حسن وسليمان وأبوه
سار حسن في أثر البريد قاصدًا بيت سليمان من أقرب الطرق، فلما وصل إليه سأل عن سليمان فعلم أنه مريض؛ فتحقق أنه هناك، فاستأذن وأقبل على حجرة رأى فيها سليمان راقدًا وأبوه إلى جانبه فخلع نعليه بالباب ودخل فوقف له أبو سليمان مرحبًا به، وأراد سليمان النهوض فأمسكه وأجلسه وجلس على طرف الفراش بجانبه وجعل يسأله عن حاله وسليمان يحمد الله على أنه أحسن كثيرًا، ويعزو الفضل في شفائه إلى نجدته إياه. فقال حسن: «ما أظن المصيبة جاءتك إلا بسببي.»
فقال سليمان: «أشكر الله لأنه نجاك من الخطر.»
فتقدم أبو سليمان والدمع ملء عينيه وقبَّل حسنًا وقال له: «اغفر زلتي يا بني، فإن الله هددني بالقصاص حتى خفت فقد ابني ووحيدي، وأشكره على السلامة ولأنه أكسبني ابنًا آخر.»
فنظر حسن إلى ذلك الكهل فإذا هو على ما وصفناه من طول القامة ونحافة العضل وقِصر اللحية وصغر العمامة، ولكنه رأى في وجهه دلائل السويداء وانقباض النفس فإذا ابتسم فكأنما يبتسم تكلفًا، وإذا تُرك ساعة أو ساعات ظلَّ صامتًا لا يفوه بكلمة كأنه يفكر في مصاب محدق به.
ثم سألاه عن سبب غيابه، فقص حسن عليهما الحديث مختصرًا، وكان يتكلم وأبو سليمان يصغي إليه وهو مثبت بصره فيه وكأنه لم يعره كل انتباهه. فلما جاء على آخر الحديث وذكر لقاء الجمل وضياع الرحل قال: «فلما رأيت جملي بلا رحل على مقربة من المكان الذي كنا فيه ظننا أنكم عثرتم على الجمل ورأيتموه معطلًا فحملتم رحله معكم لتحفظوه لي عندكم.»
قال أبو سليمان: «كلا يا ولدي فإننا عدنا ليلًا، ولم نلتفت يمنة ولا يسرة لانشغالنا بجرح أخيك سليمان، وأنت هل مررت بالمكان الذي كنا فيه؟»
قال: «نعم وصلت إليه فرأيت أثر الدم، ووجدت القباء ممزقًا وعليه جلط الدم فعجبت لتمزيقه.»
فقال الرجل: «لا تعجب يا ولدي لتمزيقه؛ لأنه مزق قلبي فانتقمت منه فاعذرني.»
فاستغرب حسن ذلك وقال له: «بالله ألا قصصت على خبر هذا القباء؟»
فقال له: «أعفني من خبره واقنع بما قلته لك ولو تلميحًا.»
قال: «وماذا قلت؟»
قال: «ألم أقل إن هذا القباء هو الذي مزق قلبي؛ لأنه كان دليلي إلى الفريسة المطلوبة فإذا هي ولدي وفلذة كبدي.»
ففطن حسن لأمور كثيرة كانت موضع شكه، وتذكر أنه ليس من يعلم بوجود ذلك القباء معه غير عرفجة؛ لأنه أخذه من عنده ولم يلبسه قط، فاحتاطت به الشَّكوك وتناوبته الهواجس، وظلَّ صامتًا برهة لا يتكلم ثم قال: «ألا تقول لي من الذي أغراك بقتلي؟ فإني أخشى أن أتهم أناسًا أبرياء.»
قال: «أمرني بذلك رجل كبير في هذه المدينة، وهو صاحب السلطان الأقوى فيها.»
ففهم حسن أنه يشير إلى عامل المدينة طارق بن عمرو، وكان يعلم بما بين طارق وعرفجة من الصداقة، فترجح لديه أن لعرفجة يدًا في هذه المكيدة، لكنه أسرها في نفسه واعتصم بالصبر إلى أن يتم مهمته بمكة.
وأراد سليمان أن يذهب الانقباض عن صديقه فقال لأبيه: «كيف رأيت هذا الصديق يا أبي؟»
فتنهد أبوه وحاول الابتسام وقال: «لم أكن أشك فيما قلته لي، ولكن سوء حظي ساقني إلى ما ارتكبته، ولكني أحمد الله على خلاصنا من هذا الخطر.» ثم الْتفت إلى حسن وقال: «إني أعتذر إليك من تعمدي قتلك على غير معرفة بك، ولا أظنني دُفعت إلى ارتكاب الجريمة إلا بما جنيته من الذنب برجوعي عن المطالبة بدم ذلك المقتول ظلمًا.» قال ذلك وشرق بريقه فسكت برهة وحسن ينظر إليه ويعجب. ثم عاد أبو سليمان إلى الكلام فقال: «كنت من التوابين الذين ندموا على تخلفهم عن الحسين بن علي، حتى قُتل ظلمًا في سهل كربلاء. ولكنني لم أثبت على توبتي، فانتظمت في خدمة الذين قتلوه، ولا ريب أن عملي لم يرضِ الحق — سبحانه وتعالى — وعليَّ أن أكفِّر عن ذلك بتكريس ما بقي من حياتي لنصرة أعدائهم، وقد علمت أنك سائر إلى مكة فهل تستصحبني؟ وإلا فإني هائم على وجهي في هذه الصحراء.»
فقال حسن: «إذا رافقتني فإني آنس بك وأتخذك أبًا لي؛ لأن سليمان أخي، ولكن أرى أن …» وأسكته الحياء.
فقال أبو سليمان: «تكلم يا بني ولا تخف فإني بمنزلة أبيك، بل أنا خادم لك ولا أستنكف من أمر أجريه في خدمتك. قل ما بدا لك.»
قال حسن: «إذا كنت ترى أن تتفضل عليَّ وتعاملني معاملة الأب لابنه فإن لي عندك طلبًا أستحيي أن أكلفك به.»
قال: «لا تستحِ يا بني، قل.»
قال: «أحب فتاة في هذه المدينة، وقد خطبتها وأنا مضطر للسفر قبل العقد عليها، ولا يخفى عليك قلب مثلي في هذه الحال.»
قال: «نعم. ماذا تريد مني؟ هل تريد أن أوقف نفسي لخدمتها؟»
قال: «كلا فإنها في بيت أبيها ولكنني قليل الثقة بمن حولها.»
قال: «من هي الفتاة ومن هو أبوها؟»
فوجم حسن برهة ثم قال: «إذا لم يكن بد من معرفتك اسمها — ولا أرى بدًّا من ذلك — فأخبرك أنها سمية ابنة عرفجة الثقفي.»
فلم يتم حسن قوله حتى بهت أبو سليمان وازداد لونه امتقاعًا وأطرق وصارت لحيته ترقص في صدره، وكان حسن يلاحظه وقد أدرك ما جال في خاطره. وجعل أبو سليمان يهم بالكلام ثم يمسك؛ لأنه كان مطلعًا على تردد عرفجة على مجلس طارق، وعرفجة مشهور في المدينة بخيانته وسوء نيته.
أما حسن فلم يمهله ريثما يتكلم فابتدره قائلًا: «لا أكلفك إطلاعي على سر، فقد فهمته وهذا يكفي. أما الفتاة فخطيبتي ولا شيء يمكن أن يثنيها عني أو يثنيني عنها. وإنما أرجو أن تبحث عنها وتعرف أحوالها وهذه هي وصيتي إليك فإذا قبلتها كان ذلك فوق ما أتمناه.»
فقال أبو سليمان: «أنا عند ما تريد، وسأولي أمرها اهتمامي، كما أهتم بولدي هذا. كن في سكينة وراحة بال.»
فلما فرغ حسن من أمر سمية عاد إلى التفكير في الكتاب والخادم، فتبادر في ذهنه أنه قد يلقى خادمه في المدينة فيساعده على البحث عن الكتاب، وعزم إذا لم يرَ الخادم فإنه يكتفي بإبلاغ عبد الله بن الزبير فقد الكتاب ويرى ما يكون، فنهض مودعًا. فقال له أبو سليمان: «إذا لم يكن بد من سفرك فاجعله من غير الطريق الذي كنا فيه أمس. اخرج من باب آخر وأنا أرسل معك خادمي يهديك إلى الطريق ويسوق جملك بدلًا من خادمك، وسأقدم لك جملًا أحسن من جملك فانعم بالًا وكن على ثقة أننا أنا وسليمان في خدمتك حتى تبلغ مرامك.» ثم صاح: «يا بلال.» فجاء عبدٌ خفيف السواد حسن الملامح فقال له: «هيئ الجمل الأشرم. واملأ القِرَب ماء، وأعد زاد السفر.» فذهب بلال ثم عاد وقد أعدَّ كل شيء، فقال أبو سليمان لحسن: «إذا كان لا بد من سفرك فسر على عجل ولا تقف ولا تسترح حتى تبعد عن المدينة.»
فقطع حسن كلامه وقال: «فاتني أن أخبركم عن إبل البريد، فقد رأيت ثلاثة منها دخلت المدينة في هذا الصباح وأظنها قادمة من مكة.»
قال أبو سليمان: «لا يبعد أنهم جاءوا لطلب نجدة أو مدد، أو بخبر فتح أو شيء من ذلك، أما أنا فإني سأنتقل من هذا البيت إلى سواه وأختفي يومين أو ثلاثة حتى لا يراني أحد لئلا يطلبونني للمسير معهم.»
ثم ودَّعهم حسن وركب الجمل وسار بلال في ركابه، وبود حسن لو يعيد النظر إلى سمية قبل سفره ولكنه أراد العجلة وخاف الوقوع فيما هو شر من ذلك.