استعادة السودان
أطلق الإنجليز على استعادة السودان اسم الفتح لحاجةٍ في ذات أنفسهم، وذلك كما يقول الفرنسيون «لاستكمال مستندات الدعوى». وغرضهم من ذلك أن يتخذوا من هذه التسمية مُتَّكَأً يستندون عليه لاغتصاب ما ليس حقًّا لهم. ولكن بما أن السودان ما برح جزءًا لا يتجزأ من مصر التي انجلت عنه بسبب ضغطهم عليها لكي تخليه؛ فإن إطلاق اسم الفتح على استعادته هو كما يقول أيضًا الفرنسيون: «إذا كانت العلة غير موجودة فكيف يكون المعلول موجودًا.» أي: ليس في الحقيقة ما يبرر هذه التسمية؛ ولهذا يكون قولنا: «استعادة السودان» هو الصواب، ويكون لفظ «فتح السودان» في غير محله؛ لأن اللفظ الأول ينطبق على معنى ما حصل.
وهذا القول هو عين ما كانت تحتج به الحكومة الفرنسية على الحكومة البريطانية بعد احتلال فاشودة.
ولقد أرغمت الظروف الحكومة البريطانية على القيام بالحملتين المذكورتين من الشمال ومن الجنوب، فكانت في كلتيهما مدفوعة إلى العمل لا عن رضاء ولا عن اختيار.
المادة الأولى
- أولًا: الأراضي التي لم تُخْلِهَا قَطُّ الجنود المصرية منذ سنة ١٨٨٢، أو …
- ثانيًا: الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة، وفقدت منها وقتيًّا ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد، أو …
- ثالثًا: الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدًا.
وبناءً على نص هذه المادة تكون الأراضي السودانية الداخلة تحت شروط الاتفاقية الإنجليزية المصرية محصورة في الحالات الثلاث المتقدمة، إلا أن هناك حالة رابعة — وهي الأهم — لم تدخُل في نطاق هذه الاتفاقية، تلك هي الأراضي المحتلة بالجنود البريطانية وحدها، والتي كانت تابعة لنا مثل القسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء القديمة، ومنطقة البحيرات العظمى، التي في النية بناء خزانات ضخمة عليها لخزن المياه.
وقد أهملت الحكومة الإنجليزية ذكر هذه الحالة عن قصد، حتى تستطيع فيما بعدُ أن تقول كما تجاهر الآن: إن هذه الأراضي أراضٍ بريطانية، فتستبقيها في قبضة يدها. وقد قبل وزراؤنا في ذلك الوقت هذه الحال بوداعة وبدون أي اعتراض منهم. وفي اعتقادنا أنهم ما فعلوا ذلك إلا عن بساطة أو عن رغبة شديدة في البقاء في مناصبهم.
إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة لا تسلم بتاتًا في بقائه؛ أي في بقاء مارشان هناك — أي في فاشودة — ولا توافق على التخلي عن حق مصر باستعادة جميع البلاد التي كانت خاضعة مؤخرًا لحكم الخليفة، والتي كانت قبل ذلك جزءًا من أراضيها. ا.ﻫ.
لقد احتججت بكل ما أوتيت من قوة على احتلال مارشان وفرقته لفاشودة، وعلى رفعه العلم الفرنسي على أملاك سمو الخديو. فقال مارشان ردًّا على احتجاجي إنه تلقى أوامر مشددة باحتلال هذا البلد، ورفع العلم الفرنسي فوق مباني الحكومة المصرية في فاشودة. ثم أضاف إلى ذلك أنه لا يمكن أن يرتد عن هذه الناحية، إلا بعد أن تأتيه أوامر حكومته التي يتوقع عدم تأخُّرِها.
فسألته عندئذٍ إذا كان مستعدًّا أن يقاوم رفع العلم المصري فوق فاشودة ما دام من المسلَّم به أن القوة التي ترافقني أكبر من قوته، فتردد برهة ثم أجاب بأنه لا يستطيع المقاومة. ووقتئذٍ رفع العلم المصري على مسافة ٥٠٠ ياردة تقريبًا جنوب العلم الفرنسي فوق برج خرب ضمن الاستحكامات المصرية القديمة، يشرف على الطريق الوحيد الموصل إلى داخلية البلاد من مركز الفرنسيين. ا.ﻫ.
لقد أوضحت له — أي لوزير خارجية فرنسا — أن برقية سيادتكم المؤرخة في ١٩ الجاري — والتي أبلغتها إليه في حينها — يستفاد منها أن حكومة جلالة الملكة تعتبر حقوق مصر في فاشودة لا تحتمل أية مناقشة. ا.ﻫ.
وهناك غير ذلك مسألة مطالب مصر. فموقف إنجلترا أمام مصر موقف خاص يشبه موقف أمين اؤتمن على وديعة. وهذا فيما يختص بحفظ مصالحها. وهذه المطالب لم نؤيدها نحن فقط بل أيدتها أخيرًا حكومة فرنسا كذلك. ا.ﻫ.
جوابًا على ملاحظات سعادته — أي السفير الفرنسي — قد أعدت على مسامعه الأدلة التي استشهد بها الجانب البريطاني في هذه المسألة، تلك الأدلة التي كانت معروفة قبل الآن. فأبنت له أن حقوق مصر على ضفاف النيل قد صيرها فوز المهدي في القتال في حكم المنسوخة بلا شك، ولكن مهما كانت قيمة هذه الحقوق التي سُلِبَتْ من مصر فإنها قد أعيدت إلى يد الفاتح. والآن ما هو القسم الذي تَبَقَّى منها لمصر؟ والقسم الذي انتقل إلى المهدي والخليفة؟ لعمري تلك مسألة لا يمكن حلها إلَّا في ميدان القتال بلا ريب، ولكن هذا النزاع لا يسوغ لجانب ثالث أن يتدخل ويدَّعي تملُّك الأرض موضوع النزاع بحجة أنه قد صار التخلي عنها. ا.ﻫ.
ونعلق على ما قاله مركيز سلسبري في هذه العبارة، فنقول: إن الجانب الثالث الذي يلوح سعادته به هو بالطبع حكومة فرنسا، ولكن ألم يَكُن الأجدر به أن يطبق على نفسه هذا المبدأ الذي أراد تطبيقه على فرنسا؟ إنه لو فعل ذلك لكان قدَّم مثلًا غاية في الاستقامة والنزاهة اللتين ضرب بهما عرض الحائط حين فرض على مصر قبول اتفاقية ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ الإنجليزية المصرية المتعلقة بالسودان.
ويقول أيضًا سعادته في العبارة السالفة: إن حقوق مصر التي سُلِبَتْ منها قد أعيدت إلى يد الفاتح، فالمقصود بالفاتح هنا هو بالطبع مصر وحدها؛ إذ لو كان المقصود منه مصر وإنجلترا معًا، لكان استعمل ما يدل على التثنية لا الإفراد، وسيؤيد هذا المعنى الوثائق المنشورة بعدُ.
وهناك اعتراض آخر على أقوال سعادته الآنفة، ذلك أنه يقول إن النزاع القائم بين مصر والمهدي في السودان لا يسوغ لجانب ثالث أن يتدخل ويدَّعي تملُّك الأرض موضوع النزاع، بحجة أنه قد صار التخلي عنها. فإذا كان سعادة مركيز سلسبري لا يرى ما يسوغ هذا الأمر لهذا الجانب الثالث، فكيف استساغته إنجلترا لنفسها وأجازت أن تدخل في اتفاقية ١٩ يناير سنة ١٨٩٩م، كأنها صاحبة حق في السودان كفاتح له؟ وألا يكون في هذا ما يهدم جميع تصريحاتها؟
لقد وافقت نهائيًّا على اختيار برج خرب واقع جنوب حصون فاشودة القديمة على بعد نحو ٥٠٠ ياردة من المكان المرفوع فوقه العلم الفرنسي، ويشرف على الطريق الوحيد الموصل من فاشودة إلى داخلية البلاد؛ إذ يكتنف المديرية القديمة من جهتيها الشمالية والغربية مستنقعات عميقة يتعذر اجتيازها. وقد رفعنا العلم المصري فوق هذا البرج في الساعة الواحدة بعد الظهر بحضور الجنود البريطانية والمصرية، وحيينا العلم بإطلاق ٢١ مدفعًا. ا.ﻫ.
وسبب تكرارنا لهذه الفقرة مع أنه سبق ذكرها في الرسالة السالفة، هو أن نبين أن العلم المصري الذي نُصِبَ أمام مواقع الفرنسيين في فاشودة حيَّته الجنود البريطانية التي اشتركت في الحملة.
وهذه الحقيقة لم تُذكر في الرسالة السالفة، وهي دليل قاطع لا مرية فيه يثبت بلا خفاء أن استعادة السودان — أو فتحه كما تقول العبارة الإنجليزية — بُدِئَ وتَمَّ باسم مصر وحدها ومن أجلها.
من لورد كرومر إلى مركيز سلسبري
ورد في ١٧ أكتوبر
القاهرة في ١٠ أكتوبر سنة ١٨٩٨
مولاي
أتشرف أن أرسل إلى سيادتكم مع هذا نسخةً من كتاب تلقيته من ناظر الخارجية المصرية بطرس غالي باشا، ومعه نسخة من تقرير السردار إلى قائمقام خديو مصطفى فهمي باشا عما قام به من الأعمال في الجهات الواقعة في جنوب أم درمان، ونسخة أخرى من كتاب قائمقام خديو إلى السردار، يوافقه فيه بحَمِية على هذه الإجراءات. وقد طلب بطرس باشا غالي معاضدة حكومة صاحب الجلالة الملكة في المفاوضات الدائرة الآن مع الحكومة الفرنسية، حتى يكون حق مصر مضمونًا في ملكية هذه الأراضي التي تخلت عنها أثناء ثورة المهدي تحت ضغط القوة القاهرة، ويسجل سعادته بالقول الصريح أن مصر لم تَتَخَلَّ قَطُّ عن حقوق ملكيتها لهذه الأراضي.
وإني … إلخ …
ملحق ١ لرقم ٤: من الميجر جنرال سير هربرت كتشنر
إلى مصطفى فهمي باشا
القاهرة في ٦ أكتوبر سنة ١٨٩٨
حضرة صاحب العطوفة
أتشرف بإخبار عطوفتكم أنه بعد هزيمة الدراويش في أم درمان أبحرت في أسطول صغير من المدفعيات صاعدًا في النيل الأبيض؛ كي أوطد سلطة صاحب السمو الخديو في مديريات السودان القديمة ومحافظاته. ولدى وصولي إلى فاشودة وجدت حملة صغيرة بقيادة القومندان مارشان، والعلم الفرنسي مرفوعًا فوق دار المديرية القديمة، فطلبت منه أن يُنزل علمه فورًا، وعرضت عليه أن أضع تحت تصرفه مدفعية لتوصل حملته إلى القاهرة، فلما رفض احتججت شفويًّا على تعديه على الأراضي المصرية، ثم وجهت إليه فيما بعد احتجاجًا كتابيًّا.
وحيث إن مسيو مارشان رفض أن ينسحب إلا بأمر من حكومته، فقد رفعت العلم المصري فوق الحصون القديمة بالاحتفال المألوف في مثل هذه الحالة، وتركت هناك حامية كافية لمقابلة أي طارئ.
وتفضلوا … إلخ …
ملحق ٢ لرقم ٤: من مصطفى فهمي باشا
إلى الميجر جنرال سير ﻫ. كتشنر
القاهرة في ٩ أكتوبر سنة ١٨٩٨
عزيزي السر دار
علمت بمزيد الارتياح من تبليغكم المؤرخ في ٦ أكتوبر أنه بعد الانتصار الباهر الذي أحرزتموه في أم درمان، قد توجهتم إلى فاشودة ورفعتم العلم المصري هناك. فمع موافَقَة الحكومة على هذه الأعمال موافَقَة تامة شاملة، وعلى تعيينكم جاكسون بك مديرًا لفاشودة، نوجه لكم جزيل الشكر لأنكم — وقد عرفتم بثاقب فكركم مصالح مصر، وما بذلته في الماضي من التضحيات في سبيل سيادتها على وادي النيل — لم تدعوا أي وقت يمضي بعد اندحار الدراويش دون أن تنتهزوه لتعيدوا إلى مصر المديريات التي تحفظ لها كيانها، والتي لم ترتد عنها إلا وقتيًّا بسبب المركز المشئوم التي كانت فيه. وبهذا قد اكتسبتم فخرًا جديدًا تعترف لكم به مصر.
ومع تكرار شكرنا أرجو أن تتقبلوا … إلخ …
ملحق٣ لرقم٤: من بطرس باشا غالي إلى لورد كرومر
القاهرة في ٩ أكتوبر سنة ١٨٩٨
عزيزي اللورد
إن سعادة السردار قد أنبأ عطوفة مصطفى فهمي باشا بأنه لما صعد إلى فاشودة لكي يعيد سلطة سمو الخديو إلى محافظات ومديريات السودان القديمة، وجد هناك حملة فرنسية، فطلب منها أن تغادر المكان، فلَمَّا لم يقبل طلبه احتج على استباحة حمى الأراضي المصرية شفويًّا في أول الأمر، ثم كتابةً بعد ذلك، وقد رَفَع العلم المصري وعَيَّن مديرًا.
إن حكومة الجناب العالي — كما هو معروف لسيادتكم — لم تغفل قط عن استعادة مديريات السودان التي هي المصدر الفعلي لحياة مصر، ولم تنسحب منها إلا لظروف قاهرة. ففَتْحُ الخرطوم لا يكون له مزية إلا إذا كان وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله تضحيات جمة، يرجع برمته إلى حوزتها.
ولما كنا عالمين بأن فاشودة الآن هي موضوع محادثات بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فقد كلَّفتني الحكومة المصرية أن أرجو سيادتكم السعي بما لكم من النفوذ لدى لورد سلسبري؛ ليعاون مصر على الاعتراف بحقوقها التي لا نزاع فيها، حتى يتم لها استرداد جميع المديريات التي كانت مستولية عليها قبل قيام المهدي بثورته.
وإني إذ أرسل إلى سيادتكم مع هذا نسخة من رسالة سعادة السردار، وأخرى من إجابة عطوفة مصطفى فهمي باشا، أنتهز … إلخ …
الخلاصة
بالتأمل في الوثائق السالفة يتبين أن الساسة البريطانيين كانوا معترفين ومسلِّمين بكامل حقوق مصر في السودان قبل وبعد استعادته. وإنَّ رفْع العلم المصري فوق فاشودة على مرأى من مارشان وفرقته، وتحية الجنود البريطانية المرافقة للسردار هربرت كتشنر لهذا العلم، هذا وحده حجة دامغة بيد مصر على الاعتراف والتسليم بحقوقها في هذا الإقليم. وإن أمر استعادته أو فتحه — على ما يسميه الإنجليز — إنما شرع فيه أيضًا وتم من أجل مصر فقط، لا سيما أن هذا حدث كله بعد واقعة كرري النهائية التي كانت الفصل الأخير في رواية سقوط حكم الدراويش، وعودة السودان إلى مصر.
ثم إن المراسلات التي تبادلها الوزيران المصريان مع معتمد بريطانيا العام في مصر لها أهمية خاصة، من حيث حفظ حقوق مصر؛ إذ لم يَكُنْ في استطاعة وزير مصري أن يُقدِم على مثل هذه الكتابة لو لم يوعز إليه من المعتمد البريطاني بها. وهنا أيضًا أمر آخر جدير بالاعتبار، وهو أن المعتمد البريطاني تَسَلَّمَ الكتابين ولم يَبْدُ منه أي امتعاض أو احتجاج، ثم بلَّغ فحواهما إلى حكومته.
فهذا المسلك فيه ما فيه من اعتراف صريح بحقوق مصر ومطالبها. وهي تنحصر في أن السودان جزء متمم لمصر غير قابل للانفصال عنها.