٍ لم يُرِدْ أنْ يَذَرَ الدنيا قبل أن يكفل أداءه، ذلك أنه كان استسلف من بيت المال ستة وثمانين ألف درهم، فدعا إليه ابنه عبد الله فذكرها له ثم قال: «بِعْ فيها أموال عمر، فإن وفت وإلا فَسَلْ بني عدي، فإن وفت وإلا فسل قريشًا ولا تَعْدُهُمْ.» وكان عبد الرحمن بن عَوْفٍ يعلم، كما كان يعلم غيره من المسلمين، أن عمر لم يقترض هذه الأموال إلا لاشتغاله بأمر المسلمين؛ لذلك قال له: ألا تستقرضها من بيت المال حتى تؤديها؟ وأجابه عمر: «معاذ الله أن تقول أنت وأصحابك بعدى: أما نحن فقد تركنا نصيبنا لعمر فَتعِزُّوني بذلك فتتبعني تَبِعته وأقع في أمر لا ينجيني إلا المخرج منه!» ثم قال لعبد الله بن عمر: اضمنها، فضمنها، فلم يدفن عمر حتى أشهد بها ابنه على نفسه أهل الشورى وعدة من الأنصار، وما مضت جمعة حتى حمل عبد الله بن عمر المال إلى عثمان بن عفان وأحضر الشهود على البراءة بدفعه.
وفي رواية أنه أوصى بربع ماله لأم المؤمنين حفصة ابنته، فإذا ماتت فإلى الأكابر من آل عمر.
فرغ عمر من حساب الدنيا، فاتجه بتفكيره إلى ما يرجوه بعد موته، وكان أكبر همه أن يُدْفَنَ في جوار صاحبيه رسول الله وأبي بكر في بيت عائشة، وكان قد استأذنها من قبل في ذلك فأذنت له، فلما حضرته الوفاة قال: «إذا مت فاستأذنوها، فإن أذنت وإلا فدعوها فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني.» وفي رواية أن عمر لما طعن فأوصى قال لابنه: «اذهب يا عبد الله إلى عائشة أم المؤمنين فقل لها: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست لهم اليوم بأمير، يقول: تأذنين له أن يدفن مع صاحبيه؟» فأتاها ابن عمر فوجدها قاعدة تبكي، فسلم عليها ثم قال: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه؟ قالت: «قد والله كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي!» فلما رجع عبد الله وذكر لعمر أن عائشة أذنت له قال: «ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك المضجع، يا عبد الله بن عمر انظر، إذا أنا مت فاحملني على سريري ثم قف بي على الباب فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلني وإن لم تأذن فادفني في مقابر المسلمين.»
جعل عمر بعد ذلك يحاسب نفسه عما قدمت يداه، فهو مقبل عما قليل على موقف هو أعسر المواقف وأشدها، ذلك موقفه بين يدي ربه يسأله عما قدم وأخر، عما نوى وعما عمل، عما أضمر وأظهر، ترى ماذا أعد له ربه من مصير؟ أَتُذْهِبُ حسناته سيئاته، أم تغلب السيئة الحسنة فيجزيه الله الجزاء الأوفى؟ لقد كان في وَجَلٍ من ذلك أي وجل، قال له أحد عواده: والله إني لأرجو ألا تمس النار جلدك أبدًا! فنظر إليه، وقد ملأت العبرة عينيه حتى رَثَى له من كان حوله، ثم قال له: «إن علمك بذلك يا فلان لقليل، لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع!» وفي رواية أنه قال هذه العبارة الأخيرة وابن عباس عنده، فقال له ابن عباس: «والله إني لأرجو ألا تراها إلا مقدار ما قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين وأمين المؤمنين وسيد المؤمنين، تقضي بكتاب الله وتقسم بالسوية.» فأعجب هذا الكلام عمر فاستوى جالسًا وقال: «أتشهد لي بهذا يا بن عباس!» فسكت ابن عباس، فضرب عمر على كتفه وقال: «اشهد لي بهذا يا بن عباس.» قال ابن عباس: «نعم، أنا أشهد.»
والحق أن ما رُوي عن خوف عمر من هول الحساب يشهد له بثبات إيمانه وقوة يقينه ومخافته الله مخافةً هي العُدَّة لمن صدق قصده وجه الله في كل عمله، جاء الناس حين طُعن يثنون عليه ويودعونه ويدعونه أمير المؤمنين، فقال: «أبالإمارة تزودونني! لقد صحبت رسول الله فقبض الله رسوله وهو عني راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت فتُوفي أبو بكر وأنا سامع مطيع، وما أصبحت أخاف على نفسي إلا إمارتكم هذه.» وكان يتألم من جراحه فجعل جلساؤه ينسونه ألمه بالثناء عليه، فقال: «إن من غرَّه عمره لَمَغْرُورٌ، والله لوددت أني أخرج منها كما دخلت فيها، لا عليَّ ولا لي.» ورُوي عن ابن عباس أنه قال: أنا أول من أتى عمر بن الخطاب حين طُعن فقلت له: أبشر بالجنة! صاحبت رسول الله فأطلت صحبته، ووليت أمر المؤمنين فقويت وأديت الأمانة، فقال: «أما تبشيرك إياي بالجنة فوالله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر، وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله ﷺ فذاك.» وقد كان يشتد خوفه كلما ازداد ثناء الناس عليه، رُوي أنه مد يده فأخذ تبنة كانت على الأرض إلى جنب فراشه فرفعها أمام عينيه وقال: «ليتني كنت هذه التبنة! ليتني لم أُخلق! ليت أمي لم تلدني! ليتني لم أكُ شيئًا! ليتني كنت نسيًا منسيًّا!»
هذه حال تشهد بصدق الإيمان، وتدل على شعور هذا الرجل العظيم بجلال ما حمل من تَبِعة في إمارة المؤمنين، فهو لم يغترَّ بما تم في عهده من نصر وفتح، ولم يُبطره ظفره بالفرس والروم، ولم يزدهِه حديث الناس عنه وثناؤهم عليه، بل خشي أن يكون قد ظلم يومًا ضعيفًا، فارتفعت أنات هذا الضعيف إلى السماء؛ فوَزَنت عند ذي العرش حسنات عمر جميعًا!
وهذه الخشية هي التي جعلته ينظر إلى ابنته حفصة أم المؤمنين، وقد دخلت عليه باكية تندبه بقولها: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين! فيقول لها: إني أحرج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها، إنه ليس من ميت يُندب بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته. ونهى عمر أهله أن يبكوا عليه، وكان عمر في النهي عن الندب وعن البكاء شديدًا صارمًا، سمع صُهَيْبًا يقول، وقد رأى اللبن يخرج من جراحه: وا عمراه وا أخاه، من لنا بعدك! فقال له: مَهْ يا أخي، أما شعرت أنه من يُبْكَ عليه يُعَذَّبْ؟!
وخشي عمر أن يبالغ أهله بعد موته في تكفينه ودفنه، فأوصى ألا يغسلوه بمسك أو يقربوا منه مسكًا، على ما كان يصنع العرب بذوي المكانة منهم، وقال لابنه: «اقصدوا في كفني فإنه إن يكن لي عند الله خير أبدلني خيرًا منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع سلبي، واقصدوا في حفرتي، ولا تخرجن معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس فيَّ فإن الله هو أعلم بي، وإذا خرجتم بي فأسرعوا في المشي؛ فإنه إن يكن لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد ألقيتم عن رقابكم شرًّا تحملونه.»
فاضت نفسه وهو بين يدي ربه أكبرُ همه أن يترك الدنيا كفافًا لا عليه ولا له، وكان الناس إذ ذاك بالمسجد يحدث بعضهم بعضًا في مقتله، وفيما يخشون أن يصيبهم ويصيب الدولة الناشئة من بعده، وكان لهم العذر أن تثور مخاوفهم فمن ذا يستطيع أن يضطلع من بعده بالعبء العظيم الذي خلفه بمثل ما اضطلع هو به! ومن ذا يستطيع أن ينسى نفسه وأهله، وأن يتجرد لله ولخدمة المسلمين والعدل بينهم تجرده! لقد استفتح عهده وشبه الجزيرة وحدها في سلطانه، ومات والإمبراطورية الإسلامية تشتمل فارس والعراق والشام ومصر؛ مع ذلك لم يغير من تقشفه وبساطة عيشه ومن قسوته بنفسه، ولم يغره السلطان بالخروج عن مألوف حياته، وعما عرف الناس من تسويته بين نفسه وبين سائر المسلمين؛ لذلك اشتد حزن الناس لموته وجزعهم عليه، رُوي عن أبي طلحة أنه قال: ما من أهل بيت من العرب حاضرٍ ولا بادٍ إلا قد دخل عليهم بقتل عمر نقص في دينهم وفي دنياهم، ورُوي عن الحسن أنه قال: «أي أهل بيت لم يجدوا فقد عمر فهم أهل بيت سوء.» وقال حذيفة يوم قتل عمر: «اليوم ترك الناس حافة الإسلام؛ وايْمُ اللهِ لقد جار هؤلاء القوم عن القصد حتى لقد حال دونه وعورةُ ما يبصرون فهم لا يهتدون.» وبكى سعيد بن زيد ذلك اليوم فقيل له: وما يبكيك؟ قال: على الإسلامي أبكي! إن موت عمر ثلم الإسلام ثلمة لا تُرْتَقُ إلى يوم القيامة، ولا عجب، وذلك شعور الحكماء وأولي الرأي، أن يكون الضعفاء والبؤساء أقوى شعورًا بوقع الكارثة التي نزلت بهم؛ فقد كان عمر لهم أبًا وأخًا، وكان لهم حصنًا حصينًا وملجأ أمينًا.
قد يدهشك، والأمر ما ترى، ألا يورد المؤرخون من رثاء أصحاب الرأي يومئذ لعمر مثل ما أوردوا من رثائهم لأبي بكر يوم قُبض، فكل ما ينسب إلى علي بن أبي طالب أنه دخل على عمر إثر وفاته، فألفاه مُسَجًّى بثوب في ناحية من غرفته، فرفع الثوب عن وجهه وقال: «يرحمك الله أبا حفص! ما أَحَدٌ أَحَبَّ إليَّ بعد النبي ﷺ أن ألقى الله بصحيفته منك.» والأكثر تواترًا أن عليًّا وقف على عمر بعد أن غُسِّلَ وكفن وحمل على سريره فأثنى عليه وقال: «والله ما على الأرض رجل أَحَبَّ إليَّ من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بالثوب!» فلما صلى على عمر جاء عبد الله بن سلام فقال: لئن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه لا تسبقوني بالثناء عليه، ثم وقف عند سريره وقال: نِعْمَ أخو الإسلام كنت يا عمر، جوادًا بالحق، بخيلًا بالباطل، ترضى حين الرضا، وتغضب حين الغضب، عفيف الطرف، طيب الظرف، ولم تكن مداحًا ولا مغتابًا، ثم جلس.
وإنما يذهب بعض الشيء من دهشتك أن تعلم أن أهل الرأي كانوا في شغل بأمر الشورى فيمن يخلف عمر عن التفكير في شيء سواه، وكان أصحاب الشورى الذين استخلفهم عمر أَشَدَّ من غيرهم اشتغالًا بهذا الأمر، وتوقًا لمعرفة مآله. لما حان دفن عمر، فحمل إلى المسجد ووضع بين قبر رسول الله ومنبره ليُصلى عليه، أقبل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكل منهما يريد أن يتقدم صاحبه لهذه الصلاة، فلما رآهما عبد الرحمن بن عَوْفٍ على هذه الحال قال: إن هذا لهو الحرص على الإمارة، لقد علمتما ما هذا إليكما، ولقد أمر به غيركما، تقدم يا صُهَيْبُ فَصَلِّ عليه، كذلك روى ابن سعد في الطبقات، وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ قال: ما أحرصكما على الإمارة؟ أما علمتما أن أمير المؤمنين قال: «لِيُصَلِّ صُهَيْبٌ بالناس»؟ فتقدم صُهَيْبٌ فصلى عليه وكبَّر أربعًا.
وفي رواية أوردها الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال: لما مات عمر رضي الله عنه بكته ابنة أبي حَثْمَةَ فقالت: «وا عمراه! أقام الأَوَدَ، وأبرأ العمَدَ؛ أمات الفِتَن، وأحيا السنن، خرج نقي الثوب، بريئًا من العيب.» فلما دفن عمر أتيت عليًّا أريد أن أسمع منه في عمر شيئًا، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه، فقال: «يرحم الله ابن الخطاب؛ لقد صدقت ابنة أبي حَثْمَةَ، لقد ذهب بخيرها ونجا من شرها، أم والله ما قالت ولكن قُوِّلت.»
ربما أذهب اشتغال أهل الشورى بالخلافة بعض الشيء من دهشتك لقلة لما أورده المؤرخون عما رُثي به عمر يوم وفاته، وسترى مبلغ هذا الاشتغال بعد حين فلا يبقى من دهشتك شيء، ثم ترى إعظام الناس عمر وإكبارهم لحقه فتطيب نفسه بأن الحق باقٍ أبدًا، وإن أخفته الأهواء حينًا.
غُسل عمر وكفن في ثلاثة أثواب، وحمل إلى المسجد فصلى عليه صُهَيْب، ثم حمل القوم جثمانه فوقفوا به على باب عائشة، وقال عبد الله بن عمر: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه؟ وأجابت عائشة: ادخل بسلام.
وسوى القوم التراب على الجثمان وأقفلوا القبر، والناس على مقربة منهم مجتمعون في المسجد وقد هوى الحزن بأفئدتهم إلى أعمق قرار، وذهب الأسى بألبابهم لموت رجل عز في الرجال نظيره، وأمير للمؤمنين تولى أمرهم وهم من شدته وغلظته في خوف ووَجَل، ثم قضى بينهم عشر سنوات وستة أشهر كان خلالها أبر أمير وأعدله وأتقاه، وكانوا لذلك يزدادون كل يوم له حبًّا.
وكيف لا يفعلون وقد كانوا أول عهده في عَيْلَة فأغناهم الله من فضله، وكان الخوف من الفرس والروم يساورهم فأصبحوا بفضل الله سادة الفرس والروم! بذلك استقر سلطان الإسلام وتوطد عرشه، فحق لعمر أن يدفن مع صاحبيه، لينعم بجوارهما، وتطمئن روحه إلى أنه سار على سنتهما، وأنه أتم على الأرض ما قضى الله أن يتم حين أوحى إلى نبيه رسالة السماء.
وقد أتم عمر هذه الرسالة؛ لأنه نسي نفسه، وجعل وحدة المسلمين وعظمة الإسلام غرضه، فلم يفكر حين خلافته في مال أو جاه يكون لذويه وأهله، بل رأى ما وليه من أمر المسلمين عبئًا ألقاه القدر على كاهله، فكان كل همه ألا تَعْلَقَ به فيما ولي من ذلك رِيبة من الناس ولا من نفسه، وأن يؤدي في ولايته لكل ذي حق حقه، وقد فعل، فأعز الله الإسلام، وأورث الأرض عباده الصالحين.
تفرق الناس بعد أن فُرِغ من دفن عمر، وساروا تعلوهم الكآبة ويساورهم الحزن، وجعل كثيرون يذكرون يوم طعن، ويسأل بعضهم بعضًا عن باعث أبي لؤلؤة إلى ارتكاب فعلته الشنعاء، فلو أن الخراج لم يكن يَبْهَظُهُ، بالقياس إلى كسب عمله، لما أقدم على جريمة عاقبتها القضاء على حياته، ولكن، أوَيكفي أن يقول له عمر إن ما فُرض عليه من خراج ليس بالكثير ليدفعه ذلك إلى قتله؟! إن صح هذا كان عجبًا؛ فقد كان في مقدوره أن يعود فيعرض جلية أمره على الخليفة، ليخفف العبء عنه، أم أن في الأمر سرًّا كان أقوى أثرًا في نفسه، وكانت الشكوى من الخراج خدعة أُريد بها ستر الحقيقة عن الأعين؟!
الحقيقة أن الفرس واليهود والنصارى قد كانت في نفوسهم حفيظة أي حفيظة على العرب عامة وعلى عمر خاصة، بعد أن غلب المسلمون الفرس والنصارى على أمرهم، وتولوا حكم بلادهم، واضطروا عاهل الفرس إلى فرار انتهى به إلى شر مصير، وذكر الناس في أحاديثهم هذه الحفيظة، وذكروا قول عمر حين عرف أن الذي طعنه هو أبو لؤلؤة الفارسي: «قد كنت نهيتكم عن أن تجلبوا علينا من علوجهم أحدًا فعصيتموني!» وبالمدينة من هؤلاء العلوج جماعة أن يكونوا قليلين فهذه الحفيظة تجمع قلوبهم وتوغر صدورهم، ومن يدري! لعلهم ائتمروا فكانت فعلة فيروز ثمرة مؤامرة أرادوا بها شفاء ما في نفوسهم من غِلٍّ؛ وحسبوا أنهم قادرون بها على أن يشتتوا شمل العرب ويفتُّوا في أعضاد المسلمين.
وكان أبناء عمر أشد حرصًا على معرفة الحقيقة؛ وقد كانوا يستطيعون كشفها والوقوف على جلية أمرها لو أن فيروز لم ينتحر، لكنه انتحر، فذهب بسره إلى القبر معه، أفقُضِيَ الأمرُ، ولم يبقَ إلى معرفة السر سبيل؟
كلا! بل أرادت الأقدار أن يقف على السر من قادة العرب من يدل عليه، رأى عبد الرحمن بن عوف السكين التي قُتل بها عمر فقال: رأيت هذه أمس مع الهُرْمُزان وجُفَيْنَة فقلت: ما تصنعان بهذه السكين؟ فقالا: نقطع بها اللحم، فإنا لا نمس اللحم، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: قد مررت على أبي لؤلؤ قاتل عمر ومعه جُفَيْنَة والهرمزان وهم نَجِيٌّ، فلما بَغَتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونِصَاب في وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قُتل به عمر، فوجدوه الخنجر الذي نعت عبد الرحمن بن أبي بكر، لم يبقَ إذن في الأمر ريبة، هذان شاهدا عدل، بل هما من أعدل شهود المسلمين، يشهدان بأن الهرمزان وجُفَيْنَة كان معهما السكين الذي قُتل به عمر، ويشهد أحدهما أنه رأى أبا لؤلؤة القاتل يأتمر قبل القتل معهما، ويقرران أن ذلك كله كان عشية طعن عمر، أفيستطيع أحد بعد ذلك أن يشك في أن أمير المؤمنين ذهب ضحية مؤامرة كان هؤلاء الثلاثة أبطالها، ولعل غيرهم من أبناء فارس أو من الأمم التي غلبها المسلمون كان معهم فيها؟
سمع عبيد الله بن عمر قول عبد الرحمن بن عَوْفٍ وشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر فاصطبغ الوجود كله دمًا أمام عينيه، ودخل في روعه أن كل أجنبي بالمدينة شريك في المؤامرة، وأن أيديهم جميعًا تقطر من دم الجريمة؛ لذلك لم يتردد أن تقلد سيفه، ثم بدأ بالهرمزان وجُفَيْنَة فقتلهما، رُوي أنه دعا الهرمزان، فلما خرج إليه قال له: انطلق معي حتى ننظر إلى فرس لي وتأخر عنه، حتى إذ مضى بين يديه علاه بالسيف، فلما وجد الفارسي حره قال: لا إله إلا الله! وخر صريعًا، ورُوي أن عبيد الله بن عمر قال: «ودعوت جُفَيْنَة، وكان نصرانيًّا من نصارى الحيرة، وكان ظئرًا لسعد بن أبي وَقَّاصٍ أقدمه المدينة للملح الذي كان بينه وبينه، وكان يُعَلِّم الكتاب بالمدينة فلما علوته بالسيف صلب بين عينيه.»
ولم يكن إخوة عبيد الله دونه ثورة لمقتل أبيهم، وكانت حفصة أم المؤمنين من أشدهم ثورة، روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «يرحم الله حفصة! فإنها ممن شجع عبيد الله على قتلهم.»
وفعلة عبيد الله من حمية الجاهلية لا ريب؛ فما كان لرجل أن يثأر لنفسه، أو يأخذ حقه بيده بعد أن أصبح القضاء لرسول الله وخلفائه من بعده؛ يحكمون بين الناس بالعدل، ويتولون القِصَاص ممن أجرم؛ لذلك كان حقًّا على عبيد الله إذ عرف المؤامرة التي أودت بحياة أبيه، أن يحتكم إلى أمير المؤمنين؛ فإن ثبتت المؤامرة عنده أجرى فيها حكم القِصَاص وإن لم تثبت أو قامت الشبهة في نفسه منها درأ الحد بالشبهة، أو قضى بأن أبا لؤلؤة هو الآثم.
أيًّا ما يكن الحكم فقد آن للشورى أن يجتمعوا، وأن يختاروا أحدهم أميرًا للمؤمنين، وقصة الشورى حدثت بعد وفاة عمر، فلم تكن من ثَمَّ تدخل في نطاق هذا الكتاب، لولا أن عبيد الله بن عمر بقي محبوسًا إلى تمامها، وإلى أن اسْتُخْلِفَ عثمان بن عفان، ثم كان لأمير المؤمنين معه شأن يجب لمن يؤرخ لعمر ألا يغفله.
ثم إن قصة الشورى تصور الحال النفسية للمسلمين حين وفاة عمر تصويرًا يشهد بأن هذا العهد، وما تم فيه من اتساع رقعة الفتح وانفساح مدى السلطان، قد انطوى إلى جانب عظمته وجلاله على بذرة ثورة بقيت مستكنة في خلافة عمر ومعظم خلافة عثمان، وهذه البذرة هي التي أدت من بعد إلى مقتل عثمان وإلى الحرب الداخلية بين علي ومعاوية، وإلى ما تلا ذلك من نزاع بين الأمويين والعباسيين، وقد كان لذلك كله أثر واضح في عظمة الإمبراطورية الإسلامية، كما كان له أثر واضح في انحلالها بعد بضعة قرون، فحق علينا، ونحن نؤرخ لعمر، أن نبرز هذه الحال النفسية التي ظهرت إثر وفاة عمر على نحو لم تظهر به في حياته.
وفي رواية المؤرخين قصة الشورى بعض الاختلاف، ويرجع اختلافها إلى ما يبديه بعض المؤرخين من إيثار لعلي ولبني هاشم وحقهم في إمارة المؤمنين، وما يبديه بعضهم الآخر من الحرص على رواية الوقائع كما بلغتهم دون التأثر بميل خاص، على أن هذه الروايات في جملتها وتفصيلها تشهد بأن بني هاشم وجدوا فرصة الشورى سانحة لاسترداد حقهم في إمارة المؤمنين؛ لأنهم ورثة النبي عليه الصلاة والسلام، وبأن الكثرة من قريش كانوا يترددون في إجابة بني هاشم إلى هذا الطلب، بل كانوا يؤثرون ألا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد.
رُوي أن عمر لما استخلف الشورى قال العباس بن عبد المطلب لعلي: لا تدخل معهم! قال علي: إني أكره الخلاف، وكان جواب العباس: إذن ترى ما تكره، وقد كان عمر قال للشورى: «إن رضي ثلاثة رجلًا وثلاثة رجلًا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا حكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.» فلما خرجوا من عند عمر قال علي لقوم من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم لم تُؤمَّروا أبدًا، وقال معه العباس: عُدِلَتْ عنا، وذكر له قول عمر: «كونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.» ثم قال: «فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر، فإن كان الآخران معي لم ينفعا.» فقال له العباس: «لم أدفعك في شيء إلا رجعت إليَّ مستأخرًا بما أكره: أشرت عليك عند وفاة رسول الله ﷺ أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، فأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت، احفظ عليَّ واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايْمُ اللهِ لا نناله إلا بشر لا ينفع معه خير!»
لا أَرَبَ لي في ترجيح هذه الرواية ولا في تفنيدها، وهي تشهد على كل حال أن بني هاشم كانوا يرون أنفسهم أحق بخلافة النبي وتولي أمر المسلمين، وأنهم كانوا يرشحون علي بن أبي طالب؛ لأنه كان من أول المسلمين، إذ أسلم ولما يبلغ الحلم، ولأنه صهر رسول الله وابن عمه، ولكن عليًّا لم يكن يحرص على الخلافة إثر وفاة الرسول حرص من يقيم الثورة إذا لم يبلغ أربه، فلما استخلف أبو بكر عمر لم يَثُرْ علي ولم يَثُرْ أحد من بني هاشم، ولما طُعن عمر وجعل الشورى في ستة بينهم علي تحرك بنو هاشم من جديد لتحقيق غرضهم، لكن عليًّا بقي مع ذلك أشد حرصًا على وحدة المسلمين منه على الاستئثار بالأمر لنفسه، مع اقتناعه بأنه أحق المسلمين بهذا الأمر.
وذلك ما تشهد به قصة الشورى في وضوح وجلاء؛ فقد اجتمع أهل الشورى بعد الفراغ من دفن عمر، قيل: اجتمعوا في بيت المِسْوَر بن مَخْرَمَةَ، وقيل: في بيت المال، وقيل: في حجرة عائشة بإذنها، وقيل: في بيت أحدهم، واجتمع معهم عبد الله بن عمر يشير عليهم وليس له من الأمر شيء، وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم، ولم يرضوا أن يجلس عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة بالباب، بل حصبهما سعد بن أبي وَقَّاصٍ وأقامهما، وقال لهما: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى!
وبدأ القوم يتشاورون، فاشتد بينهم الجدل وارتفعت منهم الأصوات ارتفاعًا دل أبا طلحة الأنصاري على شدة اختلافهم، فدخل عليهم وقال لهم: «أنا كنت لأن تَدَافَعوها أخوف مني لأن تَنافَسُوها، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون!»
تجري رواية بأن هذا الخلاف ظل متصل الحدة يومين كاملين، تداركه عبد الرحمن بن عَوْفٍ بعدهما باقتراح سكن من حدته، وانتهى إلى الغاية المنشودة، وتجري رواية أخرى بأن عبد الرحمن تدارك الخلاف منذ اليوم الأول، وأنه استطاع بحكمته أن يتغلب عليه، وأيما الروايتين صحت فقد قال عبد الرحمن للمجتمعين: أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ ونظر إليه القوم في دهش ولم يُحِرْ أحد منهم جوابًا، وكيف يجيبونه والإمارة متنازعة بين بني هاشم وغيرهم من قريش! قال عبد الرحمن: فأنا أنخلع منها، قال عثمان: فأنا أول من رضي، وقال سعد والزبير: رضينا، أما علي بن أبي طالب فبقي ساكتًا، فسأله عبد الرحمن: ما تقول يا أبا الحسن، وأجابه علي: أعطني موثقًا، لتؤثرن الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحًا، ذلك أن عبد الرحمن كان صهرًا لعثمان بن عفان وابن عم لسعد بن أبي وَقَّاصٍ؛ ولهذا خشي علي أن يؤثر عليه عثمان، لكن عبد الرحمن لم يلبث حين سمع كلام علي أن قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ وأن ترضوا من اخترت لكم، وعليَّ ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين نصحًا؛ وبذلك أخذ منهم ميثاقًا وأعطاهم مثله.
خلع عبد الرحمن نفسه من ترشيح عمر له، وجعل كل همه إلى توحيد كلمة المسلمين على من يختاره لإمارتهم، لهذا بدأ يعمل لتضيق دائرة المرشحين، وإذ كان يعلم أن عليًّا وعثمان هما المتنافسان اللذان يُخشى اختلافهما فقد بدأ يسعى ليحصر الترشيح فيهما، وأول ما صنع من ذلك أن خلا بعلي وقال له: تقول إنك أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن، أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضره، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟ وأجابه علي: عثمان، ثم إنه خلا بعثمان وقال له: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله ﷺ وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني! ولكن لو لم تحضر، أيُّ هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ وأجابه عثمان: علي، وكان قد تحدث إلى الشورى جميعًا قبل ذلك وطلب إليهم أن يفوض ثلاثة منهم ما لهم من الحق في ولاية الأمر إلى ثلاثة، وإذ كان سعد والزبير يعلمان أن ما لهما من أمل في ولاية الأمر ضعيف، فقد فوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي وفوض سعد ما له فيها من حق إلى عبد الرحمن، وتُرك حق طلحة لعثمان، أما وقد خلع عبد الرحمن نفسه فقد انحصر الترشيح في علي وعثمان، وقد أصبح الأمر في اختيار أحدهما معلقًا في عنق عبد الرحمن.
قدر ابن عوف جلال التَّبِعة الملقاة على عاتقه، وما يجب عليه لله ولدين الله وللمسلمين أن يبلغ بها غاية تجتمع عليها الكلمة وينحسم بها كل خلاف؛ لذلك جعل يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة بعد الحج، من أمراء الأجناد ورءوس الناس، يسألهم جميعًا مَثْنَى وفُرَادَى، مجتمعين ومتفرقين، سرًّا وعلانية، حتى يجتهد في أفضل الرجلين فيوليه، ورأى الكثرة الواضحة أشد ميلًا لعثمان، مع ذلك لم يرد أن يعلن للناس رأيًا يتهمه أنصار عَلِيٍّ فيه، بل ذهب إلى دار ابن أخته المِسْوَر بن مَخْرَمَةَ فأيقظه، وقد مضى أكثر الليل من تلك الليلة الأخيرة التي فرضها عمر لاختيار أمير المؤمنين، وطلب إليه أن يدعو له عليًّا وعثمان، فلما أقبلا قال لهما: إني قد سألت الناس فلم أجدهم يعدلون بكما أحدًا، ثم أخذ العهد على كل منهما: لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولى عليه ليسمعن وليطيعن.
وخرج بهما إلى المسجد في الصبح بعد أن نُودي في الناس أن الصلاة جامعة، وغصَّ المسجد بالناس، فصعد عبد الرحمن المنبر فدعا دعاء طويلًا ثم قال: أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا مَنْ أميرُهم، فقال سعد بن زيد: إنا نراك لها أهلًا، قال عبد الرحمن: أشيروا عليَّ بغير هذا، وأشار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو بعلي، وأشار عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن أبي ربيعة بعثمان، وأدى اختلاف الفريقين إلى تشاتم بين عمار وابن أبي سرح؛ فصاح سعد بن أبي وَقَّاصٍ: يا عبد الرحمن! أفرغ قبل أن يُفْتَتَنَ الناس، قال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلًا.
ثم إنه دعا عليًّا فأخذ بيده وقال له: هل أنت مبايعي لَتَعْمَلَنَّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال علي: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، فأرسل يده، ودعا عثمان وأخذ بيده وقال له: هل أنت مبايعي لَتَعْمَلَنَّ بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين من بعده؟ قال عثمان: اللهم نعم، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال ثلاثًا: اللهم اسمع واشهد؟ ثم قال: إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك، وجعلته في رقبة عثمان! وبايعه، فازدحم من بالمسجد يبايعون عثمان.
ينفي ابن كثير روايتي الطبري هاتين فيقول: «وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يُعْرفون، أن عليًّا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وأنك إنما وليته؛ لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ إلى آخر الآية، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وفاعليها والله أعلم.»
أنت ترى ما بين هذه الروايات من اختلاف، لكنها جميعًا تشهد بأن قريشًا كانت تؤثر ألا تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم، وقد نسب إلى علي أنه قال بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إنْ ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم.» وهذا القول، صحت نسبته إلى علي أو لم تصح، يتفق وما حدث لذلك العهد، فقد كان علي من أعلم الناس وأقضاهم بالحق والعدل؛ فالعدول مع ذلك عنه يفسر هذا الحرص من قريش على أن تكون إمارة المؤمنين مداولة بينهم، لا يتوارثها أهل بيت توارث الملوك عروش آبائهم، وربما تمت البيعة لعلي لولا هذا الشعور وتأصُّله في قريش.
جلس عثمان بعد البيعة في جانب المسجد، ثم دعا عبيد الله بن عمر من محبسه، ليحاكمه في قتله الهُرْمُزان وجُفَيْنة وابنة أبي لؤلؤة بعد الذي اعتقده من ائتمارهم بحياة أبيه، فلما مثل عبيد الله بين يدي عثمان وجه أمير المؤمنين القول لجماعة من المهاجرين والأنصار يسألهم: أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق؟ قال علي بن أبي طالب: ما من العدل تركه، وأرى أن تقتله، ورأى بعض المهاجرين في هذا الرأي من القسوة ما لا تطيقه النفس فقالوا: قُتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم! ووجم الحاضرون لهذا الاعتراض، وأمسك علي عن القول، وأجال عثمان في الحاضرين بصره يلتمس الرأي، فلو أنه استجاب لرأي علي وقتل عبيد الله لنكأ من آل عمر جراحات لمَّا تندمل، ولأثار بذلك ثائرات لا يعلم إلا الله عُقْباها، ولكان مثلًا في القسوة لا يُقاس به أشد الناس غلظة وبطشًا، وفي طبع عثمان لين يتجافى به عن مثل هذا البطش؛ لذلك وَدَّ لو يجد له أحد الحاضرين مخرجًا من موقف ما أحرصه على الخروج منه، وكان عمرو بن العاص حاضرًا هذا المجلس، فقال: «إن الله أعفاك من هذا الحدث، وقد كان وليس لك على المسلمين سلطان، تلك قضية لم تكن في أيامك، فدعها عنك.» ورأى عثمان في قول ابن العاص سفسطة فلم يقتنع برأيه، وإنما وجد فيه ما يسوغ الدية؛ لذلك قال: أنَا وَلِيُّهُمْ — يريد ولي الذين قُتِلوا — وقد جعلتها دِيَةً واحتملتُها في مالي.
والحق أن الفتوى بقتل عبيد الله كانت قاسية، وكانت الشبهة في عدلها قائمة، فهب عبيد الله أخطأ في اعتقاده أن الهرمزان وجفينة ائتمرا مع أبي لؤلؤة بأبيه، لقد كان له مع ذلك من العذر ما ينهض شبهة تدرأ عنه الحد وتخفف العقاب، ولعل عثمان لو أجرى التحقيق الدقيق لانكشفت المؤامرة أمامه، ولثبتت ثبوتًا تنتفي معه كل ريبة فيها، فشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر وشهادة عبد الرحمن بن عَوْفٍ كافيتان لتدفعا عبيد الله إلى ما فعل، إن لم تنهضا دليلًا على الهرمزان وجفينة، وأيد هاتين الشهادتين أن النصل الذي قُتل به عمر كان في أيدي المؤتمرين وهم نَجِيٌّ.
ولعل عثمان رأى ألا يقوم في هذا الأمر بتحقيق قد يثير ثائر الفرس، ويزيد الحفائظ بينهم وبين العرب، ولهذا ودى القتلى من ماله، وأمر في الوقت نفسه زياد بن لبيد البياضي أن يكف عن التعريض بعبيد الله بن عمر، وبذلك نامت فتنة لم يكن من الخير أن تستيقظ، وانصرف المسلمون في أرجاء الإمبراطورية إلى مألوف حياتهم قبل وفاة عمر.
•••
بانتحار أبي لؤلؤة، وقتل الهُرْمُزان وجُفَيْنة، ودية عثمان إياهما من ماله ومنعه الخوض فيما كان من عبيد الله، أسدل على السر في مقتل عمر ستار لا يزال إلى اليوم مسدلًا، ولا يزال المؤرخون يتحاشون إزاحته، ولَعَمْرُ الحَقِّ ما أرى لذلك سببًا، وشهادة عبد الرحمن بن عَوْفٍ وعبد الرحمن بن أبي بكر تسوغ ما اعتقده عبيد الله بن عمر، واعتقدته أخته حفصة أم المؤمنين، من ائتمار هؤلاء الأعاجم بأبيهما؟ وقد كان لفيروز وللهرمزان من العذر عن هذه المؤامرة أن المسلمين فتحوا بلادهم، واضطروا ملكهم للفرار لينتهي إلى أشنع مصير وأرذله، فإذا تحركت نفوسهم لما أصاب وطنهم فدبروا وائتمروا، فذهب عمر ضحية مؤامرتهم لم يكن ذلك عجبًا، وإنما العجب أن يظل الناس يعتقدون أن فيروز قتل عمر؛ لأنه لم ينصفه بتخفيف الخراج عنه، مع أن عوده للشكوى من ثقل الخراج لم يكن أيسر منه.
والأمر أجدر بالمصارحة؛ لأنه يتعلق بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ هذا الرجل الذي ظل اسمه، وسيظل أبد الدهر، علمًا في التاريخ على العدل والنزاهة والحزم وحسن الرأي وصدق الإرادة، والتجرد لله ولدين الله تجردًا أعز الله به الإسلام ومَدَّ لواءه في الخَافِقَيْنِ، كان عبد الله بن مسعود إذا ذكر مقتل عمر بكى وقال: «إن عمر كان حصنًا حصينًا للإسلام، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام.» وعن حذيفة أنه قال: «إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل امرئ مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار.» وروي أن أبا عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ قال، وهو لا يزال في عنفوان نشاطه وقوته: «إذا مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعده، وسترون ما أقول إذا بقيتم، فإن وَلِيَ والٍ بعد عمر فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يُطِعْ له الناس ولم يحتملوه، وإن ضَعُفَ عنهم قتلوه.»
وإنما قال ابن مسعود وحذيفة وأبو عُبَيْدَةَ ما قالوا لاجتماع ما اجتمع من الصفات في عمر، واجتماع هذه الصفات هو الذي جعل المسلمين يحتملون منه ما لا يحتملونه من غيره، وهو الذي أحزنهم أشد الحزن لوفاته حتى كأنهم لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ، وكيف لا يحزنون وقد كانوا، أول ما استخلف، فقراء فأغناهم الله، وكانوا يخشون الفرس والروم، فأصبحوا سادة الفرس والروم، وكانوا في زاوية من الأرض لا يكاد يذكرها العالم، فأصبحوا بفضل الله ملء السمع والبصر من حياة العالم، كل ذلك وعمر هو هو، لم يتغير مظهره ولم تتغير حياته، فلم يفكر في نفسه ولا في أهله، بل رأى فيما وليه من أمر المسلمين عبئًا ألقاه القدر على عاتقه، فكان كل همه ألا تَعْلَقَ بولايته رِيبة من الناس ولا من نفسه، وأن يؤدي لكل ذي حق حقه، بذلك أعز الله الإسلام، وأورث الأرض عباده الصالحين.
رحم الله عمر، ورضي عنه! إنه كان من عباده المؤمنين.