الفصل الثامن

القادسية

قضت جيوش المسلمين على قوات الروم بفحل، فانصرف أبو عُبَيْدَةَ وخالد يريدان حمص، في حين سار هاشم بن عُتْبَةَ والقَعْقَاع بن عمرو على رأس جيش العراق مددًا لقوات المسلمين فيه، وسار سعد بن أبي وقاص من المدينة مثل مسيرتهما من الشام على رأس جيش تزيد عدته على ثلاثين ألفًا وجهه عمر ليقضي على سلطان الفرس في العراق كله.

وكانت إمارة سعد على هذا الجيش نتيجة مشاورة طويلة؛ ذلك أن المثنى بعث إلى عمر بعد غزوة البويب يذكر له اجتماع الفرس وتمليكهم يَزْدَجِرْد بن شهريار بن كسرى وإرساله الجيوش إثر الجيوش لقتال العرب، وما أدى ذلك إليه من ثورة أهل السواد بالمسلمين، واضطرارهم إياهم للانسحاب إلى ذي قار على تخوم شبه الجزيرة، عند ذلك كتب عمر إلى عماله على الكور والقبائل في بلاد العرب كلها يقول لهم: «لا تَدَعوا أحدًا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إليَّ، والعَجَلَ العجلَ!» وقال: «والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب!» فلما اجتمع له من الجند بضعة آلاف خرج بهم حتى نزل على ماء يدعى صرارًا فعسكر به، ولا يدري الناس أيسير بنفسه على رأس هذا الجيش إلى العراق، أم يقيم بالمدينة ويُؤمر على الجيش رجلًا غيره، وسأله عثمان بن عفان في ذلك، فدعا الناس للصلاة، فلما اجتمعوا سألهم رأيهم فيمن يسير على رأس الجيش إلى العراق، قال العامة: سر وسر بنا معك، ودخل عمر في رأيهم وكره أن يدعهم إلا أن يخرجوا من هذا الرأي في رفق، ثم إنه دعا أصحاب المشورة فاجتمعوا إليه، فقال لهم: احضروني الرأي فإني حائر، وترادُّوا القول بينهم، ثم أجمع ملؤهم على أن يبعث أمير المؤمنين رجلًا من أصحاب رسول الله على رأس الجيش ويبقى هو بالمدينة يمد هذا الرجل بالجنود، «فإن كان هذا الذي يشتهي من الفتح فذلك ما يريد ويريدون، وإلا ندب جندًا آخر يغيظ به العدو حتى يجيء نصر الله.» وكان مما قاله عبد الرحمن بن عَوْفٍ لعمر في تأييد هذا الرأي: «أقم وابعث جندًا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه إن يهزم جيشك فليس كهزيمتك، وإن تُقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون، وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدًا.» عند ذلك جمع عمر المسلمين فخطبهم، وكان مما قاله لهم: «يحق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأن أبعث رجلًا.»

وسأل عمر خاصته عمن يتخيره لإمارة هذا الجيش الذي اجتمع إليه، وإنهم ليعرضون الأسماء فيما بينهم إذ جاء عمر كتاب من سعد بن أبي وَقَّاصٍ، وكان على بعض صدقات نجد، يخبر بأنه تخير له ألف فارس ذوي نجدة ورأي، وسمع القوم ما في الكتاب وعمر يسألهم عمن يؤمره، عند ذلك أجابوه: قد وجدت الرجل! قال: فمن؟ قالوا: الأسد في براثنه! سعد بن مالك! ووافقهم عمر، وبعث إلى سعد فقدم عليه من نجد، فأمره على حرب العراق، ثم كان أول ما أوصاه به قوله: «يا سعد، سعد بني وهيب! لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحبه؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن! وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته؛ فالناس شريفهم ووضيعهم في دين الله سواء، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي يلزمه فالزمه، وعليك بالصبر!»

وإنما أوصى عمر سعدًا بهذه الوصية لما كان لسعد من مكانة بين المسلمين وقربى من رسول الله؛ فقد كان من بني زُهْرة أخوال النبي، وكان من أسبق قريش إلى الإسلام، أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان لذلك يقول: «أسلمت يوم أسلمت وما فرض الله الصلاة.» ويقول: «ما أسلم رجل قبلي إلا رجل أسلم في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد أتى عليَّ يوم وإني لثلث الإسلام.» وكانت عائشة ابنته تصفه بقولها: «كان أبي رجلًا قصيرًا دحداحًا غليظًا ذا هامة شَثْنَ الأصابع أشعر، وكان يخضب بالسواد.» وكان سعد ذا مال ونعمة، فكان يرتدي الخز ويلبس في يده خاتمًا من ذهب، وهو لذلك صاحب حديث الوصية، فقد مرض وهو بمكة في عنفوان شبابه مرضًا أشفى منه على الموت، فعاده رسول الله يومًا فقال له: «يا رسول الله! إن لي مالًا كثيرًا وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بثلثَيْ مالي؟» قال رسول الله: لا، قال سعد: فبنصفه، وأجاب رسول الله: لا، قال سعد: فالثلث؟ عند ذلك قال رسول الله: «الثلث، والثلث كثير، أَنْ تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.»

وكان سعد إلى صفاته هذه فارسًا شجاعًا وبطلًا مقدامًا، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وغزوات الرسول كلها، وكان في فتح مكة يحمل إحدى رايات المهاجرين الثلاث، وقد ثبت يوم أحد مع رسول الله حين ولى الناس، ودافع عن رسول الله دفاعًا مجيدًا حتى كان يقول له: «ارم سعد فداك أبي وأمي!» هذا إلى أنه أول من رمى سهمًا في الإسلام حين ذهب في سرية عبيدة بن الحارث إلى ماء بالحجاز بوادي رابغ، فلقيهم جمع من قريش على رأسهم أبو سفيان فانسحبوا من غير قتال إلا هذا السهم الذي رمى به سعد، ولذلك كان يقول: «إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله.» فارس هذه صفاته لا عجب أن يكون الأسد في براثنه، وأن يتفق للناس رأيًا واحدًا على تأميره في الجيش الذاهب للعراق ليواجه موقفًا من أدق المواقف التي واجهت المسلمين فيه.

خرج سعد من المدينة قاصدًا العراق على رأس أربعة آلاف من الجند معهم نساؤهم وأبناؤهم، وكانت القوات تقبل بعد خروجه تترى إلى المدينة تلبية لنداء عمر، فكان يبعثها في إثر سعد لتنضم إليه، بذلك ازداد جنده عددًا وقوة، وزاد في قوته أن بعثت شبه الجزيرة بخيرة رجالها من الأبطال والفرسان والشعراء والخطباء والرؤساء وكل ذي رياسة ومكانة، وكان بين هؤلاء عمرو بن معدي كرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي والأشعث بن قيس الكندي وغيرهم من الزعماء، كل على رأس قبيلته، وبلغت القوات عشرين ألفًا حين اقترب سعد من زرود، أما قوات المثنى التي انسحبت إلى ذي قار بعد معركة البويب، وبعد أن تولى يَزْدَجِرْد أمر فارس، فكانت ثلاثة آلاف انضم إليهم من القبائل المجاورة خمسة آلاف غيرهم، وكانت القوات التي فصلت من الشام بإمرة هاشم بن عُتْبَةَ ثمانية آلاف، بذلك بلغ الجيش الذي سار من مختلف الأنحاء ليشهد القادسية ستة وثلاثين ألفًا أو نحوها، وذلك أضخم جيس عبَّأه المسلمون لغزو العراق منذ سار المثنى إلى دلتا النهرين في عهد أبي بكر.

وقد اكتمل جمع هذه القوات كلها، خلا القوة المقبلة من الشام، حين بلغ سعد شَراف، لكن المثنى لم يكن في جنوده، فقد نغر عليه جرح الجسر فمات بعد أن استخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولم يكن المعنَّى بن حارثة أخو المثنى في هذه الجنود أيضًا، فقد علم أن قابوس بن قابوس بن المنذر ذهب إلى القادسية بأمر الفرس يدعو العرب إلى الاشتراك مع جنود كسرى في قتال المسلمين، وأنه كاتب بني بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان بن المنذر يكاتبهم به لينضموا إلى دعوته، وقد أسرع المعنَّى من ذي قار إلى بني بكر بن وائل فأفسد على قابوس خطته، واستبقى قومه بني بكر على ولائهم للمسلمين، ثم رجع إلى ذي قار فاصطحب سلمى زوج أخيه المثنى، وسار بها حتى أدرك سعدًا بشراف حين أزمع الرحيل إلى القادسية.

ودخلت سلمى ودخل المعنَّى على سعد، فقص عليه نبأ قابوس وبني بكر بن وائل، ثم ذكر له وصية المثنى إليه ألا يقاتل عدوه من أهل فارس، إذ اجتمع أمرهم وملؤهم، وألا يقتحم عليهم عُقْر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم، على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مَدَرة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم وإن تكن الأخرى كانوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكَرَّةَ عليهم، فلما سمع سعد رأي المثنى ووصيته ازداد حزنه لموته وترحم عليه، وأمَّر المعنَّى على عمله وأوصى بأهل بيته خيرًا، ثم خطب سلمى إلى نفسها فتزوجها وبنى بها، وكان مثل هذا الزواج بعض عادات العرب تكريمًا لذكرى العظيم المتوفى وإكرامًا لأرملته حتى تظل في مثل عزها وكرامتها في حياة زوجها الأول.

كان عمر بن الخطاب بالمدينة على علم بحركات جيش العراق وتنقلاته، فقد كانت أوامره إلى سعد أن يكتب له في كل موقف وأن يتلقى أوامره، وكان سعد قد كتب إليه أول ما نزل شراف وقبل أن يجيئه الخبر بموت المثنى يذكر له أنباءه ويسترشده، فلما قرأ عمر هذا الكتاب بعث إلى سعد، فكان رأيه كرأي المثنى في وصيته، أمر سعدًا بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرق والمسالك على فارس، ثم قال له: «ولا يهولنك كثرة عَددهم وعُددهم فإنهم قوم خَدَعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تُنصروا عليهم، ثم لم يجتمع شملهم أبدًا، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم. وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر فإنكم عليه أجرأ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل، حتى يأتي الله بالفتح عليهم ويرد لكم الكرة.» وكان مما ختم به كتابه قوله: «اكتب إليَّ بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إليَّ كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية.»

وكان عمر فيما يصدره من أوامره لا تفوته كبيرة ولا صغيرة، فلم يكن يكفيه أن يشجع القواد والجند وأن يهز قلوبهم، وأن يذكر لهم مفاخرهم ومفاخر قومهم، ثم لم يكن يكفيه أن يحذرهم بأس العدو وخداعه، بل كان يرسم لهم الخُطَط، ويذكر لهم موعد الانتقال من مكان إلى مكان، وكأنما كان على علم بهذه الأرض وتقويمها، كان مما جاء في بعض كتبه إلى سعد قوله: «إذا بلغت القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لمادتهم، وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر.» وكتب له باليوم الذي يرتحل فيه من شراف وقال له: «فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عُذَيب الهِجانات وعذيب القوادس، وشَرِّق بالناس وغرِّب بهم.» وجاء في كتاب آخر بعث به إلى سعد قوله: «اكتب إليَّ أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتابة به قلة علمي بما هجمتم عليه والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها.» وكتب إليه سعد يصف البلدان ويصور له موقع القادسية بين العتيق، أحد فروع الفرات، وخندق سابور، ويذكر له سهل القادسية الأخضر الممتد إلى الحيرة بين طريقين يطلع أحدهما بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ويسير الآخر إلى الوَلَجة في فيض من المياه، ثم يذكر له أن أهل السواد الذين كانوا قد صالحوا المسلمين قد انتقضوا عليهم وانضموا عونًا لأهل فارس. ورد عمر على هذا الكتاب يقول: «قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينفض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله، وإنه قد أُلقي في روعي أنكم ستهزمونهم فلا تشكنَّ في ذلك.» وجعل يدعو لسعد خاصة وله وللمسلمين عامة.

هذه الكتب المتبادلة بين سعد وعمر تشهد باهتمام أمير المؤمنين بأمر العراق، وتتبعه أنباء الجند فيه بدقة دونها كل دقة، وحرصه بذلك على أن يكون وكأنه القائد الذي يسير على رأس الجيش ويجهز للمعركة، فهو يوجهه ويشرف على كل حركة من حركاته، وقد كان ذلك شأنه مع جند المسلمين بالشام، فكان يكتب إلى أبي عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ بمثل ما كان يكتب به إلى سعد بن أبي وَقَّاصٍ، وكان يتابع بنظره، بل بقلبه وكل جوارحه، مسير هؤلاء القواد ومن يلونهم من الجنود، وكأنه حاضر معهم وسائر في خطاهم؛ مشفق عليهم من عدوهم، شريك لهم في سرائهم وضرائهم، حريص أشد الحرص على نصرهم، وليبلغ هذا النصر جعل يذيع النداء تلو النداء في أرجاء شبه الجزيرة يدعو إليه كل قادر على القتال فيوجهه إلى العراق أو إلى الشام، ذلك بأنه لم يبقَ لديه ريب في أنه إن لم يفتح المدائن ويضم إليه العراق كله، وإن لم يفتح حمص وأنطاكية ويضم إليه الشام كله، بقيت بلاد العرب يهددها الأسدان فارس والروم، وتهديد بلاد العرب يهدد الدين الناشئ فيها، وحماية هذا الدين وحرية الدعوة فرض عين على كل مسلم، وعلى أمير المؤمنين قبل كل مسلم، ولا بد لحمايته من تقليم أظافر الأسدين، ومن القضاء على كل قوة تهدد شبه الجزيرة.

تلقى سعد كتب عمر، فبدأ سيره من شَراف يريد القادسية، على أنه لم يفصِل من شراف حتى كان قد عبأ جيشه تعبئة عرفها عمر وأقرها، فأمَّر أمراء الأجناد، وعرَّف العرفاء، فجعل على كل عشرة عريفًا، وأمر على الرايات رجالًا من أهل السابقة في الإسلام، وجعل على المقدمة والمجنبتين أبطالًا حاربوا مع رسول الله ، وكان في هذا الجيش أربعمائة وألف حاربوا مع رسول الله، منهم بضعة وسبعون بدريًّا، وبضعة عشر وثلاثمائة ممن كانت لهم صحبة في بيعة الرضوان وما بعدها، وثلاثمائة ممن شهدوا الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة في جميع أنحاء العرب، وسار سعد بالناس متمهلًا حتى بلغ العُذَيب فنزلها وأقام بها زمنًا قبل أن يسير إلى القادسية.

وكانت العذيب من مسالح فارس الحصينة ذات البروج المنيعة، ولقد بلغتها طلائع المسلمين في وجه الصبح، فوقفت قبالتها، وجعلت تنظر إليها فإذا رجل يتراءى بكل برج من بروجها؛ لذلك أمسكوا ولم يتقدموا، حتى إذا أدركهم كَثْفٌ من الجيش ساروا يريدون اقتحام هذه البروج، فلما دنوا منها رأوا رجلًا يركض نحو القادسية، ورأوا البروج خلاء ليس بها أحد، عند ذلك أيقنوا أن الرجل كان مكيدة، وكان يتراءى بين البروج ليراهم ويعرف قوتهم فينطلق بخبرهم إلى الفرس، ثم وجدوا بالبروج رماحًا ونشابًا وأسفاطًا انتفعوا بها، وقد انطلق في أثر ذلك الفارس زُهْرة بن الحويَّة ليأسره فلم يدركه، فعاد يشارك المسلمين في الحديث عن ثباته ورباطة جأشه.

استقر سعد بالعذيب حين لم يجد بها من الفرس أحدًا، ثم جعل يبعث قوات من جنده تغير على ما حولها تنشر الرعب في نفوس الناس وتجيء بالغنائم والأسرى، وقد سارت إحدى هذه الغارات بليل تريد الحيرة، فلما جاوزوا السيلحين وقطعوا جسرها في طريقهم إلى عاصمة اللخميين سمعوا جلبة وضوضاء، فأحجموا وأقاموا كمينًا حتى يتبينوا، وإنهم لكذلك إذ جازت بهم خيول تتقدم ابنة مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصِّنَّيْن أحد أشراف العجم، فلما جازت الخيل كمين المسلمين حمل هؤلاء على من يحيطون بالعروس ففروا، فأخذوا الأثقال وأخذوا ابنة المرزبان في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع ومغانم عظيمة القيمة، ثم رجعوا بذلك كله إلى سعد بالعذيب فقسمه بين المسلمين.

تولى أهل العراق الفزع فانكمشوا وسكنت ثورتهم بالمسلمين، واطمأن سعد إلى موقفه بالعذيب فحصن الموقع، وترك به كثيرًا من أُسَر العرب، ووضع به خيلًا يحمي هذا الحريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ثم سار إلى القادسية فنزل بها بحصن قُدَيس، ونزل زهرة بن الحوية بحيال قنطرة العتيق، ووزع الجند كل فرقة في مكان، وأقام بها يبعث الغارات تجيء إليه بمئونة الجيش غنمًا وأبقارًا وبرًّا ودقيقًا وكل ما يحتاج إليه الناس.١
وأقام سعد بالقادسية شهرًا أخصب الجيش فيه بما كان يجيء من الطعام في هذه الغارات التي اتسع نطاقها بين الحيرة وكسكر والأنبار، وكتب سعد إلى عمر يخبره بموقفهم، ولعله وصف القادسية أدق الوصف في هذا الكتاب، ويذكر له أن الفرس لم يوجهوا إليهم أحدًا ولم يسندوا إلى أحد قيادة جيش لمحاربتهم فيما يعلمون، لكنه لم يلبث بعد ذلك أن علم من أهل الحيرة أن يَزْدَجِرْد ولى رستم بن الفرخزاد أمر الحرب، وأمره بالسير لمواجهة المسلمين، فكتب إلى عمر كرة أخرى بالخبر، فكتب عمر إليه:

لا يَكْرُبَنَّكَ ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليهم رجالًا من أهل المنظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينًا لهم وفلجًا عليهم، واكتب إليَّ في كل يوم.

قد تعجب لتباطؤ الفرس دون مواجهة سعد وجنوده، بعد اجتماعهم على يَزْدَجِرْد ومعاونتهم له حتى ينتقم لهم من هزيمة جيوشهم بالبويب، فقد فصل سعد عن المدينة في أوليات الربيع من تلك السنة، ثم أقام بشراف وبالعذيب أشهرًا، وأقام بالقادسية أكثر من شهر قبل أن يعلم بمسيرة عسكر من الفرس لقتاله، فأين كان الفرس؟ وماذا كان يصنع يَزْدَجِرْد طيلة هذه الأشهر؟

الواقع أنهم لم يكونوا في غفلة عن الأمر، فقد بعث يَزْدَجِرْد إلى رستم بن الفرخزاد وقال له: «أنت رجل فارس اليوم، وأنا أريد أن أوجهك لقتال العرب.» وأجابه رستم: «دعني بالمدائن، فلعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب، فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبنا المكيدة، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر، والأناة خير من العجلة، وقتال جيش بعد جيش أشد على عدونا، ولن تزال العرب تهاب العجم ما لم تضربهم بي.» ونظر يَزْدَجِرْد فيما قال رستم وشاور أهل الرأي فيه، فلما بلغه ما فعل العرب وأخذهم ابنة مرزبان الحيرة وغارتهم على بلاد العراق، أعاد القول على رستم، وأعاد رستم كلامه وقال: «لقد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدًّا لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وملكك! دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس، فإن تكن لنا فذلك، وإلا بعثنا غيره، حتى إذا لم نجد بدًّا ولا حيلة صبرنا لهم وقد وهنَّاهم وحسرناهم ونحن جامُّون، فإني لا أزال مرجوًّا في أهل فارس ما لم أهزم.» فلما اشتدت غارات العرب على السواد من أسفله إلى أعلاه، وبعث مرازبته ودهاقينه إلى يَزْدَجِرْد أنه إن لم ينجدهم نزلوا على أمر المسلمين طائعين أو كارهين، زال من نفسه كل تردد وأمر رستم فسار إلى ساباط، وعلم سعد بمسيرته فكتب إلى عمر فأجابه بما قدمنا وأمره أن يبعث إلى صاحب الفرس من يناظرونه ويدعونه.

أفأراد عمر بكتابه أن يبعث سعد رسله إلى رستم، أم إلى يَزْدَجِرْد؟ وإلى أيهما سار الرسل بالفعل؟ هنا تختلف الروايات: فيجري بعضها بأن الرسل تحدثوا إلى رستم، فلما أخفقت رسالتهم وقعت القادسية، ويذهب بعضها إلى أن الرسل ذهبوا وفدًا إلى يَزْدَجِرْد بالمدائن فأخفقت رسالتهم فكانت القادسية، وتجري رواية ثالثة بأن الرسل ذهبوا إلى رستم، فلما لم تنجح مهمتهم ذهبوا وفدًا إلى يَزْدَجِرْد فلم يكونوا أكثر توفيقًا في إقناعه، فعادوا من المدائن ليشاركوا إخوانهم المسلمين في غزوة القادسية.

ولعل وفد المسلمين ذهب إلى يَزْدَجِرْد بالمدائن قبل أن يلقى أحدًا منه رستم بالقادسية، فقد كان رستم لا يزال بساباط على مقربة من المدائن كما رأيت، ولم يكن قد سار منها إلى القادسية ليقف قبالة سعد وجيشه على ضفة الفرات الأخرى، وكان رستم يبطئ في مسيرته تنفيذًا للسياسة التي أشار بها على يَزْدَجِرْد؛ لذلك اكتفى حين بلغ ساباط بما بعثته مسيرة جيشه من الطمأنينة إلى نفوس أهل السواد، ثم بعث إلى أهل الحيرة وإلى غيرهم من أهل المدن المنتشرة من أسفل السواد إلى أعلاه يعاتبهم لتزعزع عقيدتهم في قوة دولتهم ولفزعهم من العرب، ويعدهم أنه ممزق شمل هؤلاء العرب، وملقٍ بهم إلى صحاري شبه الجزيرة؛ فلا تحدثهم أنفسهم بالعودة إلى العراق أبدًا.

أما سعد فلم يكن له من تنفيذ أمر عمر بد؛ لذلك بعث ليَزْدَجِرْد وفدًا فيه أهل الرأي والسياسة والشجاعة، بينهم النُّعْمان بن مُقَرِّن، وفرات بن حيان، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، والمغيرة بن شعبة، والمعنَّى بن حارثة وغيرهم من أمثالهم، وأمرهم أن يدعوه إلى الإسلام، فإذا أبى فالمناجزة، وبلغ الوفد المدائن، فعجب أهلها حين رأوا رجاله عِجافًا، وجعلوا ينظرون إلى أشكالهم، وإلى أرديتهم على عواتقهم، والسياط في أيديهم والنعال في أرجلهم، وإلى خيولهم الضعيفة وخبطها الأرض بأرجلها، ويتساءلون بينهم: كيف يقدم هؤلاء على غزونا ويطمعون في الظفر بنا واقتحام عاصمتنا؟! واستأذن الوفد على يَزْدَجِرْد، فاستدعى وزراءه واستشارهم، ثم أذن للوفد فدخل عليه، فقال لهم في كبرياء وعظمة: «ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أتراكم اجترأتم علينا لما تشاغلنا بأنفسنا؟» فأجابه النُّعْمان بن مُقَرِّن وذكر له بَعْثَ الله رسوله في العرب وما جاء به من عند الله، ودعاه إلى الإسلام، ثم قال له: «فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتموها فالمناجزة.» وختم كلامه بقوله: «فإن أجبتم إلى ديننا خلَّفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتم بالجزية قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.»

كَبُرَ على يَزْدَجِرْد أن يسمع مثل هذا القول، ولكنه آثر الحكمة والحلم مقرونين إلى الحزم فقال: «إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، وقد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون في أن تَقْدَموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم كثرته، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم.» وسمع الوفد هذه المقالة فسكتوا، عند ذلك قام المغيرة بن شعبة فقال: «أيها الملك، هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يُكرم الأشراف ويُعظم حقهم الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به قالوه، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عنه، فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي، فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد …» وذكر له من سوء عيش العرب وإرسال الله رسوله إليهم على نحو مقالة النُّعْمان بن مُقَرِّن، ثم قال: «اختر: إن شئت الجزية، وإن شئت السيف، أو تُسْلم فتُنجي نفسك.»

لم يطق يَزْدَجِرْد الصبر على ما سمع فقال وقد أخذ منه الغضب: «لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي!» ثم أمر من جاء بوقر من تراب فقال: «احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور!»

لم يفزع الوفد لغضب يَزْدَجِرْد ولم تنخلع قلوبهم لوعيده، بل قام عاصم بن عمرو فحمل التراب على عاتقه وهو يقول: «أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء.» وسار يحمل التراب فخرج من الإيوان، إيوان كسرى، فركب راحلته وانطلق وأصحابه حتى بلغوا القادسية ودخلوا على سعد بحصن فُدَيك، وقص عاصم بن عمرو ما حدث وكيف حملوا أرض فارس ثم قال: «أبشروا فقد والله أعطانا الله مقاليد ملكهم.»

يتفق مؤرخو العرب جميعًا على رواية ما حدث بين يَزْدَجِرْد ووفد سعد، ولا يقع بينهم خلاف إلا على بعض العبارات التي تبادلها الفريقان، ويذهب بعض المستشرقين إلى أن هذه الروايات وُضعت من بعدُ، إن لم يكن في جوهرها، فعلى الأقل في تفاصيلها، ونحن لم نورد هنا من هذه التفاصيل إلا أقلها، ويستشهد المستشرقون على ما يقولونه بأن هؤلاء المؤرخين المسلمين لا يفوتهم في كل مناسبة يتصل فيها وفد من المسلمين بغيرهم من المجوس أو من النصارى أن يجروا على لسان المتكلمين من المسلمين حديث العرب قبل بعث النبي وما كان بينهم من عداوة وبغضاء، وما كانوا فيه من بؤس وشقاء، حتى إذا بعث الله رسوله إليهم بالهدى ودين الحق ألف بين قلوبهم وأغناهم من جوع، وأفاء عليهم من الخير ما لم يعرفه آباؤهم وأجدادهم، مع أن من هؤلاء المسلمين من كانوا يعيشون قبل الإسلام في رخاء ونعمة، كأهل اليمن وأهل البلاد التي تشاطئ الخليج الفارسي، لقد نسب المؤرخون مثل هذه الأقوال إلى المسلمين الذين هاجروا في عهد النبي إلى أرض الحبشة، وذلك حين دعاهم النجاشي وسألهم عن سبب خروجهم على دين قومهم، وقد نسبوا مثلها إلى المسلمين الذين ذهبوا إلى أرض العراق واتصلوا بأهله في عهد أبي بكر، ثم نسب ما يشبهها إلى خالد بن الوليد حين لقي جرجة القائد الرومي في موقعة اليرموك، وها هم أولاء ينسبون مثلها إلى الوفد الذي لقي يَزْدَجِرْد، أفلا يدل ذلك على أن هذه الأقوال وضعت في أزمان متأخرة لغايات سياسية، وأنها أجريت على ألسنة المسلمين الأولين دعاية للإسلام من ناحية، وتثبيتًا لسلطان أمير المؤمنين من ناحية أخرى؟

ويضيف المستشرقون، تأييدًا لنقدهم، أن المؤرخين المسلمين لا يتورعون عن رواية أمور هي أدنى إلى الخرافة، من ذلك أن يَزْدَجِرْد دعا إليه أولي الرأي ودعا رستم من ساباط، وذكر لهم ما كان بينه وبين وفد المسلمين وقال: إنه استحمق أشرفهم لحمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره، فقال له رستم: إنه ليس بأحمق، وليس هو بأشرفهم، وإنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، وتطير رستم لما سمع، وخرج من عند الملك غضبان كئيبًا، ذلك أنه كان منجمًا دلته النجوم على أن الذين خرجوا من المدائن بترابها إنما خرجوا معهم بأرض فارس، وليتقي مغبة هذه النبوءة بعث في أثرهم رجلًا وقال: «إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا.» ولما لم يدركهم الرجل ازداد رستم تطيرًا، واستهجن رأي الملك وفعله.

لكنه مع ذلك لم يستطع أن يخالف الملك حين أمره أن يسير لمواجهة المسلمين، ذلك أن يَزْدَجِرْد قال له: «لتسيرن أو لأسيرن بنفسي.» وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفًا، وخرج هو في ستين ألفًا، وجعل على الميمنة الهرمزان وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي، ثم إنه كتب إلى أخيه البندوان يقول: «أما بعد فرُمُّوا حصونكم واستعدوا وأعدوا فكأنكم بالعرب قد قارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تنقلب سعودهم نحوسًا.» وبعد أن ذكر ما يرى من ذلك في النجوم ختم كتابه بقوله: «ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما يلينا.» مع ذلك تابع سيره وكأنما يدفعه القدر كارهًا إلى حتف فارس وحتفه.

يرى المستشرقون هذه الرواية عن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة، ويجدون فيها تأييدًا لنقضهم رواية المؤرخين المسلمين عما دار بين وفد سعد ويَزْدَجِرْد، ولا أراني أميل ميلهم وإن كنت لا أتهمهم فيه.

فأما أن المسلمين الأولين كانوا يذكرون لعدوهم ما كانوا عليه من فرقة وضعف قبل الإسلام، وما صاروا إليه من وحدة وعزة حين اجتمعوا إلى لوائه، وأنهم كانوا يحدثونهم عن بعث رسول الله بهذا الدين وعن المبادئ السامية التي جاء بها فكان اتباعها سبب عزتهم ووحدته؛ أما ذلك كله فلا عجب فيه ولا موجب لابتداعه من بعد لغايات سياسية أو غير سياسية، فقد كان هذا الدين ثورة على العقائد والنظم السائدة يومئذ في بلاد العرب وفي فارس والروم، وكان ثورة عالمية قام صاحب الرسالة يبلغها الناس كافة ويدعوهم إلى اعتناق مبادئها، ويلقي على الذين آمنوا به واتبعوه أن يقوموا في هذه الدعوة مقامه، وقد كتب رسول الله إلى هرقل وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يبلغهم رسالة الإسلام ويدعوهم إليه، فليس عجبًا أن يحذو المسلمون في ذلك حذوه، وأن يتحدثوا عن دينهم في كل مكان نزلوه، وإلى كل شخص اتصل بهم أو اتصلوا به، بل ذلك كان الطبيعي يومئذ، وهو الطبيعي كلما قامت ثورة تدعو إلى مبدأ جديد، كان رجال الثورة الفرنسية يتحدثون عنها ويذيعون مبادئها حيثما نزلوا من بقاع الأرض، وكانوا يذكرون ما أصاب فرنسا قبلها من اضطهاد وظلم، وما نالت فرنسا بعدها من سؤدد وعزة ومكانة أدت إليهما مبادئها السامية، وكذلك فعل الروس ولا يزالون يفعلون، فليس العجب في أن يتحدث المسلمون عن دينهم وأن يذكروا سوء حالهم قبله ورفعة مكانهم بعده، وإنما يكون العجب ألا يفعلوا، وكيف لمؤمن ألا يدعو الناس إلى ما يؤمن به وهو يعتقد أنه الحق، ويعتقد أن الساكت عن الحق شيطان أخرس! وكيف لمؤمن يرى في المبادئ التي يدين بها قوام السعادة للإنسانية، ثم لا يدعو الناس إليها، فإذا آمنوا بها كفاه ذلك منهم وكان أساسًا للإخاء الصحيح بينه وبينهم، وأساسًا لحريتهم ولسعادتهم وإسلامهم!

أما القول بأن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة، فذلك ما لا أتعرض للخوض فيه؛ فلست عالمًا بالنجوم، ولست أعرف لذلك مبلغ ما تهدينا إليه من علم بشئون هذه الأرض التي نعيش عليها، وما يقع من الأحداث فيها، على أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها ويحسبون أن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن غيرهم، ومهما يكن من شيء فالثابت أن الفرس في ذلك العهد قد كانوا من أكثر الناس اطمئنانًا إلى علم النجوم واهتداء بها في حياتهم العامة والخاصة، وأنهم لم يكونوا يرون علمها حديث خرافة، ومن الواجب على المؤرخ ألا يجعل مقياسه في ثبوت الوقائع وعدم ثبوتها مبلغ اتفاقها مع تقديره الذاتي للأمور والآراء، وإنما يكون مقياسه لصحتها عقائد الناس وآراءهم في الزمن الذي حدثت هذه الوقائع فيه، أما والفرس كانوا يزاولون في ذلك العهد علم النجوم، فأبلغ الظن أن أمراء الجند منهم كانوا أشد الناس بهذا العلم عناية، والمتواتر على كل حال أن رستم كان عالمًا بالنجوم، وأنه رأى فيها ما يضمره الغيب لفارس، وأن طموحه وكبرياءه هما اللذان دفعاه ليخالف ما رأى، وليشارك بوران في حكم بلاده وأن يسير بأمر يَزْدَجِرْد على رأس الجند للقاء سعد بن أبي وَقَّاصٍ والمسلمين.

بينما كان رستم يسير على رأس مائة وعشرين ألفًا من جنود فارس يريدون القادسية كان سعد يبعث بالغارات إلى النَّجَف والفِراض ومنازل القبائل المنتشرة في السواد، يستاقون منها الدواب والماشية والغلال وشتى ألوان الطعام إلى جند المسلمين.

وبلغ رستم الحيرة وكانت قد هادنت المسلمين، فدعا إليه كبراءها ولامهم على ما صنعوا وهددهم وهمَّ بالانتقام منهم؛ فقال له حكيمهم: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على أن ندفع عن أنفسنا، وجاوز رستم الحيرة إلى النجف، وقدم الجالينوس إلى السَّيْلَحين، وإنه بالنجف إذ علم أن خيول المسلمين تغير على النهرين، فأرسل إليهم قوة تقاتلهم، وعرف المغيرون نبأ هذه القوة، فرجع عمرو بن معدي كرب ومن معه أدراجهم إلا طليحة بن خويلد الأسدي فإنه أبى أن يرجع معهم، وقال أحدهم إذ رأى إباءه: «أنت رجل في نفسك غدر، ولن تُفلح بعد قَتْلِ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ.» يشير إلى ما كان من رجال طليحة حين تنبأ وقاتل خالد بن الوليد في غزوة البُزَاخَة،٢ مع ذلك أصر طليحة على إبائه أن يرجع معهم، ومضى حتى دخل معسكر رستم خفية وقتل اثنين من فرسانه وساق جواديهما ثم خرج يعدو به فرسه، فركب جماعة من أصحاب رستم في طلبه فقتل اثنين منهم وأسر الثالث وقد شارف عسكره، عند ذلك ارتد طالبوه، ودخل هو على سعد والأسير معه، وقال الأسير حين سأله سعد عن فعال طليحة: «باشرت الحروب منذ أنا غلام، وسمعت بالأبطال، فلم أسمع بمثل هذا، إن رجلًا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفًا فلم يرضَ أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوتات، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره ثم أدركته أنا وخلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين، فرأيت الموت واستؤسرت.»

وتابع رستم مسيرته حتى بلغ القادسية بعد أن قضى أربعة أشهر مذ فصل من المدائن للقاء عدوه، وإنما تمهل وتباطأ ظنًّا منه أن يهن العرب إذا لم يجدوا مئونة تكفيهم، أو أن يسأموا طول المقام فينصرفوا إلى بلادهم، وتمهل كذلك تَطَيُّرًا من لقاء سعد بعد ما دلته النجوم على مصير فارس، وقد رأيت أنه كان يؤثر البقاء بالمدائن وأن يعبئ لقتال العرب جيشًا إثر جيش حتى يتضعضع ركنهم وينهد عزمهم، لكن يَزْدَجِرْد أبى عليه رأيه وأمره أن يسير بنفسه، فتباطأ حتى قضى هذه الأشهر الأربعة في طريق كان يستطيع قطعها في أيام معدودات.

بلغ رستم القادسية في جيش عدته مائة وعشرون ألفًا، يتقدمهم ثلاثة وثلاثون فيلًا بينها فيل سابور الأبيض، وكانت سائر الفيلة تألفه وتتبعه، لكنه كان يود، مع جسامة هذه القوة، أن يصرف العرب عن بلاده دون قتال، علمًا منه أنه إن ينهزم دونهم تفتح لهم أبواب المدائن وأبواب فارس كلها؛ فهو رجل فارس الذي تشرئب إليه الأعناق من كل صوب، والقائد البطل القادر ليس في فارس كلها بطل مثله، وهو قد تطير من النجوم ودلالتها، ثم إنه رأى في نومه أحلامًا زادته بدلالة النجوم إيمانًا، هذا إلى ما أبدى العرب من بطولة لم تثبت لها أعداد فارس وعددها، ولم تثبت لها الفيلة في الغزوات المتلاحقة التي بدأت منذ اقتحم المثنى دلتا النهرين إلى أن انتصر على الفرس انتصاره العظيم بالبويب، ففي هذه المواقع جميعًا كان العرب دون الفرس عددًا وعدة، وكانوا مع ذلك يبلغون منهم ويركبون أكتافهم، وينقلون الغنائم الطائلة بعد انتصارهم، هم إذن قوم كتب النصر لهم، فإن هو ردهم إلى شبه الجزيرة دون قتال أسدى إلى بلاده وإلى مليكه يدًا دونها كل نصر.

صفَّ رستم إذن عسكره قبالة عسكر المسلمين، وقدم الفيلة أمامه، وبدا بذلك في مظهر من القوة يدخل إلى النفوس الرعب، ثم بعث إلى سعد ليبعث له رجلًا من عقلاء المسلمين يبين له ما جاء هؤلاء المسلمون فيه، وعبر إليه المغيرة بن شعبة وجلس معه على السرير، وحدثه عن رسول الله وبعثه بمثل ما حدث أصحابه يَزْدَجِرْد بالمدائن، وقال له: «إن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم فقالوا: لا صبر لنا عليه.» ثم انتهى من حديثه إلى ما انتهى إليه أصحابه: أن يسلم الفرس أو يؤدوا الجزية، فإن أبوا هذا وذاك فالقتال.

وعظم على أصحاب رستم أن يذكر المغيرة الجزية تفرضها العرب على فارس، فهاج هائجهم، لكن رستم استمهل المغيرة حتى يُرَوِّئ في الأمر، ثم بعث الغداة إلى سعد أن يوفد إليه من يحدثه حديث الصلح، وتكلم رسول سعد بمثل حديث المغيرة، فعرض عليه رستم ما عرضه يَزْدَجِرْد على أصحابه، أن يفرض العرب قوتًا إلى خصبهم، وأن يُكرم وجوههم، وأن يعودوا إلى بلادهم، فلما أبى سفير المسلمين منه إلا الإسلام أو الجزية أو القتال، استمهله رستم كرة أخرى، ثم بعث يطلب سفيرًا آخر، وكان المسلمون منذ عهد النبي لا يؤجلون مثل هذه السفارات أكثر من ثلاثة أيام يكون بعدها الصلح أو تكون بعدها الحرب، فلما أصر المسلمون على موقفهم: الإسلام أو الجزية أو القتال، لم يبقَ من الحرب مفر.

ترى هل بلغ من تطير رستم وإشفاقه من مصير القتال أنه كان يريد الصلح بأي ثمن؟! تذهب بعض الروايات هذا المذهب، ويذكر بعض المؤرخين أن رستم مالت نفسه إلى الإسلام، لولا أن رده أصحابه عنه، وهذا رأي مرجوح يدفعه ما سنراه من بأس الفرس في اليومين الأولين من وقعة القادسية، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن رستم أراد بمطاولة المسلمين أن يوقع الخلاف بينهم في الرأي، فإذا اختلفوا بعد الذي رأوا من قوة هذا الجيش الزاحف إليهم زادهم اختلافهم ضعفًا وعجزًا عن مقاومة القائد القادر وجنوده، وأيما الرأيين صح، فقد بقي المسلمون لا يتغير رأي واحد منهم عن رأي صاحبه، ولا يرضى أحد منهم دون الإسلام أو الجزية إلا بالقتال، عند ذلك بعث رستم إلى سعد يقول له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، وما كان لسعد أن يعبر النهر ومَثَلُ غزوة الجسر حاضر أمام ذهنه، وما كان له أن يدع رستم يعبر إليه وينظم صفوفه لقتاله، لذلك بقي مكانه مطمئنًّا إلى موقفه يحميه النهر من أمامه، وخندق سابور عن يمينه، والصحراء المترامية وراء ظهره.

ما كان لسعد أن يعبر النهر، وما كان لرستم أن يقف جامدًا مكانه؛ فقد تضعضعت هيبة الدولة وضعف سلطان المدائن في نفوس أهل العراق من فرس وعرب، فإذا لم يضرب رستم في القادسية ضربته، أوشك هذا السلطان أن ينهار، وأوشكت هذه الهيبة أن تزول، هذا إلى أن جنود يَزْدَجِرْد كانوا يتحرقون للقاء المسلمين يريدون أن يزيلوا ما لحق إخوانهم قبل ذلك من خزي وعار؛ لذلك لم يكن لرستم بد من أن يعبر النهر وأن يلقى عدوه، وإذ أبى سعد عليهم أن يعبروا العتيق على القنطرة وقال لهم: لا نرد عليكم شيئًا غلبناكم عليه، فقد تمهل رستم حتى جن الليل، ثم أمر رجاله فطموا العتيق بالتراب والقصب وبكل ما كان لديهم مما لا حاجة لهم به في الحرب، وعلى هذا الجسر عبر جيش الفرس، ثم جعل رستم الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال، وجعل جنوده من ورائها، وضرب لنفسه قبة نصب فيها سريره الفخم المكفت بالذهب، بذلك وقف الجيشان متأهبين للقتال ينتظران بدأه بين ساعة وساعة، وهما يعلمان أنهما مقبلان على معركة حاسمة ليس بعدها إلا أن يندحر الفرس فينفتح أمام العرب طريق المدائن، أو يندحر العرب فيعودوا إلى صحاري شبه الجزيرة، وليس يعلم إلا الله أيستطيعون بعده أن يعودوا إلى العراق كرة أخرى.

معركة ذلك شأنها كان يَزْدَجِرْد حريصًا على أن يعرف أنباءها ساعة فساعة، بل لحظة فلحظة، حتى كأنه حاضرها، وقد كان على النقيض من رستم، واثقًا بحسن مصيرها، أليس شابًّا، والشباب لا يعرف اليأس ولا يتصور الفشل والهزيمة! أَوَلم تجتمع فارس حوله كما لم تجتمع حول أحد سبقه على العرش، وقد عقدت العزم على أن تنتصر! هي لا ريب ستنتصر إذن؛ لذلك اشتد حرصه على أن يتابع أطوار المعركة التي تنصرها، ولذلك وضع الرجال من المدائن إلى القادسية، يُلقي أدناهم من المعركة بأنبائها إلى من بعده فيلقيها هذا إلى من يليه، وهكذا حتى تبلغ المدائن؛ بذلك تطير الأنباء نبأ بعد نبأ إلى مسامعه فيتلقاها وهو أشد ما يكون ثقة بأن يأتيه النبأ الأخير منها بانتصار رجاله الحاسم.

ولعل أول نبأ سمعه قد زاده استبشارًا بالخاتمة التي يؤمن بها، ذلك أن سعد بن أبي وَقَّاصٍ عاوده أول المعركة مرض كان يتردد عليه جعله لا يستطيع أن يركب أو يجلس فهو مكب على وجهه في صدره وسادة يعتمد عليها ويشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه، ذلك المرض كان عرق النسا ودمامل جعلت هذا الفارس البطل ذا الفعال المجيدة يعجز عن كل حركة يوجبها مكانه من جيش المسلمين في هذا الوقت الرهيب، وزاد يَزْدَجِرْد استبشارًا ما أُلقي إليه من بَرَم بعض المسلمين بسعد وتندرهم بمرضه، حتى ليقول قائلهم:

نقاتل حتى أنزل الله نصره
وسعد بباب القادسية مُعْصِمُ
فأُبنا وقد آمت نساءٌ كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهن أيِّمُ

وبلغ سعدًا ما يتندر به الناس وأن طائفة من وجوه القوم تتهمه وتشغب عليه وترميه بالخوَر وضعف العزم، فحز ذلك في نفسه وأثار غضبه فقال لمن حوله: احملوني وأشرفوا بي على الناس، وارتقى به من حوله، ورأى الجند ما به من الوجع فعذروه لكن ذلك لم يَكْفِه، بل شتم الذين شغبوا عليه وهم بهم وقال لهم: «أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالًا لغيركم، والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننت به سُنة يؤخذ بها من بعدي.» وأمر برجال بينهم أبو مِحْجَن الثقفي فحبسهم وقيدهم في القصر، إزاء هذا الحزم لم يكتف القوم بأن يعذروا سعدًا، بل أعلنوا ولاءهم وطاعتهم، فكان مما قاله جرير بن عبد الله البجلي: «أما إني بايعت رسول الله على أني أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدًا حبشيًّا.» وسرى مثل هذا الروح في نفوس الجند، فسكنت بوادر الفتنة وانطفأت نارها.

عند ذلك كتب سعد إلى الرايات يقول: «إني قد استخلفت عليكم خالد بن عُرْفُطة وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني، إني مكب على وجهي وشخصي لكم بادٍ، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمري.» وقرئ هذا الكتاب على الناس فأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.

وخطب سعد وهو على حاله تلك من يليه من الجند، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناءه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج، فأنتم تطعمون منها وتأكلون منها، وتقتلون أهلها وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وخيار كل قبيلة وعز من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحدًا إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتُوبقوا آخرتكم.

ورأى عاصم بن عمرو ما بسعد من الوجع، فزاده ذلك تأثرًا بما سمع من كلامه، فقام في الناس فقال:

هذه بلاد قد أحل الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منهم منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم، وأنتم الأعلون والله معكم، إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم، والله لكم من ذلك جارٌ وحافظ، لم يُبْقِ هذا الجمع منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك، الله! الله! اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها، ألا ترون أن الأرض وراءكم بسابس قفار ليس فيها خمر ولا وزر يُعقل إليه ولا يُمتنع به! اجعلوا همكم الآخرة.

ودعا سعد إليه جماعة من الذين انتهى إليهم رأي الناس وانتهت إليهم نجدتهم وعظم فيهم شرفهم، وكان منهم من أولي الرأي المغيرة بن شعبة وعاصم بن عمرو، ومن أهل النجدة طليحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب، ومن الشعراء الشماخ والحطيئة وعبدة بن الطيب، ومن سائر الطوائف أمثالهم، وقال لهم: «انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم، ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فأنتم من العرب بالمكان الذي أنتم به، أنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم، وأنتم سادتهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال.»

وانطلق هؤلاء جميعًا يخطبون ويقولون الشعر ويعدون الناس النصر في عبارات تهز المشاعر والقلوب، قال الهذيل الأسدي لقومه: «يا معشر مَعَدٍّ! اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كأسود الأجَم، وتربدوا لهم تربُّد النمور، وادَّرعوا العَجاج، وثقوا بالله وغضوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.» وقال عاصم بن عمرو: «يا معشر العرب إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم لأعيان العجم، وإنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمرًا تكونوا به شينًا على العرب غدًا.» وقام كلٌّ بنحو هذا الكلام وخطب كل أمير أصحابه، فتحاضوا على الطاعة والصبر، وتعاهدوا وتواصوا بالنصر أو الموت دونه.

ورأى رستم تجهز العرب، فثارت في نفسه الحمية لوطنه، فأنْسَتْهُ طِيرَتَه وأنسته دلالاتِ النجوم، وأعادته الجندي المثل الذي عرفته فارس بطلها الأكبر؛ لذلك لم يلبث، حين عبر جنده النهر واصطفوا صف القتال، أن لبس درعيه ومِغْفرًا وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج فركبه وهو يقول: غدًا ندقهم دقًّا، وبعث من يحرض الجند على القتال دفاعًا عن وطنهم ودفعًا لهؤلاء العرب الأجلاف الذين خضعوا أجيالًا لنير فارس، ثم إذا هم اليوم تحدثهم نفوسهم بقتالها والظفر بها، أي عار كهذا العار يجب دفعه!

وكذلك وقف الجيشان ينتظران أمر الصدام، وقد أخذت منهما الحماسة كل مأخذ بما يسمعه المسلمون عن جنة الخلد ونعيم الدنيا، وما يسمعه الفرس عن الوطن وعن ملك كسرى وعظمته.

وكان سعد بن أبي وَقَّاصٍ قد أرسل في الناس: إذا سمعتم التكبير فشدوا شسوع نعالكم، فإذا كبرت الثانية فتهيئوا، فإذا كبرت الثالثة فشدوا النواجز على الأضراس واحملوا، وأمر من يقرأ سورة الجهاد فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس واطمأنوا إلى ما هم مقبلون عليه، فلما فرغ القراء كبر سعد فكبر الذين يلونه، ثم كبر الثانية فتهيأ الناس، فلما كبر الثالثة أنشب أهل النجدات القتال وخرجوا يبارزون أهل فارس، وأقبل أهل فارس عليهم وهم في مثل حماستهم يلبون نداء من يريدون نزالهم، وكان غالب بن عبد الله الأسدي في مقدمة من خرجوا يبارزون، خرج وهو يقول:

قد علمت واردةُ المَسائح
ذات اللبان والبَنان الواضح
أني سِمامُ البطل المُشايخ
وفارجُ الأمر المهمِّ الفادح

فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوجًا، فأسره غالب، فجاء به سعدًا ثم رجع إلى المطاردة.

وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول:

قد علمتْ بيضاءُ صفراءُ اللِّبَب
مثل اللُّجَيْنِ إذ تَغَشَّاه الذهب
أني امرؤ لا من يعيبه السبب
مثلي على مثلك يغريه العَتَبْ

وبينما هو يرتجز طارد فارسيًّا نفر منه، فلقي فارسًا معه بغل ففر الفارس واستاق عاصم البغل والرحل، فإذا الرجل خباز الملك، وإذا في الرحل طعام رستم، فلما نظر فيه سعد نفله الناس ليأكلوه.

كبر سعد الرابعة فالتقى الجيشان، فأبلى أبطال المسلمين بلاء لم يعرف سعد له نظيرًا، وقد كان هؤلاء الأبطال يقدرون ما رمتهم به فارس من عدد وعدة فنزع ذلك من قلوبهم كل رحمة، كان عمرو بن معدي كرب يحرض الناس بين الصفين إذ خرج إليه رجل من الأعاجم يرمي بنُشَّابه فلا تنزل واحدة منها الأرض، ورمى بنشابة أصابت درع عمرو، فالتفت إليه فحمل عليه وكسر عنقه، ثم وضع سيفه في حلقه فذبحه، ثم ألقاه وهو يقول: هكذا فاصنعوا بهم، ثم إنه أخذ سواري الفارس القتيل ومِنْطَقته ويَلْمَق٣ ديباج كان عليه.

ورأى الفرس بني بجيلة وعليهم جرير بن عبد الله يصولون ويجولون، فوجهوا إليهم ثلاثة عشر فيلًا حملت عليهم، ففرت خيلهم نفارًا وبقي الرجال وتكاد الفيلة تبيدهم، ورأى سعد ما أصاب بجيلة فأرسل إلى بني أسد ليذبوا عنهم، فخرج طليحة بن خويلد وجماعة من قبيلته كل واحد في كتيبة وطليحة يصيح بهم: «يا عشيرتاه! لو علم سعد أن أحدًا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدئوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحَرِبَة، فإنما سميتم أسدًا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا، وكرروا ولا تفروا! شدوا عليهم باسم الله.» فشدوا عليهم فما زالوا يطعنونهم حتى حبسوا الفيلة عنهم، لكن الفيلة عادت فحملت عليهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو يقول: «يا معشر بني تميم، ألستم أصحاب الإبل والخيل! أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟» قالوا: بلى والله! ونادى عاصم الرماة ليذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنَّبْل وليستدبروا الفيلة وليقطعوا وُضُنها، وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وصنع أصحاب عاصم بالفيلة كما أمرهم، فاستدبروها وضربوها بالنبل فارتفع عواؤها وألقت بركبانها فقتلوا، ونفِّس عن أسد وعن بجيلة جميعًا بعد أن قتل من أسد وحدها أكثر من خمسمائة.

كان سعد رابضًا في محبس مرضه بقُدَيْس ينظر إلى هذه المعركة الدائرة الرحى، ويعجب حينًا بفعال أبطال العرب، ويفزع حينًا مما تصيب به الفيلة والفرسان رجال بَجِيلة وأسد، ويحز في نفسه ألا يخوض هذه الحرب الزَّبُون كما خاض من قبل أمثالها، وكانت سلمى بنت حفص زوج المثنى بن حارثة ثم زوج سعد من بعده مقيمة إلى جانبه ترى ما يرى، وتذكر ما كان لزوجها الأول من مواقف في مثل هذه الأيام الكُبَّر، فلما رأت الفرس يشتدون على أسد ويقتلون منهم صاحت: «وامُثَنَّياه! ولا مُثَنَّى للخيل اليوم!» قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه وفي نفسه، وأثار كلامها سعدًا فلطم وجهها وقال: «أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى!» يعني أسدًا وعاصمًا.

ولم تطأطئ اللطمة من رأس البدوية الأنوف، بل حدقت في سعد وقالت: «أغيرةً وجُبنًا!» وخجل سعد لما صنع فتندى بالعرق جبينه وقال: «والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي!» وعرف الناس ما دار بين سعد وسلمى، فأكبروا البدوية الجريئة، ولم يبقَ شاعر إلا اعتد بها، وإن عرفوا سعدًا غير جبان ولا ملوم.

مع ما كان من الفعال المجيدة والبلاء العظيم الذي أبلاه المسلمون، ظل سعد مشفقًا من مصير المعركة لما كان يراه من شدة الفرس وكثرة عددهم وفعال فيلتهم، وانقضى النهار وغربت الشمس والقتال لا يزال حاميًا وطيسه، فلما ذهبت هدأة من الليل رجع الجيشان كل إلى مواقفه، وكل يحسب للغد حسابه، والمسلمون أشد لهذا الغد حسابًا بعد ما نزل بهم في ذلك اليوم الأول من كوارث.

ويطلق المؤرخون على هذا اليوم الأول من أيام القادسية اسم أرماث، وليس يذكر أحد منهم لهذه التسمية سببًا، ويحسب بعض المستشرقين أن أرماث اسم للمكان الذي وقع القتال فيه، وليس لهذا الظن ما يسوغه، فقد اتصل القتال بالقادسية ثلاثة أيام وليلة في مكان واحد، ثم أطلق على كل يوم من هذه الأيام اسم يميزه.

رجع الجيشان مساء يوم أرماث كل إلى مواقفه، فلما تنفس الصبح شغل العرب وشغل الفرس بدفن القتلى ونقل الجرحى، وقد دفن المسلمون قتلاهم بوادٍ قريب من العُذَيْب، ونقلوا الجرحى إلى العذيب ليقوم النساء على العناية بهم، أما الفرس فدفنوا القتلى في المؤخرة وحملوا الجرحى إلى الضفة الأخرى من النهر.

وبينما هؤلاء وأولئك في شغل بهذا الأمر كان الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ يسرع السير في ألف من الجند الذين فصلوا من الشام نجدة لجيش العراق تنفيذًا لأمر عمر بن الخطاب إلى أبي عُبَيْدَةَ أن يرد جيش العراق إليه بعد أن ينصره الله بدمشق، فلما فتحت دمشق وانتصر المسلمون بفحل، سار هاشم بن عُتْبَةَ في ستة آلاف مددًا لسعد بن أبي وَقَّاصٍ، وجعل القَعْقَاع بن عمرو على مقدمته وعجَّله أمامه كي يدرك سعدًا قبل فوات الوقت، والقَعْقَاع هو ذلك البطل المُعْلَم الذي أمد به أبو بكر خالد بن الوليد عشية مسيرته إلى العراق، فلما قال له قوم: أتمد رجلًا ارفضَّ عنه جنوده برجل؟! كان جوابه: لا يُهزم جيش فيهم مثل هذا، وصدق أبو بكر، فقد سار القَعْقَاع مع خالد في غزو العراق فكان عنده في مثل مكانة المثنى بن حارثة، بل كان أقرب إلى فؤاده وأعظم حظوة عنده؛ لذلك جعله على الحيرة مكانه حين فصل إلى دومة الجندل مددًا لعِيَاض بن غَنْم، ثم اختاره من أمراء جنده حين فصل من العراق إلى الشام، لا عجب وذلك شأنه أن يكون من أجرأ العرب على الفرس بالعراق وأعرفهم بأساليب حربهم، ثم لا عجب أن يقدمه هاشم بن عُتْبَةَ وأن يعجله لغياث سعد والمسلمين، فجيش فيه مثل القَعْقَاع لا يُهزم.

كان القَعْقَاع على مقبرة من القادسية فجر الغداة من يوم أرماث، وليشد مقدمه عزائم المحاربين في الموقعة الخطيرة قسم رجاله الألف عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، ثم سار هو على رأس الفرقة الأولى، وبلغ سعدًا وأصحابه بالقادسية قبل استئناف المعركة، فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وإقبالها، ثم تقدم الصفوف يستفتح القتال بعد أن قال للناس: اصنعوا كما أصنع، فلما كان بين الصفين نادى: من يبارز! فخرج إليه ذو الحاجب وعرفه بنفسه قائلًا: أنا بهمن جاذويه! عند ذلك صاح القَعْقَاع: يا لثارات أبي عُبيد وسَلِيط وأصحاب يوم الجسر! ولم يطل بين الرجلين الجلاد، فقد انقضَّ القَعْقَاع على ذي الحاجب وأورده حتفه.

ورأى الناس صنيعه ورأوا الجنود المقبلة من الشام ترد داركًا فتنشطوا وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وزادهم نشاطًا أن لم يروا الفيلة بينهم؛ فقد تكسرت توابيتها بالأمس فأصبح الفرس يعالجون إصلاحها، فلم يفرغوا من ذلك حتى دارت رحى القتال وحمي وطيسه، وكان القَعْقَاع كلما رأى فرقة من فرق جيشه كبر وكبر الناس معه، فازدادوا بذلك نشاطًا وألقوا في رُوع الفرس أن هذا المدد المقبل عليهم لا آخر له ولا طاقة لجنود رستم بقتاله، وكيف يطيقونه وقد رأوا القَعْقَاع وحده يصرع كل من يلقاه! صرع ذا الحاجب! فأراد فارسان معلمان من أبطال فارس الصناديد، أن يثأرا لصاحبهما، فخرجا يبارزان القَعْقَاع فلقيهما ومعه الحارث بن ظبيان بن الحارث فأورداهما حتفًا كحتف ذي الحاجب، ونادى القَعْقَاع في الناس: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف فإنما يُحْصَد الناس بها، فتواصى الناس وحملوا بسيوفهم على الفرس وجعلوا يضربونهم حتى المساء.

وكان سعد بن أبي وَقَّاصٍ قد حبس أبا مِحْجَنٍ الثقفي وقيده كما قدمنا، وكان أبو مِحْجَنٍ من فرسان العرب المشهود لهم، فلما اشتد القتال وتردد تكبير الناس في أذنه، صعد يجر أغلاله حتى أتى سعدًا يستعفيه ويستقيله، لكن سعدًا زجره ورده، فذهب إلى زوجه سلمى بنت حفص فطلب إليها أن تحل قيده وأن تعيره البلقاء فرس سعد، وأقسم إن سلمه الله أن يرجع فتضع رجله في القيد، قالت سلمى: وما أنا وذاك! فرجع مكتئبًا يرسف في القيد ويقول:

كفى حزنًا أن ترتدي الخيلُ بالقنا
وأُترك مشدودًا عليَّ وَثاقيا
إذا قمتُ عنَّاني الحديد وأُغلقت
مصاريع دوني قد تُصِم المناديا
وقد كنتُ ذا مال كثير وإخوة
فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
ولله عهدٌ لا أَخيس بعهده
لئن فُرِجتْ أن لا أَزور الحوانيا
فلما سمعت سلمى شعره رقت له وقالت: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، وأطلقته، فاقتاد البلقاء وركبها وعليه سلاحه، وانطلق بين الصفين يكبر ويركض الفرس إلى الميمنة حينًا وإلى الميسرة حينًا آخر، ويقصف الأعداء قصفًا منكرًا، ولم يعرفه الناس فظنوا أنه بعض أصحاب هاشم بن عُتْبَةَ، أما سعد بن أبي وَقَّاصٍ فجعل ينظر من القصر ويقول: والله لولا محبس أبي مِحْجَنٍ لقلت: هذا أبو مِحْجَنٍ وهذه البلقاء، فلما انقضى اليوم رجع فوضع رجليه في القيد، وتحمل سعد فنزل فوجد فرسه يعرق، فسأل في ذاك فروت له سلمى ما حدث، فرضي عن أبي مِحْجَنٍ وأطلقه.٤

واتصل القتال يومئذ إلى منتصف الليل والمسلمون يرون فيه الظفر، وقد بلغ من ابتهاجهم على أثره ما تشهد روايات المؤرخين به، ذكروا أن القَعْقَاع وحده قتل يومئذ ثلاثين رجلًا، وقد رفه غياب الفيلة عن المسلمين فازدادوا إقدامًا وازدادوا للفرس توهينًا.

ويضيف المؤرخون أن بني عم القَعْقَاع جلَّلوا إبلًا وبرقعوها، ودفعوها تحمل على الفرس كأنها الفيلة، فكان أثرها فيهم يومئذ كأثر الفيلة في العرب يوم أرماث؛ فقد ولت خيل الفرس نفارًا من منظرها، فركبتهم قوات المسلمين وأعملوا فيهم السيوف قتلًا وبترًا، وبلغت الحماسة من بعض الجند فاندفع خلال صفوف الفرس يريد قتل رستم، فلما كان على مقربة منه موشكًا أن يضربه بسيفه تعرض له من الفرس من قتله وأنقذ رستم من يده، وكذلك تنصف الليل والمسلمون يزاحفون عدوهم يريدون إجلاءه عن مواقعه، فيصيبون منه ويكثرون القتل فيه، ويكادون يظفرون به لولا كثرة عدده وشدة مقاومته، فلما تنصف الليل لم يكن للفريقين بد من أن يرجع كل إلى عسكره يعيد تنظيم صفوفه ليعود في الصباح إلى الزحف ابتغاء الظفر.

يطلق المؤرخون على هذا اليوم الثاني من أيام القادسية اسم أغواث، ويحسب بعض المستشرقين أنهم اختاروا له هذا الاسم؛ لأن القَعْقَاع أغاث فيه جيش سعد بمن جاء بهم من الشام، وليس من اليسير إقرار هذا التفسير إلا أن نجد لسائر أيام الغزاة تفسيرًا من نوعه، وقد رأينا أن يوم أرماث لا يمكن أن يكون له مثل هذا التفسير، أما الليلة التي انقضت بين يوم أرماث ويوم أغواث فيطلق المؤرخون عليها اسم ليلة الهدأة، كما أنهم يطلقون اسم السواد على الليلة التي تلت يوم أغواث.

بلغ من اغتباط المسلمين بيوم أغواث أن باتوا على إثره ينتمي كل منهم إلى قبيلته، وبلغ من اعتباط سعد به واطمئنانه إلى قوة المسلمين بعده أن قال لبعض من عنده حين عزم النوم: «إن تَمَّ الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتمِ الآخرون فلا توقظني فإنهم على السواء، فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم من السوء.»

اطمأن سعد ونام، أما القَعْقَاع بن عمرو فبات ليله يسرِّب أصحابه الذين جاءوا معه من الشام إلى المكان الذي كانوا فيه بالصحراء صبح يوم أغواث، وقد أمرهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة على نحو ما فعلوا في أمسهم، فإن أدركهم هاشم بن عُتْبَةَ وجاء بمن معه يشارك في المعركة فذاك، وإلا جددوا للناس رجاء في المدد، فزادهم هذا الرجاء إقدامًا في الحرب وإيمانًا بالفوز فيها.

أصبح الناس والجيشان في مواقفهم، وبين الصفين من القتلى والجرحى ألفان من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ودفن كل جيش قتلاه، ونقل الجرحى إلى حيث يُعنَى بهم، وكانت نساء المسلمين يُعْنَيْنَ بالجرحى ويمرضنهم، ويبذلن من صنوف العناية ما يرفه عنهم وما ينسيهم ألمهم، بذلك اشتركن في هذه المعركة الحاسمة، فكان لهن فيها فضل سجله الشعراء وخلدته كتب التاريخ.

ووقف القَعْقَاع في المؤخرة حين طلعت الشمس ينظر إلى ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تُقبل وكبر وكبر الناس معه وقالوا: جاء المدد، وأدرك هاشم بن عُتْبَةَ وجنوده رجال القَعْقَاع، فلما عرف ما صنع صاحبه جعل رجاله فِرَقًا، وأمرهم أن يتلاحقوا دراكًا، فلا تسير فرقة حتى تغيب الأخرى عن نظرها، وسار هو على رأس الفرقة الأولى ومعه قيس بن هُبَيرة، فبلغ القادسية حين أخذ المسلمون مصافهم للقتال، فلما رآه الناس ورأوه كبر، كبروا معه، واندفع هاشم إلى القلب حتى بلغ النهر وهو يرمي العدو بأسهمه، ثم عاد فكرر فعلته، فلم يجرؤ أحد على مصاولته.

لم يضعضع المدد الذي جاء المسلمين من عزيمة الفرس؛ فقد أصلحوا توابيت فيلتهم واقتحموا بها المعركة منذ طلعت الشمس، وهم موقنون أنها ستفتك بالمسلمين أكثر مما فتكت بهم يوم أرماث، وقد اتخذوا حيطتهم لكي لا يصنع المسلمون بها مثلما صنعوا ذلك اليوم حين قطعوا وُضنها وقلبوا توابيتها وقتلوا رجالها ونخسوها فولت مدبرة فأحاطوها بفرسان يحمونها، وأنست الفيلة إلى هؤلاء الحماة فلم تفتك بهم، لكنها لم تفتك كذلك بعدوهم، ذلك أن الفيل إذا كان وحده كان أوحش، فإذا أطاف أصحابه به كان آنس، وقد شد فرسان المسلمين على حماة الفيلة من العجم فكانت المعركة تدور حول الحيوانات الضخمة فتذرها في حيرة لا تدري من تضرب ومن تدع؛ لذا ظل القتال على شدته سجالًا بين الفريقين؛ يتقدم العرب تارة فيردهم الفرس، ويتقدم الفرس تارة فيردهم العرب، ثم يزداد الفرس بأسًا إذ يقدم عليهم من المدائن حرس يَزْدَجِرْد مددًا، فلا ينهنه ذلك من همة العرب ولا يخفف من حر النزال.

على أن الفيلة ما لبثت حين ألفت الموقف واشتدت من حولها المعركة أن عادت إلى مثل فتكها يوم أرماث، ورآها سعد تفعل الأفاعيل وتفرق بين الكتائب، فسأل جماعة من الفرس الذين أسلموا عن مقاتلها، فقالوا: إنها مشافرها وعيونها، فأرسل إلى القَعْقَاع وعاصم ابني عمرو يقول: اكفياني الأبيض وكان هذا الفيل بإزائهما، وبعث إلى حمَّال والرِّبِّيل، وكانا من بني أسد، يقول: اكفياني الفيل الأجرب، وكان بإزائهما، وكان هذان الفيلان أشد الفيلة ضراوة، وكانت الفيلة كلها تتبعهما، وترجل القَعْقَاع وعاصم فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فتراجع الحيوان من الألم ونفض رأسه، وطرح سائسه ودلى مِشْفَره فضربه القَعْقَاع بسيفه، وحمل حمال والربيل على الفيل الأجرب ففقأ إحدى عينيه وضربا مشفره، وصاح الفيلان، وارتد الفيل الأجرب إلى ناحية صفوف الفرس فخنسوه، فانقلب إلى صفوف المسلمين فوخزوه، فجعل يهرول ذهابًا وجيئة بين الصفين وهو يصيح صياح الخنزير، ثم اندفع فوثب في النهر فاتبعته الفيلة كلها وقد ألقت ركبانها عن ظهورها وتخطت الماء وولت مُدبِرة ولم تُعَقِّبْ.

هنا اضطرب ميزان المعركة؛ فقد بدأت كفة الفرس فيها ترجح حين بدأت الفيلة تفرق كتائب المسلمين، فلما اضطربت الفيلة بين الصفوف وقف الجيشان ينظران إليها يحاولان ردها واتقاء شرها، فلما رأوها تعبر العتيق وتوليهم أدبارها، قويت عزائم المسلمين ورأوا في فرارها آية من آيات الله لنصرهم على عدوهم، أما الفرس فاعتدوا بعددهم وبالمدد الذي بعثه يَزْدَجِرْد إليهم، فأعادوا تنظيم صفوفهم واستأنفوا القتال بحماسة زادها فرار الفيلة استعارًا، وكذلك التقى الجيشان في صدام أي صدام، وظلا يقتتلان حتى أقبل الليل والغبار مخيم، فلا سعد يعلم ولا رستم يعلم لمن الدائرة وعلى من تدور.

أترى الجنود رجعوا إلى صفوفهم كما فعلوا أول من أمس؟ أتراهم واصلوا القتال جانبًا من الليل ثم رجعوا كما فعلوا أمس؟ لا هذا ولا ذاك، بل واصل الجيشان القتال وكأنما دار بخواطر الجند من الفرس والعرب جميعًا ألا يضعوا السلاح حتى يحسم بينهم، وكأنما دار هذا الخاطر بأنفسهم من غير أن يكون لسعد أو لرستم في الأمر رأي، بل لقد حدث الأمر وليس يعرف أحد من المسئول عن حدوثه؛ فهي الأقدار قضت به ودفعت إليه، وإذا أراد الله أمرًا فلا مَرَدَّ له، ولا رَادَّ لقضائه.

والواقع أن القتال هدأ وطيسه حين أقبل الليل، وقدر سعد أن الجيشين سيقضيانه يتهيآن ليوم رابع أشد من أرماث وأغواث وعماس فتكًا، لكنه خشي أن يأتيه العدو من مخاضة بأسفل العسكر، فأرسل طليحة وعمرًا في جماعة من الجند وقال لهما: «إن وجدتما القوم قد سبقوكما إليها فانْزِلا بحيالهم، وإن لم تجداهم علموا بها فأقيما حتى يأتيكما أمري.» ولم يجدا على المخاضة أحدًا، فسولت لهما نفساهما أن يخوضاها، وأن يأتيا الأعاجم من خلفهم، واختلفا كيف يفعلان، أخذ طليحة مكانه وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ارتاع لها أهل فارس، وظنوا أن جيش المسلمين أزمع الغدر بهم، وتعجب لسماعها المسلمون وظنوا أن الأعاجم فتكوا برجالهم فهم يكبرون مستغيثين، وأغار عمرو على جماعة من الفرس أسفل المخاضة، فلم يبقَ لديهم ريب في غدر العرب بهم فقدموا صفوفهم زاحفين، ورأى القَعْقَاع صنيعهم! فزاحفهم من غير أن يستأذن سعدًا، وأطل سعد من مجلسه بقديس وقد بدأ يحسب لزحف الفرس الحساب، فلما رأى القَعْقَاع يزاحفهم قال: اللهم اغفر له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني! وقال لأصحابه إذا كبرت ثلاثًا فاحملوا، لكنه ما لبث حين كبر الأولى أن رأى أسدًا تزحف، والنَّخَع تحمل، وبجيلة تندفع في الغمار، وكندة تتقدم، ورأى رحى الحرب تدور حول القَعْقَاع، فاستغفر الله لهؤلاء جميعًا ودعاه أن ينصرهم، وكبر الثانية والثالثة، فلحق الناس بعضهم بعضًا، واستقبلوا الفرس بالسيوف وخالطوهم؛ فكان للسيوف قعقعة وصليل كصوت القيون، وكان المقاتلون لا يتكلمون بل يصيحون، وكان القتال يشتد أو يحمى وطِيسه كلما تقدم الليل، وبات الجيشان يقتتلان أشد قتال وأقساه، وسعد ورستم قد انقطعت عنهما الأصوات والأنباء فلا يعلمان من أمر ما يدور شيئًا، ولا يملك سعد في مرضه غير الدعاء يقبل عليه في ضراعة وابتهال أن ينصر الله جنده، ولم يَغْمِض لسعد، كما لم يغمض لأحد من الجند تلك الليلة جفن، فلما بدأ الصبح ينبلج عن الأفق نوره جعل المسلمون ينتمون إلى قبائلهم، عند ذلك اطمأن سعد إلى أنهم الأعلون، وأنهم آخذون برقاب الفرس أخذًا، وزاده طمأنينة أن سمع القَعْقَاع بن عمرو يرتجز:

نحن قتلنا معشرًا وزائدًا
أربعة وخمسة وواحدا
نُحْسَبُ فوق اللِّبَد الأساودا
حتى إذا ماتوا دعوتُ جاهدا
الله ربي واحترزت عامدا

تنفس الصبح عن هذه الليلة الدامية الصاخبة، يسميها المؤرخون ليلة الهرير، ولمَّا يكن النصر عقد لواءه لأحد الفريقين، أفأحس الجند الجهد بعد أن قضوا أربعًا وعشرين ساعة في قتال أعنف قتال، فآن لهم أن يريحوا ظهورهم وأن يناموا؟! كلا! بل سار القَعْقَاع في الناس يقول: «إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإن النصر مع الصبر.» واجتمع إليه جماعة من الرؤساء ومعهم جنودهم، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه، ورأت القبائل صنيع المهاجرين والأنصار، فقام فيهم رؤساؤهم يشيرون إلى هؤلاء المسلمين ويقولون: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ويشيرون إلى الفرس ويقولون: ولا هؤلاء أجرأ على الموت منكم، وحملت القبائل على من بإزائهم في قتال شديد ظل متصلًا حتى قام قائم الظهيرة، عند ذلك بدأت صفوف الفرس تضطرب؛ تراجع الفيرزان والهرمزان في المُجَنَّبَتَيْنِ فانفرج القلب، وهبت ريح دبور عاصف، فأطارت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وزحف القَعْقَاع بمن معه إلى السرير فبلغوه، فإذا رستم قد قام عنه إلى بغال قدمت عليه بمال، فوقف بجوار أحدهما يستظل بحمله واندفع رجال القَعْقَاع إلى ناحية النهر، وهم لا يعلمون بأمر المال تحمله البغال ولا بأمر رستم واحتمائه بظلها، فضرب هلال بن علقمة أحدها فقطع حبال الحمل الذي تحته رستم، فوقع عليه أحد العدلين فكسر فقاره وهلال لا يشعر به، وزحف رستم وألقى بنفسه في النهر، فرآه هلال فعرفه، فاقتحم النهر وراءه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم صعد سريره يصيح: قتلت رستم ورب الكعبة! إليَّ! إليَّ! وأطاف الجند به يكبرون ويهللون، وعرف الأعاجم ما أصاب قائد الفرس الأعظم فأسقط في أيديهم، فوهنت قوتهم وانهد ركنهم! فقام فيهم الجالينوس يدعوهم إلى عبور النهر على الردم كما عبر الفيرزان والهرمزان، ولكن الردم انهار بهم في النهر المتدافع التيار، فغرق بانهياره ثلاثون ألف فارسي مقترنين بالسلاسل، وأخذ ضرار بن الخطاب علم الفرس الأكبر — دَرَفَشْكَابيَان — وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف، وكذلك انهزمت جيوش يَزْدَجِرْد شر هزيمة، وانطلقت فلولهم يولون الأدبار لا يعقبون.

مع ذلك أمر سعد فخرج القَعْقَاع وشرحبيل يتعقبانهم، ثم اتبعهما زهرة التميمي والناس من ورائه، وأدرك زهرة الجالينوس يجمع المنهزمين فقتله، وجعل المسلمين يقتلون من يلونهم من الفرس ويأسرونهم، فلا يلقون منهم أية مقاومة، بل إن بعض الروايات لتذهب إلى أن الجند المسلمين كانوا يأمرون المنهزمين بأن يقتل بعضهم بعضًا فيفعلون، ذلك أن الفرس تحطمت روحهم المعنوية فلم يبقَ فيهم عصب لمقاومة، لقد رأوا القتل يصيب من ثبت منهم، ورأوا قوادهم يفرون، فألقوا بأيديهم واستسلموا، فكان الشاب من جند المسلمين يسوق العشرات منهم فيسيرون أمامه منكسة رءوسهم وكأنهم قطيع من النَّعَم، لا إرادة لهم ولا رجاء يحركهم إلا الإبقاء على حياة عار ومذلة، أما الذين أنجاهم الفرار، فتفرقوا وكل واحد منهم يحس أنه أدرك بالفرار كبرى أماني الحياة.

هذا نصر حاسم أحرزه المسلمون، فتوجهم فخارًا، ودفع نساءهم وصبيانهم حين عرفوا أمره أن يندفعوا إلى ميدان المعركة ليشاركوا فيه، روي عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي أنها قالت: «شهدنا القادسية مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فُرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا وأخذنا الهراوى ثم أتينا القتلى، فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نُوَلِّيهم ذلك ونصرِّفهم به.» وكذلك اشترك المسلمون جميعًا، رجالًا ونساء وصبية، في هذه المعركة العنيفة الفاصلة التي جعلت كلمة الذين آمنوا العليا، وكان لها من الأثر في قيام الإمبراطورية الإسلامية ما كان لغزوة بدر من الأثر في قيام الإسلام.

ولم يضنَّ المسلمون بثمن ليدركوا هذا النصر المؤزر، لقد رأيت فعالهم المجيدة، ورأيت من بلاء أبطالهم ما كان القَعْقَاع بن عمرو مثلًا بارزًا فيه، وقد رأيتهم كيف أرخصوا دماءهم وأرواحهم في سبيل النصر فجزاهم الله الحُسْنَيَيْنِ، قتل منهم في الساعات الثلاثين التي انتهت إلى الظفر ستة آلاف، وقتل يومي أرماث وأغواث ألفان وخمسمائة، وهذا العدد من القتلى كان مما يفوق تصور العرب لذلك العهد، لكنه لم يكن شيئًا بالقياس إلى من قُتل من الفرس في حومة الوغى، ومن غرق منهم في النهر حين الهزيمة، ومن تردى بعد ذلك قتيلًا حين الفرار.

رجع القَعْقَاع وزهرة وسائر الأمراء والجند فأحاطوا بسعد، فألْفَوْه خفف النصر بعض علته، وجمع الناس الأسلاب والأموال، فإذا شيء لا يحيط به خيال عربي، وأرسل سعد إلى هلال بن علقمة فسأله عن رستم وقال له: جرده إلا ما شئت، فلم يدع هلال على القتيل شيئًا إلا أخذه، فبلغ ذلك سبعين ألفًا، ولولا أن قَلَنْسُوَته سقطت في النهر لضاعف ذلك حظ هلال، وجاء زهرة بن الحوية بسلب الجالينوس، فاستكثر سعد أن ينفله إياه كاملًا فكتب إلى عمر في ذلك فرد عليه عمر: «تعمِد إلى مثل زُهرة وقد صَلِيَ بمثل ما صلي به، وقد بقي عليك من حربك ما بقي، تفسد قلبه، أمْضِ له سلبه وفضِّله أصحابه عند عطائه بخمسمائة.»

وقسم سعد الفَيْء في الناس، فكان عطاء الفارس ستة آلاف والراجل ألفين، ثم فضل أهل البلاء فزاد كل واحد منهم خمسمائة، مع ذلك بقي من الفَيْء شيء كثير غير الخمس الذي نحاه سعد ليبعث به إلى المدينة، وكتب سعد إلى عمر بما فعل، وسأله عما يفعل بما بقي عنده، فكتب إليه عمر: «أن رد على المسلمين الخمس، وأعط من لحق بك ممن لم يشهد الواقعة.»٥ ونفذ سعد أمر عمر، فبقي لديه ما اضطره أن يبعث إلى عمر يسأله عما يفعل به، وأمر عمر أن يوزع على حملة القرآن، وإنه ليوزعه عليهم إذ أتاه عمرو بن معدي كرب وبشر بن ربيعة الخثمي وكانا أبليا في الموقعة بلاء ضاعف جزاءهما، وهذا البلاء هو الذي أطمعهما في أن يكون لهما حظ مع حملة القرآن، وسأل سعد عمرو بن معدي كرب: ما معك من الله تعالى؟ قال عمرو: إني أسلمت باليمن ثم غزوت فشغلت عن حفظ القرآن، عند ذلك أبى سعد أن يجعل له من مال الحفاظ نصيبًا، وسأل بشرًا عما يحفظ من القرآن، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم! وضحك القوم ولم يفز بشر من هذا المال بنصيب.

أَوَتحسب الفارسين رضيا جواب سعد أو سكتا قانعين؟ كلا، بل قال عمرو:

إذا قُتلنا ولا يبكي لنا أحد
قالت قريش ألا تلك المقادير
نُعطى السَّوِيَّة من طعنٍ على نفذٍ
ولا سوية إذ تعطى الدنانير

وقال بشر بن ربيعة:

أنخت بباب القادسية ناقتي
وسعد بن وقاص عليَّ أمير
وسعدٌ أمير خيره دون شره
وخير أمير بالعراق جريرُ
تذكَّرْ هداك الله وقع سيوفنا
بباب قُدَيْس والمَكرُّ عسير
عشية ود القوم لو أن بعضهم
يُعار جناحيْ طائر فيطير٦

وكتب سعد إلى عمر بقصة عمرو وبشر وما قال لهما وردهما عليه، وبعث إليه بأبياتهما، فكتب عمر إليه: أن أعطهما على بلائهما، فأعطى كل واحدٍ منهما ألفي درهم أرضتهما ولم تغضب أحدًا؛ فقد عرف الناس جميعًا أنهما، إلى حسن بلائهما، أحرص على المال من غيرهما.

وكذلك انتهت المعركة إلى ما رأيت من نصر حاسم، حين كان الناس في كل الأرجاء من شبه الجزيرة يتطلعون ببصائرهم وقلوبهم إلى ناحيتها، وهم على أحر من الجمر شوقًا لمعرفة أنبائها، يقول المؤرخون: «كانت العرب، من العُذَيب إلى عدن أبْيَنَ، ومن الأبُلَّة إلى بيت المقدس، يتربصون وقعة القادسية، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدًا يكشف ما يكون من خبرهم.» وكان عمر بن الخطاب أشد الناس تطلعًا وشوقًا لمعرفة ما تنتهي إليه؛ لذلك كان يخرج كل صباح إلى ظاهر المدينة يسأل الركبان عن أهل القادسية، فإذا انتصف النهار رجع إلى أهله ومنزله، وإنه ليسير يومًا إذ لقيه راكب على ناقة عرف حين سأله أنه مقبل من هناك، فقال له: يا عبد الله حدثني، قال الرجل: هزم الله المشركين، وجعل عمر يخب معه يسأله والراكب يحدثه وهو على ناقته لا يعرفه، وكان هذا الراكب سعد بن عميلة الفزاري رسول سعد بن أبي وَقَّاصٍ إلى أمير المؤمنين، وكان يحمل رسالة سعد إلى عمر بالفتح وبعدة من أصيب من المسلمين وأسماء من عرف منهم، فلما دخل الرجلان المدينة وسلم الناس على عمر بإمرة المؤمنين، قال ابن عميلة: هلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين! وأجابه عمر في بساطة: لا بأس عليك يا أخي! وتناول منه كتاب سعد وقرأه على الناس.

بينما كان عمر يتلو على أهل المدينة كتاب سعد بالفتح، كان يَزْدَجِرْد بالمدائن قد كرثته الأنباء، فأكب يستعيد أقوال رستم وما كان يشير به فيتولاه الحزن ويقعد به الهم دون التفكير فيما يستطاع عمله … وماذا يستطيع هو، وماذا تستطيع فارس كلها؟! لقد انطلق المسلمون في وادي العراق من أعلاه إلى أسفله، فعاد الناس جميعًا إلى طاعتهم معتذرين عن ولائهم للفرس بأنهم غُلبوا على أمرهم، كان سعد يعذرهم تألفًا لهم وحرصًا على أن تسود الطمأنينة ربوعهم، بل لقد أقبل عليه من قبائل العرب المنتشرة فيما بين النهرين من ذكر أن إخوانهم الذين سبقوهم إلى الإسلام كانوا أوفر منهم عقلًا وأكثر حكمة، ثم أعلنوا بين يديه إيمانهم بالله ورسوله، ماذا يستطيع يَزْدَجِرْد إزاء ذلك كله وقد كانت تبلغه أنباؤه فتزيده همًّا على همه وتدفع اليأس إلى نفسه، لولا أن أبقت حمية شبابه سرابًا من الأمل يلمع أمامه فيخدعه عن الواقع، ويغريه بالتعلق بعرش حُرمه صبيًّا، فلما اعتلاه تزلزلت قوائمه، وتزعزعت أركانه! وهيهات لسراب أن يحقق أملًا، أو يدفع للقضاء حكمًا!

•••

هذه وقعة القادسية التي فتحت الطريق إلى إيوان كسرى في عاصمة ملكه، ومهدت للإدالة من دولته والقضاء الأخير على سلطانه؛ لذلك روى أكثر المؤرخين من تفاصيلها ما روت كتب السيرة من تفاصيل غزوة بدر، وأضافوا إليها من الخوارق ما لا يحمل على تصديقه إلا ما كان لهذه الغزوة من أثر حاسم في تاريخ العالم، بل لقد أسهب المستشرقون والفرس في روايتها ما أسهب المؤرخون المسلمون، وليس في ذلك من عجب والقادسية أعظم أثرًا في تاريخ الإنسانية من غزوات تيمورلَنْك ونابليون، بل من كل الغزوات التي وقعت إلى عصرنا الحاضر وكان لها في توجيه الحضارة أبلغ الأثر.

من الحق على المؤرخ، وذلك شأن القاسية، أن يقف عندها يستشف أسرارها ويستخلص عبرها، لقد فتح خالد بن الوليد سواد العراق وسار فيه من جنوبه إلى شماله، وأخضع ريفه ومدنه، وتولى كل أمره، وكان له في قتال الفرس عليه معجزات باقية على التاريخ، أفيرجع ظفره بهم إلى تشاغلهم بما كان في بلاطهم من اضطراب، وما كان بين أمرائهم من تنازع على العرش جعلهم يقتتلون، فيقتل بعضهم بعضًا غيلة حينًا وجهرة حينًا، حتى لقد جلس على هذا العرش تسعة ملوك في أربع سنوات؟ إن يكن ذلك هو الذي أظفر خالدًا بهم، فكيف ظفر به أبطال القادسية، وقد اجتمعت كلمة فارس بعد شتات، وقد تعاقد الأمراء والرعية جميعًا على أن يكونوا رجلًا واحدًا حول يَزْدَجِرْد ينصرونه ويؤازرونه؟ نعم كيف بقيت العلة وقد انتفى سببها، وكيف ظفر المسلمون على قلتهم بالفرس على كثرتهم، والفرس في بلادهم وهم أصحاب العدة والحضارة، والمسلمون طارئون عليهم، وأكثرهم بدو على فطرتهم، لا يملكون من عدة الحرب ما يملك عدوهم، ولا يعرفون من أساليبها ما يعرف!

السر في ذلك أن اجتماع كلمة الفرس لم يغير ما بأنفسهم، وإنما كان أمرًا ظاهرًا قضت به ضرورات الساعة، ثم بقيت القلوب في أعماقها شتى، وبقي السادة والأمراء يفكر كل منهم في نفسه وفي مطامعه قبل أن يفكر في وطنه، فلو أنهم انتصروا على العرب وأجلوهم عن بلادهم، لعاد الأمر كما كان، ولاضطرب البلاط كرة أخرى، ولطغت المطامع الذاتية على كل اعتبار سواها، ألم تر إلى رستم كيف تلكأ فلم يخرج على رأس الجيش إلا كارهًا مخافة ثورة الشعب به إذا خرج يَزْدَجِرْد مكانه! ألم تر إلى تباطئه وتباطؤ سائر القواد في السير حتى قضوا أربعة أشهر منذ فصلوا من المدائن إلى أن بلغوا القادسية! والواقع أن رستم لم يكن يرى في النجوم إلا ما كان مرتسمًا في قرارة فؤاده، لقد استولى عليه حب نفسه فعز عليه أن يهزم أو يقتل، فرأى مصير وطنه مرتبطًا في النجوم بما يخاف من هزيمته ومقتله، ولو أنه عرف فارس ونسي نفسه ورأى موته وحياته سيَّيْنِ في سبيل وطنه، لما تعلل ولا تباطأ، ولما رأى في النجوم ما رأى، ولسما بروحه فوق الخوف وفوق الإشفاق، ولسرت منه إلى القواد والجند قوة تجعلهم جميعًا يخوضون غمار الموت لا يبالونه، لكن القواد والجند كانوا كرستم تعلقًا بذواتهم وإشفاقًا مما يصيبهم، فكانت روح كل واحد منهم أعز عليه من فارس ومن كل ما فيها، وإنما كانوا يسيرون إلى المعركة تحرك الرؤساء أطماعهم وأهواؤهم، ويحرك الجند إذعانٌ ومذلة ألِفوها أجيالًا طويلة، أترى ما تقضي به ضرورة الساعة من اجتماع الكلمة كافيًا ليقضي في النفوس على هذه العوامل الكمينة التي تأصلت فجعلت كل رجل في الدولة يعيش لذاته، وكل جماعة فيها لا تفكر إلا في مصالحها؟

وكان من أثر هذه العوامل أن قضت في النفس الفارسية على فكرة المثل الأعلى تعيش الأمة من أجله وتجاهد في سبيله، والناس إذا لم تجتمع على مثل أعلى مصور في رسالة يريدون صادقين تحقيقها، لم يهزهم للجهاد دافع غير حب الذات والمحافظة على الحياة، وكان هذا شأن السادة الأمراء في فارس، وشأن يَزْدَجِرْد نفسه، أورثه حب الذات حرصًا على العرش أكبر من حرصه على حرمة بلاده، كما أورث حب الذات السادة والأمراء حرصًا على مطامعهم غشَّى في نفوسهم على كل ما سواه، وسرى هذا الروح في الأمة الفارسية كلها، فأورث أهلها الخضوع والرضا بحياة الذلة، وقد خُدعت عما بها من ذلك حين غلبت الروم وانتزعت من أيديهم الشام ومصر، ونسيت أن الروم كانوا كالفرس تدهورًا وانحلالًا، فلما ردهم الروم على أعقابهم ظنوا الحرب سجالًا، وفاتهم أن القوة السليمة من العلل لا تُرد على أعقابها، فإن ردت يومًا فلعِلَّة بها، ولم تعبأ فارس بغارات المسلمين أول ما شنوها، وحسبت أنهم لن يلبثوا أن يعودوا أدراجهم هيبة لاسم فارس وإعظامًا لبأسها، فلما رأت ظفرهم بها وقهرهم لها، تفتحت منها الأعين، ولكن لترى هزائمها وزوال ملكها.

أفيغني جيش انحلت قوته المعنوية هذا الانحلال إذا وقف بإزاء جيش كملت فيه هذه القوة، فهو يجاهد في سبيل مثل أعلى يؤمن به ويرى الموت في سبيله شهادة يتقدم بها إلى ربه، فتفتح له أبواب الجنة يدخلها خالدًا في نعيم مقيم ورضوان من الله سرمدي! وقد اجتمعت كلمة المسلمين حول هذا المثل الأعلى فوهبوا أنفسهم لله في سبيله، واستحبوا الموت على الحياة لتحقيقه، فكانوا بذلك قوة من قوى القدر هيأها ليرد الإنسانية بها إلى الصراط السوي، وألقى عليها رسالة يجب أن يسمع العالم لها محافظةً على حياته.

مثل هذه القوة لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.

لهذا فرت فيلة الفرس أمامها، وتداعت صفوفهم لبأسها، وولى جمعهم مدبرًا من خشية أبطالها، فانفسحت لها السبل تذيع عن جانبيها رسالتها فيُقبل الناس على هذه الرسالة طائعين، وقد رأوا قوة الحق ماثلة في كل كلمة من كلماتها، وكل عبارة من عباراتها، ثم رأوها تدفع الباطل فيزهق، إن الباطل كان زهوقًا.

هذا هو السر في ظفر المسلمين بالفرس في غزوة القادسية، أما العبرة التي تستخلص منها فخير ما يعبر عنها قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ، وقد غير الإيمان بالله ورسوله ما بأنفس المسلمين، وهداهم إلى الحق الذي تقوم الحضارة الفاضلة على أساسه، فعزوا بالإسلام وأعزوه، أما الفرس والروم فظلوا أشد حرصًا على متع الحياة ولينها منهم على المبادئ السامية التي تجعل للحياة الإنسانية قيمتها ومعناها، وتجعلنا لذلك حقيقين أن نحياها فأذلهم المتاع ولينه، ولم يُغنِ عنهم شيئًا.

غيَّر المسلمون ما بأنفسهم حين آمنوا بالله ورسوله، فاجتمعوا حول مثلٍ أعلى صوره الله في رسالته إلى نبيه، فأصبح المسلمون بفضل هذا الاجتماع أمة واحدة، وصار كل واحد منهم في هذه الأمة كالعضو في الجسد، لا قوة له بذاته، بل بقوة الجسد كله، بذلك صار كل رجل من أبناء الأمة، وكل امرأة من نسائها، قوة يجذبها المثل الأعلى إليه، ويدفعها قوية للمغامرة في سبيله، ويسمو بها إلى حيث لا تعرف الضعف ولا التراجع ولا الهزيمة، بل تؤثر الموت الكريم على الموقف الشائن، أرأيت إلى طليحة بن خويلد الأسدي كيف كان ضعيفًا أمام خالد بن الوليد في حروب الرِّدَّة، وكيف كان قويًّا بالغ القوة على الفرس في القادسية! وهل رأيت كيف انهزم عمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس في ردتهما أمام جند المسلمين، وكيف أبليا في القادسية بلاء ذكره لهما الذاكرون! ذلك أن طليحة كان يوم تنبأ قوي الشكيمة ضعيف الإيمان، فلم تُغْنِ قوة شكيمته عن ضعف إيمانه، وكذلك كان عمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس وسائر الذين ارتدوا وحاربوا المسلمين، فلما عادوا إلى الإسلام وصاروا فِلْذةً من الأمة التي اعتزت بإيمانها، زادهم الإيمان قوة على قوتهم، فكان لهم من الفعال في القادسية ما رأيت، وكان لهم بعد القادسية من فعال البطولة والمجد ما خلده التاريخ.

وكان أمير المؤمنين من هذا الجسد بمكان الرأس، يدبر أمور الجميع لخير الجميع، ويجد السعادة في أن يشقى ليسعد الجميع، وقد تأسى عمر في هذا الأمر برسول الله ثم بأبي بكر، فكان مثلًا عاليًا بعدله وحزمه وإيثاره كل رجل من أبناء الأمة على نفسه، وإيثاره خير الأمة على خير أي من أفرادها بذاته، رأى الخير بعد القادسية في أن يرد الخمس من المغانم على المحاربين فرده، ورأى أن يُجزل سعد العطاء لأهل البلاد ففعل، ورأى أن يتألف أهل العراق ممن اعتذروا عن انتقاضهم على المسلمين فتألفهم سعد، ولم يغضب أحد من أهل المدينة لشيء من هذا وفيه ما فيه من حرمانهم؛ لأنهم رأوا أمير المؤمنين يريد الخير للإسلام كله، ورأوه يستشيرهم فيما جل ودق من أمره، وخير الإسلام خيرهم، وإنكار الذات بعض ما أمرهم الله به؛ لذلك أعانوا عمر على ما فعل، فجزاهم الله بعد ذلك عنه أضعافًا مضاعفة.

هذا بعض ما في القادسية من سرٍّ وعبرة، وهذا السر وهذه العبرة هما اللذان شادا بفضل الله للإسلام إمبراطوريته ومجده، فلنتابع بناة هذه الإمبراطورية والذين رفعوا لواء هذا المجد، ولنسر معهم؛ فإنهم لن يلبثوا أن يسيروا إلى المدائن فيفتحوها، ولن يلبث سعد أن يجلس على إيوان كسرى بعد أن فر عنه صاحبه مودعًا إياه الوداع الأخير.٧

هوامش

(١) يذكر الطبري وغيره من المؤرخين أن عاصم بن عمرو سار في إحدى هذه الغارات إلى ميسان فتحصن أهلها منه بالآجام، فأسر رجلًا واستدله على البقر والغنم، فحلف له أنه لا يعلم شيئًا عن أمرها، مع أنه كان راعيًا، فصاح ثور من داخل الأجمة: كذب والله ها نحن أولاء! فدخل عاصم الأجمة فاستاق الثيران كلها. ويضيفون أن الحجاج عرف هذه الرواية في زمانه فكذبها، فأقسم الذين شهدوا الحادث بصحتها فصدقهم. ولا شيء يقتضي تكذيب الرواية إذا ردت إلى المعقول. والمعقول أن الراعي كذب وأن الثيران بعد ذلك خارت، فاقتحم المسلمون الأجمة واستاقوها. ولا تفسير لخوارها عندهم إلا أنها كانت تقول: كذب والله، وها نحن أولاء تعالوا فاستاقونا!
(٢) تفصيل ذلك في الفصل السابع من كتاب «الصديق أبو بكر».
(٣) اليلمق — كجعفر: القباء، فارسي.
(٤) تجري رواية بأن زبراء أم ولد سعد هي التي أطلقت أبا مِحْجَنٍ من قيده وأعارته البلقاء. والبلاذُري يرجح ذلك، وابن كثير لا يذكر سلمى. فأما الطبري وطائفة معه فيذكرون في هذه المناسبة سلمى، ويضيفون أنها سألت أبا مِحْجَنٍ: في أي شيء حبسه سعد، فقال: ما حبسني في حرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني يبعثه على شفتي أحيانًا فيساء لذلك ثنائي. ولذلك حبسني أن قلت:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وصالحت سلمى سعدًا بعد أغواث فأطلق لها أبا مِحْجَنٍ وقال له: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله. قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدًا.
(٥) يذكر الطبري وطائفة من المؤرخين أن القوات التي جاءت من الشام مع هاشم بن عُتْبَةَ لم تدرك كلها غزوة القادسية. بل وصل بعضها بعد انتصار المسلمين وفرار الفرس. وهؤلاء هم الذين عناهم عمر في كتابه هذا إلى سعد.
(٦) الرواية المذكورة رواية الطبري ومن إليه وهم كثرة المؤرخين. والبلاذُري لا يروي أبيات عمرو، ويروي أبيات بشر مع ما يرويه مما قاله أبطال القادسية إشادة بقتالهم، ولذلك يروي البيت الثاني بالنص الآتي:
وسعد أمير شره دون خيره
طويل الشذى كابي الزناد قصير
(٧) اختلف المؤرخون متى وقعت القادسية؛ يقول ابن خلدون: كانت القادسية سنة أربع عشرة وقيل: خمس عشرة وقيل: ست عشرة. ويذكر أبو الفداء أنها كانت سنة خمس عشرة. وأنا أرجح هذا الرأي؛ فهي قد وقعت بعد اليرموك وفتح دمشق وغزوة فحل، ووقعت بعد أن أمد عمر المثنى بأبي عبيد فكانت غزوات النمارق والجسر والبويب. ولما جمع عمر جيش سعد بن أبي وقاص وسار هذا الجيش متمهلًا تتبع القبائل فيه نساؤها وأبناؤها. وقد أقام سعد بالعذيب أشهرًا قبل أن يسير إلى القادسية، وبقي بالقادسية شهرين على الأقل قبل الموقعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤