حكاية ليلى مع توبة
فأيقنت عزة أنها هي التي كانت مع الركب، وقالت تداعبها: «أتحبين توبة؟»
فقالت ليلى: «ماذا تعنين؟»
قالت: «أعرف أنك تحبين توبة، وأسمع أنه شاب جميل شجاع، وأنه يحبك. فكيف تزوج غيرك وتزوجت أنتِ غيره؟»
فقالت ليلى وقد زاد احمرار وجهها: «دعينا يا عزة من هذا الحديث، وأسمعينا صوتًا يروح عن النفس وينسينا تعب الطريق.»
فلم تشأ عزة أن تلح عليها، ولكنها عمدت إلى الحيلة فقالت: «صدقت إن الذكرى تؤلم.» ثم الْتفتت إلى طويس وقالت: «هات الدف.»
فناولها طويس دفًّا فنقرت عليه وغنَّت:
ولم تتم هذين البيتين حتى تململت ليلى وامتقع لونها وقالت: «ما هذا يا عزة؟ أراك تلحِّين لتعلمي سبب فراقي توبة.»
فضحكت عزة وتجاهلت وهي تقول: «وما لهذا الشَّعر ولك؟ هل توبة قاله فيك؟»
قالت: «أتتجاهلين؟ ما دمت مصرَّة على سماع حديثي مع توبة فسأقصه عليك وإن كان ذلك يؤلمني: اعلمي يا أخية أن عاداتنا نحن معاشر البدو غير عادات الحضر أهل المدن أمثالكم؛ فإن الرجل منكم إذا أحب فتاة تزوجها، وأحسن الزواج ما يكون على حب، وأما نحن فإذا عرف أهل الفتاة أن شابًّا يحبها وتحبه منعوه منها، وهذا ما وقع لي مع توبة؛ فإنه كان يحبني ويقول فيَّ الشَّعر، فلما خطبني إلى أبي رفض أن يزوجني به، وزوجني برجل من بني الأدلع هو زوجي إلى الآن، ولم يكتفوا بذلك ولكنهم أهدروا دم توبة ومكثوا له في الموضع الذي يلقاني فيه حتى إذا جاءني هموا بقتله. وكنت إذا جاءني قبل ذلك تبرقعت واحتجبت منه على عادتنا. ففكرت في حيلة أحذره بها غدرهم بحيث لا يشعرون، فلم أرَ خيرًا من أن أغير عادتي معه، فلما جاءني في ذلك اليوم خرجت إليه سافرة وجلست في طريقه. فلما رآني على تلك الحال فطن لما أردت وركض فرسه فنجا، ثم نظم في ذلك قصيدته التي مطلعها:
ومنها البيتان اللذان غنيتِهما. وهي طويلة.»
•••
وكانت عزة قد سمعت القصة من قبل، ولكنها أرادت أن يسمعها طويس. فلما فرغت ليلى من حديثها قالت عزة: «إني لم أكن أجهل حديثك هذا ولا غيره، ولولا ذلك ما عرفتك من البيتين اللذين بعثت بهما تعرفينني بنفسك. فبالله ألا ذكرت لي سبب قولك ذينك البيتين فإنهما يدلان على أنفة تندران في المدن.»
قالت: «صدقت، إن العفة والحب النقي إنما يكونان في أهل البادية، وبنو عذرة أهل وادي القرى على مقربة من هذه المدينة مشهورون بهما. ولكن ذلك غير مقصور عليهم وإن كان غالبًا فيهم. وقد قلت إن توبة كان يحبني وأحبه ولم أسمع منه ما يدعو إلى ريبة. ولكني اجتمعت به مرة بعد أن تزوجت وتزوج، فقال لي كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:
فلم أعد أسمع منه ريبة قط.»
فضحك طويس وقهقه حتى كاد يستلقي ثم قال: «ما أشبه هذه العفة بعفة مخنثي المدينة، والله إن البداوة حلوة ولكني لا أحبها!»
فقالت ليلى: «إذا شاقك ذلك فعليك بوادي القرى إنه قريب منكم وفيه بنو عذرة الذين تُضرب بعفَّتهم الأمثال، وفيهم جميل بثينة، وكُثَيِّر عزة، وغيرهما.»
فضحكت عزة، ورأت الرجوع إلى الغناء، فأخذت فيه وهي تنقر الدف، فطربت ليلى وطرب طويس. ثم استبدلت بالدف عودًا عزفت عليه وغنَّت ألحانًا شجية، وكانت ليلى في أثناء الغناء تطرق وتستغرق في التأمل، كأنها تفكر في أمر ذي بال، فلما رأت عزة فرغت من غنائها قالت لها: «لقد أطربتنا يا عزة بغنائك، وعندي أمر أحب أن أسره إليك، فهل تسمحين بخلوة؟»
فلما سمع طويس كلامها خرج مسرعًا وأغلق الباب وراءه.
واقتربت ليلى من عزة حتى جلست بجانبها وقالت بصوت يقرب أن يكون همسًا: «أتعرفين رملة بنت الزبير؟»
قالت عزة: «كيف لا أعرفها وهي أخت عبد الله بن الزبير اللائذ بالحرمين وهو محصور في الكعبة الآن!»
قالت: «محصور؟ ومن حصره؟»
قالت عزة: «إنه أقام بالحرمين يدعو الناس إلى البيعة له منذ تُوفي معاوية وتولى الخلافة ابنه يزيد سنة ٦٠ﻫ، ولم يقوَ أمره إلا بعد مقتل الحسين وموت يزيد، وهو الآن ينكر الخلافة على عبد الملك بن مروان خليفة بني أمية بدمشق.»
قالت ليلى: «أعلم ذلك، وأعلم أيضًا أن أهل الحجاز بايعوه، وأن الأمويين ينوون قتاله ورده إلى بيعتهم.»
قالت: «ألم تسمعي بقدوم الحجاج بن يوسف الثقفي من الحجاز بأمر عبد الملك لقتال عبد الله في مكة؟»
قالت: «أظنني سمعت شيئًا من ذلك قبل خروجي من الشَّام.»
قالت عزة: «وقد جاء الحجاج، ولعلك سمعت بشدة بطشه واستبداده، وقد حاصر عبد الله بن الزبير في مكة وضيق عليه، حتى خرجت المدينة من سلطانه، وعاملنا الآن من قبل عبد الملك بن مروان.»
فأطرقت ليلى وصمتت وكأن خاطرًا طرأ عليها فأرجعها عما كانت تهم به، فأدركت عزة ذلك فقالت لها: «ما لي أراكِ صامتة …؟ قولي ما في نفسك.»
قالت: «جئت المدينة في مهمة تتعلق برملة بنت الزبير، ولكن حال أخيها يحول دون بلوغ الغرض من السؤال. هل هي معه في مكة؟»
قالت: «نعم، هي معه هناك، وأظنهم في أشد الضيق من الحصار، وقد قلَّ زادهم ولا ندري ما يئول إليه أمرهم.»
فتأففت ليلى وتذمرت ثم جعلت تحك ما وراء أذنها وتنظر إلى البساط بين يديها كأنها تتفرس في نقوشه وهي لا تتكلم.
فقالت عزة: «قولي يا أخية ما في نفسك فقد أقلقت خاطري بسكوتك، ما الذي تريدينه من رملة وأخيها؟»
قالت: «لا أخفي عليك أن أميرًا كبيرًا من أكبر أمراء بني أمية انتدبني للبحث عن رملة واستطلاع أحوالها؛ لأنه يريد خطبتها، فلم أجد من يصف لي جمالها سواك؛ لأنك عاشرتِها وعرفتِها فماذا تقولين؟»
قالت: «على الخبير وقعتِ. أما رملة فإنها من أحسن النساء خلقًا وعقلًا ودراية. ولكنني أعجب لإقدام أمير من بني أمية على خطبتها والحرب قائمة بين الأمويين وأخيها.»
فأمسكت ليلى عن الكلام قليلًا ثم قالت: «أخشى أن أصرح بالأسماء فأكون قد بُحْتُ بسرٍّ اؤتمنت عليه.»
قالت: «لا تخافي فإني مستودَع أسرار أهل المدينة، وإني أعاهدك على كتمان ما تقولينه.»
قالت: «إن الأمير الذي يبغي خطبتها أحسن أمراء بني أمية علمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة وعارضة، وله وَلَع خاص بعلم الكيمياء، وهو ابن خليفة وحفيد خليفة.»
فقطعت عزة كلامها قائلة: «قد عرفته، إنه خالد بن يزيد. أليس هو؟»
قالت: «هو بعينه، فما قولك؟»
فأطرقت عزة هنيهة ثم قالت: «قد أدركت سر الأمر، وعلمت السبب الذي سوغ لخالد خطبة رملة وهي من أعداء بني أمية وإن كان هو أمويًّا.»
قالت: «أما وقد فهمت سر الأمر فاكتميه عن كل أحد. وهذه هدية من خالد بعث بها إليك.» قالت ذلك ومدَّت يدها إلى كمها وأخرجت عقدًا من اللؤلؤ دفعته إليها. فتناولته عزة وأثنت على فضلها وقالت: «هل عزمت على خطبة رملة لخالد، ومن يخطبها له؟»
قالت: «ليس لي أن أصرح بأكثر مما قلت.»
فقالت عزة: «ما السر عندي إلا في بئر عميقة، فطيبي نفسًا وقري عينًا.»
ثم تحفزت ليلى للقيام فأمسكتها عزة ودعتها إلى البقاء عندها. فاعتذرت بأن هناك من ينتظرها في الخارج، ولا بد لها من موافاته لأمر لا يحسن تأجيله. ثم خرجت، فمرَّت على طويس في البستان فودَّعته قبل انصرافها.
•••
كانت ليلى الأخيلية شاعرة بارعة كما تقدم، وكانت تفد على الملوك والأمراء تمدحهم وتنال منهم الرعاية والجوائز. وكانت قد وفدت على عبد الملك بن مروان في ذلك العام فامتدحته، ثم سارت إلى خالد فعهد إليها في البحث عن رملة واستيصافها من عزة. وبعث معها شابًّا من خاصته اسمه حسن كان في جملة من جاء الشَّام مع عبد الملك بن مروان عند عودته من العراق بعد مقتل مصعب بن الزبير وإخراج العراق من سلطة أخيه.
وكان حسن من رجال مصعب الداعين إلى بيعة أخيه في العراق وحارب معه في قتاله المختار بن عبيد الثقفي فأبلى بلاءً حسنًا حتى قتل المختار وخلص العراق لمصعب. فلما جاء عبد الملك لحرب مصعب دافع حسن عنه جهده حتى قُتل ووقع هو في أسر عبد الملك ورافقه إلى الشَّام. فلقي هناك خالدًا فأحبه هذا وجعله من بطانته. وكان يثق به ويبوح له بما في نفسه على عبد الملك؛ لأنه تولى الخلافة دونه وهو أحق بها؛ لأنه ابن الخليفة يزيد بن معاوية، وبين أمه وأم عبد الملك حكاية سيأتي ذكرها.
وكان خالد قد سمع برملة بنت الزبير، وأراد خطبتها. فلما جاءته ليلى سألها عنها فذكرت له أنها لم ترَها، فكلَّفها أن تستفهم عنها عزة الميلاء في المدينة، وكتب إلى أخيها عبد الله بن الزبير يخطبها منه، وسلم الكتاب إلى حسن وأرسله مع ليلى وأوصاه إذا أمرته ليلى بالذهاب إلى مكة أن يذهب ويدفع الكتاب إلى عبد الله بن الزبير ويبذل جهده في إقناعه، وكان حسن يحب خالدًا حبًّا شديدًا، فعزم على أن يبذل ما في وسعه لتنفيذ مرامه، وكان له في المدينة وطر يحن إلى قضائه، فأسرع مع ليلى حتى وصلا إلى المدينة مساء ذلك اليوم، فعرج هو إلى منزل يمكث فيه ريثما تعود ليلى.
أما ليلى فلما عادت من منزل عزة أمرت الخادم أن يذهب بالجمال إلى منزل سكينة بنت الحسين، على أن توافيه إلى هناك. وسارت لمقابلة حسن في الملتقى. فلقيته في انتظارها على مثل الجمر، فأخبرته بما دار بينها وبين عزة وأوعزت إليه أن يسافر إلى مكة في المهمة التي جاء من أجلها ودعَت له بالتوفيق.