عمر يستفتح عهده
قُبض أبو بكر بعد مغيب الشمس من مساء الإثنين لإحدى وعشرين ليلة خلت من شهر جمادى الآخرة للسنة الثالثة عشرة من الهجرة (٢٢ أغسطس سنة ٦٣٢م)، فلما جن الليل غُسل وحُمِل على السرير الذي حُمِلَ عليه رسول الله إلى المسجد، وصُلي عليه، ونُقل جثمانه إلى قبر الرسول، ودُفن في حفرة إلى جنبه ﷺ، وجُعل رأسه إلى كتف رسول الله وأُلصق اللحد باللحد، وقد تولى دفنه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر.
كان موقف المسلمين بالعراق والشام يومئذ بالغًا غاية الدقة، فقد جمدت قوات المسلمين بالشام أمام قوات الروم فأنجدها أبو بكر بخالد بن الوليد في عدد من جيش العراق، مع ذلك أقامت القوات وخالد على رأسها ولا يبلغ المسلمين بالمدينة من نبئها ما يبعث إلى نفوسهم الأمل في نصرها أو يطمئنهم على مصيرها، وقد ضعف جيش العراق بغياب خالد فيمن فصل بهم من المسلمين إلى الشام، فلم يستطع المُثَنَّى بن حَارِثَةَ الشيباني، على براعته ومقدرته، أن يحتفظ بكل ما غنمه المسلمون من سواد العراق، فارتد إلى الحيرة وتحصن بها، حقًّا إنه انتصر على جيش من الفرس وجهه شهريران بن أردشير بقيادة هرمز جاذويه، فالتقى هو والمسلمون على أطلال بابل فردوه مدحورًا، لكن المثنى رجع بعد نصره يتحصن بمواقفه الأولى خيفة أن يُباغت، موقنًا أنه لن يستطيع التقدم وإن استطاع المقاومة، بل لقد تصبح المقاومة أمرًا عسيرًا إذا اطمأن بلاط فارس وزال اضطرابه، لهذا كتب إلى أبي بكر يستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبتهم من أهل الرِّدَّة، وكان أبو بكر قد حرَّم الاستعانة بهم في الحرب، فلما أبطأ عليهم رد الخليفة استخلف بشير بن الخَصَاصِية على من بالعراق من المسلمين، وذهب إلى المدينة يعرض موقفه الدقيق، ويدافع عن رأيه في الخروج منه.
ترى كيف يواجه عمر هذه الأمور كلها؟ في هذا وفيما يتصل به بات يفكر ليله، ضارعًا إلى الله أن يلهمه الرأي، وأن يهديه الصراط السوي، إنه سيرى المثنى في طليعة من يراهم متى أصبح، وسيطلب المثنى إليه ما طلبه إلى أبي بكر من قبل، أن يعينه بمن ظهرت توبتهم من أهل الرِّدَّة، وسيردد المثنى أن التائبين من أهل الرِّدَّة يطمعون في مغانم الغزو، فلا أحد أنشط إلى الحرب منهم، وقد أوصى أبو بكر عمر في أمر العراق وصية لا بد من تنفيذها، إذ دعاه إليه وقال له: «اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به! إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحَدُّه، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.»
أفيندب الناس مع المثنى أم يدعه يستعين بمن ظهرت توبتهم من أهل الرِّدَّة؟ إنه ليخشى أن يتقاعس الناس إذا ندبهم بعد ما رأوا أصحابهم بالشام لا يستطيعون التقدم فيه، ورأوا المثنى بالمدينة خائفًا من الفرس وصولتهم، ولكن المسلمين لا بقاء لهم بالعراق إذا لم تعزز قواتهم فيه بمدد قوي، والتفكير في الانسحاب من تلك البلاد أمر لا يخطر للمثنى ببال؛ فهو الذي دفع أبا بكر لغزوها، وهو الذي تقدم خالدًا والمسلمين جميعًا إليها؛ فليس هينًا على نفسه أن يجلو عن بلد كان الطليعة في غزوه، وأن يجلو عنه وهو موقن بمقدرته على فتحه، ولو أن عمر أمده بالتائبين من أهل الرِّدَّة، لتابع الفتح ففض على كسرى إيوانه.
ولم يخطر الانسحاب من العراق ببال عمر كذلك؟ فإنما استخلفه أبو بكر ثقة منه بأنه أقدر المسلمين على متابعة سياسته ولا سبيل إلى متابعة هذه السياسة إلا أن يأخذ الأمر بالحزم، وأن ينفذ وصية الصديق فيندب الناس مع المثنى، وأن يعزز قوات المسلمين بالشام، أترى وجوه المسلمين وأصحاب رسول الله الذين برموا باستخلافه يعاونونه في ذلك صادقين؟ وإذا ترددوا في معاونته فما عساه يصنع؟ وماذا يكون من أثر ترددهم في العرب وفي ولائهم للمدينة؟ ألا إن سياسة الحزم وحدها هي التي تنجح في هذا الموقف، والحزم لا ينقص عمر، فليعزم الأمر، وليتوكل على الله!
بات عمر وقد عناه التفكير في هذا كله، وأصبح فخرج إلى الناس بالمسجد، فأقبلوا على بيعته إقبالًا سكن بعض ما جاشت به نفسه، فلما كان الظهر وازدحم الناس للصلاة، صعد عمر المنبر درجة دون الدرجة التي كان يقوم أبو بكر عليها، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وذكر أبا بكر وفضله ثم قال: «أيها الناس! ما أنا إلا رجل منكم، ولولا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم.» قال هذه العبارة متأثرًا في تواضع ورفق أخذ بهما الناس ورأوا فيهما دليلًا على صدق فِراسة الصديق فيه، وبعد نظره في استخلافه، فأثنوا على عمر خيرًا وزادهم ثناءً عليه أن رأوه يتوجه بنظره إلى السماء ويقول: «اللهم إني غليظ فليني! اللهم إني ضعيف فقوني! اللهم إني بخيل فسخني!» وأمسك عمر هنيهة حتى سكن الناس، ثم قال: «إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبيَّ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجَزْء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكِّلن بهم.»
أتم عمر كلامه ثم نزل فأم الناس للصلاة، حتى إذا فرغ منها التفت إليهم فندبهم للذهاب إلى العراق مع المثنى، وذكر لهم وصية أبي بكر في ذلك، وسمع الناس نداء الخليفة، فنظر بعضهم إلى بعض ثم لم يجب الدعوة منهم أحد، وكأنما ذكروا ما أصاب إخوانهم بالشام، فلم يريدوا أن يصابوا بمثله، أليس أبو بكر قد دعاهم لغزو الشام فترددوا فقام عمر يومئذ فصاح بهم: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم إلى ما يُحييكم!» عند ذلك أجابوا الدعوة، فساروا لمواجهة هرقل وجنوده، وها هم أولاء أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، ومن معهم من الصحابة ومن تبعهم من الأمراء والأبطال من مختلف الأرجاء في شبه الجزيرة، في موقفهم من الروم لا يستطيعون التغلب عليهم، ثم لم يُغنِ عنهم أن أمدهم أبو بكر بخالد بن الوليد بعدما دوخ الفرس بانتصاراته في العراق، أتراهم يكونون أحسن حظًّا إذا لبوا نداء عمر وساروا مع المثنى في العراق؟! أم تراهم يقفون هناك من جنود كسرى موقف أصحابهم بالشام من جنود هرقل؟! وليس يطمع أحد منهم في أن يرد عمر خالدًا إلى العراق وهم يعلمون سوء رأيه فيه، ويذكرون موقفه منه في حادث مالك بن نويرة.
والمثنى بن حارثة قائد عظيم لا ريب، لكنه ليس من قريش وليس من أصحاب رسول الله، بل هو من بني بكر بن وائل، ثم إنه لم يلبث، حين فَصَل ابن الوليد من العراق إلى الشام، أن انسحب من سواد العراق إلى الحيرة، ثم جاء إلى المدينة يستمد الخليفة، ويدل بذلك على أنه في مكان من الفرس لا يحسد عليه، ولعل له عذره، فاسم الفرس كان يلقي في قلوب العرب الرعب، ولقد ظن بعضهم أن خالدًا غلبهم؛ لأنهم استخفوا بادئ الرأي بأمره، فلم يواجهوه من قوتهم بما يرده على عقبه، أما وذلك الشأن فما لهم ولقتال قد تدور عليهم دائرته؟
لم يَخِفَّ أحد من الزعماء وأولي الرأي ملبيًا نداء عمر، وإذا تثاقل هؤلاء كان غيرهم من جمهور الناس أكثر تثاقلًا، هنالك أطرق عمر هنيهة، ثم عاد إلى مجلسه من المسجد وعاد الناس يتتابعون على بيعته وانصرف الناس بعد العشاء، وبقي عمر ليله يفكر، فلما أصبح وأخذ مكانه من المسجد، وعاد الناس يتتابعون على بيعته، ونادى المنادي لصلاة الظهر، فما لبث عمر حين انفتل منها أن نادى في الناس بصوته الجهير يأمرهم أن يردوا سبايا أهل الرِّدَّة إلى عشائرهم، ويعلل ذلك بقوله: «إني كرهت أن يصير السبي سُنة في العرب.»
سمع الناس هذا الأمر، فشخصت أبصارهم إلى عمر، وجعلوا يتساءلون بينهم: ماذا أراد به؟! لقد سبى المسلمون من العرب في حروب الرِّدَّة تنفيذًا لأمر أبي بكر حين أذاع في أرجاء شبه الجزيرة أنه أمر كل قائد من قواده ألا يقبل من مرتد إلا الإسلام، ومن أبى يقاتله على ذلك، ولا يُبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يُحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبي النساء والذراري، أفيريد عمر بهذا الأمر أن يخالف أبا بكر وأن يجري على غير سنته؟ أم أنه رأى الناس تقاعسوا حين ندبهم للذهاب مع المثنى فأراد أن يستميل العرب من مختلف القبائل إليه ليمد المثنى بهم؟ أيًّا ما كان الأمر، فما أمر به جديد في سياسة الدولة يقف النظر ويوجب التساؤل.
بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه، ومن قال ذلك فقد صدق.
… إنني كنت مع رسول الله، فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان — كما قال الله — بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، فكنت بين يديه سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله كثيرًا وأنا به أسعد.
ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عز وجل وهو عني راضٍ، فالحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد.
ثم إني وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يُذعن بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف.
فاتقوا الله، عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني! وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قال عمر هذا القول ثم نزل فأمَّ الناس للصلاة، وأتمها ثم انصرف عنهم، وجعل الناس يفكرون فيما سمعوا منه، لقد عرفوه رجلًا صريحًا ظاهره كباطنه، وسره كعلانيته وعرفوه رجلًا عادلًا مع ما فيه من شدة وغلظة، وها هو ذا يذكر لهم أن شدته لن تكون إلا على الظالمين، وهو لا يخدعهم حين يقول إنه سيكون لأهل السلامة والقصد ألين من بعضهم لبعض، فقد عرفوا من رفقه في بعض المواضع ما لا سبيل إلى إنكاره أو نسيانه، ثم إنه وعدهم أن يزيد في عطاياهم وأرزاقهم، وأن يكون أبًا لعيالهم إذا غابوا عنهم في حرب، أليس خليقًا بهم أن يولوه كل ثقتهم، وأن يجيبوا دعوته إذا دعاهم؟!
شعر الناس بما في تثاقلهم من سبة لهم بعد الذي سمعوا من كلام المثنى ومن كلام عمر، إنهم نصروا رسول الله وأعزوا دين الله، ونصروا أبا بكر من بعده فنصرهم الله، فما بالهم لا يتحركون لدعوة عمر! وترددوا: أيلبون الدعوة أم يظلون على تقاعسهم، وإنهم لكذلك إذ تقدم أبو عبيد عمرو بن مسعود الثقفي للسير إلى العراق، فكان أول منتدب لهذا الأمر الجليل، وثنى من بعده سليط بن قيس، عند ذلك اجتمع الناس إليهما وأجمعوا السير معهما، فكان معهما ألف رجل من أهل المدينة، ورأى عمر اجتماع ذلك البعث فاغتبط أيما اغتباط، وخفق قلبه شكرًا لله أن أخرج المسلمين من ذلك الجمود الذي كانوا فيه، والذي أوشك أن يفسد عليهم أمرهم.
مَن مِن المهاجرين والأنصار يتولى إمارة البعث؟ فكر الذين ترددوا في إجابة الدعوة في هذا الأمر، وخافوا أن يجعل عمر الإمارة على جيش فيه عدد عظيم من أهل المدينة لواحد من غير أهل المدينة؛ لذلك أسرع قوم إلى الخليفة يقولون له: «أمِّر عليهم رجلًا من السابقين من المهاجرين والأنصار.» لكن ترددهم ثلاثة الأيام الأولى من خلافة عمر قد حز في نفسه وأحفظه عليهم؛ لذلك لم يتردد أن أجابهم: «لا والله لا أفعل! إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدعاء، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابًا.» ثم دعا أبا عبيد فولاه الإمارة، ودعا سعد بن عبيد وسليط بن قيس وقال لهما: «أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من القدمة.»
اسمع من أصحاب النبي ﷺ وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعًا حتى تتبين، فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المَكِيث الذي يعرف الفرصة والكف.
هذه مشكلة معقدة ألهم الله عمر فيها الرأي، فحلها في أربعة الأيام الأولى من خلافته، ثم لم يصرفه اشتغاله بها عن التفكير في المشاكل الأخرى القائمة أمامه، فقد فكر في أمر الشام، وفي أمر نصارى نجران، وفي سائر الأمور التي كان يرى فيها غير رأي أبي بكر، وفكر في الخطة التي يجب أن يسير عليها لينفذ رأيه ويجمع المسلمين حوله، وكان حين تنفيذه رأيه في هذه المشاكل صريحًا كعهد المسلمين به، حازمًا غاية الحزم، لا يعرف التردد ولا المداراة، ولا يأبى أن يحمل التبعة كاملة؛ لأنه كان يؤمن بأنه على الحق، وأن الله مؤيده لذلك لا محالة.
لقد عرف الناس جميعًا سوء رأيه في خالد بن الوليد، وحرصه في حادث مالك بن نويرة على أن يُقيد أبو بكر منه، ولم يتغير رأي عمر في خالد من بعد هذا الحادث، وقد فصل خالد من العراق إلى الشام بأمر أبي بكر وولي الإمارة على قوات المسلمين فيه، ثم قضى به أكثر من شهر فلم يتغلب على قوات الروم، بل لم يواجههم، أية فرصة خير من هذه لعزل خالد عن إمارة الجيش ورد هذه الإمارة إلى أبي عُبَيْدَةَ! وهذا ما فعل عمر، فقد كتب إلى أبي عُبَيْدَةَ غداة قبض أبو بكر، يخبره بوفاة الخليفة، ثم كتب بعزل خالد وتولية أبي عُبَيْدَةَ إمارة الجيش مكانه، وأن يكون خالد أمير اللواء الذي كان أبو عُبَيْدَةَ أميره، وبعث بوفاة أبي بكر مع يَرْفَأ مولاه، وبعزل خالد وإمارة أبي عُبَيْدَةَ مع مَحْمِيَة بن زنيم وشداد بن أوس، وأوصى أبا عُبَيْدَةَ في كتاب توليته بقوله: «لا تُقْدِم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تستر يده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كَثْفٍ من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في هلكة! وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغمِّض بصرك عن الدنيا وأَلْهِ قلبك عنها، وإياك أن تهلك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيتم مصارعهم!»
كيف غامر عمر بعزل خالد وخالد على رأس قوات المسلمين بالشام، وهذه القوات في موقف دقيق! فقد كانوا هناك بإزاء الروم لا يواجهونهم ولا يقدرون من أمرهم على شيء، ولا يقدر الروم من أمر المسلمين على شيء، كان ذلك موقفهم قبل أن يذهب خالد بن الوليد من العراق إليهم، ثم ظلوا فيه بعد أن أقدم خالد بينهم، كان كلا الفريقين يتحين الفرصة التي يخرج فيها من جموده، ويوقع فيها بعدوه، أفلا يخشى الخليفة أن يفت أمره بعزل خالد من أعضاد المسلمين فيزيد موقفهم دقة؟ أولم يكن الأجمل به أن يتريث حتى يخرج خالد بالمسلمين من المأزق الذي هم فيه، وله بعد ذلك أن يأمر بما يشاء؟!
هذه اعتبارات لها من غير شك قيمتها في تطور القتال، وسنرى من بعد أن أبا عُبَيْدَةَ قدرها قدرها دون أن يخشى بَرَمَ الخليفة به، أو غضبه عليه، لكن عمر نظر في الأمر من غير هذه الناحية، فلو أنه أرجأ الأمر بعزل خالد إلى ما بعد المعركة لأضر ذلك بسياسته وأفسد عليه خطته، فليس للمعركة مصير إلا أن ينهزم المسلمون فيها أو ينتصروا، فإن انهزموا لم يُغن عزل خالد عن هزيمتهم، وإن انتصروا وخالد قائدهم لم يكن لعمر أن يعزل قائدًا في أوج نصره، فإن فعل أتى أمْرًا إدًّا، وعمر حريص على ألا يبقى خالد على القيادة العامة بالشام أو بغير الشام؛ لذلك أسرع فأصدر الأمر بعزله، وله من العذر أن خالدًا لم يحقق ما ندبه أبو بكر لتحقيقه، فإذا انتصر المسلمون بعد هذا فلا تثريب على عمر فيه، فهو إنما صنع ما اقتنع بأنه الحق، وصنعه وخالد في موقف لا يظلمه فيه من يأمر بعزله.
يتساءل الناس إلى يومنا هذا عن السر في عزل عمر خالدًا، وخالد سيف الله على لسان رسول الله، وهو الذي قضى على الرِّدَّة وفتح العراق، وهو البطل لا يُشَقُّ غباره، وعبقري الحرب غير منازع، أحقًّا أن مقتل مالك بن نويرة وتزوج خالد من امرأته قد بقي له من الأثر في نفس عمر ما حمله على هذا التصرف؟ أم خشي عمر أن يفتتن خالد بالناس كما افتتنوا به لانتصاره المتصل في الحرب، وقد يجر افتتانه على الدولة شرًّا؟ يرى بعضهم هذا الرأي الأخير، ويذكرون أن خالدًا رجع إلى المدينة يسأل عمر عما حمله على عزله فأجابه: «ما عزلتك لريبة فيك ولكن افتتن بك الناس، فخشيت أن تفتتن بالناس.» وهذه رواية لا سند لها، فالثابت أن خالدًا لم يذهب إلى المدينة بعد عزله، وأنه بقي بالشام يتابع غزواته بإمرة أبي عُبَيْدَةَ حتى عزله عمر عن كل عمله بالجيش في السنة السابعة عشرة من الهجرة. ولا أحسب كذلك أن مقتل مالك بن نويرة كان سبب العزل، فقد انقضت سنتان بين هذا الحادث واستخلاف عمر، وفي هاتين السنتين بلغت عبقرية خالد في القيادة أوْجَها، وكانت فعاله في غزوة اليمامة وفي حرب العراق حديث الناس جميعًا في شبه الجزيرة وفي فارس والروم، وعندي أن عمر إنما عزل خالدًا؛ لأن الثقة بين الرجلين لم تكن قائمة قبل خلافة عمر ولا في أثنائها.
ولست أقصد ثقة عمر بعبقرية خالد، أو ثقة خالد بعدل عمر، وإنما أقصد الثقة القائمة على ما يكون للرجل من حسن الرأي في صاحبه حتى لَيُغْضِي عن هَناتِه، وحتى لَتُذْهِبَ الحسنةُ التي يأتيها صاحبه أضعافَها من سيئاته، وقد كان عمر يرى في خالد زهوًا يدفعه إلى التسرع في الحرب، وإن لم يكن للتسرع مسوغ، وإن خالف به أمر ولي الأمر، وقد دفعه الزهو والتسرع إلى القتال يوم فتح مكة، حين نهى النبي عن القتال، كما دفعه للسير إلى بني تميم وقتل مالك بن نويرة دون إذن من أبي بكر، وكان خالد ينسب كل ما يوجهه الخليفة الأول إليه من لوم إلى تحريض عمر، حتى ليقول حين أمره الصديق بمغادرة العراق إلى الشام: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.» وإذا ضاعت الثقة بين رجلين على هذا النحو، لم يكن تعاونهما مستطاعًا، وبخاصة إذا كان أحدهما رئيس الدولة والآخر أمير جندها وصاحب لوائها، لا عجب إذن بعزل عمر خالدًا حتى لا تكون بينهما صلة مباشرة، بل يكون أبو عُبَيْدَةَ هو الذي يوجه خالدًا ويصدر إليه أوامره، وقد كانت الصلة بين خالد وأبي عُبَيْدَةَ صلة مودة وحسن رأي.
قد يعترض على رأينا هذا بأن الخليفة لا يلي أمر الدولة لحسابه، بل لحساب المسلمين جميعًا، وكان من الواجب لذلك على عمر أن ينسى ما بينه وبين خالد، وأن يدع سيف الله يمضي لا يشيمه، متأسيًا في ذلك بأبي بكر، وما صنع ضاربًا المثل للمسلمين في تقدير الرجال بأعمالهم، والسمو بهذا التقدير على الآراء والميول الذاتية، وهذا اعتراض له وجاهته في المنطق النظري لا ريب، لكن وجاهته هذه تتضاءل كل التضاؤل أمام الواقع من أمر هذه الحياة، فنحن معشر الناس، لا نتصرف في شئون الحياة بعقولنا وحدها، بل إن لعواطفنا علينا لسلطانًا أي سلطان، وسواء أكان ما نتصرف فيه من خاصة شئوننا أو بعض ما وكل إلينا من شئون غيرنا فإنا نتأثر حين التصرف فيه بشعورنا كتأثرنا بعقولنا، وقد يكون الشعور أكبر من العقل أثرًا في اتجاهاتنا، ومن المحال أن نقيم بين حكم الشعور وحكم العقل حدًّا فاصلًا، صحيح أن بعض الناس أكثر تأثرًا بشعورهم، وبعضهم أكثر تأثرًا بعقلهم، لكن اختلاف الكم لا يغير من تزاوج الشعور والعقل في توجيه أحكامنا، ولا ريب أن قد تأثر عمر بشعوره نحو خالد، ولعله كذلك قد ظن أن خالدًا حسده على الخلافة، كما ظن خالد من قبل أن عمر حسده على فتح العراق، والرجلان بالغان غاية القوة كل في ناحيته، فإذا تعارض شعور كل منهما نحو صاحبه على هذا النحو، خيف أن يتصادما، وأن يكون لتصادمهما أثر سيئ في شئون الدولة وفي مصيرها؛ لذلك أخذ عمر الأمر بحزم حاسم لا يعرف هوادة، غير ناظر إليه من ناحية العدل وما يوجبه، بل من ناحية النظام العام ومن ناحية أمن الدولة وسلامتها.
على أن تصرف عمر بعزل خالد لم يكن شذوذًا منه، وإن كان الأول من نوعه، بل كان سياسة جرى عليها مع الولاة والأمراء طيلة عهده، وسنرى من بعد أن مؤاخذة هؤلاء الولاة والأمراء بالشدة كانت من مألوف خطته، وأنه كان يدعوهم إليه، ويحاكمهم عما يبلغه من شكايات، ويعزل من لا يقتنع بدقته وأمانته في أداء عمله، ذلك أنه كان يحرص على تركيز السلطة كلها في يديه، وذلك قوله أول ولايته: «والله لا يحضرني من أمركم شيء فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجَزْء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.» إذا اجتمع هذا الرأي في سياسة الدولة إلى ما عرف عن عمر وسوء رأيه في خالد وضياع الثقة والألفة بين الرجلين، تكشف السر في عزل خالد، وتكشف مكان هذا السر من نفس عمر.
عزل عمر خالدًا عن إمارة الجيش بالشام وردها إلى أبي عُبَيْدَةَ، لكن ذلك لن يغير من موقف المسلمين بإزاء الروم، ولن يشد أزرهم في قتالهم، بل لعله يؤدي إلى النقيض فتكون الطامة الكبرى.
وإذا كان عمر أمر برد السبي من أهل الرِّدَّة إلى عشائرهم فكسب بذلك قلوبهم، فقد أقبلوا سراعًا من كل حدب يلبون دعوته يريدون أن يأخذوا في الحرب بنصيب يطهرهم من سابق ردتهم، ويجعل لهم ولذويهم من مغانم الحرب ما لسائر المسلمين؛ لذلك اطمأن عمر إلى توفيق الله في معالجة الموقف الدقيق لجيوش المسلمين خارج شبه الجزيرة، فاتجه بتفكيره إلى ناحية أخرى لا تخالف سياسة رسول الله وسياسة الصديق في أساسها، وإن خالفت هذه السياسة في بعض تفاصيلها.
ذلك أن رسول الله دعا الناس كافة إلى دين الله، لم يفرق في دعوته بين أهل الكتاب وغيرهم، وقد رأى يهود المدينة في هذه الدعوة خطرًا عليهم، فوادعوا محمدًا وعاهدوه على حرية العقيدة، لكنهم ما لبثوا حين رأوه يستقر له الأمر أن ائتمروا به، فقاتلهم وأجلاهم عن المدينة وعن أكثر منازلهم من شبه الجزيرة، ولم يبقَ منهم إلا قليلون بعد غزوة خيبر صالحوه على البقاء بأرضهم والعمل فيها على أن يكون للمسلمين النصف من غلاتها، أما نصارى نجران فبعثوا وفدًا يجادل النبي، فلما دعاهم ألا يعبدوا إلَّا الله ولا يشركوا به شيئًا ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، تولوا وعادوا إلى بلادهم، ثم إنهم بعثوا إليه وفدًا صالحه على الجزية يدفعونها لقاء دفاع المسلمين عن حرية عقيدتهم، فلما تولى أبو بكر أقر نصارى نجران وعاهدهم على ما عاهدهم النبي عليه، واقتضى يهود خيبر ما كان يقتضيهم رسول الله.
ونظر عمر في الأمر يوم استخلف فاتجه فيه وجهة جديدة، فقد دعا إليه يَعْلَى بن أمية وألقى عليه أن يجلي نصارى نجران عن ديارهم، وقال له: «إيتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أَجْلِ من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من يُجلَى منهم، ثم خيرهم البلدان، وأعلنهم أنا نُجليهم بأمر الله ورسوله ألا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرج من أقام على دينه منهم، ثم نعطيه أرضًا كأرضهم إقرارًا لهم بالحق على أنفسنا، ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك بدلًا بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم من الريف.»
يحسب بعضهم أخذ عمر بهذه السياسة نقضًا لما صنعه رسول الله وما تابعه الصديق عليه، والمستشرقون يذهبون لذلك في التحامل على عمر إلى حد لومه على ما صنع، أما المؤرخون المسلمون فيلتمسون له المعاذير، فيذكر بعضهم أن رسول الله إنما عاهد نصارى نجران على ألا يُفْتَنُوا عن دينهم «ما رعوا العهد، ونصحوا، ولم يأكلوا الربا»، وإنهم أكلوا الربا أضعافًا مضاعفة، فنقضوا العهد، فحق لعمر أن يجليهم عن شبه الجزيرة، ويذكر آخرون أنهم اختلفوا فيما بينهم واشتد خلافهم، فطلبوا إلى عمر أن ينقلهم إلى ديار غير ديارهم، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أنهم قويت شوكتهم، فخشيهم عمر فأجلاهم، وسواء أصح بعض ما روي من ذلك أم لم يصح كله، فإنه في رأيي لم يكن السبب في تصميم عمر على إجلائهم عن شبه الجزيرة، وإنما يرجع السبب في ذلك إلى تكييف عام لسياسة الدولة اقتنع به عمر فنفذه في حزم وعدل.
ولكي نقدر هذا التكييف يجب أن ننفي عن عمر تهمة التعصب كما يلقيها عليه المستشرقون! فهم يذكرونها متخذين من اقتناع أهل هذا العصر الحاضر بمبدأ حرية العقيدة حجة لهم في مؤاخذة عمر بما صنع، وهذا خطأ أدى إليه تجاهل الواقع، فالواقع من عصر عمر أن العقيدة كانت أساسًا جوهريًّا في حياة الجماعة، فكان المخالفون لعقيدة الجماعة أو الخارجون عليها يعدون في حكم الأجانب عن الجماعة، بل في حكم الخارجين عليها، وكان حربهم لذلك حلًّا لصاحب الأمر بل واجبًا عليه، ولهذا حورب محمد في دعوته إلى الله وإلى دين الله، ولهذا شبت حروب شعواء بين الروم والفرس بسبب العقيدة، وقد ظل الأمر على هذا في أوروبا وغير أوروبا إلى عهد غير بعيد منا، ففي سبيل العقيدة شبت الحروب الصليبية بين النصارى والمسلمين، وفي سبيلها حدثت المآسي والمجازر بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد عاهد رسول الله نصارى نجران؛ لأن شبه الجزيرة لمَّا تكن وحدتها السياسية قد تمت، فكانت نجران لصيقة باليمن التي ظلت على وثنيتها زمنًا غير قليل بعد هذا العهد بين محمد وهؤلاء النصارى، فلما قُبض رسول الله وخلفه أبو بكر، كانت اليمن في طليعة من انتقض على سلطان المدينة وارتد عن الإسلام، فكان طبيعيًّا أن يعاهد الصديق نصارى نجران على ما عاهدهم رسول الله عليه، وقد قضت حروب الرِّدَّة على الانتقاض وعلى الرِّدَّة جميعًا، وأدى القضاء عليهما ثم أدى ما تلاهما من غزو العراق والشام إلى توطيد الوحدة السياسية والوحدة الدينية في أرجاء شبه الجزيرة جميعًا، فأصبحت كلها دولة واحدة، عاصمتها المدينة، وحاكمها خليفة رسول الله، وكذلك تولى عمر أمر المسلمين وقد زالت الأسباب التي أدت إلى معاهدة نجران في عهد النبي وفي عهد الصديق، وآن لعمر أن يفكر تفكيرًا جديدًا في سياسة دولة اتحدت أجزاؤها من شمال شبه الجزيرة إلى جنوبها، وأصبحت المدينة عاصمتها لا ينازعها منازع.
أما وقد أصبحت بلاد العرب دولة متحدة تدين كلها بدين واحد، ويسوسها رجل رضي أهلها جميعًا بيعته، فجدير بأميرها أن ينفي عنها كل سبب للضعف أو الوهن، ومن أسباب الوهن لأمة أن تتعدد أجناسها أو تتعدد الشرائع ذات السلطان النافذ بين أهلها، ذلك أمر أقره الناس ولا يزالون يقرونه، ولذلك نرى المعاهدات المختلفة إلى أحدث العصور تنقل الجماعات من أهل الجنس الواحد إلى صعيد واحد، ولذلك لا تبيح أمة متحضرة أن يقوم فيها أكثر من تشريع واحد، والإسلام يتناول فيما يتناوله أمورًا لا تتفق ومقررات النصرانية، فهو يحرم الربا، والنصرانية لا تحرمه، ويحرم الخمر، والنصرانية لا تحرمها! وهو دين التوحيد، والنصرانية دين تثليث، وقد كانت هذه المقررات وما إليها نافذة يومئذ لا يستطيع أحد أن يتسامح فيها كما يتسامح الناس فيها اليوم باسم حرية العقيدة، فلم يكن عجبًا أن يصر عمر على ألا يترك بجزيرة العرب دينين وقد أصبح للعرب في شبه الجزيرة كلها دين واحد ارتضوه في عهد رسول الله وعادوا إليه بعد ما ارتد بعضهم عنه في عهد أبي بكر، فوحدة الدين هي الكفيلة بطمأنينتهم وبمتانة وحدتهم، وبألا تقوم بينهم وبين من لم يكونوا على دينهم ثائرات تجني على الطمأنينة أو تعبث بالوحدة، وهذا ما فعل؛ ولهذا دعا إليه يعلى بن أمية وألقى عليه أن يجلي نصارى نجران.
وتصرف عمر في هذا الأمر خليق بالحمد، غير خليق بالتحامل ولا باللوم، فهو لم يلجأ إلى ما لجأ إليه أصحاب الكثرة من الكاثوليك أو البروتستانت؛ إذ كانوا يرهقون خصومهم في المذهب حتى ليقتلوهم بعد أن يذيقوهم العذاب ألوانًا؛ بل كان أول ما أوصى به يعلى ألا يفتن نصارى نجران عن دينهم، وأن يدع لهم الحرية كاملة في البقاء عليه أو التحول عنه إلى الإسلام، وأن يعطيهم أرضًا كأرضهم خارج شبه الجزيرة، بذلك لا يظلمهم ولا يصنع معهم إلا ما تصنعه الدول المتحضرة اليوم، إذ تنقل أهل جنس من الأجناس إلى حيث تقيم كثرة من بني جنسهم، وحيث يأمنون أن يضرهم الاختلاف في الجنس مع جيرانهم أشد مما يضر الكثرة الضخمة القائمة من حولهم.
لم يَرْتَبِ الناس بعد ما عرفوا من أمر عمر بإجلاء نصارى نجران في أنه سيجلي اليهود ويجلي غير المسلمين جميعًا عن شبه الجزيرة، وقد كانت هذه السياسة جديدة، لكنهم لم ينكروها ولم يعجبوا لها، بل لعلهم كانوا أكثر عجبًا لتولية أبي عُبَيد الثقفي إمرة الجيش بالعراق وفيه من فيه من أهل المدينة مهاجريهم والأنصار، ثم كانوا أكثر من ذلك عجبًا لعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش بالشام، لكنهم رأوا عمر يأخذ الأمر بالحزم والعدل معًا، وذكروا مواقفه من رسول الله ومن أبي بكر، ثم ذكروا موقف المسلمين ودقته بالعراق والشام، ورأوه يخطبهم منكرًا نفسه متجردًا لله في سبيل خيرهم جميعًا، فآثروا أن يدعوا له الأمر وأن يلقوا عليه التبعة، وأن يضرعوا إلى الله بالدعاء أن يوفقه كما وفق أبا بكر قبله.
إني لأرجو أن عَمرت فيكم، يسيرًا أو كثيرًا أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، وألا يبقى أحد من المسلمين، وإن كان في بعثه، إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله.
إني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء فلا يقولن أحدكم إن عمر قد تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليُؤذِنِّي، فإنما أنا رجل منكم … وأنا حبيب إليَّ صلاحكم، عزيز عليَّ عُتبكم … وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله.
بهذه الأقوال وبمثلها كان عمر يخطب الناس فيتألف قلوبهم، وقد تألف قلوب العرب في أرجاء شبه الجزيرة منذ أمر برد السبي من أهل الرِّدَّة إلى عشائرهم، فلما أمَّر أبا عبيدة، وعزل خالدًا، وأمر بإجلاء نصارى نجران لم ير الناس في ذلك كله ما يبرمون به، وإن رأوا فيه جديدًا استفتح عمر به عهده، مستقلًّا فيه برأيه، غير متأسٍّ فيه بسلفه، وما لهم يبرمون به، وتبعة ذلك كله عليه، وقد عرفوه رجلًا يضطلع بأجسم التبعات فلا ينوء بحملها، وكثيرًا ما يلهمه الله الرأي فيما ينهض به منها، فيكون التوفيق رائده ونصيبه!
والآن قد سبقنا المثنى إلى العراق فلنسارع لنلحقه به، ولنرو حديثه حين يدركنا أبو عبيد بجيشه، فتكون القيادة العامة له، ثم يكون له من حسن البلاء ما ينتهي به إلى المغامرة وإلى الاستشهاد.