الفصل الرابع

في عهد أبي بكر

أيقن عمر أن رسول الله قد مات، فأخذ يفكر في مصير المسلمين من بعده، وكان الأمر جديرًا بأعمق التفكير؛ فلو أن العرب تنازعوا أمرهم بينهم لأصاب الإسلام شر ما له من دافع، فقد كان البعيدون عن مكة والمدينة، في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة، لا يخفون برمهم بسلطان قريش وسلطان المدينة، وبرمهم بهذا السلطان هو الذي أثار الأسود العنسي في اليمن، وهو الذي دفع بني حنيفة من أهل اليمامة ليتابعوا مسيلمة بن حبيب حين زعم أنه نبي، ودفع بني أسد ليتابعوا متنبئهم طليحة بن خويلد، فما عسى أن يكون مصير الإسلام بعد رسول الله إذا لم يحزم المسلمون أمرهم، ولم يواجهوا هذا الحادث الجلل بوحدتهم وثبات عزمهم؟

فكر عمر في هذا الأمر لأول ما أيقن أن رسول الله قد مات، وسرعان ما تبين في وضوح أن الأمر إذا تُرك فلم يتوله في الحال من ينهض به ويدبر سياسة المسلمين، أوشك المهاجرون والأنصار أن يختلفوا، وأوشكت الثورة أن تضطرم في بلاد العرب كلها؛ لذا أسرع يشق طريقه خلال المجتمعين بالمسجد يتحدثون في وفاة رسول الله، وسار حتى أتى أبا عُبَيْدَةَ عامر بن الجَرَّاحِ، فقال له: «ابسط يدك أبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله.» ووجم أبو عُبَيْدَةَ حين سمع مقالة عمر، وأدرك ما أدركه من ضرورة البت العاجل في أمر المسلمين، لكنه لم يرضَ رأي عمر، بل حدق فيه وقال له: «ما رأيت لك فهَّة١ قبلها منذ أسلمت! أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين!» وإن الرجلين ليتبادلان الرأي في هذا الأمر الخطير إذا جاءهم النبأ بأن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يريدون أن تكون الإمارة على المسلمين لهم، عند ذلك أسرع عمر فأرسل إلى أبي بكر في بيت عائشة ليخرج إليه، ورد أبو بكر الرسول يقول: «إني مشتغل.» لكن عمر رأى أمر المسلمين أخطر من أن يترك لحظة أو يشغل عنه شاغل ولو كان جهاز رسول الله؛ لذا بعث كرة أخرى يقول لأبي بكر: «إنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره.»

وخرج أبو بكر يسأل: أي أمر يمكن أن يصرفه عن جهاز رسول الله؟ قال عمر: «أما علمت أن الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير؟» ورأى أبو بكر خطر الموقف، فأسرع ومعه عمر وأبو عُبَيْدَةَ يريدون السقيفة.

فلما بلغوها تولى أبو بكر مجادلة الأنصار في حزم ورفق، أما عمر فأقام إلى جانبه ينتظر ما يصير إليه الأمر، فلما رأى الحباب بن المنذر يحرض الأنصار ليثوروا إن لم يكن منهم أمير ومن المهاجرين أمير قام فقال: «هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم! ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم! ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدلٍ بباطل أو مُتَجَانِفٍ لإثم، أو متورط في هلكة!» ورد الحباب يطلب إلى الأنصار إجلاء المهاجرين عن المدينة أو يتولوا عليهم الأمر، ثم وجه الحديث إلى المهاجرين الثلاثة يقول: «أما والله إن شئتم لنعيدنها جَذَعَة.» فصاح به عمر: «إذن يقتلك الله!» ورد الحباب: «بل إياك يقتل!»

حركت هاتان العبارتان النفوس إلى الثورة، فتدخل أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ في الأمر وقال موجهًا حديثه إلى أهل المدينة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.»

سكنت هذه العبارة ثورة النفوس، فعاد القوم يتجادلون بالحجة، وانضم بشير بن سعد من زعماء الخزرج إلى المهاجرين فشق كلمة الأنصار، وقدر أبو بكر أن الأمر استوى وأن اللحظة لحظة الفصل، فقام يدعو الأنصار إلى الجماعة ويحذرهم الفرقة، ثم أخذ بيد كل من عمر وأبي عُبَيْدَةَ ونادى: «هذا عمر وهذا أبو عُبَيْدَةَ، فأيهما شئتم فبايعوا!» ورأى عمر الناس اختلفوا فلم يدع للخلاف أن تنبت شجرته، فقام فنادى بصوته الجهوري: «ابسط يدك يا أبا بكر!» وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي أن تصلي أنت بالمسلمين! فأنت خليفة رسول الله، فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعًا.» وبايع أبو عُبَيْدَةَ أبا بكر وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك!» وتتابع أهل السقيفة فبايعوا أبا بكر مجمعين، لم يَنِدَّ عنهم إلا سعد بن عبادة، فلما تمت البيعة عادوا إلى المسجد يتلقفون الأنباء من بيت عائشة عن جهاز الرسول، فلما كان الغد جلس أبو بكر في المسجد، وقام عمر يعتذر إلى المسلمين عما ذكره من أن النبي لم يمت فقال: «إني قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدت في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إليَّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه به، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» وقام الناس جميعًا فبايعوا بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.

هذا أول موقف لعمر بعد وفاة رسول الله، وهو كما ترى موقف حزم وبعد نظر وحسن سياسة بل هو موقف يرشح عمر للإمارة، ويشهد بجدارته لتولي سياسة الدولة الناشئة، مع إنكاره لذاته وتوجهه بكل تفكيره لخير الجماعة وحسن نظامها، لقد كان أشد الناس جزعًا لوفاة رسول الله فلم يصدق حدوثها، فلما تيقنها لم يملك الجزع عليه تفكيره، ولم يصرفه الحزن عن التحدث إلى أبي عُبَيْدَةَ في أجل شأن المسلمين خطرًا؛ في تدبير أمورهم وتوجيه سياستهم، وهو لم يكن يبتغي الأمر لنفسه على جدارته به، بل كان يفكر فيه تفكيرًا منزهًا عن الأثرة والهوى؛ لذلك أسرع يريد أن يبايع أبا عبيدة، فلما نبهه أمين الأمة إلى أن الصديق أحق المسلمين جميعًا بالأمر لم يتردد في إقرار رأيه، ولم يلبث حين عرف اجتماع السقيفة أن دعا أبا بكر ليواجهوا الأنصار فيه، ثم لم يصرفه عن مواجهتهم، ما قيل له من أن الانصار قر رأيهم فلن يعدلوا عنه، وذهابه مع صاحبيه إلى السقيفة هو الذي أدى إلى بيعة أبي بكر، وإلى اجتماع كلمة المسلمين.

لم يكن موقف عمر فيما قيل من تخلف علي بن أبي طالب وبني هاشم عن بيعة أبي بكر دون موقفه في السقيفة حزمًا وحسن سياسة، أنا في ريب من روايات التخلف عن البيعة، وقد أبديت هذا الرأي حين فصلت بيعة أبي بكر،٢ لكني لا أستطيع مع ذلك أن أجزم بأن عليًّا وبني هاشم أقبلوا على البيعة راضين إقبال غيرهم من المسلمين، والثابت أن فاطمة ابنة رسول الله ظلت مغاضبة أبا بكر إلى أن توفيت، أفكان ذلك لحرمان الصديق إياها ما طلبته ميراثًا لها من أبيها، أم لأنها كانت ترى زوجها أحق من أبي بكر بالخلافة؟ ذلك ما اختلف فيه، فأما الذي لا خلاف عليه فذلك أن عمر كان يرى رأي أبي بكر أن تَرِكة النبي صدقة لا تُورث، ولا ريب أن رأيه هذا أغضب فاطمة، أفأدى غضبها إلى ثورة علي وإلى تهديد عمر وأخذه الأمر بالحزم؟ أيًّا كان ما حدث فقد ترك ما رُوي عنه أثرًا في تاريخ الإسلام، لا يزال باقيًا، وأقل هذا الأثر عدم إكبار الشيعة وغيرهم من العلويين عمر، بل عدم رضاهم عنه.

كانت سياسة أبي بكر بعد بيعته ألا يدع أمرًا كان رسول الله يصنعه، وألا يصنع أمرًا كان رسول الله يدعه؛ لذلك كان أول ما أمر به في خلافته أن يتم بعث الجيش الذي جهزه رسول الله بإمرة أسامة بن زيد لغزو الروم بالشام، وقد برم المسلمون بهذا الأمر كما برموا به في عهد رسول الله؛ لأن أسامة كان حدثًا لما يبلغ العشرين، وزاد في برمهم خشيتهم أن تتعرض المدينة للخطر إذا غاب هذا الجيش عنها وانتقض العرب عليها وقاموا يناوئون سلطانها؛ لذلك قالوا لأبي بكر: «إن هؤلاء — أي جيش أسامة — جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.» وأجابهم أبو بكر في حزم: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته.»

أفكانت سياسة عمر في هذا الموقف كسياسة أبي بكر حزمًا وقوة؟ ذكروا أن أسامة طلب إلى عمر أن يستأذن أبا بكر في دعوة الجيش إلى المدينة ليكون عون الخليفة على المشركين، وقالت الأنصار لعمر: «فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلًا أقدم سنًّا من أسامة.» ولم يرفض ابن الخطاب طلب أسامة ولم يرفض طلب الأنصار، بل ذهب إلى أبي بكر فأبلغه ما قالوا، فكان رد الخليفة: «لو خطفتني الكلاب والذئاب لن أرد قضاء قضى به رسول الله .» وقال في طلب الأنصار: «ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه!»

سار جيش أسامة وفيه جلة المسلمين مهاجريهم والأنصار، وفيه عمر بن الخطاب شأنه شأن رجل منهم يدين بالولاء لأسامة أمير الجند، وسار أبو بكر يودع الجند ويوصيهم، فلما آن له أن يرجع، قال لأسامة: «إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.» وأذن أسامة لعمر أن يدع الجيش وأن يرجع مع أبي بكر.

من الحق علينا أن نقف هنيهة ننبه إلى هذا الاختلاف في الاتجاه السياسي بين أبي بكر وعمر، فقد كان أبو بكر متبعًا وليس بمبتدع، فما صنع رسول الله هو لا محالة يصنعه، وللمسلمين أن يقولوا ما شاءوا، وأن يخالفوه عن رأيه، فلن يسمع لهم ما كان يصدر عن أمر رسول الله، وقد أمر رسول الله أن يتم بعث أسامة فليتم، ليختلف المهاجرون والأنصار، ولتثر شبه الجزيرة كلها، ولتتعرض المدينة لما عسى أن تتعرض له من خطر، كل ذلك لا يمكن أن يصرف الصديق عن إنفاذ ما أمر رسول الله بإنفاذه، أليس الله قد اصطفاه وأوحى إليه كتابه، ووعده النصر وأن يحفظ دينه! فكيف تطوع لمسلم نفسه ألا ينفذ أمره! وكيف لخليفته الأول أن يكون أول مخالفيه.

وكان عمر يرى واجبًا على السياسي أن يقيم وزنًا لكل ما حوله من الأحداث، ومن هذه الأحداث أن خلاف المهاجرين والأنصار لم يظهر في عهد رسول الله ما ظهر في اجتماع السقيفة، وأن انتقاض العرب على سلطان المدينة لم يبلغ حد الثورة إلا حين ذاعت الأنباء بوفاة رسول الله في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة. إن المسلمين قد كانوا يدينون لأمر رسول الله عن إيمان وتسليم، وليس من حق أبي بكر أن يطمع في أن يدينوا له كما كانوا يدينون للرسول المصطفى من عند الله، فجدير بالخليقة أن يقيم لهذه الأمور وزنها، وجدير به، وقد انقطع الوحي بوفاة الرسول، أن يكون السياسي الذي يدبر الأمور بثاقب نظره وحسن بصره بالأمور، بعد أن لم يبقَ لغير البصر بالأمور تدبير أو سلطان.

هذا اختلاف جوهري بين الرجلين في سياسة الدولة، لكن هذا الاختلاف لم يكن ليجني على تقدير أحدهما صاحبه ومحبته إياه واحترامه له؛ لذلك أدى عمر لأبي بكر حقه، فلم يصنع أكثر من أن أبلغه رأي المسلمين وأيده بحجته، فلما أصر الصديق على رأيه سار عمر في الجيش جنديًّا مجاهدًا في سبيل الله بإمارة أسامة، وما كان له ألا يفعل وقد بايع أبا بكر وأقر له بخلافة رسول الله، وأدى أبو بكر لعمر حقه، فاصطفاه وزيرًا يشير عليه كما كان يشير على رسول الله، وكذلك ظلت علاقات الرجلين علاقات مودة صادقة واحترام متبادل وتعاون وثيق لخير الإسلام والمسلمين.

وقد حدث مثل هذا الاختلاف في الرأي بين الرجلين وجيش أسامة لا يزال في الشمال من شبه الجزيرة يقاتل أنصار الروم، ذلك حين أرادت قبائل عبس وذبيان القريبتين من المدينة أن تمنعا الزكاة، فقد رأى أبو بكر أن يقاتلهم، ودفع حجة مخالفيه في الرأي بقوله: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه!» وكان عمر من هؤلاء المخالفين القائلين بموادعة من أرادوا منع الزكاة والاستعانة بهم على المرتدين، وقد كان عنيفًا في تأييد رأيه، حتى لقد وجه الكلام إلى أبي بكر في شيء من الحدة يقول: «كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله!» وأجاب أبو بكر على اعتراض عمر بقوله: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: إلا بحقها.» مع هذا الخلاف في الرأي، ومع أن أبا بكر حمل التبعة كاملة فقاتل الذين منعوا الزكاة وظفر بهم، لم يتغير ما بين الرجلين من ود، وسار عمر إلى جانب الصديق مجاهدًا في صفوف المسلمين، إنه رجل نظام، وأبو بكر هو المسئول عن شئون الدولة، فواجب عمر أن يشير برأيه، وواجبه كذلك أن يطيع أمر الخليفة متى أمر، وقد فعل، ثم بقي الوزير الذي يُسمع لقوله وتُقدر مشورته.

ظفر أبو بكر بالذين منعوا الزكاة، فكان ظفره حجة ملموسة لرجاحة رأيه وحسن سياسته، ويُروى عن عمر في هذا الشأن أنه قال: «والله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.» فلما عزم أبو بكر بعد هذا النصر أن يقاتل المرتدين في أرجاء شبه الجزيرة جميعًا لم يخالفه أحد، ولعل المسلمين رأوا في الرجل الذي لزم الرسول عشرين عامًا سويًّا نفحة من روح الرسول جعلته يرى بنور الله ما لا يرون، ويلهم من الرأي ما لا يلهمون، وسارت جيوش المدينة بإمرة عمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلى قضاعة وإلى بني أسد تحارب المرتدين وتردهم إلى دين الله، والمسلمون مطمئنون إلى نصر الله جنده المجاهدين في سبيله، وابن الخطاب مقيم إلى جانب الخليفة يشير عليه بالرأي ويدبر وإياه سياسة الدولة.

وقضى خالد بن الوليد على الرِّدَّة في بني أسد، وانتقل من منازلهم إلى البطاح يقضي على الرِّدَّة في بني تميم، فقتل زعيمهم مالك بن نويرة وتزوج من امرأته،٣ مخالفًا بذلك تقاليد العرب إذ كانوا يجتنبون النساء في الحرب.

غضب أبو قتادة الأنصاري لمقتل مالك بن نويرة بعد ما أظهر إسلامه، وظنها حيلة من خالد ليتزوج الجميلة ليلى، وكان يقال: إنه يهواها في الجاهلية، وذهب أبو قتادة ومتمم بن نويرة أخو مالك إلى المدينة، ولقيا أبا بكر وقصا عليه ما رأيا، فلم يزد على أن ودى مالكًا، وكتب برد السبي، ثم أنكر على أبي قتادة أن يطعن في خالد أو أن يتهمه، وتحدث أبو قتادة إلى عمر بن الخطاب، فشاركه عمر في رأيه وانطلق يطعن معه على خالد وينال منه، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر محنقًا وقال له: «إن في سيف خالد رهقًا، وحق عليه أن يقيده.» ولم يكن أبو بكر يُقيد من عماله؛ لذلك قال حين ألح عمر عليه: «هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد.» ولم يكف هذا الجواب عمر، فلم يكفَّ عن المطالبة بعزل خالد، حتى ضاق الخليفة بإلحاحه فقال له: «لا يا عمر! ما كنت لأشيم سيفًا سله الله على الكافرين!»

هذا جواب حاسم لا ريبة معه في أن أبا بكر لن يعزل خالدًا، أترى عمر اكتفى به، مطمئنًّا إلى أنه أدى واجبه في المشورة، وإلى أن واجبه بعد ذلك أن ينزل على رأي الخليفة وألا يثير الشبهة فيه؟ كلا! فقد كان عمر ثائرًا بخالد ثورة جعلته يبالغ في النيل منه، فيجمع من حوله متممًا وأبا قتادة ومن لف لفهما، ويستنشد متممًا شعره في رثاء مالك، ويظهر الرضا عنه وعما يقول، وكيف لعمر أن تطيب نفسه فيسكت عن رجل قتل امرأ مسلمًا ونزا على امرأته، فوجب رجمه! ليكن هذا الرجل سيف الله! وليكن خال عمر وابن عم أمه! وليكن له من الفضل في قتال المرتدين ما له! إن الأمر يتصل بنظام الجماعة والمحافظة عليه، ولا شيء أضر بهذا النظام من التفريق بين الناس في المعاملة، والتسامح مع أحدهم في أمر يؤخذ به غيره ويعاقب عليه؛ لذلك لم يهدأ ثائره حتى استدعى أبو بكر خالدًا إلى المدينة، ولا يشك عمر في أن الخليفة سينتهي إلى رأيه فيعزل القائد العبقري، لكن أبا بكر لم يصنع إلا أن عنف خالدًا على التزوج من امرأة لم يجف دم زوجها، ثم تجاوز عما كان من قتله مالكًا ومن معه من بني تميم، وأمره أن يسير ليلقى مسيلمة ورجاله باليمامة، مطمئنًّا إلى أن الله سينصر خالدًا على بني حنيفة، فيصهره النصر وينسى الناس زواجه من ليلى.

لم يتزحزح عمر مع ذلك عن رأيه فيما صنع خالد وفي وجوب عزله وكان لهذا الإصرار أثره من بعد حين تولى عمر إمارة المؤمنين، فقد عزل خالدًا عن إمارة الجيش أول ما تولى، ثم عزله من بعد ذلك عن عمله في الجيش كله، وسنقص تفصيل ذلك ورأينا فيه في مواضعه من هذا الكتاب.

لم تروِ كتب التاريخ أن أبا بكر وعمر اختلفا في أمر ما اختلفا في أمر خالد، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين واتجاه كل منهما في سياسة الدولة، فقد كان عمر يرى أن لا عذر لرجل عن إثم إلا أن يكفر عنه، بذلك يستقر الأمر، ويقوم نظام الحكم على أساس متين من المساواة الصحيحة، والكبراء الذين يأتمون أكبر جريرة عنده، فالعفو عنهم أشد على نظام الجماعة خطرًا، أما أبو بكر فكان يذكر أن رسول الله هو الذي سمى خالدًا سيف الله، وأنه إذا وجب أن تدرأ الحدود بالشبهات في أوقات السلم، فأوجب أن تدرأ بها في أوقات البأس والخطر، وقد كان المسلمون في حاجة إلى خالد وعبقرية قيادته يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل لذلك لم يعزله أبو بكر، بل وجهه إلى مسيلمة باليمامة فقضى عليه، ثم وجهه إلى العراق ففتحه، ثم نقله إلى الشام فأنسى الروم به وساوس الشيطان.

أدى إصرار عمر على رأيه في خالد أن يتسقط كل هناة له، وأن يطلب إلى الصديق مؤاخذته بها، تزوج خالد إثر انتصاره باليمامة بنتًا بكرًا، فكتب الصديق يعنفه ويقول له: «لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ! تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!» ونظر خالد في الكتاب فقال: هذا عمل الأعيسر، والأعيسر عمر بن الخطاب، ولما فتح العراق وبلغ فيه منازل هذيل وقضى عليهم، قتل رجلين معهما كتاب من أبي بكر بإسلامهما، ورأى عمر في مقتلهما ما يؤاخذ خالد به، وقال عن الرجلين: «كذلك يلقى مَنْ ساكَنَ أهل الحرب.»

يرى بعضهم عجبًا أن يثور عمر بخالد كل هذه الثورة، وخالد خال عمر، وخالد سيف الله وناصر دينه، وقد يزيل هذا العجب ما يرويه بعض المؤرخين من أن عمر كان سيئ الرأي في خالد من قبل إسلامه، وكان سيئ الرأي فيه حياته،٤ ولعل عمر لم ينسَ لخالد غزوة أحد وموقفه منها، وانتصار المشركين على المسلمين بمهارته فيها، ثم مهاجمته رسول الله لولا أن وقف عمر في وجهه وصده عن غرضه، ومهما يكن من شيء فالثابت أن ابن الخطاب لم يحبب خالدًا وإن لم يمنعه ذلك من تقدير قدرته والإعجاب بعبقرية قيادته، وكان خالد يبادل عمر هذا الشعور، ويرى إصبعه في كل أمر يجيئه من الخليفة لا يوافق هواه، وذلك قوله حين نقله أبو بكر من العراق إلى الشام: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.»

من حقك أن تعجب لهذا الاختلاف الواضح بين أبي بكر وعمر في أمر خالد بن الوليد، لكن من الحق عليك أن تعجب بهذين الرجلين العظيمين كيف لم يغير هذا الاختلاف البين من مودتهما ومن وثيق تعاونهما لخير الإسلام والمسلمين، فقد ظل عمر على ولائه لأبي بكر وعلى عهده معه، يؤدي واجبه في الإدلاء بالمشورة، وينفذ أمر الخليفة بإخلاص تام في كل ما يعهد الخليفة إليه في تنفيذه، وقد ظلت ثقة الصديق بعمر كما كانت، ولم يَعْرُهَا وهن ولم تتغير في قليل ولا كثير، وهذا الإخلاص المتبادل وهذه الثقة الأكيدة هما ملاك النظام في الدولة ومصدر بأسها وقوتها، ولذلك بلغت المملكة الإسلامية في عهد هذين الرجلين شأوًا لم يُتَحْ لمملكة غيرها في العالم كله، وظل اسم أبي بكر واسم عمر في صحف التاريخ علمًا على الصدق والأمانة والقوة، ولا يدانيه في الجلال والعظمة علم غيره.

أبى أبو بكر أن يُقيد من خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة وتزوجه من ليلى، ووجهه إلى اليمامة، فكان نصره فيها حاسمًا، وكان إيذانًا من الله بالقضاء على الرِّدَّة في أرجاء شبه الجزيرة جميعًا، وإن استشهد فيها من المسلمين ألف ومائتان، وقد جزع أهل المدينة لمن استشهدوا، وكان عمر بن الخطاب من أشدهم جزعًا لمقتل أخيه زيد، حتى لقد واجه ابنه عبد الله حين رجع إلى المدينة بقوله: «ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عني!» وأجاب ابنه في صدق وإيمان: «سأل الله الشهادة فأعطيها؟ وجهدت أن تساق إليَّ فلم أعطها.»

على أن جزع عمر لمقتل أخيه لم يثنه عن التفكير في أمر هو أجل الأمور في حياة الإسلام والمسلمين خطرًا، فقد كان فيمن استشهد عدد من حفاظ القرآن، فما عسى أن يكون الأمر إذا تلاحقت الغزوات فقتل فيها مثل من قتل من الحفاظ باليمامة؟ فكر عمر في هذا الأمر حتى استقر رأيه، ثم ذهب إلى أبي بكر وهو بمجلسه من المسجد، فقال له: «إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.»

فوجئ الصديق بهذا الاقتراح فكان جوابه: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله ؟» وأيد عمر رأيه بالحجة فأقنع أبا بكر، فدعا زيد بن ثابت وذكر له ما دار بينه وبين عمر، ثم قال له: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبع القرآن فاجمعه.» وتردد زيد كما تردد أبو بكر، ثم شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقام فتتبع القرآن يجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، وكذلك كانت مشورة عمر هي التي أدت إلى جمع القرآن وإلى بقائه كما جمع من يومئذ، حتى ليقول عنه المستشرق الإنجليزي وليم ميور: «والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنًا كاملًا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.»

وتذهب رواية إلى أن عمر أول من جمع القرآن في المصحف، وهذا قول يخالف التواتر، على أن التواتر يقر بفضله في المشورة على أبي بكر بالجمع وإقناعه به، فلو أن عمر لم يتنبه إلى ما قد يتعرض له القراء في غير اليمامة من المواطن، وما قد يترتب على ذلك من ذهاب قرآن كثير، لما فكر الصديق في جمع القرآن ولما أقدم عليه، بل لو أن عمر لم يراجع أبا بكر حين قال: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله.» ولم يقنعه بضرورة الجمع لما حرص أبو بكر عليه، ولا دعا زيد بن ثابت ليقوم به، فإذا كان لأبي بكر من الفضل في هذا العمل العظيم ما جعل علي بن أبي طالب يقول: «رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف.» فلا ريب في أن عمر يشاركه في الأجر والفضل جميعًا، وفي أن المسلمين مدينون له دينهم لأبي بكر في جمع كتاب الله، وهذه واحدة من نفحات روحه العظيمة، ومن أجَلِّ هذه النفحات وأعظمها خيرًا وبركة.

لعلك رأيت فيما سبق ما بلغه عمر من مكانة في عهد الصديق، ورأيت أنه كان في هذا العهد كما كان في صحبة رسول الله رجل مشورة وحسن سياسة أكثر مما كان رجل مواقع وغزوات، بل لقد رأيته كيف خالف أبا بكر في قتال من منعوا الزكاة، كما ود قبل ذلك ألا يتم بعث أسامة، فلما رأى سياسة الجهاد والحزم تؤدي إلى الرفعة والنصر، آمن بها، وأيد أبا بكر فيها بكل قوته، أليست سياسة الجهاد هي التي قضت على الرِّدَّة وأعادت المرتدين إلى حظيرة الإسلام، وجمعت شبه الجزيرة إلى لواء واحد؟ أَوَلم تفتح هذه السياسة أبواب العراق وتمهد للإدالة من دولة كسرى؟ لا عجب إذن أن يؤمن عمر بها، وأن يندفع في تأييدها اندفاعه في تأييد كل ما يؤمن به.

لما تقدم خالد بن الوليد في العراق، ودوت أنباء نصره في شبه الجزيرة وما حولها، عزم أبو بكر على فتح الشام، وأصبح يومًا فدعا إليه أهل الرأي وعمر في مقدمتهم، وذكر لهم أن رسول الله كان عول على أن يصرف همته إلى الشام، فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، «والعرب بنو أم وأب، وقد أردت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدًا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعًا عن الدين، مستوجبًا عند الله عز وجل ثواب للمجاهدين.» وطلب إليهم رأيهم في ذلك، فكان عمر بن الخطاب أسبقهم إلى إجابته، قال: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصاب الله بك سبل الرشاد، سرب إليهم الخيل في أثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال، والجنود تتبعها الجنود، فإن الله عز وجل ناصر دينه، ومقر الإسلام وأهله، ومنجز ما وعد رسوله.»

لم يتحمس الحاضرون لهذه الدعوة مع ما كان من كلام أبي بكر وعمر، بل تداولوا الحديث وقد أخذتهم هيبة الروم، فلما فرغوا منه عاد أبو بكر يدعوهم للتجهز فسكتوا، عند ذلك صاح فيهم عمر: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذ دعاكم لما يحييكم!» وهزت هذه الصيحة الحاضرين، فرضوا الجهاد وإن آثروا أن يستعين الخليفة على عدوه بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعًا.

قف هنا وقفة أخرى، فهذا التغير الذي طرأ في اتجاه عمر، وأدى إلى تأييد سياسة الغزو بكل هذه القوة، يعزز تصويرنا السابق لطريقة تفكيره، ويزيدنا اقتناعًا بأنه كان رجلًا عمليًّا لا يقيم وزنًا للفكرة من حيث هي، ولذاتها، بل من حيث ما تترك من أثر في واقع الحياة، ذلك ما ذكرناه حين صورنا طريقة تفكيره لمناسبة إسلامه، وانقلابه من سياسة الحذر إلى سياسة الغزو في عهد الصديق يزيد هذه الصورة جلاء ووضوحًا، فهو قد كان للإسلام مباعدًا، وكان على المسلمين حربًا حين لم يكن للمسلمين من البأس ما يحمل غيرهم على الاعتداد بهم، فكان يرى وجودهم خطرًا على نظام مكة وعلى مكانتها الدينية، فلما رأى المسلمون يثبتون على دينهم ويحتملون الأذى والتضحية في سبيله، ويبلغ بهم ذلك حتى يهاجروا عن وطنهم، تبين له ما لهذا الدين الجديد من سلطان على نفوس من يدينون به، وأيقن أنهم لن يغلبوا، عند ذلك راجع نفسه وجعل يفكر فيما يسمع من القرآن، حتى آمن بالله ورسوله وما جاء من عند الله، فلما آمن أيد المسلمين بمثل القوة التي كان يحاربهم بها من قبل، وهو قد كان لسياسة أبي بكر في القتال مباعدًا، لم يطب نفسًا ببعث أسامة ولم يرضَ قتال الذين منعوا الزكاة، فلما جهز أبو بكر المدينة لحروب الرِّدَّة وقف بعيدًا عن هذا التجهيز، فلا يكاد المؤرخون يذكرون له يومئذ رأيًا، لكن سياسة أبي بكر في الغزو نجحت فقضت على المرتدين وفتحت العراق، عند ذلك انقلب عمر يؤيدها بكل قوته، كما آمن فانقلب يؤيد الإسلام بكل قوته.

وقد كان لهذا الاتجاه الجديد في تفكير عمر أثره من بعد في استخلاف أبي بكر إياه، وفي نجاح سياسة الفتح التي بدأها أول الخلفاء، وسنرى من بعد كيف أدت حماسة عمر لهذه السياسة إلى إقامة الإمبراطورية الإسلامية على أنقاض الإمبراطوريتين الفارسية والرومية.

على أن ما حدث يومئذ من تغير في اتجاه عمر السياسي لم يصحبه تغير في تفكيره الاجتماعي، وكان تفكير عمر في الناحية الاجتماعية يخالف تفكير الصديق في طائفة من الأمور الجوهرية مخالفة تبلغ بعض الأحيان حد المناقضة، كان أبو بكر شديد الحرص على المساواة بين المسلمين لا يفرق فيهم بين عربي وعجمي، ولا بين السابقين إلى الإسلام ومن دانوا بعدهم به، فُتح في عهده منجم للذهب على مقربة من المدينة فكان يسوي في قسمة الذهب الذي يجيء منه بين المسلمين، وقيل له في تفضيل السابقين إلى الإسلام على قدر منازلهم، فكان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.» ولقد دعا أهل مكة يشاورهم في غزو الشام ويستمدهم إليه، كما فعل مع أهل المدينة، أما عمر فكان يميل بتفكيره إلى نظام الطبقات، كان يؤثر السابقين إلى الإسلام، ويؤثر أهل البيت على هؤلاء السابقين، وقد ترك هذا التفكير العمري أثرًا في حياة المسلمين وفي سياسة الدولة الإسلامية وجه التاريخ الإسلامي في كثير من الحقب، ولا يزال باقيًا إلى اليوم، وسنرى من ذلك، حين الكلام عن الديوان وعن نظام الحكم، ما لا يدع مجالًا للريب فيه.

وهو لم يكن يخفي هذا الميل إلى تفضيل بعض الطبقات على بعض في عهد أبي بكر، لما شاور الصديق أهل مكة في غزو الشام واستمدهم إليه، على نحو ما فعل مع أهل المدينة، عارضه عمر في ذلك معارضة أساسها الحرص على أن يكون للمهاجرين والأنصار من السابقين إلى الإسلام أولوية في الرأي والسلطان على سائر المسلمين، وقد اعترض سهيل بن عمرو رأي عمر في ذلك وقال له: «ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب! أَفَإِنَّكُم أنْ كان الله قدَّم لكم في هذا الأمر قدمًا صالحًا لم نؤتَ مثله قاطِعون أرحامَنا ومستهينون بحقنا؟» وأجابه عمر في صراحة: «إني والله ما قلت ما بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم للإسلام وتحريًا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم من المسلمين.»

على أن ما رآه عمر من تفضيل السابقين للإسلام وتفضيل أهل بدر وتفضيل آل البيت، لم يكن مصدره الهوى، وإنما كان مصدره الاقتناع، فلم يكن له أي أثر في معاملته لهؤلاء جميعًا وفي عدله بينهم في خلافة أبي بكر وفي خلافته، ذلك أنه كان مفطورًا على العدل، كمل في نفسه معناه وتجسمت في بصيرته صورته، ولي القضاء في عهد أبي بكر عامين فلم يختلف إليه متقاضيان، ولا ريب أن قد كان لاشتغال المسلمين بالغزو والفتح في حروب الرِّدَّة وفي فتح العراق والشام أثر في ذلك كبير، ولا ريب كذلك في أن ما اشتهر عن عمر من العدل قد كان له فيه أثر أي أثر، فمن العوامل التي تشجع الناس على التقاضي طمع من لا حق له في أن يخطئ القاضي فيضل طريق الحق، أو يحابي فيحيد عن هذا الطريق، ولم يعرف الناس أن عمر كان يحابي في الحق أحدًا، أو أنه كان ينظر في الأمور بغير روية أو تمحيص يهديانه الحق ويكشفان له عنه، لا عجب وذلك شأنه ألا يذهب إليه متقاضٍ يلتمس عنده غير الحق، ثم لا عجب أن يخشى الباغي سطوته، فيرجع عن بغيه ويرد إلى صاحب الحق حقه.

وكان العدل في فطرة عمر منذ نشأته، ثم نمت فكرة العدل في نفسه حتى بلغت الكمال؛ لأنه سما بعقله وقلبه فوق شهوات هذه الحياة الدنيا، فلم يجعل لها عليه سلطانًا، اشتغل بالتجارة صدر شبابه فكفاه منها أن ترزقه وترزق عياله رزق كفاف لا رزق نعمة وترف، وكان يذهب في تجارته إلى العراق وإلى الشام واليمن، فكان أشد حرصًا على مقابلة الأمراء والحكماء من أهل هذه البلاد ليزداد بالتحدث إليهم علمًا، منه على أن تزداد تجارته ربحًا فيصبح من الأغنياء، فلما أسلم اتجه به إسلامه شيئًا فشيئًا إلى ناحية التطهر، فاتخذ من التقشف وسيلته إلى هذه الغاية، لذلك استغنى عما في أيدي الناس، فلم يكن له عند أحد منهم حاجة، ولم يكن له في أحد منهم مطمع أو مأرب، ولعل ما عرف عنه من غلظة قد دفعه إلى هذا التطهر وأعانه عليه، فهو لم يكن يبالي أن يقول لكل إنسان كل ما يعتقده من غير مداراة أو التماس للرضا، ألم يذهب إلى رسول الله إثر عهد الحديبية يقول له: «ألست برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ فعلام نُعطِي الدنية في ديننا!» ولم يكن عمر يصطنع هذه الجرأة معتزًّا بها ما استغنى عن الناس، فإذا احتاج إليهم دارى وتزلف، فإنما يداري ويتزلف من تُذِله الدنيا وتستهويه، فأما من أذل الدنيا مستغنيًا عنها فهو أشد استغناء عن الزلفى وعن المداراة، وذلك شأن المتطهرين أولي النفوس الكبيرة والقلوب المصفاة، وكان عمر في الطليعة من هؤلاء.

هذه الصفات التي اجتمعت لعمر مالت به إلى إيثار الخير العام على نفسه وعلى أهله وذويه، وهذا التفكير الذي انتهى به إلى أن يؤمن بسياسة أبي بكر في التوسع بالعراق والشام، جعلت أبا بكر يراه أجدر من يخلفه على سياسة المسلمين، لكن في عمر شدة وغلظة ترغبان بالكثيرين من أولي الرأي عن مودته، وأصحاب الرأي هم أعوان الخليفة في سياسة الدولة، فإذا انقطعت المودة بينه وبينهم لم يسرعوا إلى معاونته بالرأي، فشق عليه أن يسوسهم وأن يسوس الدولة بهم، أفلا يجمل بأبي بكر أن يوازن بين صفات عمر وحسن سياسته وبين ما فطر عليه من غلظة قد تفسد عليه الأمر ثم لا تكافئها سائر مزاياه؟

فكر الصديق في هذا الأمر حين شعر في مرضه بأنه مشفٍ على الموت، أتراه يدع المسلمين يختارون لأنفسهم، فلا يشير عليهم في الأمر برأي ولا يستخلف منهم أحدًا، وله أسوة في رسول الله؟! هذا أيسر طريق وأهونه، لكن الصديق ذكر سقيفة بني ساعدة وموقف الأنصار بها، وذكر ما كان موشكًا أن يحدث لولا أن جمع الله كلمة المسلمين على بيعته، ولئن اختلف المسلمون حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرًا، فلم يبقَ الأمر دائرًا بين المهاجرين والأنصار دون غيرهم بعد أن جاهد العرب ولا يزالون يجاهدون في العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا، أدى اختلافهم إلى فتنة قد تثور في بلاد العرب كلها، فتفسد الأمر وتقضي على سياسة التوسع وهو لا يزال في بداءته، فأما إذا استخلف وجمع كلمة المسلمين على من استخلفه فقد اتقى ما يخشى، وإذا كان رسول الله لم يستخلف، فذلك لئلا يظن الناس أن من استخلفه قد استمد الأمر على المسلمين بوحي من عند الله، فأصبح خليفة الله، ولا خوف من مثل هذا الظن إذا استخلف أبو بكر، فجنب المسلمين الاختلاف، وكفل لسياسة التوسع الاستمرار والنجاح، فليفعل! وليكن عمر خليفته! وليجمع كلمة المسلمين عليه! وهو إن استطاع أن يجمعها فذلك التوفيق من الله توفيقًا ينصر دينه.

وأصبح فدعا إليه عبد الرحمن بن عَوْفٍ فسأله عن عمر، فقال: «هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.» قال أبو بكر: «ذلك لأنه يراني رفيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه.» وانصرف عبد الرحمن، فدعا الخليفة عثمان بن عفان فسأله عن عمر، فقال: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.» وبعد انصراف عثمان شاور أبو بكر سعيد بن زيد وأسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، حريصًا على أن يجمع كلمتهم على خلافة عمر، وسمع بعض أصحاب النبي بمشاورات أبي بكر في استخلاف عمر، فأشفقوا من غلظة ابن الخطاب وشدته أن يفرق ذلك كلمة المسلمين، فاجتمع رأيهم على أن يهيبوا بالخليفة ليرجع عن عزمه، واستأذنوا فدخلوا عليه، فقال طلحة بن عبيد الله: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم بعد لقائك ربك؟!» وغضب أبو بكر لما سمع من ذلك وصاح بأهله: أجلسوني، فلما أجلسوه قال، ولا يزال الغضب آخذًا منه مأخذه: «أبالله تخوفوني! خاب من تزودكم من أمركم بظلم! أقول: اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك!» ثم اتجه إلى طلحة فقال له: «أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.»

أشفق أبو بكر من هذا الحديث ألا يكون قد جمع كلمة المسلمين على الرضا بخلافة عمر له، فقضى ليله مؤرقًا، فلما أصبح دخل عليه عبد الرحمن بن عَوْفٍ فبادله التحية، ثم تحدث الصديق وكأنما عناه ما حدث بالأمس فقال: «إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه.» وأجابه عبد الرحمن: «خفف عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرًا، ولم تزل صالحًا مصلحًا.»

لم يكتفِ أبو بكر بمشاروة أولي الرأي من المسلمين وبخاصة بعد أن رأى منهم من خالفه في رأيه؛ لذلك أشرف من حجرة بداره على الناس بالمسجد، فقال يخاطبهم جميعًا: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد وليت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا!» وأجاب الناس: «سمعنا وأطعنا.» عند ذلك رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم ما أنت به أعلم، واجتهدت لهم رأيًا فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم.» وسمع الناس دعاءه فازدادت كثرتهم اطمئنانًا لما صنع.

ودعا أبو بكر عمر فعهد إليه وأوصاه بمتابعة الحرب في العراق والشام من غير هوادة، وذكره بما يجب على من ولي أمر المسلمين من تحري الحق، وبأن الله ذكر آية الرحمة مع آية العذاب، ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يثني على الله غير الحق، فإن فعل لم يكن غائب أحب إليه من الموت، يحاسبه الله بعده فيثيبه عن الحق واتباعه، فلما فرغ من وصيته خرج عمر من عنده وهو يفكر في هذا الأمر الذي ألقي على عاتقه فود لو أن الصديق بَرِئ من مرضه ليواجه موقفًا ما أدقه.

لكنه لم يتردد في قبول ما أُلقي عليه متى آن له أن ينهض بتبعته، إنها تبعة عظيمة وعبء جم المتاعب، لكن! من لهذا العبء كابن الخطاب يحمله وينهض به! ولقد حمله عمر بعزم وقوة، فلم يترك هذه الدنيا حتى امتد الفتح الإسلامي فشمل فارس والشام ومصر، وحتى قامت الإمبراطورية الإسلامية على أمتن دعامة وأقوى أساس.

هوامش

(١) الفهة: السقطة والجهلة.
(٢) صفحة ٤٩ وما بعدها من كتاب «الصديق أبو بكر».
(٣) راجع تفصيل ذلك في الفصل الثامن من كتاب «الصديق أبو بكر».
(٤) يقول اليعقوبي في تاريخه: «كان عمر سيئ الرأي في خالد على أنه ابن خاله، لقول كان قاله في عمر.» والتعبير بابن خاله توسع من اليعقوبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤