زينب بنت علي
رضي الحسين بذلك، وأمر الناس بالركوب، فلما سمعت سلمى ما دار بينهما تحققت عجز الحسين عن قتال هؤلاء، واستعاذت بالله من عاقبة ما تراه، ثم عادت إلى شأنها واعتزمت أن تبحث عن عبد الرحمن وعامر بحثًا دقيقًا، فلم ترَ خيرًا من أن تدخل خباء النساء، وكانت تعرف أكثرهن وهن لا يكدن يعرفنها؛ لأنها لم تُقم بينهن طويلًا، فتحولت إلى فسطاط دخلته فرأت امرأة لم يقع نظرها عليها حتى عرفت أنها زينب أخت الحسين، وكانت شديدة الشبه به؛ لأنهما من أم واحدة (فاطمة بنت الرسول)، فرأتها في انهماك وبغتة وقد علت جبينها دلائل الاهتمام وعيناها تتوقدان ذكاء وتعقلًا، وكانت زينب مشتغلة بطفل بين ذراعيها لا يزيد عمره على سنة وبعض السنة، تُربِّته وتشدو له وعيناه ذابلتان للرقاد وقد أشرق وجهه كأنه يتدفق نورًا وحياة، والطفل في غفلة عمَّا حاق بأهله من الأمر العظيم، فعلمت سلمى أنه علي الأصغر ابن الحسين، وهو أصغر أولاده، وكان للحسين ثلاثة أبناء كل منهم اسمه علي، وإنما يُعرف بعضهم من بعض بلقب السن فالأكبر اسمه علي الأكبر والثاني علي الأوسط — زين العابدين — والثالث علي الأصغر، وهو هذا.
أما زينب فحالما وقع نظرها على سلمى عرفتها، واستغربت حضورها في تلك اللحظة، ولكنها لعظم ما عانته من الأهوال لم تعد تستبعد شيئًا، فابتسمت ابتسامة الترحاب بالرغم من شواغلها واستأنست بها، فأسرعت سلمى إليها تعرض عليها مساعدتها، فأشارت إليها قائلة: خذي هذا الغلام على ذراعك ريثما ينام، فتناولته وحنت عليه حنوَّ الوالدة على ولدها، فلما خلت يد زينب تحولت إلى فراش في بعض جوانب الخباء عليه غلام مضطجع، فتبعتها سلمى ببصرها وتفرَّست في الراقد فإذا هو علي الأوسط وقد توردت وجنتاه وتصبب العرق من جبينه وذبلت عيناه وهما مفتوحتان حمراوان كالدم ودلائل الحمى بادية فيهما، ورأت صبية جملية الخلقة نجلاء العينين جاثية بجانب المريض، وهي مرتبكة والدموع في عينيها مع ما يتجلى في وجهها من البشاشة الغريزية، فعلمت سلمى أنها سكينة بنت الحسين أخت ذلك الراقد، وكانت سكينة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقًا مع خفة في الروح.
فوقفت سلمى وهي تتشاغل بتربيت الطفل وتنظر إلى زينب فإذا هي قد دنت من فراش المريض وجسَّت يده ومسحت العرق عن وجهه، ثم التفتت إلى سكينة وقالت: لا بأس عليه يا حبيبتي بإذن الله، ولا تلبث الحمَّى أن تفارقه عمَّا قليل بما ينسكب منه من العرق.
فأجابتها سكينة بالبكاء ثم رفعت صوتها وقالت: صبرًا على حكم العناية، أما كفانا ما أحدق بنا من الأخطار حتى أصيب أخي هذا بالمرض، فماذا عسى أن تكون عاقبة هذه النوازل؟ قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فأومأت إليها زينب وهي تتجلَّد: لا تقولي هذا على مسمع من المريض؛ لئلَّا يشتد مرضه. ثم أمسكتها بيدها وأنهضتها وقالت: قومي يا بنت أخي هلمَّ بنا نتأهب للرحيل فإن أباك قد أمر بالركوب.
فنهضت الفتاة وأخذت تهتم بنفسها، فوقع نظرها على سلمى فعرفتها واستأنست بها؛ لأنها لم تكن تطيق الانقباض؛ لانطباعها على المرح والسرور.
وكان الطفل قد نام على ذراعي سلمى وهي تضمه إلى صدرها وتتيمن بقربه؛ لأنه ابن الحسين وفيه من دم الرسول، فلما أرادت زينب أن تأخذه منها قالت لها: دعيه نائمًا على ذراعي فإن ذلك أكثر راحة له من الانتقال.
قالت: بورك فيك يا بنية، ولكنني أرى أن أضجعه في الهودج ونحن على أهبة الرحيل.
قالت: إني أذهب في خدمته إلى حيث يسير. دعي أمر العناية به إليَّ واشتغلي بشئونك.
فأثنت عليها وتحوَّلت إلى فراش علي الأوسط فأنهضته، وأمرت من معها من النساء والجواري أن يأخذن في شد الرحال.
وكان الرجال قد أخذوا في تقويض الخيام وتحميل الأحمال، وركب كل منهم في مركبه، وركبت سلمى في هودج مع زينب والطفل، وهي تشتاق إلى الاستفهام عن عبد الرحمن، ولكنها استحيت أن تسألها وهي في تلك الحال.
أقلع الركب وساروا في طريق وسط؛ بحيث تكون الكوفة إلى يمينهم، والحر ورجاله سائرون بالقرب منهم ليمنعوهم من الرجوع إذا أرادوه.
وكانت زينب وهي في الهودج تشرف من خلال الستور على أخيها ومن معه بعد هنيهة وتعود إلى مقعدها وهي تتأوه، فعلمت سلمى أنها إنما تفعل ذلك لعظم قلقها واضطرابها، فأرادت أن تسلِّيها وتخفف عنها وهي تتوقع أن تستطرق إلى حديث حبيبها فقال: ما لي أراك في هذا الاضطراب يا مولاتي؟
فتنهدت زينب ونظرت إلى سلمى وقالت: تسألينني عن سبب اضطرابي وأنت ترين ما نحن فيه؟! ألا تعلمين أننا ذاهبون إلى القتل؟!
قالت: ولماذا تقولين هذا؟! أن الله ينصر نصراءه ويرفع كلمتهم.
قالت: صدقت يا بنية، ولكنك لو عرفت ما ينتظرنا في الكوفة وفي ضواحيها من الأهوال، وما هنالك من الأعداء وفيهم الفرسان والرجالة لعجبت لمسيرنا، ومعنا الأطفال والغلمان والنساء، وفيهم المرضى والضعفاء والرضع، وليس معنا من الرجال إلا إخوتي لأبي وهم ستة: العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، وعبيد الله، وأبو بكر، وما من أولاد أخي الحسين من يستطيع القتال إلا علي الأكبر، وهذا علي الأوسط غلام مريض، ومعنا من أبناء أخي الحسن رحمه الله اثنان صغيران هما أبو بكر والقاسم، وبضعة آخرون من أبناء عمي عقيل الذين قُتل أخوهم مسلم في الكوفة. ثم تنهدت وقالت: آه لو تعلمين كيف قتلوه؟
فتذكرت سلمى مقتل مسلم وحان لها أن تُظهر نفسها وتستطرق إلى حديث حبيبها، فقالت: إني أعلم بمقتل ذك الشهيد يا مولاتي.
فانتبهت زينب لنفسها وأدركت أنها كان يجب أن تسألها عن حالها فقالت: أظنك من أهل الكوفة، متى جئت منها؟
فقالت: نعم كنت في الكوفة، ورأيت مسلمًا يناضل بسيفه في بيت طوعة الكندية، ثم رأيتهم يسوقونه والدم يسيل من شفتيه، وعلمت أنهم لما بلغوا به دار ابن زياد قتلوه قتلة لم نسمع بمثلها من قبل؛ أصعدوه إلى أعلى القصر فضربوا عنقه وقذفوا بجثته إلى أسفل.
فصاحت زينب: قتلهم الله! ما أقسى قلوبهم! إني كلما فكرت في ذلك يقشعر بدني.
فقالت سلمى: من أنبأكم بمقتل مسلم؟
قالت: لم نسمعه إلا بالأمس، وكان أخي قد أرسل نفرًا من أصحابه للبحث عن حقيقة الحال وفيهم اثنان كنديان لم أرَ أشد غيرة منهما على الإسلام، جاءانا من أمد بعيد، وقد قص أخي عليَّ من أخبار غيرتهما ما يُفرح قلب كل مسلم.
فلما سمعت سلمى ذكر الكنديين خفق قلبها عساهما أن يكونا عامرًا وعبد الرحمن، ولكنها تجلَّدت وسألتها: ومن هما ذانك الرجلان يا سيدتي؟
قالت: لم أرَهما يا بنية، ولكني سمعت أخي يذكر أن أحدهما ابن أخ لحُجْر بن عدي صاحب الغيرة المشهورة في نصرة الحق، وهو الذي قتله معاوية بن أبي سفيان ظلمًا.
ولم تكد زينب تتم قولها حتى ارتعدت سلمى، وكان الطفل لا يزال على حجرها فأجفل لإجفالها، وصعد الدم إلى وجهها بغتة وأخذت الدموع تتجلى في آماقها.
•••
استغربت زينب ذلك من سلمى، ولم تكن تعرفها جيدًا ولا تدري علاقتها بعبد الرحمن فقالت: ما الذي غيرك يا بنية؟
فلم تتمالك سلمى عن إرسال الدمع وهي تقول: وهل سمعتم شيئًا عن ذلك الوفد يا مولاتي؟
فتنهدت زينب وقالت: والهفي عليهم! فقد بلغني أن ابن زياد اللعين قبض عليهم وفعل بهم مثل ما فعله بابن عمي مسلم.
فصاحت سلمى: أقتلوهم يا سيدتي؟ أقتلوهم جميعًا؟! قالت ذلك وهمَّت بإضجاع الطفل في الهودج إلى جانبها لئلَّا يعوقها عن الحركة أو إذا تحركت توقظه.
فأدركت زينب أن في الأمر سرًّا فقالت: لا، لم يقتلوهم جميعًا، لا أدري سوى أنهم قتلوا بعضهم.
فقالت: هل قتلوا عبد الرحمن؟ أواه! قتلوه؟! قالت ذلك وهي تلطم وجهها.
فأمسكتها زينب وقد نسيت مصيبتها واشتغلت بما رأته من لهفة الفتاة وبكائها وقالت لها: ومن هو عبد الرحمن يا بنية، وهل من قرابة بينك وبينه؟
قالت: إنه ابن عمي، هل قتلوه وألحقوه بأبي؟
فلما سمعت قولها تفرَّست في وجهها فرأت فيها شبهًا بحُجْر بن عدي فقالت: لعلك ابنة حُجْر بن عدي؟
فقالت: نعم يا مولاتي إني ابنة ذلك المقتول ظلمًا، ابنة شهيد الحق الذي ذهب في سبيل نصرة أبيك صهر النبي وابن عمه ووصيه وحبيبه. بالله أخبريني، فرِّجي كربي، هل قتلوا عبد الرحمن؟
فصمتت زينب لحظة وقد تفتقت جروحها، وتذكرت مقتل أبيها وما يقاسونه من العذاب والبلاء بسبب ذلك، ولكن خاطرها اشتغل بسلمى لما رأته من غريب أمرها إذ تذكرت أحاديث سمعتها عن عبد الرحمن وخطيبته وموتها فقالت: لعلك خطيبة عبد الرحمن؟
قالت وهي مطرقة: نعم يا سيدتي أنا هي تلك التعسة، أنا سلمى الشقية، كُتب علي أن أحيا بعد موت أبي وابن عمي. آه يا رباه! ما هذه المصائب! ولكن، هل مات ابن عمي حقيقة؟
فأرادت زينب أن تخفف عنها فقالت: تجلَّدي يا ابنتي، إني أرى في الأمر سرًّا عظيمًا وأمرًا غريبًا؛ لأني سمعت أن عبد الرحمن فقد خطيبته في دار يزيد بن معاوية في دمشق، وأنه جاء للانتقام لها ولأبيها وأبي رحمهما الله، وهو إنما أراد الذهاب إلى الكوفة سعيًا في هذا السبيل. كيف يقولون إنك قُتلت وأنت حية؟
فقالت: إنهم قتلوني ثم أحيوني كما قتلوا عبد الرحمن وأحياه الله؛ قد خرجنا من دمشق وأنا أحسبه مات وهو يحسبني مت، ولكنني عرفت بقاءه حيًّا بالأمس، وقيل إنه معكم فجئت لألاقيه وألاقي عامرًا وصيَّنا، فإذا أنا أسمع ما سمعته منك. أشفقي عليَّ يا بنت الرسول وارثي لحالي، اعذريني على ما فرط من عواطفي بالرغم مني، وما أنتم في حال تساعدكم على الاهتمام بمثلي.
فاستغربت زينب كل كلمة تسمعها ولم تفهم السر في موتها وحياتها، ولكنها قالت لها: لا تيأسي من رحمة الله. نعم إن عبد الرحمن وعامرًا خرجا إلى الكوفة مع الوفد، ولكننا لم نسمع بمقتل واحد منهما بل سمعنا بمقتل سواهما، ولا أظن هذين إلا على قيد الحياة، فأخبريني عمَّا كان من موتك وموته في دار ابن معاوية، فأخذت سلمى تقص حديثها وزينب تنظر إليها وقد شُغلت بما تسمعه من الغرائب عمَّا هي فيه.
لما فرغت سلمى من حديثها آنست زينب فيما سمعته منها عبرة وموعظة، وأعجبت بغيرتها على الإسلام، وعلى الثأر لأهل البيت وشيعتهم، فقالت لها: إن حديثك أثر في خاطري تأثيرًا كبيرًا، وهون علي ما كنت أتخوفه من الموت، وما الموت بالأمر الذي ينبغي أن نخافه طالما رأينا الحق في جانبنا، فاتخذي حالنا موعظة لك، ثم فتحت ستار الهودج وقالت: انظري إلى هؤلاء وهم خيرة بيت الرسول، إنهم ملقون بأنفسهم إلى القتل لأنهم يعتقدون أن الحق في جانبهم ويرون خيرًا لهم أن يموتوا محقين.
فشعرت سلمى بأنها بالغت في شكواها وبيان مصيبتها مع ما تراه من المصيبة التي يتوقعونها عمَّا قليل وهي ضربة شديدة على الإسلام والمسلمين، فابتدرتها قائلة: إني لا أجهل ما نحن فيه يا مولاتي، ومن هو عبد الرحمن ومن أنا أو كل المسلمين في جانب أبناء بنت الرسول وأولادهم. وإنما يسوءني أن يغلب الباطل على الحق، وأن أرى الطغاة ينتصرون على الكرام.
وفيما هما في الحديث شعرتا بالهودج قد وقف، وسمعتا لغطًا، فأطلت سلمى من خلال الستور فرأت الركب قد وقف، ووقف الحر ورجاله بإزاء الحسين ورجاله، وإذا برجل على ناقة قادم من الكوفة وقد نكس قوسه وترجَّل إلى الحر ودفع إليه كتابًا.
فقالت زينب: ماذا عسى أن يكون خبر هذا الساعي؟ وما في كتابه؟ قالت ذلك وترجَّلت، فترجَّلت سلمى، وأسرعتا إلى الحسين ووقفتا تنتظران ما يكون من أمر ذلك القادم، فإذا بالحر قد تناول الكتاب وقرأه ثم تحول إلى الحسين وهو يقول: هذا كتاب من الأمير عبيد الله بن زياد، هل أتلوه عليك؟ قال الحسين: «اتله.»
فقرأه فإذا فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تُنزله إلا بالعراء في غير خضرة وفي غير ماء، وقد أمرت رسولي، أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.»
فلما فرغ الحر من تلاوة الكتاب نظر إلى الحسين كأنه يعتذر له من الأمر وقال: لا أقدر أن أنزلك إلا في هذا المكان. وأشار إلى سهل كربلاء على مقربة منهم، والفرات من ورائه والجند يحول بينه وبين الماء.
فتقدم الحسين إليه أن ينزله في مكان فيه ماء، فأبى وساقهم إلى كربلاء.
وأما سلمى فنسيت قلقها على عبد الرحمن وعامر، وانشغلت بأمر الحسين وأهله، ولازمت زينب والطفل. أما زينب فإنها عهدت في أمر الطفل إلى سلمى واشتغلت بخدمة الباقين ولا سيما الغلام المريض؛ فإن الحمى عاودته.
وأشرفوا في الصباح على كربلاء وسلمى في الهودج، فرأت جند الكوفة قد ملئوا السهل وحالوا بينهم وبين الماء، فتطاولت بعنقها لعلها ترى الشيخ الناسك قادمًا لكي تستطلع منه حال عبد الرحمن بعدما سمعته من مسيره إلى الكوفة أو تستفيد منه شيئًا يهم الحسين فلم ترَ أحدًا.
أما الحسين وأهله فلما بلغوا كربلاء ضربوا خيامهم وجعلوا أخبية النساء إلى الوراء وخيام الرجال إلى الأمام.
وأما زينب فلم تشأ أن تترك أخاها وحده فسارت إلى فسطاطه، وتبعتها سلمى وهي لا تقل قلقًا عنها، فإذا بالحسين جاث بباب خيمته يصلي، فصبرتا حتى فرغ من صلاته، فرأتا رجلًا من جند الكوفة قادمًا عليه، فلما وصل إلى الحسين حيَّاه، فقال له الحسين: «من الرجل؟»
قال: جئت برسالة من أمير هذا الجند عمر بن سعد. قال: «وما رسالتك؟»
قال: إنه يسأل ما الذي جاء بك؟ وماذا تريد؟
فقال له الحسين: «إن أهل مصركم هذا كتبوا إليَّ أن أقدم فقدمت، فأما إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم. أو آتي يزيد بن معاوية فأضع يدي في يده.»
فلما سمعت سلمى قوله بكت لما توسمته في جوابه من دلائل الاستسلام.