سلمى لم تمت
فلنترك عامرًا وعبد الرحمن في طريقهما إلى مكة، ولنعد إلى دمشق لنرى ما حدث لسلمى بعد أن أمر يزيد بتجريعها العسل، وذلك أن الخليفة لما افترق عن عبيد الله والطبيب وسار يلتمس فراشه مر بالحجرة التي كانت سلمى فيها، وكانت العجوز واقفة بالباب تنتظر أمره، فأشار إليها أن تنقلها إلى المقصورة وتحتفظ بها هنالك.
وكانت سلمى بعد خروج عبيد الله بن زياد من عندها قد أيقنت بفشلها وتحققت وقوعها في الشَّرك. ولكنها أصبحت لا تبالي بالحياة بعد ما سمعته عن مقتل عبد الرحمن، على أنها كانت تود أن تنتقم له قبل موتها، وراجعت ما مر بها من الأهوال في تلك الليلة فرأت أنها لو أطاعت يزيد وسايرته فيما التمسه منها من لعن علي لتمكنت من الفتك به، ولكنها رأت تلك المداهنة فوق طاقتها وعلى غير السجايا التي فُطرت عليها، فلم تندم على ما صنعته.
وفيما هي تردد التصورات في ذهنها، دخلت العجوز واستأذنتها في اصطحابها إلى المقصورة، فأطاعتها وهي لا تبالي بما هنالك من الموت والحياة، فمشت في أثرها حتى صعدتا إلى المقصورة، فظلت العجوز بالباب، ودخلت سلمى وجلست على الفراش، ونظرت إلى ما بين يديها من آنية الخمر والشموع والفاكهة، وتذكرت جلوس يزيد إلى جانبها وما دار بينه وبينها من الحديث، وكيف أنها بعد أن كادت تصيب مرماها منه عادت العائدة عليها. ثم تذكرت حبيبها مقتولًا يتخبط في دمه فاقشعرَّ بدنها، واشتدت حيرتها.
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام على السلم فخفق قلبها خفوقًا سريعًا ولبثت تترقب ما يكون، وإذا برجل دخل المقصورة وعليه العباءة والعمامة وفي يده قدح، وكان هو الطبيب، فلما رأته أطرقت وظلت صامتة، فدنا منها وقدم لها القدح وهو يقول: اشربي هذا العسل بأمر أمير المؤمنين؛ فإنه قد ينعشك.
فأدركت أنه مسموم فتناولته ويدها ترتعش وقالت: سأشربه وأنا أعلم أنه سم قاتل.
قال: كيف تقولين إنه سم وأنا أقول لك أنه عسل؟!
قالت: أنا أعلم أنه سم، وأرجو أن يكون كذلك؛ لأنه إذا أماتني أراحني من هذه الحياة، فقل إنه سم ليطمئن قلبي، واعلم أني لاحقة بأبي وابن عمي على عجل. قالت ذلك وخنقتها العبرات.
فتأثر الحكيم بكلامها، ولكنه كان قد تعوَّد إخفاء شعوره فتظاهر بالاستخفاف وقال: اشربيه مهما يكن من أمره؛ إذ لا بدَّ من شربه.
فرفعت يدها وهي قابضة على القدح وقالت: إني أشرب هذا السم باسم الله، وأرجو أن يلحقني بالإمام علي وأن يقربني من أبي وابن عمي، ثم نظرت إلى القدح وقالت: بورك فيك من دواء! إني أشربك باسم الحق والعدل، وأطلب من الله أن ينتقم لي ولأبي ولابن عمي من ذلك الظالم. وأدنت القدح من فمها ثم أرجعته وقد غلب عليها الضعف ونظرت إلى ما حولها كأنها تودع الدنيا وما فيها، ثم قالت: هلا أريتموني عبد الرحمن ولو مقتولًا؟ بالله أروني إياه قبل موتي لأبكيه وأندبه. أيموت عبد الرحمن على قيد أذرع مني ولا أراه؟ أهذا عهدي بك يا عبد الرحمن؟ أين أنت وكيف قتلوك؟ هل قتلوك بالعسل أم بالسيف؟ تعالَ وانظر خطيبتك وهي تتجرع السم بلذة وشوق لأنه سيجمعها بك. هل علمت قبل موتك أنك ستلاقيني عاجلًا؟ هل أنبئوك قبلما قتلوك بأنهم سيقتلونني الآن؟ ليتهم أخبروك لتتأسَّى بقرب لقائي.
ثم وقفت وقد هاجت عواطفها وتبدلت حالها وظهر الهياج في عينيها وقالت: هل قتلوك حقيقة؟ لا. لا. لم يقتلوك. أظنهم أشفقوا على شبابك؟ ولكنهم قوم طغاة لا يعرفون الشفقة، لولا ذلك ما استهانوا بالنبي وقتلوا نخبة الصالحين من أهل بيته، فلا غرو إذا قتلونا. ثم سكتت قليلًا وقالت: ترى أين أنت يا عماه؟ هل علمت بمصيري؟ وهل تذكر وصيتي؟ ماذا يكون من أمرك إذا سمعت بمقتلي ومقتل عبد الرحمن؟ هل أنت ذاكر وعدك؟ امضِ إلى تربة أبي وابكِه عني واسكب عليه الدموع ومزق الضلوع، بل ابكِ الإسلام وأندب المسلمين لما أصابهم من الحيف بخروج الخلافة إلى هؤلاء الظالمين.
وكانت تتكلم والطبيب واقف لا يبدي حراكًا، وقد ظل صامتًا وهو ينظر إليها ويعجب بشهامتها وقوة عارضتها.
أما هي فأدنت القدح من فمها ثانية ونظرت إلى ما فيه، ثم التفتت إلى الطبيب وقالت: أخشى أن يكون السم قليلًا لا يكفي لقتلي فأتعذب فإذا كان قليلًا فأضف إليه سمًّا آخر.
فقال الحكيم بهدوء: اشربي يا بنية ولا تطيلي الكلام، فقد نفد الوقت وفات الأجل الذي ضربه الخليفة لي.
قالت وهي تهز رأسها وتحرِّق أسنانها: أتخاف هذا الظالم ولا تخاف الله؟! أتركِّب العقاقير القتَّالة لقتل الأبرياء ثم تخاف من لوم يزيد إذا تأخرت في قتلهم؟! ولكنكم تضافرتم على الظلم وتحالفتم على الخيانة، ويل لكم من مشهد يوم عظيم، في مكان لا ينفعكم فيه سلطانكم ولا جنودكم. يوم تأتي الساعة وينفخ الصور وتقفون بين يدي الديان العظيم.
فقطع الطبيب كلامها وقال: لا تكثري الكلام واشربي القدح عاجلًا.
فقالت: إنى أشربه ولا أخاف منه؛ لأنه ترياق لمصابي، ولكني أريد أن أرى عبد الرحمن، فأين هو؟ آه! قتلتموه. نعم قتلتموه، ولكن ماذا فعلتم بذلك الجسد الطاهر: هل مثَّلتم به؟ وهل دفنتموه؟ آه إني أرى أعضاءه تختلج ودمه يجري، وكأني أسمع شخيره في أذني. ترى هل ذكرتني يا عبد الرحمن قبل موتك؟ هل ذكرت سلمى وتمنيت أن تراها قبل موتك؟ يا ليتهم قتلونا معًا ودفنونا في قبر واحد فتمتزج دماؤنا وتختلط عظامنا، ويا ليتهم يدفنوننا بجانب قبر أبي، فنشكو له ما لقيناه وما يقاسيه المسلمون وما يتوقعه الإسلام من الفوضى، ولكننا سنلتقي به عمَّا قليل في مكان لا وشاية فيه ولا ظلم ولا رياء، لقد أزفت الساعة وآن لي أن ألقاهما. أستودعك الله أيها العالم الفاني، أستودعك الله أيتها الحياة الزائلة، إنك مملوءة شرًّا، ولا عدل فيك ولا حق. ثم أدنت القدح من فمها وهي تقول: أشرب هذا الكأس باسم الله. وشربته جرعة واحدة ويدها ترتجف، ثم استلقت على الفراش وهي تتلو الفاتحة وتردد اسم عبد الرحمن.
•••
لم تمضِ برهة حتى غابت سلمى عن الدنيا وشفاها ترتجفان كأنها تخاطب عالم الأرواح، وقد امتقع لونها وبردت أطرافها، فخرج الطبيب وأغلق الباب، ونزل، وكانت العجوز قد نزلت ساعة دخوله.
أما هو فظل سائرًا إلى غرفة عبيد الله بن زياد وكان في انتظاره على مثل الجمر، فدخل عليه وأغلق الباب وراءه، فقال له ابن زياد: ماذا فعلت أيها الطبيب؟
قال: لقد سقيتها العسل.
قال: وهل فعلت ما وعدتني؟
فضحك وقال: وماذا وعدتك به؟
قال: ألم أطلب إليك أن تضع بدل السم مخدِّرًا، وجعلت لك جعلًا على هذا؟
قال وهو يضع يده على كتف عبيد الله: نعم إني وعدتك بذلك، وهكذا فعلت، فالفتاة لم تمت، ولكنها نائمة، ومد يده إلى جيبه وأخرج قارورة وقال: وإليك هذا العقار في هذه القارورة فإذا سقيتها إياه أفاقت، ولكن احذر أن تبقيها هنا بعد يقظتها فيعلم بها أمير المؤمنين وتدور الدائرة عليَّ.
قال: لا تخف، وسأخبر الخليفة بموتها وأبعث من يحفر قبرها، ثم أبعثها إلى مكان خارج المدينة وهي نائمة كأنها محمولة إلى القبر، ومتى استفاقت أبقيتها خارج دمشق حتى أسافر فأحملها معي ولا يعلم بها أحد سواي، وأنا لم أود استبقاءها إلا أملًا في إرجاعها عن غيِّها. فإذا فعلت ذلك رضي أمير المؤمنين عنِّي وعنك، وشكرنا على صنيعنا؛ لأنه فتن بجمالها، ولولا غضبه لم يأمر بقتلها، ولا شك في أنه إذا أصبح ندم على ما فعل. أما أنت فاكتم الأمر ولك مني فوق ما أعطيتك.
فشكره الطبيب وانصرف، وكان عبيد الله بعد أن أمر يزيد بقتل سلمى قد خلا بالطبيب وأغراه بالمال الكثير لكي يبدل بالسم مخدرًا، ثم يحتال لإخراج سلمى إلى مكان منفرد بدلًا من دفنها، وهناك يحاول استرضاءها لعلها تقبله زوجًا لها، وكان ما زال عالقًا بها.
فلما أخبره الطبيب بما فعله، سار توًّا إلى يزيد وأنبأه بموتها فقال له: ابعث من يدفنها قبل طلوع النهار، فأمر اثنين من رجاله أن يكفِّناها وبعث آخرين لحفر القبر، وأوصى الأولين بأن يحملاها إلى مكان منفرد خارج المدينة حالًا، وتظاهر بأنه أرسلها إلى المقبرة.
وعاد اللذان حفرا القبر قبل الفجر مذعورين لما رأياه من خروج عامر وعبد الرحمن وهما يحسبانهما عفريتين، فقصَّا الخبر على عبيد الله، فأمرهما أني يقصَّاه على الخليفة لعله يستطيع الاستعانة بذلك إذا علم الخليفة ببقائها حية فيما بعدُ، ففعلا.