عبد الله بن الزبير
كان عبد الله بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة، وكان قد رفض المبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي، وخرجا من المدينة إلى مكة، ودعا كل منهما إلى بيعته هو، على أن عبد الله رأى ألا يتظاهر بذلك والحسين في مكة لعلمه أنه أولى منه بالبيعة. فلما كان شخوص الحسين إلى الكوفة ومقتله في كربلاء، خلا الجو لابن الزبير فبايعه الناس واستفحل أمره، وجعل مكة عاصمته، وبايعه أهل الحجاز واليمن، وحاربه بنو أمية ولكنهم لم يبلغوا منه وطرًا، فلما كانت خلافة عبد الملك بن مروان، وكان الحجاج يومئذ أحد أمراء عبد الملك، ولهذا ثقةً في شجاعته رغب الحجاج في قتال عبد الله، وقصَّ على عبد الملك رؤيا قال إنه رأى نفسه فيها وقد أخذ ابن الزبير وسلخه، وطلب من عبد الملك أن يشخصه لقتاله، فأشخصه في ثلاثة آلاف من أهل الشَّام، وأعطاه كتاب أمان إلى ابن الزبير ومن معه إن أطاعوه، وأوصاه بأن يرفق بالكعبة.
فسار الحجاج سنة ٧٢ﻫ. وحدثت بينه وبين ابن الزبير مناوشات لم يتم الفوز فيها لأحدهما، فملَّ الحجاج، وأرسل إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير، فأذن له وأنجده بخمسة آلاف آخرين، فاشتد بذلك أزر الحجاج، وحاصر الكعبة ورماها بالمنجنيق. فعظم ذلك على المسلمين وأنبوه، ولكنه أصرَّ على رأيه. وطال الحصار على أهل مكة حتى قلَّ زادهم وأصابهم جوع شديد. وكانت مكة يومئذ قليلة العمار ليس فيها غير المسجد وفي وسطه الكعبة وبعض الأبنية، وكانت الكعبة قد تهدمت في حصارها قبل قدوم الحجاج فأعاد ابن الزبير بناءها على أوسع مما كانت عليه.
ونصب الحجاج المنجنيق على جبل أبي قبيس المشرف على مكة من جهة الشَّمال والشرق.
وكان ابن الزبير مقيمًا مع أهله بالمسجد الحرام، ومعه جماعة من رجاله قد بايعوه حتى الموت وصبروا معه صبر الرجال. وأما الحجاج فكانت خطته أن يستمر في تضييق الحصار على عبد الله، وبعث بسراياه يطوفون حول مكة يمنعون الدخول إليها والخروج منها. ولما طال أمد الحصار دون أن يستسلم المحاصرون استنجد الحجاج طارقًا أمير المدينة كما تقدم.
•••
ولنرجع إلى حسن وقد خرج من المدينة على جمل أهداه إياه أبو سليمان، ومعه العبد بلال. وبعد مسيرة أيام أشرفا على مكة عند الغروب فرأياها محاطة بشراذم من الفرسان يطوفون حولها. فقال بلال: «إني أرى الطلائع الأموية حول مكة، ولا آمن إذا واصلنا السير أن يمنعونا، فهل تأذن لي في الخروج إليهم للاستطلاع ثم أعود إليك؟»
فوافقه حسن على ذلك، وأوصاه بالرجوع إليه عند حائط انتظره فيه بعيدًا من الطريق العام.
وسار بلال، واتجه حسن إلى ذلك الحائط، وهو من آثار بناء قديم هناك، وترجل وعقل جمله وراء الحائط ثم اتكأ بجانبه بحيث لا يراه أحد من المارة. ولبث مدة وقد طاب له الاتكاء لعظم ما قاساه من الجهد في أثناء ركوبه الطويل من المدينة إلى مكة فأحس براحة، ولكنه ما لبث أن رأى الشَّمس تغرب والظلال تتقلص وبلال لم يرجع. فلما آن العشاء استبطأه وحسب لتأخره ألف حساب، ثم وقف وتسلق الحائط وجعل ينظر إلى الأفق لعله يراه قادمًا.
وفيما هو في ذلك سمع سعال بلال، فالْتفت فرآه قادمًا يعدو عدو الغزال والأرض رملية لا يُسمع وقع الخطى عليها، فلما وصل إليه قال: «لا سبيل لنا إلى مكة الليلة؛ لأن رجال الحجاج مضيقون عليها الحصار من كل ناحية حتى لا يدخلها أحد ولا يخرج منها أحد.»
قال حسن: «وما الحيلة؟ لا بد من دخولنا.»
قال: «ليس لنا يا مولاي إلا أن نصبر إلى الغد؛ لأبحث عن سبيل إلى دخولنا.»
فقال: «أنبقى وراء هذا الحائط إلى الغد؟»
قال: «كلا يا مولاي، فقد دبرت وسيلة أظنها تريحك وتسهل عليك الدخول.»
قال: «وما هي؟»
قال: «أتعرف محمدًا بن الحنفية؟»
قال حسن: «كيف لا وهو ابن الإمام علي، وأخو الحسن والحسين من أبيهما؟»
قال: «إن له حرمة عند الحجاج وعند ابن الزبير، فإذا وسطناه دخلنا مكة على أهون سبيل.»
قال: «كيف تكون له هذه الحرمة وهو عدو لابن الزبير ولعبد الملك؛ لأنه يزاحم الأول على الخلافة في الحجاز، ويزاحم الآخر على الخلافة في الشَّام! ألم تسمع بحديث المختار؟»
فقال بلال: «كيف لم أسمع به؟!»
فقال حسن ولم ينتظر إتمام جوابه: «لقد كان المختار يطالب بالخلافة لمحمد بن الحنفية، ثم قتله مصعب أخو عبد الله بن الزبير المحصور في هذا الحرم الآن، وجاء عبد الملك بن مروان فحارب مصعبًا وقتله وأخذ العراق منه.»
قال: «صدقت يا مولاي، ولكن المختار طلب من تلقاء نفسه البيعة لابن الحنفية دون أن يكلفه هذا بذلك ولا أراده، وقد لجأ المختار إلى هذه الخطة تمهيدًا لاستقلاله بالأمر لنفسه، وعلى هذا حمل الكرسي المشهور أمره عند الناس، وزعم أنه كرسي الإمام علي، كما ادعى ما يشبه النبوة؛ حتى كرهه الناس ونفروا منه.»
فقال حسن: «هل رأيت ذلك الكرسي؟ وهل تعرف أصله؟»
قال: «إن سر هذا الكرسي عندي، وطالما جلست عليه قبل أن يصبح مقدسًا كما ادعى المختار.»
قال: «وكيف ذلك يا بلال؟ إنك والله لواسع الاطلاع.»
قال: «إن الذي يعيش طويلًا يرى كثيرًا. فقد اتفق لي منذ بضع سنين وأنا في المدينة أني اصطحبت رجلًا اسمه الطفيل بن جعدة بن هبيرة، وكانت جدته أم جعدة أخت علي بن أبي طالب. وكان يتردد إلى جار له زيات كنت أتردد إليه أحيانًا، فأُصيب الطفيل يومًا بضيق ولم يبقَ معه ما ينفقه على نفسه. وكان المختار يومئذ قد قام لمحاربة قتلة الحسين، فأراد الطفيل أن يحتال عليه ليكسب منه مالًا، فاشترى من جاره الزيات كرسيًّا قديمًا كان مهملًا عنده ثم غسله وسقاه الدهن حتى لمع، وذهب به إلى المختار وقال له: «إني كنت أكتمك شيئًا وقد بدا لي أن أذكره لك؛ إن أبي جعدة كان يجلس على كرسي عندنا، ويروي أن فيه أثرًا من علي.» فقال له المختار: سبحان الله لماذا كتمت خبره، ابعث به إلي. فبعث به إليه وقد غشاه بملاءة، فدفع له اثني عشر ألف درهم، فأخذها الطفيل وانصرف، ثم غشي المختار الكرسي بالديباج وزيَّنه بأنواع الزينة، ودعا الناس إلى المسجد حيث أراهم إياه بعد الصلاة وقال لهم: «إن هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي — عليه السلام. وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل.» فصدقوه، وصار إذا حارب خصومه حمل الكرسي معه إلى ميدان القتال وقال لمن معه: «قاتلوا ولكم الظفر والنصر، هذا الكرسي محله فيكم محل تابوت بني إسرائيل، وفيه السكينة والبقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددًا لكم» …»
فقال حسن: «لعلك تعرف ابن الحنفية؟»
قال: «نعم يا مولاي، وقد شهدت كثيرًا مما يتناقله الناس من أحاديث قوته البدنية، وأذكر أني رأيته في حياة أبيه علي، وكنت غلامًا، وفي يد أبيه درع طويلة فأراد أن ينقص بعض حلقاتها فدفعها إلى محمد وأمره أن ينقص منها كذا حلقة، فقبض محمد بإحدى يديه على ذيلها وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حدده أبوه. وهو يعرفني أيضًا.»
فقال حسن: «وماذا ترى أن نصنع الآن؟»
قال: «إن ابن الحنفية مقيم الآن بالشعب في جوار مكة، فإذا شئت نزلنا عنده الليلة ثم نرى ما يكون في الغد.»
فقال: «وهل تعرف الطريق إليه؟»
قال: «عرفته في أثناء غيابي عنك الآن، وقد أوصاني بك مولاي أبو سليمان خيرًا أراك أهلًا له … فأنا خادمك حتى تبلغ مأمنك.»
فقال حسن: «بورك فيك.» وأخذ يهيئ رحله للركوب وبلال يساعده ويقول: «إني أرى مكة في ضيق شديد، وأخاف على ابن الزبير من عاقبة هذا الصبر، فإن الأمويين غالبون آخر الأمر على ما أرى.»
فتذكر حسن ما هو قادم لأجله وخاف الفشل، ولكنه صبر ريثما يدخل مكة في الغد.
سار حسن وبلال حتى أتيا أرضًا صخرية مشيًا بين شقوقها، ثم صعدا تلالًا أشرفا منها بعد قليل على شعب بعيد أُوقدت به نار لهداية الضيوف كما هي العادة عند العرب. وهمَّ حسن بأن يسأل بلالًا فإذا بهذا يقول له: «إننا على مقربة من الشَّعب. وعما قليل تبدو لنا الخيام ونسمع صهيل الخيل، فهل تريد أن ننزل في دار الأضياف رأسًا أم نقصد خيمة محمد نستأذنه ونخاطبه في أمر دخولنا مكة؟»
قال: «أخشى أن يكون في ذهابنا الآن إلى خيمته ما يزعجه، فلنترك ذلك إلى صباح غد.»
قال: «إذن نذهب إلى دار الضيافة؛ فإنهم لا يسألون القادم إليها عن سبب قدومه، ومتى أصبحنا نرى ما يكون. وربما خرجت أنا الليلة لأدبر الأمر.»
فأثنى حسن على غيرته. وبعد قليل لاحت لهما خيام عديدة منصوبة على غير نظام يتوسطها فسطاط كبير عرفا من اتساعه ووقوف بعض الخدم ببابه أنه فسطاط محمد بن الحنفية، فوقف بلال برهة وهو يتفرس في الخيام حتى تبين خيام الأضياف وعرفها من انفرادها عن سواها وقربها من النار. فسارا حتى اقتربا منها فسمعا لغطًا وكلامًا. ثم ترجل حسن، وسبقه بلال إلى أقرب الخيام فلقيه رجل رحب به وسأله عما يريد، وطلب إليه أن ينتسب، فانتسب، وقال: «إننا أضياف غرباء.» فأنزلهما على الرحب والسعة، وأفرد لهما خيمة ليس فيها أحد. فدخل حسن، وأعطى بلال الجمل لأحد الخدم ليأخذه إلى المعالف، ثم عاد إلى حسن فوجد عنده طعامًا أعده القوم، فأكلا، ثم خرج بلال على أن يعود بعد قليل، وتوسد حسن على فراش من جلد فرشوه له، وكان التعب قد أخذ منه مأخذًا عظيمًا فغلب النعاس عليه فنام، ولكن هواجسه لم تنم معه فتحولت إلى أحلام مزعجة رأى فيها أنه دخل مكة وقد دخلها الحجاج وقبض عليه وحبسه وقيده، فشقَّ ذلك عليه وانزعج، ثم أفاق من نومه مذعورًا فشكر الله لأن ذلك كان حلمًا، ولكنه تشاءم وغلب عليه الأرق فجعل يتقلب والنوم لا يأتيه. فأراد رؤية بلال لعله يقص عليه ما يتسلى به ريثما يطلع النهار، وخرج للبحث عنه عند باب الخيمة حيث ظن أنه نام هناك، وناداه فلما لم يجب ظنه مستغرقًا في النوم، ثم ما لبث أن تبين أنه لم يعد بعد، وتفرس في النجوم فعلم أنه في الهزيع الأخير من الليل، فقلق على بلال، ثم الْتف بردائه اتقاء البرد، وخرج ليبحث عنه حول الخيام.»
•••
وفيما هو في ذلك سمع جعجعة جمل قادم نحو الخيام فالْتفت فإذا هناك جملان على أحدهما ما يشبه الهودج ويقوده رجل ماشٍ لم يستطع تبين وجهه لاشتداد الظلام، فتبادر إلى ذهنه أن رجلًا وامرأته وخادمه قادمون للمبيت هناك إلى الصباح. ولكنه استغرب مسيرهم في أواخر الليل بجوار مكة وهي في حصار شديد. فعاد إلى خيمته وفي نفسه أن يستطلع حقيقة القادمين، فجعل ينظر من شقوق في الخيمة تطل على الطريق، فرأى أن الجملين قد أُنيخا ونزل راكب أحدهما وهو رجل قصير القامة، ملثم بعمامته وقد الْتف بعباءته. ثم رأى الرجل الذي كان ماشيًا يقود الجمل فإذا هو عبد كبير الجثة سريع الحركة، تسلم جمل الراكب الأول وعقله بجانب الجمل الآخر وهو يقول: «أترى يا مولاي أن أبقى هنا مع الجملين، أم أسير في خدمتك؟»
فرد عليه الرجل بصوت منخفض قائلًا: «امكث أنت هنا واحتفظ بما على الجمل فإنه أعز شيء عندي كما لا يخفى عليك.»
قال: «هل أسير في خدمتك إلى خيمة الأضياف؟»
قال: «لست ذاهبًا إلى هناك، فامكث أنت هنا ريثما أعود إليك.» قال ذلك ومشى.
وكان حسن يتوقع أن يرى زوجة الرجل الأول تنزل من الهودج، ولكنه رآه ما زال مجللًا بغطائه، ثم رأى العبد عاد إلى الجمل الذي يحمل الهودج وجلس بجانبه مستندًا إلى بطن الجمل، وما لبث أن نام نومًا عميقًا وعلا شخيره. فاستغرب حسن ما رآه، وكان قد تعب من الوقوف، فعاد إلى فراشه وفكره مضطرب. وبعد أن جلس قليلًا عاد إلى باب الخيمة للبحث عن بلال وقد ازداد قلقه لغيابه، فأطلَّ برأسه من الباب وتلفت يمنة ويسرة فلم يجد أحدًا، وحال الظلام بينه وبين الأشباح البعيدة فعاد إلى فراشه وقد أحدقت الهواجس به، فحدثته نفسه بأن يخرج إلى ذلك العبد ويسأله عن سر الهودج، ولكنه أحجم وقال في نفسه: «لو كان بلال هنا لكلفته بهذه المهمة.»
وفيما هو في ذلك سمع وقع أقدام خارج الخيمة تقترب من بابها، فأدرك أن بلالًا قادم، ولم يشأ أن يناديه لئلا ينتبه العبد الآخر النائم بجانب الجمل. فوقف ومشى إلى الباب، فرأى بلالًا يهم بالاتكاء، ورآه بلال فوقف وقال: «ما الذي أيقظك في آخر الليل يا مولاي؟»
قال وهو يشير إليه أن يخفض صوته: «لقد استيقظت من زمن فقلقت لغيابك، ثم رأيت بعض الناس حطوا رحالهم وراء خيمتنا، وظهر لي من أمرهم ما أقلقني.»
فقال بلال: «وما الذي تبغيه منى فأفعله، إني رهن إشارتك.»
قال: «هل مررت من وراء هذه الخيمة؟»
قال: «كلا وإنما جئت من هنا.»
قال: «تعالَ إذن.» وأمسكه بيده فأدخله الخيمة وأراه الجملين والعبد النائم تحت الهودج، وقصَّ عليه ما كان من أمرهم إلى أن قال: «فهل تستطيع مخاطبة هذا العبد لتعرف منه الغرض من قدومهم؟»
قال: «ذلك شيء يسير.» ثم خرج من باب الخيمة ودار حتى دنا من الجملين وحسن ينظر إليه من شق الخيمة فرآه يقترب من العبد رويدًا رويدًا حتى دنا منه وتفرس في وجهه والعبد نائم ثم انكفأ راجعًا مسرعًا حتى دخل الخيمة، فبادره حسن سائلًا: «لماذا لم تخاطبه؟!»
قال: «لأني أعرفه وأعرف حكايته.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «اجلس لأقص عليك ما يغنيك عن كثرة البحث: لقد نمت أول الليل بباب هذه الخيمة ولكنني ما لبثت أن استيقظت وأخذت أفكر في حيلة نستطيع بها مقابلة محمد غدًا حتى لا يطول مكثنا. وخفت أن يكون علينا بأس إذا عرفوا مدخلنا ومخرجنا وغرضنا فرأيت أن أذلل العقبات وأنت نائم، فنهضت وسرت إلى رجل من المقربين إلى الأمير كنت قد عرفته أيام كنا بالمدينة ولي عليه دالة. فلقيت الرجل في خيمة له بقرب خيمة ابن الحنفية وبينهما طريق مفتوح، يدخل عليه صاحبي منه من باب خاص دون سائر الناس، فلما أتيته رحب بي وأكرمني وسألني عن أمري، فقلت له إننا جئنا نلتمس من الأمير وسيلة ندخل بها مكة. فوعدني خيرًا ثم أجلسني وجعل يسألني عن حوادث مرَّت بنا قديمًا وأمور يهمه الاطلاع عليها، وكلما هممت بالنهوض أقعدني حتى طال بي الجلوس. وبينما أنا أهم بالنهوض سمعنا وقع أقدام خارج الخيمة على غير انتظار فأقعدني صاحبي وخرج وهو يقول: «من الرجل؟» وسمعت من يجيبه قائلًا: «أنا عرفجة.» ولما كنت أعرف رجلًا اسمه عرفجة كان يتردد على عامل المدينة وكثيرًا ما رأيته في دار الإمارة خرجت لأحقق أمره فرأيت الرجل ملثمًا ولكنني عرفت أنه هو صاحبي هذا من صوته وقامته.»
وهنا تذكر حسن أن الصوت الذي سمعه لما أناخ الرجل الجملين يشبه صوت عرفجة، فبغت واستغرب مجيئه في هذا الليل، وتبادر إلى ذهنه أنه ربما علم بقدومه فجاء للوشاية به لدى ابن الحنفية، ولكنه استبعد ذلك لعلمه أنه ليس على وجه البسيطة رجل عرف بخروجه من المدينة غير سليمان وأبيه وخادمه بلال. ثم على فرض أن عرفجة عرف بمسيره إلى مكة فكيف يعرف أنه في هذا الشَّعب؟! ولكن إذا كان هو عرفجة فمن عسى أن تكون التي جاءت معه في الهودج؟ إنه غير متزوج وليس عنده من النساء إلا ابنته سمية، فهل هي التي في الهودج؟ وخفق قلبه وتصاعد الدم إلى وجهه. كل ذلك وبلال واقف بين يديه ينتظر إشارته لإتمام حديثه.
فقال حسن: «هل عرفت الغرض من قدوم هذا الرجل في هذا الليل؟»
قال: «كلا يا مولاي؛ لأني رأيته يحدث صاحبي همسًا فرأيت أن أنصرف لأخلي لهما المكان. ولما استأذنت صاحبي ناداني إليه وقال: «موعدنا غدًا إن شاء الله.» فعلمت أنه لا يزال على وعده فأتيت وآثرت النوم بباب الخيمة إلى الصباح.»
فقال حسن: «وما الذي عرفته من أمر العبد النائم بجانب الجمل؟»
قال: «عرفت أنه قنبر خادم عرفجة، وهو عبد سمج الخلق فظ الطبع يعرفه كل أهل المدينة.»
قال حسن: «وما ظنك بمن في الهودج؟»
قال: لا أظنه هودجًا وإنما هو محفة. ولا يبعد أن يكون فيها بعض النساء أو ربما كانت فيه ابنته سمية لأنه ليس له سواها.»
فلما سمع حسن اسم حبيبته تجددت أشجانه، وتذكر أن بلالًا لا يعلم شيئًا من أمره مع سمية، فضاقت نفسه عن كتمان سره ولكنه تجلد وقال: «أتظنه يحمل ابنته معه إلى هنا في مثل هذه الظروف؟»
قال: «لا أخاله يفعل ذلك، وهب أنه حملها فلا أظنه يبقيها محبوسة لا نسمع لها صوتًا، ولا سيما أن المحفة ضيقة لا تكفي لكي تنام فيها.»
فاطمأن قلب حسن على سمية ولكنه بقي مشغول الخاطر بأمر المحفة، وهمَّ بأن يعود إلى سؤال بلال في شأنها، فإذا بهذا يبتدره قائلًا: «ليس في المحفة فتاة ولا امرأة، فقد تذكرت الآن أن لهذا الرجل محفة قد احتفظ بها في منزله لا يُطلع أحدًا على ما فيها، وأهل المدينة مشتاقون لمعرفة سرها. فلعلها هي هذه.»
فازداد حسن شوقًا إلى معرفة سر المحفة، ولكن القلق عاوده من جهة ما حمل عرفجة على القدوم في هذا الليل، فقال بلال: «متى نذهب إلى ابن علي؟»
قال: «عند طلوع الشَّمس.»
فعاد حسن إلى فراشه، واضطجع بلال بباب الخيمة. وقضيا ما بقي من الليل بين نوم وتقلب وهواجس، ولما طلع النهار نهضا وخرجا فما كاد حسن يلتفت إلى موضع الجملين وراء خيمته حتى بغت إذ لم يجد لهما أثرًا، وظن أن عرفجة قد سافر.
وواصلا سيرهما بين الخيام، وهي على مرتفع من الأرض متشعب، به للخيل والجمال مسارح وقد خرج الخدم ليقدموا لها علفها. فلما بلغ خيمة محمد، وكانت رحبة عالية قائمة على عمد عديدة، رأيا بابها مسدلًا فعلما أن محمدًا في شاغل، فتحولا إلى خيمة صاحب بلال وهي ملتصقة بها، فلما دخلا عليه رحب بهما وأدخلهما وهو يشير ألا يتكلما، فدخل حسن ونظر من كوة في الخيمة تطل على خيمة الأمير فرأى محمدًا جالسًا وبين يديه رجل قصير القامة عرف أنه عرفجة، فقال في نفسه هذه فرصة لا ينبغي أن نضيعها ويجب أن نطلع على سر هذه المقابلة. وتفرس حسن في محمد فإذا هو كبير الوجه وقد بانت ملامح الشَّيخوخة وهو لا يزال كهلًا، ولكنه كان يخضب لحيته بالحناء والكتم فلا يظهر فيها الشَّيب، على أن دلائل القوة لا تزال ظاهرة في كفيه ووجهه وعينيه.
وخاف حسن أن يكون في تطلعه هكذا ما يؤاخذ به صاحب بلال، فأراد أن يعتذر فتظاهر بالرغبة في الخروج فقال له الرجل: «تفضل يا مولاي واجلس فإني أحب الاطلاع على غرض هذا الرجل من هذه المقابلة السرية التي يزعم أنها ذات بال، ولقد ساءني بخشونته حتى صرت لا أبالي كتمان سره.»
فنزل هذا القول بردًا وسلامًا على قلب حسن، وفرح لتمكنه من نيل بغيته، ولكنه تظاهر بعدم اكتراثه للاطلاع على السر، وجلس بحيث يرى ولا يُرى، فرأى عرفجة جالسًا بين يدي ابن الحنفية ويخاطبه متهيبًا، وسمعه يقول له: «أنت تعلم أيها الإمام أنك أولى الناس بهذا الأمر بعد الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة. إن الخلافة بعدهما لك فأنت وحدك ولي هذا الأمر وليس بنو أمية سوى معتدين.»
وظل محمد صامتًا لا يتكلم، فظنه عرفجة راضيًا بما يقول، فاستأنف الكلام قائلًا: «وأنت تعلم يا مولاي أن المختار قام بالدعوة لبيعتك، ولكنه لم يثبت على عهده فلم يوفقه الله، كما نعلم أن السر الذي كان يستعين به على بث الدعوة جدير بأن يقوم به من تندبه لذلك.»
وظل محمد صامتًا مطرقًا كأنه يفكر في أمر آخر، في حين مضى عرفجة في حديثه فقال: «ولا يخفى على مولاي الإمام أن بني أمية الآن في شغل بعبد الله بن الزبير، وأكثر جندهم منهمكون في حصاره، والعراق خالٍ ممن يدعو أهله إلى الحق، فإذا ندبت أحدًا وسيرته إلى العراق ليدعو إلى بيعتك كان ذلك من سداد الرأي.»
فرفع محمد رأسه وقال: «إن الفشل لم يأتنا إلا من العراق، ففيه قُتل أبي وأخي غدرًا وخيانة.»
فزحزح عرفجة نفسه على البساط وقال: «إن السبب في ذلك الفشل لم يبقَ منه شيء الآن. وإني أرى السبل قد تمهدت والوقت دنا لظهور الحق.»
فقال محمد: «ومن تراه يليق لهذه المهمة؟»
قال: «إنك أنت الذي ستضع سرك بين يديه وتعهد إليه في النداء بصوت الله، فأمر اختياره إليك.»
قال: «وبمن تشير؟»
فسكت عرفجة وأطرق، وكأنه يخشى أن يصرح بترشيح نفسه لهذه المهمة لئلا يُساء الظن به ثم قال: «إن هذا الانتداب لا يكون إلا بإلهام من الله، فاختر من يلهمك الله اختياره.»
قال: «وإذا لم يلهمني الله؟»
فارتبك عرفجة في أمره وتهيب التصريح له بغرضه. وكان غرضه الأول من هذا الأمر كسب المال فباع بنته للحجاج وجاء لنصرة عدوه.
وكان محمد بن الحنفية يومئذ على الحياد وقد طلب الحجاج منه أن يبايع لعبد الملك، وطلب منه ابن الزبير أن يبايع له، فأبى البيعتين ولبث في انتظار ما يكون من أمر مكة وحصارها؛ وذلك لأنه كان عاقلًا لا يجهل عجزه عن القيام بدعوة جديدة إلى بيعته هو بعد ذلك الفشل. على أنه ظل يساير عرفجة وهو لا ينوي ترك الحياد.
أما عرفجة فلم يرَ بدًّا من الإجابة فقال: «إذا لم تُلهم اختيار أحد لهذه المهمة فاختر صاحب الكرسي.»
فقال محمد: «وأي كرسي؟»
فنهض عرفجة وتحول إلى باب الخيمة ونادى قنبر عبده، ثم رجع، وبعد هنيهة دخل قنبر وعلى كتفه المحفة وعليها ستار، فوضعها بين يدي محمد وخرج. فقال محمد لعرفجة: «ما هذا؟»
قال: «هذا تابوت العهد!» ثم أخرج مفتاحًا ورفع الستار عن المحفة وجعل يعالجها بالمفتاح حتى فتحت فرفع سقفها وحسن ينظر ويتطاول بعنقه وهو يعجب من غدر عرفجة وخبثه. ثم ما لبث أن رآه مدَّ يده إلى داخل المحفة وأخرج شيئًا مغشي بالديباج فرفع الديباج عنه فإذا هو كرسي خشبه يلمع كالمرآة.
وتقدم عرفجة بالكرسي حتى وضعه بين يدي محمد وهو يقول: «أليس هذا كرسي الإمام علي الذي انتصر به المختار؟»
فابتسم محمد وقال: «ولكنه فشل بعدئذ.»
قال: «لقد فشل لأنه لم يخلص النية في سعيه.»
فقال محمد: «وهل تخلص أنت النية إذا ندبناك لهذه المهمة؟»
قال وقد بان السرور في وجهه: «كيف لا، وهذه بغيتي وأكون قد نصرت الحق وأهله؟!»
•••
عجب حسن لقبول محمد هذا الأمر ولكنه ما لبث أن سمعه يقول لعرفجة: «ولكن دعوة أهل العراق تحتاج إلى المال؛ لأن بني أمية إنما غلبوا أخوي بالمال، وسيغلبون اللائذ بالكعبة بالمال أيضًا، فإن ديارهم غنية وعندهم المال كثير ينفقونه في ابتياع الأحزاب والأتباع. فإذا كنت صاحب مال فإني أرجو لك النجاح.»
فلما سمع عرفجة كلام محمد سقط في يده، وخاب ما أمله، ولم يدرِ بماذا يجيب. ولكن محمدًا لم ينتظر جوابه فقال له: «إن هذا الكرسي الذي تزعم أنه كرسي أبي ليس سوى كرسي قديم لأحد الزياتين. وقد زعمت أني ندبت المختار ليدعو إلى بيعتي، وهذا وهم باطل لأن ذلك الثقفي إنما ندب نفسه لتلك المهمة ليشبع بطنه. فإذا كنت أنت جائعًا فالتمس بابًا آخر غير هذا!» قال ذلك وقد ظهر الغضب والجد في وجهه.
فارتبك عرفجة وتحقق ضياع أمله بعد أن قضى بضعة أعوام في تنميق ذلك الكرسي وصقله، وكتمان أمره عن أهل المدينة. وكان لا يشك في أنه إذا عرض الأمر على محمد بن الحنفية وجد منه قبولًا، وبذلك يبتز منه المال ليشبع مطامعه وشرهه، ويضيف ذلك المال إلى ما قبضه ويقبضه مهرًا لابنته من الحجاج.
وكان عرفجة من أصحاب الإحساس الأصم والعواطف المائتة، لا يحجم عن عمل مهما يكن خطيرًا، إذا وجد فيه ما يشبع نهمه إلى المال، فلما تبين الغضب في عيني محمد عمد إلى الخديعة؛ فوقف بين يديه وهو يظهر الاستغراب وقال: «لقد عجلتَ يا مولاي بالحكم علي، وأنا إنما أدعوك إلى أمر عائدته لك ولأهل بيتك، ولا ألتمس على ذلك أجرًا ولا شكورًا.»
فقطع محمد كلامه وهو ينظر إليه شزرًا وقال: «أتظن أمرك يخفى علي؟ لقد قرأت المكر والخديعة في عينيك. ولولا حرمة الجوار لألحقتك بالمختار وألحقت بك بني ثقيف!» ثم نادى: «سعيد.»
فنهض صاحب بلال وهو يكاد يطير من الفرح، وأسرع حتى دخل على محمد، وحسن وبلال ينظران وقد غلب عليهما السرور.
فلما وقف سعيد بين يدي محمد قال له: «ألقِ هذا الكرسي في النار، وأخرج هذا الثقفي من خيمتي، وليقم حيثما يشاء، وإذا رحل فزودوه بما يحتاج إليه.»
فلما سمع عرفجة ذلك خرج من تلقاء نفسه وهو يظهر الأسف، وتبعه سعيد حتى خرج من الفسطاط، فوجده يبحث عن عبده قنبر، فلما لم يجده الْتفت إليه وقال: «إني راحل إلى بلدي وقد أسفت لأن الإمام محمدًا لم يفهم مرادي.» قال ذلك متلطفًا خوفًا على حياته. فعجب سعيد للفرق العظيم بين هذا التزلف وبين مقابلته الخشنة ساعة وصوله بالأمس — وذلك شأن أهل الكبرياء يستبدون بالضعفاء من الناس، فإذا لقوا قويًّا استولى عليهم الذل وصغرت نفوسهم؛ لأن ما كان يبدو من كبريائهم واستبدادهم لم يكن عن نفس كبيرة وإنما ضعف رأي وصِغَر نفس.
وكأنما رقَّ قلب سعيد لتزلف عرفجة، فعرض عليه النزول في دار الأضياف فاعتذر برغبته في الرجوع، وكان قنبر قد عاد فناداه وأمره بإعداد العدة للرحيل، ثم ركب عرفجة جملًا وقنبر الجمل الآخر وخرجا من الشَّعب يلتمسان معسكر الحجاج. فلما بعدا عن الخيام أخذ عرفجة يتوعد محمدًا بالسوء عند الحجاج ويذكره بكل قبيح من الشَّتم والسباب ليستر ما بدا لعبده من فشله.
أما سعيد فإنه عاد إلى فسطاط محمد وتناول الكرسي وألقاه في النار وعاد إلى حسن وبلال في خيمته فأخبرهما بخروج عرفجة من الخيام، وهنا عاد حسن إلى التفكير في دخول مكة فسأل سعيدًا في ذلك فأجاب بقوله: «سألت مولاي الإمام في هذا الشَّأن فأمر بذهابي معكما؛ لأني تعودت الذهاب على مكة خلال الحصار وأكثر الطلائع يعرفونني.» قال ذلك ودخل على محمد يستأذنه في الذهاب معهما، فأذن له.
وعاد سعيد إليهما بالإذن فخرجا إلى دار الأضياف ليتأهبا للسفر، وبعد قليل جاءهما سعيد على جواد، فركبوا وساروا يلتمسون مكة من طريق يعرفه، والشمس قد تكبدت السماء.
•••
وفيما هم يسيرون وحسن يفكر في مهمته وكيف يدخل على عبد الله بن الزبير وليس معه كتاب خالد، رأوا غبارًا يتصاعد في الأفق من جهة طريق المدينة، ثم انقشع الغبار عن أعلام تخفق وخيول تركض وجمال تجعجع، فلما اقترب الركب تفرس حسن في الأعلام والناس، فأدرك أنهم من أنصار بني أمية وأنهم قادمون من المدينة بنجدة الحجاج.
ولكنه استغرب وصولهم في ذلك اليوم مع أنه أقلع قبلهم، والسيارة كلما زاد عددهم ثقلت خطواتهم، فظن نفسه مخطئًا في حكمه عليهم فأعاد النظر إلى الرايات والملابس فتحقق أنها لأهل المدينة والقبائل القاطنة بجوارها، وعلم من عظم السرعة التي مشت بها تلك الحملة ما يدل على اضطرار الحجاج إليها. فترجل حسن ورفيقاه والتجأوا إلى مكان يرون الركب منه ولا يراهم أحد، وجعل يتفرس في وجوه الناس.
ومرَّ الفرسان وحملة الرايات أولًا، ثم تبعهم المشاة، فأحمال الزاد والمئونة.
وأخيرًا رأى هودجًا يقوده عبد ويسوقه عبد وإلى كل من جانبيه فارس. ولم يرَ في تلك الحملة هودجًا غيره وكان من عادة العرب في الجاهلية وأوائل الإسلام أن يحملوا معهم النساء والأولاد حين يخرجون إلى القتال. فاستغرب حسن أمر هذا الهودج وتبيَّن من الاحتفاء بأمره أنه لبعض الأمراء. وما درى أنه يقل حبيبته التي سلبت لبَّه وأنهم يحملونها إلى سواه. ولو درى ذلك لطارت نفسه شعاعًا إليها. ولو صح ما قاله الشَّعراء من تواصل القلوب عن بعد لاضطرب حسن وخفق قلبه ودلَّه على ساكنة الهودج.
وظلوا وقوفًا يراقبون مسير تلك الحملة حتى رأوها اتجهت إلى جبل أبي قبيس، فتحققوا أنها نجدة المدينة إلى الحجاج، لعلمهم بأن الحجاج مخيم هناك.