مسلم بن عقيل
قالت طوعة لسلمى: إن مسلم بن عقيل نزل في دار المختار بن عبيد وأمير الكوفة يومئذٍ النعمان بن بشير، وهو رجل ضعيف، فجعل مسلم يدعو الناس إلى بيعة الحسين، ولو أنه جاء الكوفة لبايعه كل أهلها، فلما رأى الأمويون ذلك بعثوا إلى يزيد في دمشق فولَّى عليهم عبيد الله بن زياد، وهو داهية مثل أبيه.
فتنهدت سلمى وقالت: كيف لا أعرفه وهو الذي قتل أبي؟!
قالت طوعة: فلما جاء ابن زياد الكوفة دخلها وحده فلم يشك الناس أنه الحسين، ثم ما لبثوا أن عرفوه، فدخل دار الإمارة وخطب في الناس وحرضهم على مقاومة شيعة الحسين، ولكي يتم له ذلك مع قلة أشياعه بعث إلى العرفاء (مشايخ الحارات) فجمعهم وأمرهم أن يكتبوا إليه أسماء من في مناطقهم من شيعة الحسين، وشدد في ذلك حتى هددهم بالصلب والقتل، فلما سمع مسلم بما نواه ابن زياد خرج من دار المختار ونزل في بيت هانئ بن عروة المرادي، وهو رجل ذو وجاهة.
فقطعت سلمى كلاما وقالت: إني أعرفه.
فقالت طوعة: فلما جاء مسلم إلى هانئ، خاف هذا أن يقبله في داره؛ لما سمع من تشديد ابن زياد في طلبه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فلم يعد هانئ يستطيع رده فقبله. فصارت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ، وبلغ ذلك ابن زياد من بعض الجواسيس، فأراد أن يحتال في الدخول على هانئ ليتحقق الأمر، وحدث أن مرض هانئ بن عروة فبعث ابن زياد إليه أنه قادم لعيادته، فقال بعض الحضور من الشيعة: الطاغية قادم إليكم فاقتلوه وأنقذوا المسلمين من شرِّه.
فبهتت سلمى عند ذلك وصارت تتوقع أن يقتلوه؛ لأنها فرصة ثمينة لو اغتنموها، ولكنهم أضاعوها فضاعت بضياعها كل مساعيهم، وكم من غلطة صغيرة أدت إلى خراب كبير!
فاستطردت طوعة كلامها وقالت: فلما اقترح الرجل قتل ابن زياد، اعترض هانئ بأنه لا يريد أن يُقتل أمير الكوفة في داره، فجاء ابن زياد فعاده وخرج سالمًا.
فصاحت سلمى: يا للخسارة! ويا للضعف! لله ما أضعفهم!
فقالت طوعة: إنهم ضعفاء يا بنية، ولكن ذلك أمر الله، فأصبح همُّ ابن زياد أن يقبض على هانئ ويسأله، فبعث إليه أن يوافيه إلى قصره، فاعتذر هانئ بالمرض، فألحَّ عليه وبعث إليه رجلًا استقدمه بالحيلة، فلما وصل هانئ إلى دار الإمارة أحسَّ بالشرِّ، ولكنه دخل ووقف بين يدي ابن زياد فقال له هذا: «يا هانئ، ما هذه الأمور التي تدبر في دارك لأمير المؤمنين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال، وظننت ذلك يخفى علينا؟!» فأنكر هانئ في بادئ الرأي وهو لا يظن أمره معلومًا عند ابن زياد، ولكن هذا واجهه بالرجل الذي كان قد جعله عينًا عليه، فتحقق هانئ أنه مطلع على جلية الأمر فقال: «اسمع مني وصدقني؛ فوالله لا أكذبك، والله ما دعوت ابن عقيل ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسًا على بابي يسألني النزول، فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام، فأدخلته دار ضيفًا، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت فإني أعطيك الآن موثقًا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى أنطلق وأخرجه من داري وأعود إليك.» فلم يقتنع ابن زياد بإخراج مسلم من دار هانئ، بل طلب أن يأتيه به إلى القصر، فقال هانئ: «لا آتيك بضيفي لتقتله أبدًا، وله علي حق الضيافة وهو في ذمامي.» فتوسط بعض الحضور في إقناع هانئ بأن يأتيه بمسلم ولا خوف عليه، فلم يقنع وقال: «لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو كنت واحدًا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.»
فقالت سلمى عند سماعها ذلك: لا فض فوك يا ابن عروة هذه هي رعاية الذمام.
فقطعت طوعة كلام سلمى وقالت: اسمعي يا حبيبتي ما كان من عاقبة تلك الرعاية، فإن ابن زياد لما سمع كلام هانئ قال: أدنوه مني. فأدنوه، فأعاد التهديد عليه، فلما لم يطعه تناول عبيد الله قضيبًا كان في يد بعض رجاله وأمر واحدًا فأمسك هانئًا بضفيرتيه، ثم أهوى على هانئ بالقضيب، ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وأسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده على لحيته حتى انكسر القضيب، وأراد هانئ أن يدافع عن نفسه فمد يده إلى قائم سيف شرطي كان واقفًا بجانبه فمنعه منه، وأمر عبيد الله به فأُلقي في حجرة وأغلق عليه.
فدقت سلمى كفًّا بكفٍّ وقالت: وماذا فعل رجاله وأهل عشيرته؟
قالت طوعة: بلغ عشيرته أنه قُتل، فجاءوا وأحاطوا بالقصر وفيه ابن زياد ورجاله، فخاف ابن زياد منهم وسألهم عمَّا يريدونه فقالوا: «إنك قتلت هانئًا.» فأفهمهم أن هانئًا ما زال حيًّا، واستشهد شريحًا القاضي وكانوا يعتقدون صدقه، فأخبرهم بأنه حي فانصرفوا.
فصاحت سلمى: يا للفشل! ماذا أصاب الناس!
فقالت: تمهَّلي يا سلمى، إنك ستسمعين ما يسرُّك وفيه الفوز والنجاة إن شاء الله. إنك سألتني عن معنى قولهم: «يا منصور أمت»، فاعلمي يا بنية أن هذه العبارة هي شعار أنصار الحسين ينادي بها بعضهم بعضًا، وأما سبب الهرج الذي رأيته فإن مسلمًا لما علم بما أصاب هانئًا نهض ونادى رجاله بذلك الشعار حتى اجتمع حوله ثمانية عشر ألفًا من كندة ومذحج وتميم وهمذان وأهل المدينة، ولكل عشيرة من هؤلاء ربع، فعقد على كل ربع لقائد، وساروا في هذا الصباح وأحاطوا بالقصر وليس مع ابن زياد في القصر إلا ثلاثون رجلًا، وهو الآن في ضنك شديد ولا أظن مسلمًا إلا فائزًا.
فتهلل وجه سلمى وأبرقت أسرَّتها وبان الاهتمام في وجهها وقالت: يا رب يا كريم، انصر قومك. قالت ذلك ونهضت تريد الخروج، فأمسكت طوعة وقالت: إلى أين تذهبين؟
قالت: دعيني، أريد أن أرى ما يكون من أمرهم.
قالت: تمهَّلي واقعدي؛ فإنك فتاة، لا آمن عليك من الغوغاء.
وفيما كانت سلمى تحاول الخروج، سمعتا وقع أقدام بباب الدار، فتغير وجه طوعة وخفق قلبها، إذ ليس في بيتها رجال، فأشارت إلى سلمى أن تمكث وخرجت هي إلى الباب فرأت رجلًا واقفًا والبغتة والكآبة ظاهرتان في وجهه فسألته عمَّا يريده؟ فقال: أريد ماء.
فقدمت له كوبًا شربها وجلس، فقالت له: يا عبد الله ألم تشرب؟
قالت: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك. فسكت وظل في مكانه لا يبرحه بعد أن طلبت منه الانصراف ثلاثًا.
فقالت: يا سبحان الله! إني لا أُحلُّ لك الجلوس على بابي.
فقال لها: إني غريب، وليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر معلوم، ولعلِّي أكافئك فيما بعد؟
قالت: من أنت؟
قال: أنا مسلم بن عقيل، كذَبني هؤلاء الأقوام وغرُّوني.
وكانت سلمى واقفة تسمع، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها في صدرها وأسرعت إلى الباب، فلما وقع بصرها عليه عرفته، وقد رأته من قبل في المدينة، فأرادت أن تستعطف طوعة في قبوله فإذا هي قد دعته من تلقاء نفسها.
فدخل مسلم وسيفه تحت عباءته والهمُّ والتعب قد أثَّرا في سحنته، فعرضت عليه عشاء فلم يتعشَّ، فوقفت سلمى بين يديه وقد أرسلت نقابها على رأسها وترقرقت الدموع في عينيها وقالت: ما أصابك يا مولاي؟
فتنهد مسلم وكادت العبرات تسبق كلامه وقال: دعيني يا أخية، ولا تسألي عن قومي، فقد قلت لكما إنه لا قوم لي ولا عشيرة في هذه المدينة.
فقالت طوعة: ولكنني سمعت في هذا الصباح أنك جمعت ثمانية عشر ألفًا وأحطتم بقصر زياد وهو ليس عنده إلا ثلاثون رجلًا، فما الذي جرى لقومك؟
قال وهو يحرِّق أسنانه: لقد تفرقوا عني.
قالت سلمى: كيف تفرقوا؟ وما الذي حملهم على هذا التفرق وهم كثيرون؟
قال: لا تسألي عن القضاء إذا وقع. إن أهل الكوفة قوم لا يُركن إليهم، وقد أخطأنا بالاعتماد عليهم بعد أن سمعنا عمي الإمام عليًّا كرم الله وجهه يخاطب أهل العراق بقوله: «أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه.» فقد غرَّني من هؤلاء الأقوام ما رأيت من إقبالهم على بيعة الحسين حتى تكاثر عددهم، فلما دعوتهم في هذا الصباح اجتمعوا وتجنَّدوا، حتى قلت: توليتها يا ابن بنت بن الرسول، ولكن ابن مرجانة — ابن زياد — داهية مثل أبيه، فلما رأى رجالنا محيطين بقصره، وقد امتلأ المسجد والسوق بالناس، وسمع جماعة يسبُّونه ويسبُّون أباه، دعا بعض رجاله وفيهم بعض أشراف القبائل وأمرهم أن يخرجوا إلى الأسواق ويخذِّلوا الناس بالتهديد والوعيد أو بالوعد، وأطمعهم بالمال وغيره، فخرجوا يخذلون الناس، وأمر آخرين أن يشرفوا من نوافذ قصره علينا ويؤمِّلوا أهل الطاعة ويخوِّفوا أهل المعصية، فأشرفوا علينا وجعلوا ينادون بالأمان لمن أطاع وبالشرِّ لمن عصا، فما شعرت إلا والناس يتفرقون عني ولم يبقَ معي منهم إلا ثلاثون رجلًا، فدخلنا المسجد، ثم رأيت في البقاء هناك خطرًا على حياتي فخرجت هائمًا لا أدري إلى أين أسير حتى وصلت إلى هذه الدار، وأنا لا أبالي الآن أموت أو أحيا، ولكنني أخاف على ابن عمي الحسين؛ لأني كتبت إليه ليجيء، وأظنه قادمًا وهو يحسب أهل الكوفة جميعهم على دعوته، وهم على ما رأيناهم فيه من الضعف، ثم تنهد وقال: والله إن عبد الله بن مطيع قد نصح ألا نقرب الكوفة، وقد قال للحسين لما خرج من المدينة: جعلت فداءك أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله قال: «خار الله لك وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكة فإياك إن تقرب الكوفة؛ فإنها بلد مشئومة؛ بها قُتل أبوك، وخُذل أخوك واعتلَّ بلعنة كادت تأتي على نفسه. الزم الحرب فإنك سيد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدًا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنتفرقن بعدك.» فما كان أجدرنا أن نصغي لقوله، ولكن قد نفذ السهم، ولا خيرة في الواقع.
وفيما هو يتكلم دخل بلال ابن طوعة، وهو شاب في مقتبل العمر، فلم تعرفه سلمى ولا مسلم، وأسرعت أمه إلى استقباله وهي تريد أن تفي أمر مسلم عنه، ولكن الشاب لم يسكت عنها حتى أخبرته بخبر مسلم، وطلبت إليه أن يكتم أمره وأخذت عليه الأيمان، فسكت وهو يضمر السوء، وبات تلك الليلة ومسلم هناك، وأما سلمى فإنها باتت منقبضة النفس وقد أُسقط في يدها وتحققت الفشل، ففكرت فيما ينبغي أن تفعله، فاعتزمت أن تسعى أولًا في سلامة الحسين بأن تسير لملاقاته في الطريق وتقص عليه الخبر وتُرجعه عن الكوفة حتى يقضي الله بما يشاء.
•••
لما أقبل الصباح أفاقت طوعة فلم تجد ابنها فظنته خرج لعمله، وأفاق مسلم فجاءته سلمى وعرضت عليه أن تسير هي بنفسها لإبلاغ الحسين الخبر، فأعجب بحميتها وقال لها: والله لو أن في رجالنا عشرة مثلك ما أصابنا ما أصابنا، بورك فيك يا بنية، إننا إذا احتجنا إلى إرسالك أرسلناك، ولكنني لا أرى فائدة من بقائي هنا فأذهب بنفسي.
فتنهدت سلمى وتذكرت مصائبها وما ألمَّ بحبيبها في سبيل ذلك الأمر، فغلب عليها الحزن، ولكنها تجلَّدت رغبة في تشجيع مسلم.
ولم تمضِ برهة حتى سمعوا وقع حوافر حول الدار، وعلت الضوضاء، فأجفل مسلم وامتقع لونه، فلما رأت سلمى ذلك فيه خرجت تنظر ما أثاره فرأت فرسانًا رجالًا يزيد عددهم على السبعين، وفي مقدمتهم شاب شاكي السلاح وعليه الدرع، فعلمت أنه زعيم القوم، فلما استقبلتهم صاح فيها الفارس قائلًا: أين مسلم؟ فليخرج إلينا الساعة.
قالت: وماذا تريدون منه؟
قالوا: مالك ولهذا التطفل؟! أين مسلم بن عقيل؟
فلما سمع صوت الرجل يناديه جرَّد حسامه وهجم عليه وقال: ما بالكم؟ ماذا تريدون؟
فصاح فيه الفارس: تعالَ معنا إلى الأمير.
فقال: خسئتم أنتم وأميركم. وهجم عليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار وقتل واحدًا منهم. فتناولت سلمى سيف الرجل المقتول وشدت وسطها وهجمت وهي تفضل الموت بعد ذلك الفشل، وكان ابن عقيل ينظر إليها ويعجب بها ويقول لها: ارجعي يا سلمى، مالك ولهذا الخطر؟
أما هي فلم تصغِ له، فضربت ضربتين ثم سمعت ابن عقيل يصيح: قتلوني قتلهم الله، فالتفتت وإذا بسيف أصاب فمه فقطع شفته العليا وسقطت ثنيتاه، لكنه لم يقتل، فهجم على الضارب فضربه على رأسه وثنَّى بأخرى على العاتق كادت تطلع على جوفه، وسلمى تناضل معه، فلما رأى القوم ذلك صعدوا إلى سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه، فلما رأى مسلم ذلك خرج من الدار بسيفه وهو يقول:
وخرجت سلمى معه، وقاتلاهم في الطريق، فصاح رئيس القوم بابن عقيل: لا نكذب ولا نخدع، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضارِّيك، وكان مسلم قد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى حائط الدار وقد ضعف ولم يعد يستطيع قتالًا، فجاءه سيد القوم وهو محمد بن الأشعث، فحمله على بغلة وأمَّنه على حياته.
وما زالوا سائرين به حتى جاءوا القصر وأوقفوه عند بابه، فرأى هناك جرة ماء باردة فقال: اسقوني من هذا الماء.
فقال واحد منهم: أتراها؟ ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار الجحيم.
فقال له: ومن أنت؟
فقال له: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمر.
فقال له مسلم بن عقيل: لأمك الثكل! ما أجفاك وما أفظعك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم.
ثم جاء رجل فصب ماء وأعطى مسلمًا فشرب ثم نظر في القدح فإذا هو قد امتلأ بالدم.
وأمر ابن زياد بمسلم فأصعدوه إلى أعلى القصر فضُرب عنقه، ثم أخرجوا هانئًا وقتلوه، ولم يبالِ ابن زياد بعهده الذي أعطاه لهانئ ولمسلم باستبقائهما.
وكانت سلمى لما تحققت فشل مسلم ورأت الدم في وجهه، تذكرت مقتل عبد الرحمن فهاجت عواطفها ومضت تضرب بسيفها وتناضل مناضلة الأبطال، ولولا النار التي اتصلت بها ولحقت بشعرها ما كفَّت عن الضرب.
فلما انصرفوا أسرعت طوعة إلى سلمى، فأطفأت شعرها ونقابها، وحملتها إلى الفراش وهي غائبة عن الدنيا، ورشَّتها بالماء حتى أفاقت وصاحت: أين مسلم؟ أين ابن عم الحسين؟
فقالت طوعة: قد حملوه إلى القصر.
قالت: وماذا يفعلون به هناك؟ أظنهم سيقتلونه، قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم!
فجعلت طوعة تخفف عنها، ولم يمضِ النهار حتى سمعت بمقتل مسلم فانصدع قلبها، وفكرت في أمرها فرأت البقاء لا يجديها نفعًا، وتذكرت الشيخ الناسك فهمَّت بالمسير إليه.
•••
وفي صباح اليوم التالي، خرجت سلمى من بيت طوعة وسارت تلتمس كربلاء، فجعلت طريقها من خارج الكوفة لئلَّا ترى ما تكرهه من فوز الأمويين، فيممت شاطئ الفرات حتى أطلَّت على سهل مقفر لا شجر فيه ولا عشب ولا ماء، فعلمت أنه سهل كربلاء، ورأت في بعض أطرافه شجرة قد تقادم عهدها وتحتها شبح نائم فعلمت أنه الشيخ الناسك، ولم تكد تصل إليه حتى جلس وقد شعر بقدومها عن بعد كأنه اشتمَّ رائحتها. أما هي فلما رأته لم تتمالك عن البكاء لفرط ما هاج خاطرها من مصير مسلم وحزبه.
فلما رآها الشيخ ناداها قائلًا: أراكِ باكية! كأني بهم فتكوا بابن عقيل؟
فأجابته وقد خنقتها العبرات: نعم، لقد قتلوه شرَّ قتلة. قتلوه ومثَّلوا به، وفازوا بالأمر دونه، وخابت مساعينا، كأن الله قد كتب علينا الشقاء!
فابتدرها قائلًا: قتلوا ابن عم الحسين؟ وكيف قتلوه ولم يخافوا غضب الله وملائكته؟ أعوذ بالله من ظلم الإنسان.
قالت: نعم قتلوه بعد أن ساموه مرَّ العذاب، وكنت أحسب الملائكة تدفع عنه؛ لأنه إنما جاء للدفاع عن الحق! أهذا جزاء نصراء الحق عند الله؟!
فقطع الشيخ الناسك كلامها وقال: رويدك يا سلمى، لا تعارضي أحكام الله، فإننا لا ندرك مقاصده سبحانه وتعالى، وما نحن إلا تراب صنعنا بيده، وهو يفعل بنا ما يشاء لحكمة يعلمها. فأخبريني كيف قتلوه؟
فجلست على حجر بالقرب منه وقصت عليه الحديث وهي تبدي خلال ذلك تحسرها، حتى إذا أتت على آخر كلامها أوغلت في البكاء وجعلت تندب حال المسلمين، وجرَّها ذلك إلى ندب حبيبها عبد الرحمن فقالت: لست أعارض حكم الله، ولكنني لا أدري الحكمة في ذلك. إن الحسين قام يدعو الناس إلى الحق، وأرسل ابن عمه لنصرته، أفيُقتل هذا ويفشل ابن بنت الرسول ويُظلم كل من قام بنصرته؟! ألم يقتلوا ابن عمي عبد الرحمن لأنه طالب بدم أبي وانتصر لأهل البيت؟! ألم يقتلوه شرَّ قتلة؟! آه منهم! كيف قتلوه؟! قالت ذلك وعادت إلى البكاء، ثم قالت وقد خنقتها العبرات: كيف ينصر الله قومًا يحاربون سبط الرسول ويقتلون كل من قام بنصرته، وخليفتهم مشغول عن شئون الخلافة بشرب الخمور وضرب الطنابير ومجالسة النساء؟! إنه لأمر غريب!
فلما سمعها تندب ابن عمها وهو يعلم أنه حي، رثى لها، وكان قد علم من سياق حديثها أنها ذاهبة إلى الحسين لإطلاعه على جلية الخبر لعلها تُرجعه عن عزمه، والشيخ يرجح أن عبد الرحمن وعامرًا مع الحسين فأراد أن يطمئنها ويُطلعها على الواقع، فمسح لحيته بيده ثم مسح عينيه بأنامله من آثار دموع كادت تبللها في أثناء سماعه نبأ مقتل ابن عقيل، ثم قال: وما الذي أنت عازمة عليه يا سلمى؟
قالت وقد رجع إليها رشدها وبان الاهتمام في وجهها: أتسألني عمَّا عزمت عليه وأنت لا تجهله؟! أتجهل يا سيدي أني فقدت كل شيء في سبيل نصرة بيت الرسول، ولم يبقَ لي ما أبذله إلا نفسي، وليس بذلها بالأمر العظيم عندي في هذا السبيل. أريد أن أذهب لألاقي الحسين قبل وصوله إلى الكوفة وأخبره بما وقع، وأنصح له بأن يتربص حيث هو ريثما يتم له التأهب لطلب حقه، ثم أمكث في خدمته حتى يتأتَّى له ذلك فأحارب معه وأموت بين قدميه، فأذهب إلى حيث ألقى عبد الرحمن وأبي، وأرجو أن يكون مصيري معهما إلى النعيم؛ لأني أعتقد صدق الدعوة التي نحن قائمون بها، فإذا قدر الله لنا النصر وفزنا على أولئك الطغاة وقتلناهم، عشت سعيدة بالانتقام لأبي وابن عمي وللإمام علي.
فضحك الشيخ حتى أغرب في الضحك، وسلمى تنظر إليه وتعجب من ضحكه بعد أن قصت عليه خبر الفشل الذي أصابها، فلبثت صامتة وهي تسمع قهقهته وترى اهتزاز لحيته حتى خُيِّل لها أنه أصيب بجنون، ولكن اعتقادها بكرامته غلب عليها فحملت ضحكته محمل خير يضمره لها، فلما انتهى من الضحك تفرَّست في وجهه فإذا هو قد غاب إلى الانقباض بغتة ولمعت عيناه بما غشاهما من الدمع، ورأت سلمى ذلك من خلال حاجبيه المسترسلين على عينيه، فقالت له: أيأذن لي مولاي بسؤال؟
قال وقد عاد إلى الابتسام: إنك تسألينني عن سبب ضحكي، وأنا أقول لك السبب وأرجو أن يضحكك أيضًا.
فقطعت كلامه وقالت: لا أظن شيئًا في العالم يضحكني، فلن أضحك إلا ضحكة الظفر أو ضحكة الموت.
قال: وما قولك إذا أضحكتك الساعة؟
قالت وهي تستخفُّ بقوله: قل ما شئت واضحك ما شئت، وسترى أني لا أبتسم لشيء قط، وكيف أضحك أو أبتسم وقد قتل أبي وابن عمي ظلمًا ولم أُقتل معهما؟
قال: وإذا أخبرتك خبرًا يسرُّك؟
فقالت: إذا كان خبرك رجمًا بالغيب فللأولياء كرامات، وقد تتنبأ بخبر نرجوه في المستقبل. ولكنني رأيت من الفشل في الأيام الأخيرة ما سوَّد الدنيا كلها في عيني، فلا أضحك إلا لخير أراه أو لخير أتوقعه، وأي خير أرجو بعد هذه المصائب؟
قال: وإذا أطلعتك على خبر عن عبد الرحمن؟
فلما سمعت اسم حبيبها اختلج قلبها واصطكَّت ركبتاها وبُغتت وقالت: وأي خبر عنه يا مولاي لم أسمعه بعد؟! واختنق صوتها وبكت.
قال: وماذا سمعت عنه؟
قالت: ألم أندبه بين يديك مرارًا؟ آه يا مولاي! دعني من هذه الذكرى ولا تُهج أشجاني. دعني أُشغل عن الحزن بالانتقام، ودعني أمضِ لسبيلي لألاقي الحسين وأهل بيته وأنبئهم بالخطر الذي ينتظرهم.
قال: سيري يا بنية في حراسة الله، وأرجو أن تلاقي عبد الرحمن هناك.
فصاحت: ألاقي عبد الرحمن؟! وكيف ألاقيه وأنا حية؟! إلا إذا بُعث في هذه الحياة الدنيا، وما سمعنا بالبعث إلا في الآخرة، لا أراك يا مولاي إلا ضاحكًا مني هازئًا بعواطفي. أو أنك تتنبأ بقرب أجلي لألقى حبيبي في الآخرة، فإذا كان ذلك فمرحبًا بالموت، إنه حلو شهي. قالت ذلك وهي لا يخطر لها ببال أن يكون عبد الرحمن حيًّا، ولكن قلب المحب سريع الاطمئنان قريب التصديق، فأوحى إليها حبها أن الله قادر على إحيائه، وأن الشيخ الناسك لا يقول عبثًا، على أن عقلها بقي يرى استحالة ذلك، فلبثت تتردد بين الأمرين.
أما هو فلما شاهد اضطرابها نظر إليها جادًّا وقال: إني لا أُلقي القول جزافًا يا سلمى، إن عبد الرحمن حيٌّ باقٍ لم ينَله كيد أولئك الأشرار.
فوثبت سلمى من مجلسها بغتة، وأحست كأن شعر رأسها وقف، واقشعرَّ بدنها، وكاد الدم يجمد في عروقها، وصاحت في الشيخ وأمسكته بيده وهي تقول: بالله اصدقني الخبر يا مولاي ولا تهزأ بي؛ فإني أكاد أجن! قل لي: هل عبد الرحمن حي؟ عبد الرحمن! هل هو حي؟ حي مثلي ومثلك؟! قالت ذلك والدمع ملء عينيها، لا تدري أتضحك أم تبكي.
فخشي الشيخ أن يصيبها ضر، فأجابها بصوت خافت: نعم يا سلمى هو حي بإذن الله.
قالت: كيف ذلك وقد حققت مقتله من قبل؟ يا ربي ماذا أسمع؟ هل أنا في حلم؟ هل عبد الرحمن حي يمشي ويتكلم؟ هل أكلمه فيسمعني وألاقيه فيراني؟ آه يا عبد الرحمن! أأنت حي وأنا أندبك؟! إني أراني في حلم! ثم التفتت إلى ما يحدِق بها من السهل القاحل كأنها تتحقق وجدانها وترامت على يدي الشيخ وجعلت تقبلهما والدمع يتساقط عليهما وهي تشهق من شدة البكاء وتقول: بالله يا سيدي اصدقني، أحي عبد الرحمن حقًّا؟ وهل أراه، وأين هو؟ قل لي يا مولاي. قل لي وأشفق على حياتي. عبد الرحمن حي؟! أين هو؟
فأمسكها الشيخ ويده ترتعش، وأوقفها وهو يتأمل حركاتها ويقرأ عواطفها، فدمعت عيناه وقال: احمدي الله يا سلمى، إن عبد الرحمن وعامرًا على قيد الحياة، وهما مع الحسين، وأظنهما آتيين معه في طريقه هذه.
فبُهتت سلمى، واستجمعت رشدها ولبثت مطرقة تنظر إلى الأرض وهي تراجع في ذاكرتها ما سمعته عن مقتله في دمشق، فلم تجد دليلًا على أنه قُتل غير ما سمعته من ابن زياد والحكيم، فهان عليها تصديق بقائه حيًّا، فأحست للحال أن غمامة انقشعت عن عينيها، وكأن جبلًا نزل عن قلبها، فانبسط وجهها وابتسمت، فابتدرها الشيخ قائلًا: أراك تضحكين، وكنت تقولين أنه لا شيء يضحكك!
قالت: لم يدُر في خلَدي أن أسمع هذا الخبر. أيكون عبد الرحمن حيًّا ولا أضحك؟! ثم انقبضت بغتة وقالت: ولكن ما الفائدة؟ أين هو؟ ما الذي يجمعني به، فقد أصبحت بعد ما لقيته من الفشل المتواتر لا أصدق شيئًا حتى يقع، وقد يقع ولا أصدقه.
قال: لا تيأسي من نعم الله، فأن معسكر الحسين يجمعك بعبد الرحمن، فقد سار إليه وأنت في دمشق مع عامر، وهو يحسبك ميتة كما كنت تحسبينه ميتًا! ثم قص عليها الخبر من أوله إلى آخره، فاطمأن بالها وسكن روعها ووثقت من بقائه على قيد الحياة.