إلى الكوفة
في صباح اليوم التالي أبطأ يزيد في الخروج إلى المجلس؛ لأنه قضى ليله ساهرًا فنام في الصباح ولم يستفق حتى الظهر، فجاء إلى المجلس وعبيد الله غائب، ولم يكد يستتب به المجلس حتى دخل عليه الحاجب يقول: إن بالباب رسولًا من الكوفة.
قال: فليدخل.
إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، من عبد الله بن مسلم. أما بعد: اعلم يا أمير المؤمنين أن الناس في الكوفة والبصرة قد ضعُف أمرهم بضعف أميرهم النعمان بن بشير؛ فقد ولَّيته الكوفة وهو رجل ضعيف، أو هو يتضاعف، حتى كاد الأمر أن يفضي إلى أعدائنا. فإذا كان لك حاجة إلى الكوفة فأرسل إليها رجلًا قويًّا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، وتفصيل الخبر أن أهل الكوفة لما بلغتهم وفاة معاوية رحمه الله، وامتناع الحسين وعبد الله بن الزبير عن البيعة، أرجفوا بأمير المؤمنين واجتمعت شيعة علي في منزل أحد كبارهم، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه كتابًا قالوا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليك، فإننا نحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي اجترأ على هذه الأمة فابتزَّها أمرها وغصبها فيأها وتأمَّر عليها بغير رضًا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وسيروا هذا الكتاب إلى الحسين في مكة، وبعثوا إليه كتبًا أخرى في مثل ذلك، وكان جملة ما أُرسل من هذه الكتب نحوًا من مائة وخمسين صحيفة، وأرسلوا إليه رسلًا عديدين فجاءهم من الحسين كتاب قال فيه: «أما بعد: فقد فهمت كل الذي قصصتم، وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليَّ أنه اجتمع رأي ملَّتكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم إليكم وشيكًا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والقائم بالقسط، والدائن بدين الحق. والسلام.»
وقد حدث مثل ذلك يا أمير المؤمنين في البصرة أيضًا، وقد جاء مسلم إلى الكوفة بعد أن قاسى في طريقه عذابًا عظيمًا من العطش، ونزل بدار أحد شيعة الحسين، وصار الناس يختلفون إليه وهو يقرأ عليهم كتب الحسين فيبكون ويعدونه بالقتال معه، فلما بلغ النعمان بن بشير صعد المنبر وقال: «أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيهما تهلك الرجال وتُسفك الدماء وتغصب الأموال، وإني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لم يثب عليَّ، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف والظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولا يكن لي منكم ناصر ولا معين. أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر مما يريد به الباطل.»
فلما رأينا كلامه لا يفيد القطع ولا يدل على الحزم، قام إليه واحد منَّا وقال له: إن هذا لا يصلح إلا الغشم، وأنه رأي المستضعفين، فما كان جوابه إلا أن قال: «لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليَّ من أن أكون من الأعزِّين في معصيته.» فزادنا قوله خوفًا منه، فكتبت هذا ليكون أمير المؤمنين على بصيرة، ويعلم أن ابن بشير لا يصلح لهذا الأمر، فأرسل إلينا من يعمل مثل عملك والسلام.
فلما قرأ يزيد الكتاب اضطرب وتشاءم مما ارتكبه بالأمس، وخُيِّل إليه أنه أذنب بقتل سلمى وهي فتاة، وندم على فعله وأراد صرف مجلسه ليخلو ببعض خاصته فقال: على بركة الله، فعلم أرباب المجلس أنه يريد صرفهم، وكانت تلك عادته كلما أراد ذلك، فانصرفوا، ثم بعث على سرجون، وهو رجل رومي ذو دهاء وحكمة كان معاوية يعتمد عليه في شئونه ويستشيره في أموره حتى جعله كاتبه، فلما مات معاوية ظل يزيد على الثقة به، فلما جاءه أطلعه على الكتاب فأطرق هنيهة ثم قال: أرأيت إذا نشر معاوية هل تأخذ برأيه؟
قال: نعم.
فمد سرجون يده إلى جيبه وأخرج كتابًا وقال: خد هذا.
فأخذه يزيد وقرأه، فإذا هو عهد لعبيد الله بن زياد يولِّيه به الكوفة.
فقال يزيد: ما هذا؟
قال: هذا رأي معاوية، إنه مات وقد أمر بهذا الكتاب.
فاستحسن يزيد الرأي، وعزم على أن يولي ابن زياد الكوفة والبصرة، فنادى الحاجب وسأله عن عبيد الله، فافتقده في القصر فلم يجده، فصبر يزيد حتى جاء به، ودخل وسلَّم، ثم دفع إليه كتاب عبد الله بن مسلم، ولم يقل شيئًا.
فتناول ابن زياد الكتاب وقرأه حتى أتى على آخره وسكت مطرقًا، ثم دفع إليه يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة، فلما قرأه قبَّله ووضعه على رأسه وقال: إني صنيعة أمير المؤمنين ويده التي يحارب بها وسهمه الذي يرمي به أعداءه.
فقال له: سر إلى الكوفة وأصلح أمورها، وامنع أولئك الناس منها، وكن لي كما كان أبوك لأبي.
فقال: سمعًا وطاعة، وقد سره ذلك لتمكنه من الخروج من دمشق عاجلًا، فيخلو له الجو لاسترضاء سلمى، وكان قد بعث بها خفية قبل الفجر إلى بيت منفرد في أطراف الغوطة كما تقدم، ثم سار هو في الصباح إليها وسقاها العقار الذي أعطاه إياه الطبيب وانزوى في مكان هناك لمراقبتها، فلما أفاقت ورأت النور ظلت برهة مبهوتة لا تدري ما تقول، وعبيد الله لا يخاطبها، وفي اعتقاده أنها إذا أفاقت ورأت نفسها حية تعترف له بالجميل، فلما أفاقت تبادر إلى ذهنها لأول وهلة أنها بُعثت من الموت وأنها في العالم الثاني فصاحت: أين عبد الرحمن؟ أين هو؟ أروني إياه، هل أنا في النعيم؟ عبد الرحمن! عبد الرحمن!
فضحك عبيد الله، ولما سمعت ضحكته التفتت إليه وهي تفرك عينيها بأناملها، وحالما رأته صاحت: أنت هنا يا لئيم! إني إذن في الجحيم. اذهب من وجهي.
فدنا عبيد الله منها وأمسك بيدها وقال: أنت في هذه الدنيا يا حبيبتي، وقد استبقيتك شفقة عليك.
فجذبت يدها من يده وصاحت: اخسأ يا نذل، إني لا أريد الحياة إلا إذا كان عبد الرحمن فيها. اقتلني اقتلني. قتلك الله أشفق علي واقتلني.
فعذرها لتهيُّجها وقال لها: إني أعاملك بما تستحقينه لأنك جاهلة، وسأصبر عليك ريثما تملكين روعك، وأنت أسيرة بين يدي لا ينجيك من غضبي غير الرضا والإذعان، فامكثي هنا حتى ترجعي إلى رشدك أو تموتي. قال ذلك وتركها، وأمر الرجلين أن يحرساها ريثما يعود.
فلما رجع إلى دمشق وقدم له يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة كما قدمنا واستبشر بنيل مرامه على مهل، وعلل نفسه باسترضائها في أثناء الطريق إلى الكوفة.
•••
قضى عبيد الله بضعة أيام يتأهب للمسير وأعوانه يهيئون الأحمال خارج دمشق، وفي جملتها هودج حمل سلمى فيه على جملين، وأقام عليها خادمين يحرسانها ويقدمان لها الطعام والماء، وكانت في بادئ الرأي لا تقبل طعامًا ولا شرابًا التماسًا للموت جوعًا وعطشًا حتى نحل جسمها وامتقع لونها، ولكن الحياة عزيزة لا يتعمد المرء فقدها عن رويَّة، ولكنه إذا أصيب بضنك شديد قد يؤثِر الموت على الحياة في حال غضبه، فإذا طال اصطباره فإنه يحنُّ إلى البقاء ويلتمس لحنينه عذرًا يحبب الحياة إليه، فلما مضى على سلمى يومان بلا أكل ولا شرب ورأت الموت لا يتهيأ لها على هذا السبيل إلا بعد العذاب الطويل، عادت تلتمس البقاء وعذرها في التماسه أن تعمل على الانتقام من سبيل آخر لا خطر فيه على حياتها.
وكانت قد علمت من قرائن الأحوال أنهم سائرون بها إلى الكوفة، وأن الحسين سائر إليها أيضًا، والناس في الكوفة على دعوته، فتوسمت في البقاء خيرًا، وأملت أن تنتقم لأبيها وخطيبها، فجعلت تتناول من الطعام والشراب ما تسد به رمقها.
وكان عبيد الله في أثناء مسير الركب يتردد على سلمى، تارة يستعطفها، وطورًا يهددها، وآونة يؤملها وأخرى يخوفها، وهي ترفض رفضًا باتًّا، وكثيرًا ما كانت تُسمعه كلامًا مؤلمًا، وهي تعلم أن الجفاء لا يجديها نفعًا، وأنها لو عاملته بالحسنى واستخدمت اللين والدهاء لنالت بغيتها. ولكنها لم تكن تستطيع التغلب على أنفتها، وكانت من الجهة الأخرى تخاف إذا لاينته أن تُطمعه فيما تخافه وتنفر منه.
قضت في مثل ذلك خمسة أيام والركب سائر في الصحراء، في أرض لا عمارة فيها ولا مياه إلا بعض الآبار، وسلمى تشغل نفسها في أثناء الطريق بالإشراف من الهودج على ما يحيط به من السهول القاحلة والرمال الحمراء، على أنها كثيرًا ما كانت تتحاشى شقَّ الستور فرارًا من الرياح الحارة وما تحمله من الرمال.
وفي صباح اليوم الخامس. اخترقوا بقعة منبسطة أدهشها منظرها حتى نسيت ما هي فيه، وكانت مساحة البقعة بضعة أميال، وقد غطتها أبنية خربة وفيها الجدران العالية والأساطين الشامخة والأسوار الغليظة بين متهدم ومتداعٍ، وقد استولى عليها السكون وتمكن منها الخراب كأنها جثث بالية أو عظام أكلها الدود، على أن حجارتها كانت تنطق بأجلى بيان عمَّا كان هنالك من العظمة وشدة البطش في قديم الزمان.
تلك خرائب تدمر الطائرة الصيت، تدمر العظيمة التي زهت في أوائل النصرانية وسار بذكرها الركبان، وقد كانت واسطة عقد التجارة بين العراق والشام، حتى إذا تداعت إلى الخراب جعلوها محطًّا للقوافل فيما بين هذين البلدين.
عمرت تدمر في أوائل القرن الثاني للميلاد على أثر سقوط دولة الأنباط شمال جزيرة العرب وغربيها، فاستولى عليها الرومان سنة ١٣٠م، فازدهرت تجارتها، وكانت مستقلة بشرائعها وأحكامها، يتولى النظر في شئونها مشيخة من أهلها، ومد الرومان بينها وبين دمشق طريقًا تسير فيه المركبات وعليها أصناف التجارة من الأنسجة والآنية والمئونة، وبنى التدمريون في مدينتهم أبنية ينسب إليها، أقاموها على الأساطين المنحوتة وفوقها التماثيل من الحجر الأبيض المحمر. وكان يقطع المدينة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي طريق واسع في أوله قوس نصر بجانب هيكل هائل يعرف بهيكل الشمس أشبه شيء بهيكل بعلبك، وطول هذا الطريق ألف وثلاثمائة متر، تحفُّ به الأعمدة من الجانبين في رواقين عدد أساطينهما ألف وخمسمائة، ولونها أبيض مائل إلى الحمرة، وفي الأروقة مساطب مستطيلة كانوا يسندون إليها الأحمال الواردة إلى تدمر من أقاصي المعمورة وفيها أحمال الحرير والديباج الدمشقية، والآنية اليونانية، وجلود الماشية المحمولة من جزيرة العرب على جمال يسوقها بدو من أهل الحجاز، وأحمال من جرار صنعت بفلسطين، وكانت أسواق تدمر في ذلك العهد تعج بالمارة عجيجًا، وهم أخلاط من الأمم المتمدنة، وفيها النخاسون من مصر وآسيا الصغرى، والتجار من الفرس والشام وأرمينيا، والمرابون والصيارف من اليهود. فضلًا عن الباعة الذين يحملون سلعهم على أكتافهم ينادون عليها في الدروب والحارات، فتختلط أصواتهم بنداء باعة الملح، الذي كان من أعظم تجارات هذه المدينة.
ولو أتيح للقارئ أن يزور تلك المدينة في أيام مجدها على عهد الملكة زينوبيا في القرن الثالث للميلاد، لبهره ما كان فيها من دلائل الترف والبذخ، وعلم من الفرق البعيد بين قصورها وأكواخها أن الثروة كانت منحصرة في فئة من أهلها، وأن تمدنها كان شرقيًّا لا رومانيًّا ولا يونانيًّا، وكان التدمريون تشهبوا بقدماء المصريين في استبقاء مجدهم بعد موتهم، فبنوا لأنفسهم قبورًا كالقصور شادوها بالأحجار الهائلة في أكناف المدينة فكان مدينة أخرى سكانها من الأموات، ولو بعث التدمريون بعد ذلك ببضعة قرون لرأوا قصورهم أشد وحشة من قبورهم.
اشتهرت تدمر في أواسط القرن الثالث للميلاد بالملكة زينوبيا، فطمع فيها الرومان في الغرب، والفرس في الشرق، وقامت الحب سجالًا بينهما حتى تغلب الرومان فملكوها، ولكنها لم تدم لهم ولا لغيرهم، فلم تمر بها أجيال حتى أصبحت في زوايا الإهمال، وتحولت قصورها إلى خرائب وصارت هياكلها جحورًا للضب والحية وأوكارًا للطير، ونعق على منابرها البوم بدل خطابة الخطباء ووعظ الوعاظ.
ولو عقل ابن زياد يوم أشرف على تلك الخرائب، وعرف تاريخ تلك الآثار لعلم مصير الإنسان، وأنه لا يبقى له من مجده إلا ما كسبت يداه من خير أو إحسان، وقال مع الإمام علي: «الدنيا دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن.» ولخجل ما ارتكبه هو وولي أمره من ضروب العسف، وهان عليه أن يطلب سراح أسيرته شفقة على صباها ورحمة بما في قلبها من لوعة الحزن على أبيها وخطيبها.
ولكنه جهل ذلك أو تجاهله، واندفع في تيار الشهوات، ولم يزدد في تلك الخلوة إلا قسوة، ولم يعد يصبر على نيل بغيته حتى يصل إلى الكوفة، فأمر بحط الرحال ونصب الخيام، فنصبوها على مرتفع يشرف على تلك الخرائب الناطقة وفيها بقايا الأسواق والهياكل والقصور والقبور، وأمر أن يقيموا هناك يومًا كاملًا يستريحون فيه ثم يرحلون، وأناخ هودج سلمى في مكان منفرد عن معسكره بقرب هيكل الشمس، وشغل أعوانه بإنزال الأحمال ثم مشى هو إلى سلمى وكانت جالسة كئيبة تتأمل في حالها وتصبِّر نفسها إلى بلوغ الكوفة، ولم يخطر ببالها ما نواه ابن زياد، فلما وصل إلى خيمتها أمر الحراس أن يبتعدوا، ثم دخل فوجدها جالسة على بساط وقد أثر السفر والتعب والحزن في جسمها فهزلت وامتقع لونها ورقَّت وجنتاها وذبلت عيناها وأصبح العبوس غالبًا عليها.
فلما رأت داخلًا قرأت الشر في وجهه فاستعاذت بالله، وكأنه أدرك خوفها فتلطف في سؤالها عن حالها فلم تجب، فقال لها: قومي يا سلمى واتركي الخيمة، وادخلي هذا القصر وتأملي في صنعه.
فأدركت أنها إذا امتنعت ساقها بالعنف فسايرته ومشت حتى دخلت الهيكل، فأعجبت بما رأته من سعته وارتفاع جدرانه وكثرة أساطينه، فإن مساحته كانت نحو مائتي متر مربع، وجدرانه من حجارة هائلة علوها سبعون قدمًا لا يزال معظمها قائمًا، وفي صحن الهيكل أساطين ضخمة متشامخة متراصَّة في صفوف متداخلة يزيد عددها على مائة وخمسين، عدا المتساقط والمتهدِّم.
فلما رأت نفسها في تلك الخربة الهائلة مع ابن زياد وليس معهما ثالث ارتعدت فرائصها وتحققت وقوع المحظورة، وكان الضعف قد تمكن منها ولم تعد تقوى على الدفاع، فاصطكَّت ركبتاها وعجزت عن المشي، فأسندت ظهرها إلى أسطوانة بجانبها حُجْر كبير جلست عليه وهي ترتجف، فأدرك عبيد الله حالها، فعمد إلى الرفق بها، فجلس إلى جانبها وهو يحاذر أن يلمسها لئلَّا تجفل وقال لها: أتعلمين يا سلمى أنك وحيدة في هذا المكان وأن حياتك بيدي، وأني نائل ما أريد ولو بلغ صراخك عنان السماء؛ إذ ليس من يسمع صوتك غير هذه الأحجار؟ فقد طالما نصحتك وأنت تدافعينني، ولقد عاملتك باللين واللطف حتى طفح الكأس وآن لك أن ترعوي، فما ضرك لو أقلعت عن جهالتك وأصغيت لنصيحتي وأطعتِني فتكونين زوجتي؟ وأنت تعلمين أني يد أمير المؤمنين وسيفه الذي يناضل به، وقد ولاني الكوفة والبصرة، فإذا عقلت وأطعتِني كنت سيدة نساء الكوفة، وإذا شق عليك لعن أبي تراب فلا أكلفك لعنه، وإنما أطلب إليك أن تقبلي اقتراننا فأعطيك ما تريدين وتعيشين معي في نعيم يتمناه الكثيرات.
وظلت سلمى ساكتة، فقال لها: أراك ساكتة، فهل سكوتك هذه المرة مثل سكوتك بالأمس في دار الخليفة؟ أم هو دليل على رجوعك إلى الصواب؟ ويكفيني برهانًا على ذلك أن تعطيني يدك فأقبلها. قال ذلك ومد يده إليها.
فلما سمعت كلامه ورأته يمد يده وقفت وتباعدت، ولكنها شعرت بالضعف وتحققت أنها إذا جافته فعل بها ما يشاء ولا تقوى على دفعه، على أن نفسها لم تضعف مثلما ضعف جسمها، فلما دنت يده منها دفعته وصاحت بأعلى صوتها: أتغتنم ضعفي يا عبيد الله وتستبدُّ بي، وتزعم أننا في خلوة لا يرانا فيها أحد؟ ألا تعلم أن الله يراك وهو قادر على إذلالك كما أذلَّ بناة هذه القصور وكانوا ملوكًا فأصبحوا ترابًا؟ خفْ من الله يا ابن زياد وأشفق على ضعفي.
فقال لها: لقد صبرت عليك كثيرًا، وأكثرت من الرفق بك حتى لم يبقَ مكان للصبر عندي، فاعلمي أنك واقفة بين الحياة والموت، فإذا أنت أطعتني حييت سعيدة مكرمة معززة، وإلا فإني أصلبك إلى هذه الأسطوانة ثم أطعنك بهذا الخنجر وأتركك طعامًا لطيور السماء. قال ذلك وأشار إلى خنجره.
فعظم الأمر على سلمى وغلب عليها اليأس وأيقنت بدنو أجلها فبسطت كفيها إلى السماء وصاحب بأعلى صوتها: إني أستجير بك يا رب العالمين، يا نصير المظلومين، أستجير لك من هذا الباغي الأثيم، فابعث إليَّ من لدنك من يأخذ بناصري وينقذني. أشفق اللهم على فتاة لا ذنب لها إلا الانتصار لنبيك والغيرة على أهل بيتك الطاهرين.
•••
وكانت سلمى تتكلم والصدى يدوي في تلك الخرائب، وهمَّ ابن زياد بأن ينتهرها فإذا بكلب ينبح بين الأساطين ونباحه يقرب نحوهما، ولم تمضِ برهة حتى دنا الكلب وإذا هو أسود كبير، فلما رأته سلمى علمت أنه شيبوب كلب الناسك فاستغربت وجوده في تلك الخرائب، ولم يكن عبيد الله أقلَّ استغرابًا منها. أما الكلب فوثب على عبيد الله وهو ينبح نباحًا شديدًا يدوِّي له المكان دويًّا عظيمًا، فاستأنست به وخُيِّل إليها أنه جاءه الفرج القريب.
أما عبيد الله فلما رأى الكلب واثبًا عليه استلَّ خنجره وطعنه في ظهره طعنة غاص بها النصل إلى نصفه، فعوى الكلب عواءً شديدًا من شدة الألم وانثنى مسرعًا حتى خرج من الهيكل.
والتفت عبيد الله إلى سلمى وقال: كأني بك قد استأنست بهذا الكلب وحسبته فرجًا جاءك من ربك، فها قد قتلته، وإذا بقيت على غيك ألحقتك به ومزجت دمه بدمك. قال ذلك والخنجر بيده والدم يقطر منه.
فقالت: أغمد خنجرك في صدري، وأرحني من رؤيتك.
قال: سأفعل ذلك بعد أن أتركك ساعة تستخيرين فيها نفسك.
قال ذلك وحل عمامته وربط بها أكتافها من الوراء وشدها إلى الأسطوانة، وتناول نقابها وقيد به رجليها، وتركها مصلوبة مكشوفة الوجه وخرج وهو يقول: استخيري نفسك، وسأعود إليك بعد ساعة، فإذا بقيت على غيك أغمدت خنجري هذا في صدرك وتركتك بين هذه الخرائب طعامًا للغربان. وإذا رجعت عن غيك سرت بك مكرَّمة إلى الكوفة.
خرج عبيد الله وغادرها مصلوبة تئن من ضغط الوثاق، فصغرت الدنيا في عينيها، وعلمت أن العفة لا تُصان إلا إذا فُديت بالروح، فآثرت الموت، ولكنها استثقلت أن يطول عذابها على غير طائل، وودت لو أنه أسرع في قتلها لتنجو من العذاب، ثم تذكرت شيبوب وشقَّ عليها موته في سبيلها على غير فائدة، وعادت تفكر في سبب مجيئه إلى تلك الديار فلم تجد سببًا سوى أنه رأى الركب مارًّا بالغوطة فلحق به التماسًا للطعام.
وظلت سلمى مصلوبة على تلك الأسطوانة وأفكارها تائهة في عالم الخيال، وهي تستعيد ذكرى عبد الرحمن.