أم ابن الزبير
دخل حسن مكة دون أن يعترضه أحد، ولاحظ أن أسواقها خالية من الناس، غير أنه ما كاد يشرف على المسجد حتى وجد الناس قد ازدحموا فيه وفيما جاوره من المنازل، فعلم أنهم يتوقعون شرًّا ولم يفتهم ما نواه الحجاج. فسار توًّا إلى منزل عبد الله بن الزبير فرأى الناس يتدافعون عند بابه، وسأل عن ابن صفوان فعلم أنه في خلوة مع ابن الزبير، فوقف مع الواقفين حتى مضى معظم الليل، فملَّ الانتظار وشقَّ طريقه بين الناس ملتمسًا الحجرة التي فيها عبد الله، فلما بلغها سأله الخدم عما يريد، فذكر أنه يريد مقابلة أمير المؤمنين لأمر ذي بال، فأبلغوا أمره إلى ابن صفوان، فخرج إليه وما كاد يراه حتى رحب به، فسأله حسن: «أين أمير المؤمنين؟»
قال: «تركته يصلي الفجر.»
قال: «لقد جئت لمقابلته إجابة لطلبه.»
فقال: «نعم لقد طلب أن يراك لأمر يريد أن يسره إليك. وسوف أدخلك عليه.» قال ذلك وعاد إلى الحجرة ومكث حسن في انتظار عودته في فناء البيت وهو يتوقع أن يطول غيابه لعلمه بطول صلاة ابن الزبير مذ رآه يصلي في المسجد من عهد قريب.
على أن انتظاره لم يَطُلْ، وسرعان ما عاد ابن صفوان وأشار إليه أن يتبعه، فمضى وراءه حتى دخل الحجرة فوجد عبد الله واقفًا وسطها وقد تقلد الحسام ولبس الدرع تحت جبة خز، وتحتها سراويل ومنطقة، وقد فاحت منه رائحة المسك. فهمَّ حسن بتقبيل يده، فلم يمكنه من ذلك ورحب به، ثم أشار إلى ابن صفوان فخرج، وأقفل عبد الله الباب نفسه، فاستغرب حسن ذلك ولبث واقفًا ينتظر ما يبدو منه، فرآه يتجه إلى وسادة على طنفسة هناك فجلس وقد وضع سيفه مستعرضًا على ركبتيه وأسند ذراعيه عليهما فوقه، وأشار إليه أن يجلس بجانبه، فجلس صامتًا.
وظلَّ عبد الله مطرقًا وهو يلاعب لحيته بين أنامله، ثم الْتفت إلى حسن وقال له: «ما أظنك حصلت على كتاب من خالد.»
قال: «إن الرسول لم يعد بعد.»
قال: «وما أظنني أراه ولو عاد من الغد.»
فقال حسن دون أن يدرك قصده: «كيف لا وهو رهن إشارة أمير المؤمنين؟»
قال: «على أي حال، لقد أيقنت بصدق رغبة خالد في الزواج من أختي، وإنه فيما علمت لأفضل القوم، فإذا لقيته فأوصه عني بها خيرًا، واذكر له أن مصاهرته لآل الزبير جاءت متأخرة، ولو أنه عجل بها بضعة أعوام لما استطاع بنو مروان الاستبداد بالأمر، بما لا ينطبق على كتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ.» قال هذا وقد ظهر التأثر في عينيه وخشن صوته، ثم واصل كلامه قائلًا: «ليت شعري كيف يسود العتاة الظلمة؟ وكيف يتغلب قوادهم المنافقون الذين يرمون بيت الله بالحجارة على رجال يعبدون الله ويعملون بكتابه؟!»
فأدرك حسن أنه يئس من الفوز، وأراد أن يستطلع ما اعتزمه فقال: «لا يخفى على مولاي أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء. ولا عجب في أن تكون الغلبة في الدنيا لمن همهم الدنيا، فقد كانت الغلبة لمعاوية على الإمام علي صهر الرسول وابن عمه، وقد فتك ابن زياد بالحسين وآل بيته؛ ذلك لأن الدنيا شيء والآخرة شيء آخر، وقد انقضى العصر الذي ساد فيه الحق والدين والتقوى، وأصبح الحكم الآن لا يتولاه غير أهل الدهاء والسياسة و…» ولما بلغ إلى هنا بلع ريقه وبدا في وجهه أنه أراد التصريح بشيء ثم توقف خوفًا أو حياءً. فنظر عبد الله إليه نظرة من يتوقع إتمام الكلام، فأتمَّ حسن كلامه قائلًا: «ولا أخفي على مولاي أن آل مروان، وآل أبي سفيان قبلهم، لم يخلص لهم الملك دون بني هاشم وغيرهم إلا بالدهاء والسياسة وبذلهم المال لدعاتهم وأنصارهم.» فلما ذكر المال بدا الانقباض في وجه عبد الله وقال: «لا تذكرني بالمال وأمره فقد كنت شحيحًا به لأنه مال بيت الله، ولعلي لو بذلته للأحزاب لم يستطع ابن مروان الاستبداد بالأمر دوني، ولكني لا ألتمس الدنيا بالباطل ولا ابتياع الأنصار بالمال.»
فقال حسن: «لو أن مولاي أصغى لمشورة الحصين بن نمير يوم وفاة يزيد لما صار الأمر إلى بني مروان …»
فقطع عبد الله كلامه وقال: «سمعتك تذكر هذا الأمر قبل اليوم، ولقد سمعته كذلك من كثيرين، على أني لو أطعت الحصين ورافقته إلى دمشق لما بايعني بنو أمية؛ فهؤلاء شق عليهم أن يبايعونا في ديارنا وبين أهلنا، فكيف لا يكون ذلك أشق عليهم في ديارهم وبين أحزابهم. ومع ذلك فقد قُضي الأمر. وما بعثت إليك إلا لأوصيك بأختي خيرًا، فأوصِ بها خالدًا، وأبلغه عني أني أوصيه كذلك بأن يدع أمر الخلافة فإنها شاقة على أهل الدين في هذا الزمان، وليشتغل بما هو مشتغل به من العلم والكيمياء فذلك خير له وأجدى عليه. ولا أخفي عليك أني قطعت الأمل في الفوز بعد أن نبذني الأهل والأصدقاء خوفًا من الموت، ولو أني طلبت الدنيا لما امتنع علي الحصول عليها، ولكنني أطلب الآخرة، وقد دعوت الناس إلى الحق فلم يصغوا، فلم يبقَ إلا أن أتركهم وشأنهم. وقد أنبأني الجواسيس بأن الحجاج وقومه عزموا على مهاجمتنا في الغد، ويفعل الله ما يشاء.» قال ذلك وغصَّ بريقه فتشاغل بإصلاح غمد حسامه، ثم وقف وقال: «تعالَ معي إلى أمي لأخبرها بما استقر عليه الرأي في شأن رملة.»
فوقف حسن ومشى في أثره وقد لاح ضوء الفجر، فدخلا حجرة رأى حسن في صدرها امرأة عجوزًا عرف أنها أسماء ذات النطاقين أم عبد الله، وهي بنت أبي بكر الصديق، وأخت عائشة زوج النبي. وكانت قد كف بصرها وبدا الهرم في وجهها، فحياها عبد الله وقبَّل يدها، فقبلته وتنهدت ثم قالت: «ما وراءك يا بني؟ ما لي أشم منك رائحة الحنوط؟»
قال: «إني أتحنط كل يوم استعدادًا للموت. وأما الآن فقد جئتك بحسن الذي ذكرت لك قدومه من عند خالد بن يزيد لخطبة أختي رملة وقد أخبرته بقبول الخطبة فإن خالدًا لأهل لذلك.»
فرفعت رأسها وهي تجيل عينيها المطبقتين كأنها تحاول أن تنظر إلى ابنها، ونظر حسن إلى وجهها وقد تغطى جانباه بالنقاب فرأى دمعتين تقطرتا من جانبي أنفها بغير أن يبدو للبكاء أثر في وجهها. فلم يستغرب صبرها وتجلدها لما سمعه من ثبات جأشها وقوة قلبها. ثم قالت: «لقد صنعت خيرًا يا بني.» وسكتت وكأن في نفسها شيئًا تكتمه ثم قالت: «في أي ساعة نحن من الليل الآن؟»
قال عبد الله: «نحن في الصباح.» وما أتمَّ كلامه حتى سُمع في الخارج دوي شديد أعقبته صيحات الاستنكار من الواقفين بالباب الخارجي للمسجد، فأدرك حسن أن الهجوم قد بدأ، وأن ما سمعوه هو صوت وقوع حجارة المنجنيقات على الكعبة. ونظر إلى عبد الله فإذا هو قد تغيرت سحنته وبان القنوط في وجهه ثم الْتفت إلى أمه وقال: «لقد بدأ أعداؤنا هجومهم الأخير يا أماه، وقد آليت ألا أفعل أمرًا إلا استشرتك، فبماذا تشيرين؟»
فنظر حسن إلى أسماء وتفرَّس في وجهها فإذا هي تزيح النقاب عن وجهها، ثم قالت وشفتاها ترتجفان من الشَّيخوخة لا من الخوف: «أنت أعلم بنفسك يا بني، فإن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قُتل عليه أصحابك. ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قُتل معك، وإن قلت: «كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت.» فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين!»
فقال عبد الله: «إنما أخاف إن قتلني أهل الشَّام أن يمثلوا بي.»
فقالت: «يا بني إن الشَّاة لا تتألم بالسلخ، فامضِ واستعن بالله.»
فقبَّل عبد الله رأسها وقال: «هذا رأيي الذي أصر عليه حتى اليوم، ووالله يا أماه ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى ذلك الأمر إلا غضبتي للحق، ولقد زدتني برأيك هدًى وبصيرة.» ثم سكت قليلًا، وقال: «اسمعي يا أماه، إني أشعر بأني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إيثار منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يَجُرْ في حكم الله ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد. ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي.»
فقالت وقد بان الجد في جبينها: «أرجو أن يكون عزائي فيك جميلًا. إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. فامضِ لشأنك، والله معك، ولئن قتلت ففي سبيل الله.»
اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني فيه ثواب الصابرين الشَّاكرين.
فاستغرب حسن صبرها وقوة إيمانها. ثم عاد عبد الله إليها وهمَّ بتقبيل يدها، فأمسكت بيده وضمته إلى صدرها قائلة: «هذا وداع فلا تبعد.»
فقال: «إنما جئت مودعًا فكأني بهذا اليوم آخر أيامي من الدنيا.»
فخفق قلب حسن تأثرًا، وترقرق الدمع في عينيه، ونظر إلى أسماء فإذا هي لم يبدُ في وجهها ما يدل على التأثر، فعلم أن ثباتها فوق ما كان يسمعه عنها، ثم ما لبث أن سمعها تقول لعبد الله: «امضِ على بصيرتك وادنُ مني حتى أودعك.» فدنا منها وعانقها فعانقته وأحاطت يديها بخصره وقبلته فوقعت يدها على الدرع فنفرت وقالت: «ما هذا صنيع من يريد ما تريد!» فقال عبد الله وقد بدا الخجل في وجهه: «ما لبسته إلا لأشد به متني.» فقالت: «إنه لا يشد متننا. البس ثيابك مشمرة.» فمد عبد الله يده إلى الدرع ونزعها، ودرج كميه، وشد أسفل قميصه وجبته تحت ثنيات سراويله وأدخل أسفلها تحت المنطقة، ثم خرج.