يزيد، وسلمى
ثم سمعتا وقع أقدام يزيد على السلم، قالت العجوز: هو ذا آتٍ والحمد الله، فلما سمعت سلمى ذكره اختلج قلبها في صدرها وتحقق دنوُّ الخطر العظيم، فتجلَّدت وجلست في الفراش، فقالت لها العجوز: انهضي من الفراش الآن؛ فليس هذا وقته، واجلسي إلى المائدة، ولم تكد سلمى تهمُّ بالجواب حتى دخل يزيد وقد بدل بثيابه ثيابًا خفيفة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، فلما أقبل على المائدة رأى سلمى لا تزال في الفراش فقال لها وهو يبتسم: لعلك لا تزالين مصدوعة؟
فلما سمعت كلامه تفرَّست في وجهه فإذا هو قد تغيَّر وعلاه الاضطراب، فانزعجت وحدثتها نفسها أنه يضمر شيئًا، وخافت أن يكون قد اطَّلع على سرِّها؛ لعلمها بما في نفس شمر بن ذي الجوشن عليها، ولم ترَ بدًّا من التجلُّد والتكلُّف، وكانت كبيرة العقل قوية الإرادة فتجاهلت ما يبدو على يزيد من القلق وجلست كأنها تتأهب لمسامرته.
أما هو فحالما نظر إليها أشرق وجهه وزال انقباضه وبدا الارتياح على وجهه، وكانت العجوز واقفة بين يديه فقال لها مازحًا: تعالي يا عجوز النحس واملئي القدح من هذا الشراب واسقي سلمى؛ فإنه شراب لذيذ.
فملأت العجوز قدحًا من شراب أحمر وقالت لها: اشربي، إنه مصنوع من عصير التفاح، فلا تخافي.
فتحيرت سلمى إذ لم يكن لها عهد بالشراب، ولم تكن تريد أن تذوقه، ولكنها تناولت الكأس ولبثت تنتظر ما يفعله يزيد فإذا هو قد صبَّ قدحًا آخر من زجاجة أخرى فيها شراب أصفر وقال: وهذا من عصير البلح، وشرب فتظاهرت هي بالشرب وصبت الكأس في ثيابها.
فلم يستقر الشراب في جوف يزيد حتى غلب عليه المرح ودنا من فراش سلمى والطنبور بيده يضرب عليه ويطرب، والعجوز تقطع اللحوم وتناولهما وتصب لهما الأشربة وسلمى تحبب إليه الشراب عسى أن يسكر فيهون عليها الفتك به.
وكان شمر حينما علم بعزم الخليفة على الاقتران بسلمى قد اعتزم الوشاية بها انتقامًا لما ناله من جفائها، فلما رأى موكبها قادمًا إلى دمشق وتحقق دخولها القصر ووقوعها من يزيد موقع الاستحسان، أخذ في إعداد المكيدة، فاغتنم فرصةً رأى فيها يزيد خارجًا وحده من المجلس إلى المقصورة فاعترضه وهمس في أذنه: إن عروسك لا يُركن إلى قلبها فاحترس على نفسك منها. وكان يزيد مسرعًا إلى لقاء سلمى وقد أخذ الشوق منه مأخذًا عظيمًا، فأثرت كلمات شمر تأثيرًا لم يطل مكثه طويلًا، ولم يكد يجلس إليها ويتأمل محيَّاها حتى نسي الوصية، ولا سيما بعد أن دارت برأسه سَوْرَة الخمر، ولم يعد يرى من الدنيا شيئًا غير ما في مقصورته.
أما شمر فلما طال مقام يزيد مع سلمى في تلك الخلوة ولم يسمع شيئًا جديدًا اشتد به الحسد مخافة أن تكون سلمى قد تسلطت على قلب يزيد وأنسته حاله، وندم لأنه لم يصرح له بحقيقة نسبها وأنها ابنة عم عبد الرحمن وخطيبته فيتحقق خيانتها ويخاف غدرها، وأصبح شمر لا يهدأ له بال. وفكر في سبيل ينال به بغيته، وهو يعلم منزلة عبيد الله بن زياد من يزيد، فسار إليه، وكان ابن زياد في غفلة عن علاقة سلمى بعبد الرحمن، ولكنه بات كاسف البال لفشله في خطبته سلمى، وقد شق عليه خروجها من يديه، ولم يكن أطول من تلك الليلة عنده.
فلما انفضَّ المجلس وعلم عبيد الله بذهاب يزيد إلى المقصورة وأن سلمى هناك في انتظاره ثارت الغيرة في قلبه، وكان قد أوى إلى غرفته في القصر وتوسد الفراش ولكنه لم يجد إلى الرقاد سبيلًا، وكلما تذكر سلمى وجمالها وتصوَّر قربها من يزيد، وكان يعتقد ضعفه ولا يحترمه إلا لأنه الخليفة، اقشعرَّ بدنه لفرط غيرته.
وقضى في غرفته بضع ساعات وهو في قلق شديد يغالب عواطفه ويهوِّن الأمر على نفسه، وفيما هو في تلك الهواجس دخل عليه خادمه وهو يحسبه نائمًا، فلما رآه مستيقظًا قال له: إن شمر بن ذي الجوشن بالباب.
فقال: دعه يدخل، وجلس في الفراش وأمر الخادم فأضاء السراج.
فدخل شمر وعلى وجهه علامات الاهتمام، فابتدره عبيد الله بالاستفهام عمَّا وراءه، فقال: لقد أتيتك في أمرٍ ذي بال.
قال: وما هو؟ قال: أنت تعلم عزم الخليفة على الاقتران بتلك الفتاة الحسناء.
فلما سمع ابن زياد الإشارة إلى سلمى اختلج قلبه في صدره وأصاخ بسمعه وقال: أعلم ذلك، ثم ماذا؟
قال: أتعلم من هي هذه الفتاة؟
قال: لا أعلم إلا أنها غريبة، وأظنها من العراق.
قال: نعم إنها عراقية، ولكن من هو أبوها؟
قال: أليس هو الكهل الذي كان معها في الدير؟ وهب أنه ليس أباها، فماذا في هذا؟
قال: إن معرفة أبيها تهمُّنا جميعًا، ولو عرفه أمير المؤمنين ما اقترب منها.
فاستغرب عبيد الله ذلك القول وقال: ومن عسى أن يكون أبوها؟
قال: إنه حُجْر بن عدي.
ولم يتم كلامه حتى بانت البغتة في عيني عبيد الله، وصمت برهة ثم قال: أواثق أنت بصدق ما تقول؟
فابتسم شمر وقال: إني أعرفها وأعرف أباها وعمها وكل أهلها، وقد صحبتها …
فقطع ابن زياد كلامه قائلًا: إذن عبد الرحمن ابن عمها؟
قال: نعم، وهو أيضًا خطيبها، وقد قدما ومعهما الرجل الكهل الذي ذكرته، وهو الوصي عليهما، فأقاموا في دير خالد يتربصون للفتك بأمير المؤمنين، وهذا ما ساعدني على كشف أمر الرجل وإيقاعه في الشرك وهو يهمُّ بتلك الجريمة.
فبهت عبيد الله وصدق كلام شمر مما لاحظه من القرائن الأخرى، فقال له: لماذا لم تطلع الخليفة على هذا السر؟ إني خائف أن يكون قبولها الزواج بالخليفة مكيدة، وأخشى أن تكون عازمة على الفتك غدرًا بأمير المؤمنين.
قال: لقد لمحت له تلميحًا، ولكنه لفرط شغفه بها وسرعته في الذهاب إليها لم يدع لي مجالًا للكلام أو زيادة التفصيل.
قال: لا أستبعد أن تكون ناوية قتله، ولا سيما إذا كانت ثابتة على رأيها ثبات ابن عمها، وقد شاهدنا ما كان من عناده في هذا النهار، أو أن تكون كأبيها الذي قتله عناده لأنه لم يلعن عليًّا كما تعلم، وما العمل الآن؟ يجب أن نبلغ الخليفة الأمر لئلَّا نلوم أنفسنا فيما بعد.
قال: الرأي رأيك، ولا بدَّ من البت في الأمر قبل انقضاء الليل.
فأطرق عبيد الله برهة ثم نهض من فراشه بغتة وقال: إليَّ بفتحٍ خَصِيِّ أمير المؤمنين؛ لأنفذه إليه الآن.
فأسرع شمر حتى أتى غرفة «فتح» بباب دار النساء، فأيقظه ودعاه إلى عبيد الله، فنهض حتى دخل على ابن زياد وهو يخطر في الغرفة، فلما أقبل عليه ناداه وقال له: اذهب إلى الخليفة الآن على عجل، وقل له إني أريد أن أخاطبه في أمر ذي شأن.
فضحك «فتح» وقال: كأنك لا تدري أين هو الليلة؟
قال: إني عالم بمجلسه، ولولا ذلك لدخلت عليه وكلمته.
قال: وكيف أدخل عليه وهو في مجلس طرب وسرور وقد أوصى أن يُترك وحده؟! ليس يجسر على الصعود إلى المقصورة أحد.
قال: أما أنت فتدخل، وهو إنما ادَّخرك لمثل هذه الليلة، وتلك مزيَّة الخصيان، فامضِ إليه على عجل لأن الوقت ضيق وقل له: إن عبيد الله يريد أن يراك الآن.
قال: وإذا انتهرني ولم يسمع كلامي؟
قال: خوِّفه بما شئت. قل له إن عبيد الله يطلب مقابلتك في أمر ذي بال يمس الخلافة، ولكن لا تقل له ذلك على مسمع من أحد. امضِ يا فتح عاجلًا.
فأسرع فتح وهو يتعثر بأذياله حتى صعد إلى المقصورة، فرأى الباب مغلقًا، وسمع يزيد يضرب بالطنبور ويقهقه، فوقف برهة وقلبه يخفق مخافة أن يغضب الخليفة إذا دعاه، فلبث مدة يتردد حتى كاد ينثني عمَّا جاء لأجله، ثم تذكر إلحاح عبيد الله فهان عليه الأمر ودنا من الباب وقرعه.
وكان يزيد في إبَّان نشوته، وقد اتَّكأ بجانب سلمى وأسند رأسه على صدرها وتمثلت له السعادة على أبهج حالاتها، فلما سمع قرع الباب أجفل وجلس وصاح: من بالباب؟
فأجابه فتح: أنا عبدك فتح.
فصاح يزيد: اذهب فتح الله قبرك، لقد أزعجتني.
قال: أتيت لأمر ذي بال لمولاي أمير المؤمنين.
فضحك يزيد وقال له: دع الأمر إلى الغد وامضِ، ولو قرع هذا الباب أحد سواك لقتلته.
قال: إني أعلم يا مولاي، ولكنني ألتمس من أمير المؤمنين أن يريني وجهه لحظة ثم يعود.
فنهض يزيد والطنبور بيده وقد وقعت العمامة عن رأسه ووقف بالباب، فهمس فتح في أذنه: إن عبيد الله بن زياد يريد أن يكلمك في شأن يتعلق بالخلافة.
فقال يزيد: قل له: إن موعدنا الغد. وهمَّ بالرجوع، فأمسكه بيده وقال له: لو استطاع تأجيله لما أزعج مولانا في مثل هذه الليلة، وقد استمهلته فألح عليَّ أن آتي إليك الساعة، وقد كنت مستغرقًا في نومي فأيقظني لهذا الأمر، وقد جئت وأنا أتوقع غضبك، ولكنني لم أرَ بدًّا من المجيء.
فمشى يزيد والطنبور بيده وقد غضب على عبيد الله وعوَّل على توبيخه، ومشى فتح في أثره. ثم أمر فتحًا أن يسبقه ويدعو ابن زياد إليه.
فهرع فتح حتى لقي ابن زياد واستقدمه، فجاء واستقبل الخليفة في ممر منعزل، وقبل أن يتكلم يزيد ابتدره عبيد الله قائلًا: أنا أعلم أني أزعجت أمير المؤمنين في ساعة طربه، ولكنني اطَّلعت على سرٍّ خطير لا يصح السكوت عنه إلى الغد، فهل يأذن مولاي الخليفة في خلوة؟
•••
بغت يزيد وسار في أثره إلى غرفة فيها شمعة مضيئة وليس فيها أحد، فلما خلا به قال: بلغني يا أمير المؤمنين أن عروسك التي حملناها إليك اليوم لا تقل خطرًا عن عبد الرحمن الذي تعمد قتلك بالأمس.
فبغت يزيد وقال: وكيف ذلك؟
قال: لأنها ابنة حُجْر بن عدي، وعبد الرحمن ابن عمها وخطيبها.
قال يزيد: ومن أنبأك بذلك؟
قال: أنبأني به شمر الذي كشف لنا الدسيسة الأولى فأخشى أن تكون سلمى هذه إنما أتت إلى منزل الخليفة لمثل الأمر الذي همَّ ابن عمها به.
فأطرق يزيد ثم قال: سمعت مثل هذا التلميح من شمر، ولكنها أتيح لها أن تكون من نسائي، وقد تكون على غير ما تقولون.
قال: قد يكون ذلك إذا عرفت النعمة التي خصَّها بها أمير المؤمنين، وقد تكون شريرة عنيدة مثل أبيها وابن عمها فترتكب أمرًا يسوء المسلمين ويهدد الإسلام.
قال: كيف نعرف الحقيقة يا عبيد الله؟
قال: نعرفها من البحث بين أثوابها عن سلاح أو سمٍّ أو نحوهما مما يستعان به على مثل هذا المنكر.
قال: لو كان معها شيئًا من ذلك لظهر لعجوزنا حين بدلت ثيابها في الحمام.
قالت: وهل واثق مولاي من دخولها الحمام.
قال: لا ريب في ذلك؛ لأني أوصيتهم أن يُدخلوها الحمام، وقد أكدت العجوز ذلك، ثم توقف عن الحديث وتذكر أنه لما سأل العجوز عن حمامها لم تجبه جوابًا صريحًا فقال: وسأسأل العجوز ثانية، فإن كانت لم تُدخلها الحمام فلا مانع عندي من التفتيش. قال ذلك وهمَّ بالخروج، فاستوقفه عبيد الله وقال: لا يكفي أن تبحث في أثوابها بل ابحث في كل الغرفة، فإذا وجدت شيئًا فلا تتسرع في الأمر، بل كن حازمًا مثل أبيك، وخذ الأمور بالتؤدة والحلم، وها أنا ذا منتظر حتى يأتيني أمر مولاي.
كانت سلمى سمعت الخَصِيَّ يخاطب يزيد ويلح عليه في الانفراد به، أوجست خيفة، على أنها لم تتصور أنه جاء لمثل ذلك الغرض، وكأن نفسها حدثتها بشرٍّ يتهددها، فاختلج قلبها واصطكَّت ركبتاها، ولكنها تجلَّدت ولبثت تنتظر عودة يزيد، وقد أيقنت أن الشراب دار في رأسه ودنا الوقت المنتظر.
وكانت العجوز قد انزوت في بعض جوانب الغرفة وغلب عليها النعاس فنامت.
فلما عاد يزيد هشَّت له سلمى وابتسمت، وتوقعت أن يكلمها أو يجلس إلى جانبها فإذا هو يصيح بالعجوز، فأفاقت مذعورة وأسرعت إليه فأخذ بيدها خارج الغرفة، فلما خلا إليها سألها إذا كانت قد أدخلت سلمى الحمام، فتلعثمت وأقرَّت بأنها رأتها منحرفة الصحة، فعنفها ولكنه أوصاها بالسكوت، ودخل وجلس إلى سلمى فظنت لأول وهلة أنه عاد إلى ما كان فيه وليس هناك ما يوجب الشك، فإذا به قد مد يده إلى صدرها وجعل يجس جوانبها فأجفلت وخافت ولكنها ظنته يداعبها. أما هو فتظاهر بمداعبتها ولما لم يرَ معها سلاحًا قال للعجوز: ألم أقل لك: أدخليها الحمام؟
قالت: بلى يا مولاي، ولكنها كانت تشكو صداعًا فلم أشأ أن أزعجها.
قال: خذيها الآن وها أنا ذا في انتظاركما، وأشار إليها أن تأخذها إلى غرفة قريبة في أول الممر.
فتحيرت سلمى ولم تدرِ ماذا تصنع، ولكنها أطاعته وخرجت مع العجوز وهي لا تخاف الحمام؛ لأن الخنجر ليس معها. أما هو فأخذ يفتش في جوانب المقصورة حتى قلب الفراش ورأى الخنجر تحته، فلم يبقَ عنده شك في المكيدة فجعل ينتفض من شدة التأثر، وحدثته نفسه بأن يقتلها بذلك الخنجر. ولكنه تذكر كلام ابن زياد وأسرع إليه والخنجر في يده وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا.
على أن شغفه بسلمى وإعجابه بها ما لبثا أن هوَّنا عليه التماس العذر لها فقال: ولكنني مع ذلك لا أرى أن آخذها بالشبهة؛ إذ قد يكون هذا الخنجر هناك اتِّفاقًا، وهب أنها تعمَّدت قتلي، فهل من المستحيل أن تندم وتتوب؟
فأدرك عبيد الله غرض يزيد، واستصوب رأيه فقال: لقد أصاب مولانا، والرأي عندي أن نبعث إليها من يسألها عن هذا الخنجر وسبب وجوده معها، فإذا أقرت بجريمتها عنَّفها وحرَّضها على التوبة والتماس العفو منك، فإن فعلت بقيت وإلا فالأمر لك.
فقال يزيد: نعم الرأي هذا، ولكنني لا آمَن أن أعهد في هذه المهمة إلى سواك لعلمي بحكمتك ودهائك.
فلم يكد عبيد الله يسمع ذلك حتى أسرع إلى الغرفة التي كانت سلمى فيها، وكانت لما نزلت إلى تلك الغرفة والعجوز معها، ولم تجد هناك شيئًا من معدات الحمام أدركت أن أمرها لم يبقَ مكتومًا، وأنها إنما سيقت إلى هناك لأمرٍ يوجب الخوف، فلم تعد تعبأ بشيء وقد يئست من الحياة. ولولا تذكرها عبد الرحمن لما ترددت لحظة في الانتحار، وكانت العجوز أيضًا مندهشة ولم تفهم معنى هذا الانقلاب، ولم يستقر بهما المقام هناك حتى جاء ابن زياد وقرع الباب فخرجت له العجوز، فقال لها: أين سلمى؟
قالت: وماذا تريده منها؟
قال: أريد أن أبلغها أمرًا من أمير المؤمنين.
قالت: هي هنا، وأشارت إلى داخل الغرفة.
•••
دخل عبيد الله وقد خبَّأ الخنجر تحت ردائه، وكانت سلمى لما سمعت صوته تطيَّرت وأرخت النقاب على رأسها، فلما أقبل عليها ورأى جمالها قال في نفسه: حرام أن يُمس هذا الجسم بسوء، فتلطَّف في الكلام وقال: لقد جئت من قبل أمير المؤمنين أسألك عن أمرٍ أرجو منك أن تجيبيني عنه بالصدق والصراحة.
فظلت سلمى ساكتة مطرقة، ولكن قلبها اشتد خفقانه، فلما لم تُجب مدَّ عبيد الله يده إلى جبيه وأخرج الخنجر وقال لها: أتعرفين هذا الخنجر يا سلمى؟
فلما رأت الخنجر تحققت فشلها وأيقنت أنها ذاهبة ضحية جرأتها، فامتقع لونها وظلت مطرقة لأنها لم تجد جوابًا.
فاستبشر عبيد الله بسكوتها خيرًا وقال لها: يظهر أنك نادمة على تهجُّمك في مثل هذه الحال، والعاقل من رأى العبرة فاعتبر. أمَا كفَاك ما رأيت من فشل عبد الرحمن وطيشه حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة، ولا ريب أنك إنما أقدمت على ذلك بإغراء من بعض الجهال، فإن من كان عنده ذرَّة من العقل لا يفعل فعلتك. أيطلبك الخليفة لتكوني عروسًا له فتتعمدي قتله وأنت تعلمين أن حوله الجند والرجال؟! فإذا قلت أنك عالقة بذلك الشاب الجاهل فاعلمي أنه قُتل وأصبح في عداد الأموات منذ ساعتين.
ولم يكن عبد الرحمن قُتل بعدُ، ولكن عبيد الله ظن يأسها منه يقرِّب رضوخها، لكنه لم يكد يتم هذا القول حتى شهقت سلمى شهقة أجفل لها عبيد الله وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وملكها اليأس والأسى على حبيبها، ولذهاب آمالها أدراج الرياح.
فلما سمعها عبيد الله تبكي ظنها ندمت على ما فرط منها، فجلس بجانبها على وسادة وقال مترفقًا: لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، وإذا كنت نادمة على ما فرط منك فأنا أتوسط في العفو عنك لدى أمير المؤمنين، وأظنه يعفو.
فتوقفت عن البكاء، ولبثت صامتة، ثم تزحزحت من مكانها لتبتعد عن عبيد الله وقد تحول خوفها إلى غضب، وأصبحت بعد سماعها خبر موت عبد الرحمن لا تبالي الحياة بل تتمنى الموت، فحمل سكوتها محمل القبول وقال لها: وأنا أضمن عفو الخليفة عنك إذا أقررت بذنبك ولعنت أبا تراب.
فلم تطق سلمى صبرًا على ما سمعت، ورفعت رأسها وقالت: اغرب يا ابن زياد عن وجهي.
فقال وهو يمازحها: وهل ترين أن أبعث أمير المؤمنين لتأخذي العفو منه.
قالت: ألا تزال تذكر العفو، وممن أطلبه؟ أمن يزيد بن معاوية ضارب الطنابير ومعاقر الخمور؟! وعلامَ أطلب العفو؟ ألكي أبقى حية وأنت تقول إنكم قتلتم عبد الرحمن؟! آه من ظلمكم وعتوِّكم! قتلتم عبد الرحمن وجئتم تلتمسون بقائي؟! اقتلوني فليس لي مأرب في الحياة بعد الذين ماتوا قبلي. قالت ذلك وقد اختنق صوتها وهي تتجلَّد ولا تريد أن يبدو الضعف عليها، وعبيد الله يعجب بجرأتها، وكان يختلس النظر إلى وجهها من خلال النقاب وهي تتكلم فسُحر بماء عينيها وملامح فمها، وهمَّ بمخاطبتها فرآها عادت إلى الكلام فقالت: ثم أنتم تجعلون لعن علي شرطًا للعفو، وأن عليًّا لأولى الناس بالفضل، دعوني من عفوكم وألحقوني بعبد الرحمن، ألحقوني به، اقتلوني، آه يا عبد الرحمن! قتلوك قتلة الصالحين! ولكن لك أسوة بأبي. ثم خنقتها العبرات.
فأجابها عبيد الله وهو يخفف عنها: يظهر أنك لم تفهمي حقيقة حالك، إنك متعمدة قتل الخليفة، وهو إنما بعث لأقتلك فأشفقت على شبابك وأرادت الإبقاء عليك، فهل هكذا يكون جوابك؟!
قالت: لا جواب عندي غير هذا. إذا كنت آتيًا لقتلي، فاقتلني، إن القتل يريحني، اقتلوني.
فقطع ابن زياد خطابها وقال: أتفضلين القتل وخسارة الدنيا والآخرة على أن تلعني عليًّا أو على أن تستغفري لذنبك، وأنا واثق بأنك لم تقدِمي على هذا المنكر إلا بإغواء بعض الناس و …
فقطعت كلامه وقالت: لم يُغوني أحد، ولكنني تعمَّدت قتله انتقامًا لأبي وابن عمي، وسعيًا في مصلحة المسلمين، ولم أقدِم على هذا إلا وأنا عالمة بما يهددني من خطر القتل، ولكني لم أوفق، فاقتلني، فما أنا خير ممن قتلتموه قبلي.
فقال عبيد الله: إني أنصحك لوجه الله أن تُقلعي عن هذا العناد؛ فلا خير فيه، وقد أصبحت وحيدة لا نصير لك، فأشفقي على شبابك وأطيعيني، إني والله أضنُّ بهذا الوجه المليح أن يعفِّره التراب.
قالت: لا تضنَّ بشيء لا يضنُّ به صاحبه، اقتلني أو أعطني هذا الخنجر فأغمده في أحشائي. قالت ذلك ومدت يدها إلى الخنجر، فأخفاه عبيد الله، وتحقق أن الكلام معها لا يجدي فتركها وعاد إلى يزيد.
•••
وكان يزيد في انتظاره على مثل الجمر وهو يرجو أن ترجع سلمى عن عزمها وتعتذر وتبقى عروسًا له، فلما عاد عبيد الله قص عليه ما بدا منها فعاد يزيد إلى غضبه وقال: قبحها الله من خائنة منافقة.
فلما رآه ابن زياد في هذه الحالة قال له: ماذا يرى مولاي أن نفعل بها؟
قال: أرى أن أقتلها حالًا بهذا الخنجر.
قال: إنها تستوجب القتل، ولكني لا أرى أن تلوث يدك بدمها ولا أن تجعل أحدًا من أهل القصر يعلم ذلك.
قال: وكيف إذن؟ أأعفوا عنها؟!
قال: إذا عفوت عنها كان ذلك من حلمك وسعة صدرك، وكذلك كان يفعل أبوك رحمه الله، فقد كان يسمع الإهانة من نساء بني هاشم ورجالهم فيسكت عنها وهو قادر على الانتقام، وكثيرًا ما كان يقرِّبهم ويعطيهم العطيات، وهو دهاء امتدحه العقلاء عليه، وبه كان تأييد سلطانه، فإذا رأيت أن تترفع عن الانتقام من هذه الفتاة وتخرجها من قصرك اتِّقاء شرها فعلت ما هو جدير بابن معاوية بن أبي سفيان.
قال: أتطلب مني الإفراج عن هذه الخائنة بعد أن تحققت عزمها على قتلي؟! لا أظن معاوية كان يفعل ذلك في مثل هذه الحال.
قال: إذا لم يكن السكوت عنها ممكنًا فافعل ما بدا لك، ولكنني لا أريد أن يعلم أهل القصر أن هذه الفتاة تجرأت على الفتك بالخليفة لئلَّا يهون الإقدام على مثله في عيون الآخرين.
قال: ما العمل إذن؟
قال: افعل كما كان يفعل أبوك، فإذا لم يكن سبيل إلى العفو بالحلم الواسع فهناك سبيل القتل بالعسل. ألا تذكر طبيبه النصراني ابن آثال؟ لقد كان أبوك يستخدمه في قتل أعدائه بالعسل المسموم.
قال: سمعت ذلك ولكنني لم أتحققه.
قال: ألا تذكر لما أراد أبوك رحمه الله أن يبايعك في حياته ما كان من أمر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؟
قال: وأي شيء تعني؟
قال: أعني أن أباك لما أراد أن يعهد في الخلافة إليك من بعده جمع أعيان أهل الشام إليه وقال لهم: إني قد كبرت سني ورقَّ جلدي ودقَّ عظمي واقترب أجلي، وأريد أن أستخلف عليكم، فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودسَّ ابن آثال الطبيب الذي ذكرته فسقى عبد الرحمن هذا قدحًا من العسل مسمومًا، فمات والناس يحسبونه مات بعلَّة، وفعل ذلك أيضًا بالأشتر، وكان علي بن أبي طالب قد أنفذه واليًا على مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر، فأرسل أبوك إلى دهقان العريش من قال له: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة، فسقاه السم في العسل، فمات الأشتر وخلصنا من شره، وهكذا فعل أبوك أيضًا بالحسن بن علي لما رأى ما كان من حاله في أمر الخلافة، فبعث إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن بمن قال لها: «إن قتلت الحسن زوجتك يزيد.» فدسَّت له السم، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى أبيك تطالبه بك فأجابها: «إني أضن بيزيد». وقد مات في أيام أبيك كثيرون من أكابر الناس بهذه الحيلة، وكان ابن آثال هو الذي يركِّب لهم السموم ويمزجها بالعسل، فهل كان أبوك عاجزًا عن قتلهم بالسيف؟ كلا، ولكنه كان يرى السم أهون سبيلًا، حتى قال: «إن لله جنودًا من عسل.» فإذا كان لا بدَّ من قتل هذه الفتاة فما يمنعك من أن تفعل فعل أبيك؟ وما هي إلا جرعة تشربها فتموت، والناس يحسبونها ماتت بمرض أو نحوه، وهذا طبيبك أبو الحكم عالم بأنواع الأدوية، وله وصفات مشهورة، وكثيرًا ما كان أبوك أيضًا يستطبُّه ويعتمد عليه في تركيب العقاقير لمثل هذه الغاية.