حسن وسمية
ولما خلا حسن إلى نفسه، عاوده ما كان يتقد في قلبه من الوجد. وكان يحب فتاة عرفها منذ أعوام وأنقذها وأباها من الموت في العراق في أثناء القتال ضد المختار بن عبيد، وقد تعاهدا على الزواج، وهو يعلم أنها تقيم بالمدينة ولكنه لم يكن يعرف منزلها، فرأى أن يسأل عزة في أمرها بوصفها أخبر أهل المدينة بنسائها. فسار توًّا إلى عزة وكانت لا تزال جالسة وقد خرج طويس من عندها.
وكان حسن طويل القامة، حسن الخلقة، في وجهه دلائل المروءة وصدق المودة، وعيناه تتقدان ذكاء وحِدَّة. فلما أقبل على عزة استقبلته باشَّة. وكانت قد تعودت كثرة الوافدين عليها من سائر البلاد. على أنها استغربت قدومه إليها في آخر الليل.
واعتذر حسن عن ذلك فقال: «إني قادم إليك في أمر أقلقني وحرمني المنام، وليس لي من يفرج كربي سواك.»
قالت: «قل ما بدا لك.»
قال: «إني أحب فتاة من أهل المدينة، ولكنني لا أعرف منزلها ولا أدري أمقيمة هي هنا أم سافرت إلى بلد آخر.»
قالت عزة: «ما اسمها؟»
قال: «اسمها سمية بنت عرفجة الثقفي.»
فبهتت عزة عند سماعها الاسم، وجعلت تتفرس في وجهه كأنها تستطلع حقيقته، ثم قالت: «من أين عرفتها؟ وكيف أحببتها وأنت بعيد عن المدينة؟!»
قال: «قولي لي أولًا أهي في المدينة؟ وهل تعرفينها جيدًا؟»
قالت: «أعرفها كما أعرف نفسي، وهي مقيمة هنا وكانت عندي هذا المساء، فقل لي أين وكيف عرفتها؟»
قال: «كنت من رجال مصعب بن الزبير الذين ساروا معه إلى العراق لقتال المختار بن عبيد الثقفي. وكان المختار بعد قتل الحسين قد قام يدعو الناس إلى الأخذ بثأره، وتظاهر بمبايعة عبد الله بن الزبير اللائذ بالحرم الآن. فقتل المختار قتلة الحسين جميعهم بمعونة التوابين، وهم أهل الكوفة الذين خانوا الحسين وأمسكوا عن نصرته فلما قُتل ندموا وقاموا يطالبون بدمه.»
قالت: «نعم أذكر ذلك، ولكن المختار هذا كان يدعو الناس إلى بيعة محمد بن الحنفية أخي الحسين من أبيه، وليس لعبد الله بن الزبير.»
قال: «إنه كان يدعو إلى البيعة لعبد الله أول الأمر، فلما فاز في حروبه طمع في الخلافة لنفسه وتظاهر بالدعوة لمحمد بن الحنفية. ولا أشك في أن محمدًا لم يكلفه بذلك؛ لأنه زعم أشياء لا يرضى بها محمد.»
قالت: «أظنك تعني الكرسي الذي زعم أنه كرسي علي، وصار يحمله معه في حربه ويزعم أن جبريل يظهر له ويكلمه.»
قال: «نعم، ولكنه لم يفلح؛ لأن عبد الله بن الزبير لما سمع بما فعله أرسل أخاه مصعبًا في جند كبير فقتلوه وسمروا يده في مسجد الكوفة، وكنت أنا في جملة رجال مصعب. ففي يوم المعركة بعد أن تمَّ لنا النصر وأمعنَّا في رجال المختار قتلًا ونهبًا، لقيت عرفجة أبا سمية طريحًا على الأرض بين يدي بعض رجالنا وقد هموا بقتله، ثم رأيت سمية ابنته قد خرجت من الخباء وشعرها محلول على كتفيها، فتحرك قلبي نحوها تحركًا غريبًا، وسمعتها تستنجدني لإنقاذ أبيها من القتل، فصحت في الرجال فأبعدتهم عنه وأوصلته إلى مأمنه، فقبَّل يدي وشكرني ذاكرًا أنه لا يقدر على مكافأتي. فقلت له: «لا ألتمس منك إلا أن تزوجني ابنتك هذه.» فقال: «هي جاريتك بين يديك.» فتواعدنا على أن آتي المدينة وأتزوجها. وأتممت أمر إنقاذه فأخرجتهما من الكوفة وبعثت معهما من أوصلهما إلى هنا، وبقيت أنا هناك وشُغلت بأمور كثيرة لا محلَّ لذكرها، فلم أستطع المجيء إلا اليوم.»
•••
كان حسن يتكلم وعزة تتطاول بعنقها لسماع بقية الحديث. فلما وصل إلى هذا الحد قطعت كلامه قائلة: «لعلك حسن؟»
فبهت وقال: «نعم، وكيف عرفت ذلك؟»
قالت: «عرفته منها، وإني أهنئك بسمية فإنها زينة فتيات المدينة، وليس أحد يعرف مكنون قلبها غيري. وقد طالما ذكرت اسمك لي، وأطلعتني على خصالك، وأثنت على مروءتك. فثق بأنها ما زالت على ودِّك، ولو أنك جئتنا قبل ساعة لوجدتها هنا.»
قال: «وهل من سبيل إلى رؤيتها ولك عليَّ ما يرضيك؟»
فأطرقت عزة هنيهة ثم قالت: «لم يكن أهون من ذلك عليَّ لولا أن أباها ضنين بها، لا يأذن في خروجها من البيت، إلا نادرًا، وهي إنما تجيئني خلسة في أكثر الأحيان. ولا شك في أنه إذا عرف أنها جاءتني لمثل ما تريده أنت فإنه يغضب وربما أساءها وأساءني، ولا سيما أنه ذو نفوذ لدى أمير المدينة، ففي استطاعته أن يتهمني عنده بما ينغص عليَّ عيشي.»
فلبث حسن مدة يفكر في أمره، وقد اقتنع بالمشقة التي تحول دون مجيء سمية، لكنه ما لبث لعظم شوقه أن استسهل كل عسير، ورأى أن يصبر إلى صباح الغد ثم يذهب لزيارة أبي سمية. فنهض مودعًا عزة بعد أن استدلَّ منها على بيت عرفجة، فدلَّته عليه وودعته معتذرة من عدم استطاعتها إجابة رغبته في رؤية سمية.
وبات حسن تلك الليلة على مثل الجمر، ثم أفاق قبل الفجر وأخذ يتأهب للذهاب إلى بيت عرفجة وقد اشتدَّ هيامه وخفق قلبه وهو يفكر في لقياها، وشقَّ عليه أنه لا يستطيع مخاطبتها أمام أبيها لكي يبثها شوقه وهيامه، فعلَّل نفسه بما قد يأتي به القدر من سوانح الفرص، وخرج والشمس قد أطلَّت من وراء المنازل، والناس يذهبون ويجيئون في الطرق وهو لاهٍ عنهم بما قام في خاطره من أمر اللقاء المنتظر بعد الغياب الطويل.
وكان بيت عرفجة بالقرب من بيت سكينة بنت الحسين، وهو أضيق مساحة وأقل فخامة، فلما وصل إلى بابه رآه مفتوحًا فدخل ولم يقرع الباب ولم يتكلم، فأطلَّ على باحة تحيط بها ثلاث غرف، وفي بعض جوانبها نخلة عظيمة رأى بجانبها فتاة عليها رداء أحمر زاهٍ وليس على رأسها نقاب، وقد جلست أمام النخلة وأسندت ظهرها إليها ووجهها إلى جانب الدار بحيث لا يقع بصرها على الداخل. ومع أنه لم يرَ من وجهها إلا صفحة خدها وجانبًا من عينها وفمها فإنه أدرك أنها سمية، فندم على دخوله بغتة واستنكف أن ينظر إليها أو يدخل بلا استئذان، ولكن الشَّوق أعمى بصيرته فوقف مبهوتًا وقلبه يخفق، والشوق يدفعه إلى رؤيتها، والحياء يدعوه إلى الرجوع وقرع الباب.
ثم غلب عليه الحياء، وخاف أن يقع نظرها عليه فتخجل وربما أصابها سوء من تأثير البغتة، فتقهقر حتى وقف بالباب وقرعه بحلقة من الحديد كانت معلقة في خوخته، ولبث ينتظر من يدعوه إلى الدخول أو من يأتي لاستقباله، ثم سمع وقع أقدام في الباحة فعلم أن سمية تمشي إلى إحدى الغرف للاستتار. وظلَّ واقفًا مدة فلم يأتِه أحد فأعاد القرع مثنى وثلاث. وبعد هنيهة سمع وقع أقدام قادمة نحو الباب عرف من شدتها وسرعتها أنها أقدام رجل. ثم جاءه رجل في نحو الخمسين من عمره قصير القامة نحيف البدن يكاد جلده يلصق بعظمه، وهو أشمط شعر اللحية خفيفة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وعلى كتفيه مطرف الْتفَّ به، وكأن خديه حفرتان، ووجنتيه أكمتان، وأنفه كتلة بارزة في منتصف وجهه، وله عينان غائرتان. ولو تفرس فيه حسن لتبين من اختلاج أجفانه وعدم استقرار نظره أنه من أهل الرياء والخبث.
فلما وقع نظر حسن على الرجل عرف أنه عرفجة أبو خطيبته، فهش له وهو يتوقع أن يعرفه ويرحب به، أما عرفجة فلبث برهة ينظر إلى وجه حسن وهو يتجاهله. فضحك حسن وتقدم وألقى التحية. فرد عرفجة التحية دون أن يبدو على وجهه ما يدل على أنه عرفه، ثم سعل كأنه ينبه أهل بيته إلى قادم غريب، فقال له حسن: «أظنك لم تعرفني يا عماه؟»
فلما سمع عرفجة كلامه تكلَّف الابتسام وألقى نفسه عليه وجعل يقبله ويرحب به ويقول: «أهلًا يا بني، أنت حسن؟ من أين أتيت؟» وأمسكه بيده ودخل به إلى الدار، وسار توًّا إلى غرفة هناك يستقبل بها الزائرين. فاستأنس حسن بذلك الترحاب بعد أن كاد يتميز غيظًا مخافة أن يعود من سفرته بخفي حنين، وابتدره عرفجة بالسؤال عن حاله وعن سبب غيابه، وسأله إذا كان في حاجة إلى طعام. فاعتذر شاكرًا، وأخبره بأنه قدم المدينة للقياه. فجعل عرفجة يتملقه بالكلام اللطيف ليستطلع ما في قلبه، فاطمأن إليه حسن وأطلعه على شدة شوقه إلى سمية، وكان يخاطبه ويراقب ما يبدو منه من استحسان أو استهجان، فلم يجد إلا انعطافًا وترحابًا. وعلم منه أن سمية في خير، وأنها ما زالت تذكر فضله عليهما، فازداد حسن استئناسًا، وتوقع منه أن يدعو سمية لتراه، فلما لم يدعها ظنه أجَّل ذلك إلى ما بعد الاستراحة. واستغرقا في الحديث في شئون مختلفة حتى ذكر حسن أنه جاء المدينة في مهمة من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير بمكة. ثم قال: «ألم يئن لي أن أبلغ أمنيتي التي مُنيت بها منذ أعوام؟»
فتجاهل عرفجة وقال: «وما هي يا بني؟»
قال: «الزواج من سمية … خطيبتي.»
قال: «هي جاريتك وطوع إرادتك، ولكنك ذاهب إلى مكة كما تقول، فيحسن إرجاء الأمر حتى تعود، ولا سيما أن سمية ليست هنا الآن، وسأخبرها بقدومك متى عادت، ولا أشك أنها ستُسر بلقياك، فاذهب الآن في مهمتك، ومتى عدت نعقد قرانكما بإذن الله.»
فعجب حسن لإنكار عرفجة وجود سمية في المنزل، ولكنه الْتمس له عذرًا وشكر الله على أنه رآها خلسة. على أنه كان يتوقع وهو يخاطب عرفجة أن يسمع خطوات سمية أو يلمح طرف ثوبها وهي مارة أو يسمع كلامها، فلم يكن يرى إلا بعض الجواري يخطرن في الدار لقضاء بعض حاجات المنزل.
وسكت كلاهما لحظة وكلٌّ يفكر في شأن، وشتان بين الفكرين! ثم عاد عرفجة إلى الكلام فقال: «متى تعتزم المسير إلى مكة يا بني؟»
قال: «في القريب العاجل، وربما خرجت الليلة.»
قال: «وهذا ما أراه، فإن سرعة ذهابك يقرب يوم زواجك فنفرح بك ونتشرف بمصاهرتك.»
فسر حسن بما سمع ولم يفقه ما كان يبدو في عيني عرفجة وفي حركاته من دلائل الخبث والغدر — ولم يكن ذلك سذاجة فيه ولكنه كان سليم القلب صادق النية كبير النفس، يعتقد أن الناس كلهم مثله — هذا إلى أن عرفجة كان مدينًا له بإنقاذه من القتل، وقد رحَّب بمصاهرته أولًا وآخرًا. وهكذا اقتنع بما سمع منه فقال: «أرى أن أخرج من المدينة الليلة.»
قال: «وهل تعرف الطريق؟ ومن أي باب تخرج؟»
قال: «نعم يا مولاي، إني خارج من الباب المطل على قباء.»
قال: «اجعل خروجك عند الغروب من الباب المؤدي إلى مكة، فإنه أسهل مسلكًا، ولكنني أخاف عليك من برد الليل فهل احتطت لذلك؟»
قال: «عندي عباءة ألتفُّ بها إذا برد الليل.»
قال وهو يبتسم وكأنه اهتدى إلى سبيل لتنفيذ مرامه: «لا أرى أن تخرج من المدينة وأنت ملتف بعباءة. ومن كان مثلك من ذوي الوجاهة لا يليق أن يمر في الأسواق ملتفًّا بعباءة، فاسمح لي أن أقدم لك قباء يليق بمقامك.» قال ذلك وصفَّق فجاءه الغلام فقال: «هات القباء الأخضر المعلق في الحجرة.»
فعاد الغلام وعلى يديه قباء من صوف، فتناوله عرفجة ودفعه إلى حسن وقال له: «إليك هذا القباء فالبسه وأنت خارج على ناقتك في هذا المساء فإنه أوقى لك من البرد.»
فتناول حسن القباء شاكرًا، مع أنه لا يرى حاجة إليه؛ إذ لم يرَ من اللياقة أن يرده، وازداد ثقة في عرفجة وحسن قصده، ولحظ في حركاته ميلًا إلى فض الاجتماع، فنهض وقبَّل يده مودعًا. وخرج وقلبه ما زال في تلك الدار، وقد شق عليه أن يخرج منها دون أن يخاطب حبيبته، ولكنه علَّل نفسه باللقاء القريب بعد رجوعه من مكة، وسار توًّا إلى السوق ليبتاع بعض النبال استعدادًا لعاديات الطريق، ولكنه لم يكن يعرف أين يبيعون النبال، فرأى غلامًا رث الثياب على رأسه قفة يلتقط نوى التمر ويضعه فيها، وهي أحقر مهن أهل المدينة، فناداه حسن وسأله: «ألا تعرف رجلًا يبري النبال قريبًا من هنا؟»
قال: «أعرف كثيرين، هل تريد النبال المريشة أو التي بلا ريش؟»
قال: «إني أفضل المريش منها.»
قال: «تعالَ معي فأدلُّك على أحسن من يبريها في هذه المدينة.»
•••
سار حسن في إثر الغلام حتى انتهى به إلى الطرف الآخر من المدينة، ووقف به عند حانوت أمامه دكة، وفي صدر الحانوت رجل من أهل يثرب بين يديه القسي والنبال، وفيها المبري، بعضها من الخشب والبعض الآخر من القنا ونحوه. فدفع إلى الغلام درهمًا وصرفه، ودخل الحانوت والقباء على ذراعه، فلما رآه الرجل عرف من لباسه أنه من أهل الشَّام، فرحَّب به وأجلسه على الدكة. فجلس حسن ووضع القباء بجانبه وأخذ يقلب السهام، وفيها الريش المربع والمثلث وذو الجناح الأيمن أو الأيسر. وجعل ينتقي ما يريده منها، ثم قال للرجل: «هل أجد عندك جعبة للنبال؟»
قال: «لا يا مولاي، إني لا أصنع إلا النبال، ولكن جاري جعَّاب يصنع الكنانة والجعبة من الجلد أو من الخشب على أشكال مختلفة، فإذا شئتَ بعثتُ إليه فيأتيك بأصنافها.»
فقال: «أذهب إليه بعد الفراغ من انتقاء النبال.» ثم انتقى ما احتاج إليه منها ودفع الثمن، وسأل الرجل عن حانوت الجعاب، ونهض وقد نسي القباء عند النبَّال، وسار والنبال يسير أمامه حتى أوصله إلى حانوت واسع فيه جلود وأخشاب وجعاب معلقة. فرجع النبال وتقدَّم حسن حتى انتهى إلى باب الحانوت. فرأى الجعاب يخاطب شابًّا يظهر من لباسه أنه من أهل الوجاهة وهو يساومه على جعبة أراد ابتياعها، فوقف حسن ينتظر الانتهاء من تلك الصفقة، وقد استأنس برؤية ذلك الشَّاب وتذكر أنه يعرفه، فجعل يتأمله ويتفهم كلامه، وهو يستحث ذاكرته لعله يذكره والشاب مشتغل بالمساومة، ثم الْتفت الشَّاب إلى حسن، فلما وقع بصره عليه بغت وتفرس في سحنته ولم يُطِلِ النظر إليه حتى ابتسم وصاح: «حسن؟» قال: «نعم، وأنت … سليمان؟»
وتعانقا، ثم جلسا على مقعد من حجر بجانب الحانوت وقد نسيا الجعاب وصاحبها، فقال سليمان: «من أين أنت قادم يا أخي، ومتى قدمت؟»
قال: «إني قادم من دمشق وقد وصلت إلى المدينة مساء أمس.»
قال: «وهل تنوي الإقامة هنا؟»
قال: «كلا، إني عازم على السفر الليلة.»
قال: «لا. لا. إني مشتاق إلى رؤيتك، وقد مضى عليَّ بضع سنوات وأنا أفكر فيك وأتذكر أيامًا قضيناها في الكوفة معًا، وقد كانت أيامًا سعيدة رغم ما شهدناه فيها من القتال.»
قال حسن: «لا ريب أنها كانت سعيدة لكم لأنكم فزتم بالأمر الذي قمتم له وقتلتم قتلة الإمام الحسين شر قتلة. أظنك لم تنسَ عبيد الله بن زياد وهو مضرج بدمه في ساحة الحرب.»
قال: «وهل أقدر على نسيان ذلك! إني أتذكره كلما شممت رائحة المسك؛ لأني حين شهدت جثة عبيد الله في الوقعة شممت رائحة المسك قوية؛ إذ كان كثير التضمخ بالمسك. ولكنني لم أفرح بمقتل ابن زياد فرحي بمقتل ذلك الأبرص الذي قطع رأس الحسين بيده.»
قال حسن: «أظنك تعني شمر بن ذي الجوشن — قبحه الله؟»
قال: «إياه أعني … فقد رأيت هذا الخبيث في معركة أخرى مقتولًا وعليه بردة، وقد عرفته من بياض برصه.»
فقال حسن: «إنها لذكرى حسنة، ولكننا لا نستطيع الخوض في هذا الموضوع ونحن على قارعة الطريق.»
قال سليمان: «هلمَّ بنا إلى مكان لنقضي فيه بقية هذا اليوم، فإني أحسبه من أسعد أيامي؛ لأنه يذكرني بأيام النصر وإن كنا الآن في …» وقطع كلامه لئلا يسمعه أحد.
ثم نهضا، فابتاع حسن جعبة وضع النبال فيها، وسار وقد شُغل بصديقه عن تذكر القباء وهو لم يتعود حمله.
•••
كان سليمان هذا صديقًا لحسن تعارفا منذ الصبا، وكان مقيمًا مع أبيه بالكوفة مع دعاة الحسين، فلما قدم الحسين الكوفة في أهله كان هو وأبوه من الذين تخلفوا عن نصرته، ولما قُتل الحسين في سهل كربلاء وقُتل أهله معه أصبح سليمان وأبوه من التوابين الذين ندموا على تخلفهم عن نصرة الحسين وقاموا بعد قتله للمطالبة بدمه، فلما جاء المختار بن أبي عبيد الثقفي إلى الكوفة يدعو الناس إلى بيعة عبد الله بن الزبير، انضمَّ التوابون إليه فقتلوا قتلة الحسين، ثم طمع المختار في الأمر، وأرسل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب لمحاربته، وكان حسن مع مصعب، فلما غلب مصعب المختارَ وقتله تفرقت رجاله، فانحاز بعضهم إلى مصعب ومنهم سليمان وأبوه، وقد ائتلف قلبا حسن وسليمان. وكان سليمان يُعجب بأخلاق حسن، فلما جاء عبد الملك بن مروان وحارب مصعبًا بالكوفة وقتله وتفرق رجاله، سار حسن مع عبد الملك، وجاء سليمان وأبوه إلى المدينة فأقاما بها.
فلمَّا تلاقيا بالمدينة على هذه الصورة أنس به سليمان وأحبَّ البقاء معه، فدعاه إلى منزله وقال له: «إن أبي يسر بلقياك.» فتذكر حسن أبا سليمان فقال: «فاتني أن أسأل عن أبيك، كيف هو؟ وما الذي يعمله الآن؟»
قال: «إنه في خدمة طارق بن عمر عامل هذه المدينة من قِبَل عبد الملك بن مروان.»
قال: «وهل هو يخدمه عن رضًى؟»
قال: «أراه راضيًا بخدمته، وكثيرًا ما أظهرت عدم رضائي بخدمة هؤلاء القوم الذين قتلوا الحسين، وكنا بالأمس نجرد السيوف عليهم ونطالبهم بدم المقتولين، ولكنني رأيته راضيًا فسكتُّ عنه. ولعلَّ له عذرًا.»
وكانا يتكلمان وهما ماشيان حتى وصلا إلى بيت سليمان، ولم يكن أبوه في البيت، فمكثا هناك وتناولا الغداء معًا وقد سُر كلٌّ منهما بلقاء صديقه، فلمَّا كان العصر نهض حسن واعتذر باضطراره إلى الذهاب لوداع ليلى الأخيلية في بيت سكينة بنت الحسين، وهو إنما كان يرجو أن يستطيع مشاهدة سمية؛ لأن بيتها بجانب بيت سكينة.
فألحَّ عليه سليمان أن يؤجل سفره إلى الغد، ولكنه اعتذر شاكرًا، فقال سليمان: «إذا لم يكن بدٌّ من سفرك فإني أرافقك في أوائل الطريق؛ لأنك إذا خرجت من المدينة عند الغروب لا تسير الليل كله، فإذا رضيتَ برفقتي فإني أصاحبك إلى العقيق فنمكث هناك ساعة أتملى من حديثك ثم نفترق.»
قال حسن: «كيف لا أرضى بذلك وفيه راحتي وحسن حظي!»
قال: «أين نلتقي؟»
قال حسن: «نلتقي بباب المدينة المؤدي إلى مكة ونخرج من هناك معًا.»
قال: «وهل تعرف الطريق إلى الباب؟»
قال: «نعم أعرفه، فإنه على مقربة من حانوت النبال الذي اشتريت هذه النبال منه اليوم.»
ولما ذكر النبال تذكر القباء فبغت وقال: «لقد نسيت عنده القباء، وأخاف إذا أردت الذهاب إليه أن تفوت الفرصة لمشاهدة ليلى.»
فابتدره سليمان قائلًا: «دع هذا لي، فأنا أمر بالنبَّال وآخذ القباء منه وأحفظه لك إلى الملتقى.»
فشكره حسن وودَّعه، وخرجا فسار كلٌّ في طريقه.
•••
وكانت سمية جالسة في ساحة بيتها حين قرع حسن الباب، فدقَّ قلبها وحدثتها نفسها بأن الطارق حبيبها، ثم استبعدت ذلك، فعاودها الحزن، ونهضت لكي تحتجب عن الطارق، فانزوت في أقرب غرفة إلى الباب وفي نفسها ميل إلى معرفة الطارق؛ لأن طريقة دقه الباب لم تكن تشبه دقات زُوَّارهم المعروفين، وكثيرًا ما تدل الدقة على صاحبها ويعلم أهل البيت من هو صديقهم من قرعة الباب. هذا إلى أن عرفجة كان من أكثر الآباء تضييقًا على بناتهم في أمر الحجاب؛ فكان ذلك يدعو سمية إلى التطلع إلى القادمين من شقوق النوافذ أو ثقوب الأبواب.
واتفق في ذلك الصباح أنه لم يكن في البيت أحد من الرجال غير عرفجة وكان مشغولًا في حجرة خاصة لا يدخلها أحد غيره، وفيها محفة من خشب مقفلة لا يفتحها سواه، فإذا دخل تلك الحجرة أقفل بابها ولا يدري أهل البيت ماذا يفعل هناك، فيقضي فيها ساعة أو بعض الساعة ثم يخرج ويقفل الباب وراءه. وكثيرًا ما أحبت سمية استطلاع أمر تلك المحفة ومشاهدة ما في داخلها فلم تُوفق إلى ذلك؛ لأن المحفة من خشب متين لا منافذ للمبصر فيه. فلما قرع حسن الباب كان عرفجة هناك فأبطأ في فتح الباب كما تقدم. ثم سمعته بعد أن فتحه وهو يخاطب حسنًا ويرحب به، وكانت تنظر من ثقب في باب غرفتها يطل على حجرة أبيها، فوقع بصرها على حسن وهو يخلع حذاءه بباب الحجرة، وهي أول مرة رأته فيها بعد ذلك الغياب الطويل، فلم تَكَدْ تتحققه حتى شعرت بهزة قوية وخفق قلبها خفوقًا شديدًا، ولكنها ظنَّت نفسها مخطئة، فتفرَّست فيه جيدًا فإذا هو حسن بعينه، ورأت أباها يخاطبه ويرحب به وقد فهمت ذلك من إشاراته وملامحه؛ لأنها لم تكن تفهم الكلام لبعد المسافة، ثم دخلا وأقفلا الباب، فأرسلت جارية لها تتسمع حديثهما وتعود إليها بما سمعته. والجواري أكثر الناس رغبة في نقل الأحاديث وبخاصة إذا كانت من هذا القبيل، فكانت تلك الجارية تتظاهر بخروجها لغرض تريده من البستان أو الباحة فتقف هناك بحيث تسمع ما يدور وربما سمعت بعضه فتكمل الحديث من عندها وتعود إلى سمية به، فأطلعت سمية بذلك على ما دار بينهما حرفيًّا، وساءها رفض أبيها أن يجمعها بحسن ولو من وراء حجاب، ولكنها سُرت برؤيته واطمأنت إلى أنه ما زال على حبها. ولما أخبرتها الجارية أنه جاء يطلبها من أبيها زاد اضطرابها واصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف فثنت وسادة كانت بجانبها وجلست عليها وعيناها على شق الباب. على أنها ما لبثت أن علمت أنه غير الحديث واعتزم الخروج من المدينة في تلك الليلة، وأن أباها حبب إليه الإسراع في ذلك وأعطاه القباء، فاستغربت إعطاءه إياه، مع ما تعلم من بخله، على أن ذلك أكَّد لها رضاءه عن تلك الخطبة؛ فانبسطت نفسها، وتعللت بقرب اللقاء بعد الرجوع من مكة.
فلما خرج حسن وتبعه عرفجة لوداعه طارت عيناها شعاعًا إلى حسن، ولكنه ما لبث أن غاب عن مدى بصرها من ذلك الثقب. فلما رأت أباها راجعًا خرجت من الغرفة لملاقاته وقد توردت وجنتاها من عِظَم التأثر وبانت دلائل الحب في وجهها، فلما رآها عرفجة في تلك الحال انقبضت نفسه وتظاهر بأنه في شاغل عن الحديث معها.
ولكنها لم تصبر على استطلاع أفكاره وأمسكت عن الكلام تهيبًا؛ لأنها كانت تخافه كثيرًا وتخشى غضبه وقد قاست منه الأمور الصعاب، على أنها كانت تحسن الظن به، فتحولت إلى حجرتها وهي منقبضة النفس، ودخل عرفجة حجرة أخرى وقد لحظ ما في نفس ابنته ولم يفته اطلاعها على ما دار بينه وبين حسن. فبعث إليها فجاءت وليس في المكان سواهما فوقفت وقلبها يخفق وهي لا تستطيع التطلع إلى أبيها ولا تدري ما يريد منها، فأشار إليها فجلست على وسادة بالقرب منه وهي تتشاغل بمداعبة أطراف جدائلها المرسلة، وكانت تضفر شعرها عادة في طرة اشتهرت في المدينة يومئذ بالطرة السكينية نسبة إلى سكينة بن الحسين؛ لأنها أول من ضفرها على تلك الصورة.
لبثت سمية برهة هكذا، وأبوها ينظر إليها ويتأمل في حركاتها فلم يزدد إلا وثوقًا بتعلقها بذلك الشَّاب وهو لا يحب أن يتقرب منه، ولكنه لم يذكر ذلك لسمية صراحةً. على أنه كثيرًا ما حاول أن يزوجها بسواه فلم تقبل، وكان قد ظن حسنًا مات أو قتل لغيابه عن المدينة، أو عدل عنها واشتغل بغيرها، فلما رآه في ذلك الصباح وتحقق أنه ما زال حيًّا بغت واستعاذ بالله، ولكنه عمد إلى الخبث والرياء فتغلَّب على عواطفه وبشَّ له واستدناه وأظهر له ما أظهره من اللطف والأنس على أمل أن يفتك به غيلة. فلما رأى اضطراب سمية قال لها: «أراك مضطربة، فما الذي دعاك إلى هذا؟»
قالت وهي لا تزال مطرقة وقد صعد الدم إلى وجهها فزاد احمراره: «وأي اضطراب تعني؟»
قال: «أعني ما يبدو في وجهك من الاحمرار على أثر الاصفرار وكأني أسمع دقات قلبك. فما هذا؟» قال ذلك بنغمة رقيقة رفقًا بها واحتيالًا في استطلاع سرها، وقد كان يحب رضاءها ولكنه لا يريد أن تعمل عملًا تستقل به عنه. وكان أهل المدينة يتحدثون بجمال سمية ولطفها، وكان هو يريد أن يتجر بذلك الجمال فيزوجها بحاكم أو أمير فيكتسب بزواجها منصبًا أو مالًا. وكانت له مطالب أخرى ترجع كلها إلى الطمع وحب الأثرة مع خبث الطوية. وحب الأثرة مع سلامة الطوية قلما يضر بالناس؛ إذ ليس في البشر مَنْ لا يحب ذاته ويؤثرها على غيره من الناس، أما إذ صحبه خبث النية وسوء الخُلُق فإنه يكون وبالًا على الناس؛ لأن صاحبه لا يبالي ما قد يضحيه من الأنفس أو الأعراض في سبيل نيل أغراضه. وكان عرفجة ذا مطامع لا حدَّ لها وكان ذلك شأن كثيرين في ذلك العهد على أثر تزعزع أركان الخلافة وانقسام الناس وكثرة الدعاة وتعدد الدعوات؛ فكان هذا يدعو إلى بيعة عبد الملك، وذاك يدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية، وآخر إلى بيعة عبد الله بن الزبير، فضلًا عن دعاة آخرين في البلاد الأخرى؛ فأصبح الأمر فوضى وربما خطر لعرفجة أن يدعو إلى أحد هؤلاء أو غيرهم، ولو أُتيح له أن يدعو الناس إلى نفسه لفعل ولكنه لم يكن يطمع في ذلك وهو من ثقيف وهم غير أكفاء للقرشيين. وكان الحجاج والمختار بن أبي عبيد ثقفيين أيضًا، فلما أراد المختار أن يستأثر بالملك تظاهر بالدعوة إلى محمد بن الحنفية كما قدَّمنا.
•••
لما سمعت سمية سؤال أبيها ولم ترَ فيه نغمة الجفاء أجابت وهي تكاد تذوب خجلًا: «أتسألني يا سيدي عما أنت أعلم الناس به؟!»
فقال وهو يغتصب الضحك اغتصابًا: «أظنك تحبين هذا الشَّاب؟»
قالت: «لا أقول إني أحبه ولكنني أعلم فضله علينا؛ لأنه أنقذنا من الموت وقد اشترط شرطًا وعدناه به أفلا نفي بالوعد؟»
وكانت تقول ذلك بلهجة المنتصر وهي تنظر في وجه أبيها متوقعة أن يكون جوابه الإذعان الصريح، ولكنها رأته ابتسم ابتسام الاستخفاف، ثم هزَّ رأسه، وأخذ يلاعب طرف لحيته بأنامله وهو يقول: «ما شاء الله! وأي فضل تعنين يا سمية؟»
قالت: «ألم ينقذنا هذا الرجل من القتل ونحن في الكوفة؟ ألم أخرج إليه محلولة الشَّعر وأطلب نجاتك فأسرع لإنقاذك؟! ولا أراك تنكر ذلك عليه إلى الآن.» قالت ذلك وهي تنظر إلى وجهه بطرف عينيها وتتوقع إذعانه فإذا هو قد تغيرت سحنته وبان الشَّر في عينيه وكان بيده مفتاح الحجرة فرمى به إلى الأرض من شدة الغيظ وقال: «لا أقدر على سماع هذا الكلام. إن الذي يدعي علينا مثل هذا الفضل يجب أن يموت.»
فلما سمعت سمية كلامه اقشعر بدنها وامتقع لونها، ونظرت إلى أبيها والدموع ملء عينيها كأنها تستعطفه ولا تصدق أنه يعني ما يقول، ولكنها ما لبثت أن رأته نهض وجعل يتمشى في أرض الحجرة ولحيته ترقص أمام عنقه وعيناه محملقتان وأنامله ترتجف. فتهيبت وأطرقت ودموعها تتساقط على ثيابها وبقيت هادئة لا تحرك ساكنًا ولسان حالها يقول: «ويلك يا ظالم.»
أما هو فبعد أن تمشى هنيهة عاد فوقف أمامها وقال لها: «لو كنت تحبين أباك، ما رضيت أن يكون لمثل هذا الغلام فضل علينا، كيف نعيش ولهذا الغلام منة علينا؟ وتقولين ذلك جهارًا؟ لا شك أنك تحبينه أكثر مما تحبينني.»
فقالت والبكاء يخنق صوتها: «كيف تقول ذلك يا أبتاه، وأنت تعلم قلبي وتعلم أني لا أحب أحدًا سواك! وأما هذا الشَّاب فإن له علينا فضلًا لا يُنكر؛ هل نسيت الخطر الذي كنا فيه وكيف أنقذنا وعني بإرسالنا إلى هنا؟! ثم إنك أنت الذي وعدته بي، فإذا كنت أحبه فإنما أنت الذي دعوتني إلى ذلك و…»
فقطع عرفجة كلامها وقال: «أبلغت بك القحة إلى أن تقولي لي إنك تحبينه وتعيدي ذكر جميله! إن ذكر هذا الجميل وحده يدعو إلى قتله!»
فاضطربت سمية، وجثت عند قدمي أبيها والدمع يتساقط من خديها ويمتزج بالعرق المتصبب من جبينها وقالت: «رحماك يا سيدي، بالله لا تذكر القتل، دعه لا تقتله ولا تزوجني به … فأنا لا أخرج عن طاعتك في أمر من الأمور. لا تذكر القتل لأنه يقطع قلبي. افعل بي ما تشاء فإني طوع لك. أشفق عليَّ وارحمني.»
فلما سمع تذللها ظنها ارعوت عن محبة حسن، فأمسكها وأنهضها ومسح دموعها وقال لها: «خففي عنك يا بنية وكوني حكيمة عاقلة، وانبذي أمر هذا الغلام وارجعي إلى أبيك، واعلمي أني لا أفعل إلا ما فيه سعادتك.»
قال ذلك وأجلسها على الوسادة وجلس هو إلى جانبها فاتكأت على صدره، فتحقق أنها أذعنت لأمره واستسلمت له، فلم يعد إلى ذكر حسن ولكنه اغتنم هذه الفرصة وقال لها: «يظهر أنك كنت في جهالة عمياء، والحمد لله على أنك أدركت ما أنويه لك. كيف تعيشين مع رجل تعلمين أنه ذو فضل على أبيك؟ أليس ذلك منتهى الذل والضعف؟ كيف أقدر على حفظ منزلتي بين الناس وفي الدنيا رجل يقول إنه أنقذني من الموت وله على فضل؟!»
فظلَّت سمية صامتة مخافة أن يعود أبوها إلى ذكر القتل، ولكنها استغربت استنكافه الإقرار بالفضل لأهله، وقد فاتها أن من الناس من يتعمدون الإيقاع بالمحسنين إليهم؛ لأن تصورهم فضلهم يهيج جسدهم حتى يقودهم إلى الفتك بهم ليتخلصوا من ذكر تلك المنة. وأمثال هؤلاء قليلون والحمد لله — وكان عرفجة واحدًا منهم — وتلك غاية الدناءة والخسة.
ولم ترَ سمية خيرًا من السكوت، ولكن ذلك لم يغير شيئًا من عواطفها بل لعله زادها تعلقًا بحسن، تعلق ذهنها بالسعي في تحذيره، وكانت تفكر في ذلك وهي متكئة على صدر أبيها وقد بلَّلت قميصه بدموعها، فأنهضها وقبلها وقال لها: «قومي يا سمية وارجعي إلى رشدك فإني سأزوجك بأعظم رجل يتحدث به المسلمون الآن لتعلمي أني إنما أسأتك بأقوالي لأحسن إليك بأفعالي.»
فنهضت ومشت وهي صامتة تمسح عينيها بكمها حتى أتت حجرتها فدخلت وأقفلت الباب ثم استلقت على فراشها وقد تمثَّل لها عظم الارتباك المحيط بها والخطر الذي يهدد خطيبها، فأظلمت الدنيا في عينيها وأطلقت لدمعها العنان، ثم استرجعت رشدها وفكَّرت في أمرها وأمر أبيها وما تعرضت له بسبب حبها لحسن فجعلت تناجي نفسها قائلة: «كيف تعلقت بهذا الرجل الغريب وفي تعلقي به خطر على حياتي وحياته؟ أليس هذا أبي الذي رباني وكفلني ولا يريد لي إلا الخير والسعادة؟ كيف أعصاه وأطيع هواي؟ أليس من التعقل أن أنصاع لرأيه؟ أما حسن فماذا يربطني به؟ الحب؟! وما معنى الحب؟ إن هذا الحب سبب عذابي وعذاب أبي وعذاب حبيبي. لا، إن عذابه عذب، آه ما أحلى الحب وما أشرف عواطف المحبين … كيف يعيش الناس بدون الحب وما الفائدة من الحياة بلا محبة؟! إني لا أرى في العيش لذة إلا حين أفكر في حسن، آه ما ألطف هذا الاسم! ولكن كثيرًا ما كنت أسمعه قبل أن أعرف الحب فلا ألتذ لفظه كما ألتذه الآن، فأنا إنما أتلذذ بالحب، آه ما أحلاه وما أحلى لفظه بفمي وذكره بفكري وما أحلى صورته في عيني!»
ثم مسحت دموعها ولبثت هادئة برهة وهي تفكر في أبيها وقالت: «ولكن أبي رباني بعد وفاة أمي وبقي وحده لم يتزوج من أجلي وهو يحبني ويريد سعادتي فكيف أغضبه؟»
ثم قالت: «لا … إنه خرج في معاملته عن حقوق الأبوة، إن لحسن فضلًا كبيرًا علينا، ولكن أبي تنكر له، بل أراد قتله من أجل ذلك الفضل، أراد قتل حسن؟! إن أبي ظالم، والظالم لا يحبه الله فكيف أحبه أنا؟! أما حسن فشهم تفانى في سبيل نجاتنا ويكفي أنه يحبني وأني أحبه حبًّا عذريًّا نقيًّا لا عيب فيه. يا إلهي ما هذا الحب؟! إذا كنت ترى أني أخطئ فيما أقول فانزع حب هذا الشَّاب من قلبي. لا … لا تنزعه … أو انزعه يا إلهي … أو كما تشاء … آه ما لي أزداد تعلقًا وهيامًا؟ الله هو الذي أراد أن يحب أحدنا الآخر، والحب الذي يكون خاليًا من الدنس وغايته شريفة إنما هو من عند الله.»
قضت سمية ساعة في مثل هذه التصورات، ثم تذكرت ما سمعته من تهديد أبيها فخافت أن يتمكن من حسن وهو غافل، فرأت أن عليها أن تحذره حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وحدثتها نفسها أن تفرَّ معه إلى مكة ولكن تعقلها وآدابها زجراها عن ذلك. على أنها أصبحت شديدة الشَّوق إلى رؤيته لتشكو له ما في قلبها ويتعاهدا على الاتحاد والصبر، فتذكرت عزمه على الخروج من المدينة في تلك الليلة، وأنه خارج حوالي الغروب من الباب المؤدي إلى مكة فعزمت على اغتنام فرصة انشغال أبيها، لكي تخرج وتقف له في الطريق وتخاطبه.
أما عرفجة فقد كان بينه وبين طارق بن عمرو حاكم المدينة يومئذ صداقة. وكان طارق يكرم عرفجة لأنه ثقفي من قبيلة الحجاج، وكان الحجاج لذلك قد أوصاه به خيرًا، ولأنه كان قد عرف سمية وطلب الاقتران بها فوعده عرفجة بذلك ولكنه استمهله ريثما يسترضيها. ولم يشأ الحجاج أن يحملها أبوها على ذلك بالكره مخافة أن تشكوه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان فيأمره بالتخلي عنها كما اتفق له مع عبد الله بن جعفر لما خطب الحجاج بنته أم كلثوم على مالٍ كثير ثم أمره عبد الملك بن مروان بطلاقها؛ وجلية الخبر أن الحجاج خطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، فأجابه إلى ذلك وحملها إليه فأقامت عنده ثمانية أشهر، ثم خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان وافدًا ونزل بدمشق، فأتاه الوليد بن عبد الملك (ابن الخليفة) على بغلة ومعه الناس، فاستقبله ابن جعفر بالترحيب، فقال له الوليد: «لكنك أنت لا مرحبًا بك ولا أهلًا.» قال عبد الله: «مهلًا يا بن أخي فلست أهلًا لهذه المقالة منك.» قال: «بلى والله وبشرٍّ منها.» قال: «وفيمَ ذلك؟» قال: «لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة نساء بني عبد مناف، فعرضتها على عبد ثقيف يتفخذها.» قال: «وفي هذا عتبت عليَّ يا ابن أخي؟» قال: «نعم.» قال عبد الله: «والله ما أحق الناس ألا يلومني في هذا إلا أنت وأبوك؛ لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي، وأما أنتما فمنعتماني رفدكما حتى ركبني الدين. أما والله لو أن عبدًا حبشيًّا مجدعًا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها منه. إنما فديت بها رقبتي.» فما راجعه الوليد كلمة حتى عطف عنان بغلته ومضى فدخل على أبيه فقال له عبد الملك: «ما لك يا أبا العباس؟» قال: «إنك سلطت عبد ثقيف وملَّكته حتى تفخذ نساء بني عبد مناف!» وقصَّ عليه الخبر. فأدركت عبد الملك غيرة فكتب إلى الحجاج يقسم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يطلقها، ففعل. وخاف إذا فعل مثل ذلك بسمية أن تشكوه إلى عبد الملك بوساطة سكينة بن الحسين، لعلمه أنها تحب سمية ولها منزلة وكرامة عند عبد الملك.
•••
وكان حسن قد ودَّع رفيقه وسار ماشيًا وخادمه يقود جمله وراءه قاصدًا إلى بيت سكينة، ولما أشرف على بيت عرفجة اختلج قلبه في صدره، ووقف كأن شيئًا استوقفه بالرغم عنه، وتصوَّر أنه شاخص إلى مكة وهي محصورة فلا يدري متى يعود منها ولا ما يمكن حدوثه في غيابه، وكيف يسافر وهو لم يرَ سمية! ثم تمثلت له سمية كما رآها في صباح ذلك اليوم قاعدة إلى جذع النخلة حاسرة رأسها ولم يرَ غير جانب وجهها. فلما تصور ذلك زاد هيامًا واضطربت جوارحه برهة كأنه فاقد رشده لعظم ما اكتنفه من الهواجس، ولم ينتبه لنفسه حتى خاطبه خادمه، وهو رجل من ثقيف اسمه عبد الله، وأصله من الطائف، وكان في جملة خدم المختار بن أبي عبيد في أثناء حربه في العراق، فلما قُتل المختار سار في جملة الأسرى إلى الشَّام، ثم دخل في خدمة حسن عندما سمع بعزمه على المدينة رغبة منه في الاقتراب من أهله في الطائف، وكان عبد الله يعرف عرفجة لأنه من قبيلته ولم يكن يحترمه ولا يثق بأقواله، ولكنه لم يكن يعلم ما بين حسن وسمية، فلما رأى سيده واقفًا مبهوتًا استغرب ذلك منه فخاطبه قائلًا: «ما بال مولاي؟ هل يفكر في أمر نسيه فأقضيه؟»
فانتبه حسن لنفسه واستحى من خادمه، ولكنه تذكر ما بين هذا الخادم وعرفجة من رابطة القبيلة، فلاح له أن يستخدمه في ذلك لعله يأتي بفائدة فقال: «أتعرف عرفجة؟»
فأجاب عبد الله ولم يصبر إلى إتمام السؤال وقال: «كيف لا أعرفه وهو أبو سمية؟!»
فلما طرق اسمها سمع حسن خفق قلبه، ولو لحظ عبد الله وجه سيده لرأى الاضطراب ظاهرًا في محياه، ولكنه لم يكن يتفرس في وجهه لفرط احترامه له. أما حسن فقال: «وهل تعرف سمية؟»
فضحك عبد الله وقال: «كيف لا أعرفها وهي من قبيلتي؟!»
قال: «وهل تعرف كل بنات قبيلتك؟»
قال: «كلا، ولكن سمية مشهورة بجمالها وتعقلها ولطفها، وقد اتفق لي أني رأيتها غير مرة يوم كنا في العراق.»
فسر حسن بهذه المصادفة وأراد أن يستخدم عبد الله في البحث عن سمية أو مخابرتها فقال: «إذن اسمع يا عبد الله، أريد أن أرسلك إلى سمية في مهمة فهل تذهب؟» قال: «لك الأمر وعليَّ الطاعة.»
فأُعجب بلطف تعبيره وقال له: «بُورك فيك يا عبد الله، فاعلم أني قدمت في هذا الصباح إلى عرفجة، وقضيت معه ساعة، ولم أتمكن من مشاهدة سمية؛ لأنها كانت مشغولة، ونحن الآن سائرون إلى مكة ولا ندري متى نعود، فهل أخرج من المدينة قبل أن أراها؟»
قال: «كلا بل يجب أن تراها وتخاطبها، هل أسألها موعدًا للقاء؟»
قال: «لا تستعجل يا عبد الله، فإني أخاف أن يغضب أبوها إذا اطلع على ذلك؛ لأني سمعت بصرامته في تحجبها، فلا يليق بي أن أراها خلسة بعد أن خطبتها منه.»
فأرسل عبد الله بصره إلى بيت عرفجة وقال: «ما دامت خطيبتك فلا بأس من رؤيتها وإن لم يعلم أبوها … أتأذن لي في الدخول إلى هذا البيت والاستفهام عن عرفجة فأحتال لإبلاغها موعدك؟»
فاستعظم حسن الإقدام على هذا الأمر، ولكن رغبته في رؤية سمية هوَّنت عليه ذلك فقال: «إني ذاهب إلى منزل سكينة، وأنا أعلم أن سمية كثيرة التردد إليه، فقل لها أن توافيني إلى هناك.»
قال: «سمعًا وطاعة.» ومضى يسوق الجمل وهو يقول: «سأحمل إليك الجواب في منزل سكينة — إن شاء الله.»