التآمر على الحسين
وفيما كانت سلمى عائدة لاحت منها التفاتة إلى بعض جوانب البر فرأت شبحًا مسرعًا من ناحية الكوفة. ما كادت تراه عن بعد حتى عرفت أنه الشيخ الناسك، فخفق قلبها وهرولت إلى الخباء، فدفعت الطفل إلى أخته سكينة وخرجت لملاقاة الشيخ الناسك، ولما دنت منه سمعته يدمدم ويتمتم فأقبلت عليه حتى التقيا بقرب فسطاط الحسين، فأرسل الناسك شعره على وجهه وأشار إليها أنه يريد أن يكلم الحسين، فاستبشرت بإشارته، ومشت معه إلى باب الخيمة، فلما رآه الحسين استغرب منظره ولكنه رحب به وتوسم فيه الخير فقال: «أهلًا بالشيخ.»
فقال الشيخ: ارجع يا حسين، ارجع إلى المدينة، إنها خير لك وأبقى. إن الناس هنا يريدون بك شرًّا ولا تقوى على قتالهم.
فقال الحسين: إني أراك مخلصًا، فقل ما يبدو لك.
قال: انظر يا مولاي إلى هذا الجند، إنهم أربعة آلاف رجل بقيادة عمر بن سعد، وقد أُمروا أن يقاتلوكم، وأنتم فئة قليلة لا تقوون عليهم. قال ذلك وانحدرت عبراته على لحيته.
فتأثر الحسين من منظره ولكنه تجاهل ما يراه وقال: «إني أرى رأيك، فهل من رجوع؟»
قال: اطلب الرجوع، فإن قبلوا كان به وإلا فإنك … وبكى بصوت عالٍ، فبكت سلمى، وأما الحسين فقال: «لقد علمت مصيري؛ لأني رأيت جدي ﷺ الليلة يدعوني إليه، وما عنده خير مما في هذه الدنيا الفانية.»
فكفكف الشيخ دمعه وقال: أما وقد رأيت رغبتك في الآخرة فاعلم أن ابن زياد لم يجب طلبك، وقد أوشك أن يجيبه، لولا ذلك الخائن.
قال: ومن هو؟
قال: لما بلغت رسالتك ابن زياد قبلها، ولكن رجل السوء كان حاضرًا، وهو شمر بن ذي الجوشن، فقام إليه وقال له: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك، والله إن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة؛ فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبته فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.»
إني لم أبعثك إلى الحسين لتكفَّ عنه، ولا لتطاوله، ولا تمنيه السلامة والبقاء، ولا لتكون له عندي شافعًا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا، فابعث بهم إليَّ، وأما إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنهم لذلك مستحقون، وإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر؛ فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام.
•••
لم يتم الشيخ كلامه حتى كانت سلمى قد غرق وجهها في الدموع، وزاد في شجونها ذكر شمر بن ذي الجوشن، وكانت تحسبه قد قُتل في دمشق على ما قصه عليها الناسك من حديث عامر عند إنقاذه عبد الرحمن من السجن. أما الحسين فسمع كلام الناسك وكأنه ليس بالأمر الجديد عنده، وتجلَّد وقال: «إننا صابرون لحكم الله، والله مع الصابرين.»
ثم انصرف الناسك فتبعته سلمى وهي ترجو أن تستفهم منه عن عبد الرحمن، فإذا هو قد توغل في الصحراء ولم يلتفت إليها، فوقفت حائرة مستغربة أطواره، ثم حدثتها نفسها أن تلحق به فتنجو من خطر القتل، ولكنها قالت في نفسها: لست خيرًا من هؤلاء، فإذا قتلوهم فما الفائدة من بقائي؟ وإذا كان عبد الرحمن ما زال حيًّا وقُتل الحسين فإنهم يقتلونه معه. ثم رأت أن تذهب لعلها تراه ثم تعود، ولكنها لم تدرِ من أين تعود وكيف؟ فعادت تقول لنفسها: ويلاه! ماذا أعمل؟ أأترك عبد الرحمن لا أعرف مقره ولا أبحث عنه؟ ولكن كيف أخرج من هنا؟ ومن ينبئني بمكانه؟ لا بل أبقى هنا أناضل مع الحسين وأحارب معه، فإذا انتصرنا كان الحظ حليفنا، ونلنا السعادة في الدارين، وإذا قُتلنا فلا أسف على الحياة، ولا أشرف من موتة أموتها مع الحسين وأهل بيته، وما أنا خير من زينب أو سكينة بنت الحسين. ولكني إن استطعت الخروج فقد يحسبني الحسين خرجت هاربة. وبعد التردد استقر رأيها على أن تبقى مع الحسين فإما أن تموت معه أو تحيا معه. فعادت وقد أيقنت بالهلاك إلا أن يأتيهم الله بفرج من عنده.
واتجهت إلى خباء زينب وتحول خاطرها إلى الطفل، فقالت في نفسها: إذا قدر الله فشل الحسين أو قتله فماذا يكون من أمر هذا الطفل؟ وشعرت بانعطاف إليه، ودخلت الخباء فإذا بالطفل يبكي، فأسرعت إليه وضمته وقبلته وسألته عمَّا يريد، فإذا هو يشكو الظمأ، وما في المعسكر قطرة ماء، فبحثت عن زينب حتى رأتها بجانب فراش ابن أخيها المريض وقد تعاظمت الحمَّى عليه وهو يهذي، فلما سمعت زينب صراخ الطفل نهضت إليه وتناولته وجعلت تقبله ودموعها تتساقط على خديه وهي تقول: اشرب من هذا الدمع لعله يرويك، اشرب إنهم منعوا الماء عنا والكلاب تشربه.
فقالت سلمى: أليس عندنا شربة ماء؟ إني أرى الفرات أمامي؟
فصاحت زينب: إنهم منعونا الماء. ألم تسمعي هؤلاء الظالمين يقولون لأخي: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشًا.
فقالت سلمى: قبحهم الله ما أقسى قلوبهم وما أغلظ طباعهم! أيمنعون الماء عن المرضى والأطفال؟ وأخذت تعلل الطفل بخرقة وضعتها في فمه وما زال يمضغها ويمصها، وهو إنما يمص ريقه حتى غلب عليه النعاس فنام.
وفي عصر ذلك اليوم (الخميس ٩ المحرم سنة ٦١ﻫ) كانت سلمى وزينب وسكينة جالسات في الخباء يتحادثن فيما يخفنه على الحسين ورجاله، فسمعن قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات الرجال، فخرجت زينب ثم عادت وهي تقول: لقد أتوا قتلهم الله.
فلما سمعت سلمى ذلك تحمست وثارت الحمية في رأسها وقالت في نفسها: لقد حان وقت الاستشهاد في سبيل الحق، وهل أرى سبيلًا إلى الجنة خيرًا من هذا؟ وتلثمت بخمارها وأسرعت إلى قوس معلقة في دعامة الخباء فتناولتها وجعلت تبحث عن السيف، وفيما هي في ذلك رأتها زينب فقالت لها: ماذا تفعلين يا سلمى؟
قالت: لا شيء إنما أنا طالبة وجه ربي اليوم.
قالت: لعلك تريدين النزول إلى ساحة الحرب؟
قالت: نعم.
قالت: وأنَّى لنا ذلك؟ يا حبذا لو أننا ننزل جميعًا فنقاتل حتى نُقتل مع هؤلاء، ولكن أخي منعنا واستحلفنا أن نأوي إلى الخباء. ألم تري أني خرجت الآن إليه فرأيته جالسًا بباب خيمته ومعه سيفه وكأنه لم يسمع صهيلًا ولا صليلًا، فدنوت منه فرأيته نائمًا ورأسه إلى ركبته فناديته فأفاق فقلت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه وقال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.» فلما سمعت قول أخي لطمت وجهي وناديت بالويل، فقال لي: «ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله.» واستحلفني ألا أرفع صوتي. وكلامه لا يرد، فهل تريدين غضبه؟ امكثي معنا يا سلمى ويكفيك أن تلاحظي هذا الغلام، وأنا أعالج المريض حتى يقضي الله بما شاء.
فشق ذلك على سلمى وأُسقط في يدها، وقد كانت تود أن تستقتل حتى تُقتل، أو تلقى شمرًا فتطعنه بالحربة أو ترميه بالسهم؛ لأنه سبب كل هذا البلاء، فضلًا عمَّا لقيت بسببه في دمشق، وكانت تحسبه مات، فلما علمت أنه حي تضاعف بلاؤها، ولكنها لم تكن لتعصي إشارة الحسين، فوقفت مبهوتة لا تدري ماذا تعمل، على أنها تظاهرت بالإذعان ثم خرجت ملثمة حتى وقفت بإزاء خيمة الحسين، فرأت أخاه العباس قادمًا على راحلته من معسكر العدو، فعلمت أنه سار إليهم في مهمة، فاستقبله الحسين وسأله عمَّا كان من أمرهم، فقال العباس: «قد استمهلتهم إلى الغد فأمهلونا على أن نستسلم فيسرحونا إلى أميرهم عبيد الله بن زياد، وإلا فليس عندهم غير الحرب.»
لما سمع الحسين ذلك قال: «خسئوا»، ووقف وصاح في أهله، فاجتمع حوله كل إخوته وأبناء عمه وكل من معه من الرجال، ووقفوا ينتظرون ما يقوله وكلهم طوع إشارته، فلما تكامل جمعهم وقف فيهم وقال: «أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء. اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما بعد فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيرًا. ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعًا، فإنكم في حلٍّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا.»
فصاحوا جميعًا بصوت واحد: لن نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدًا، فلما سمعت سلمى كلامهم لم تتمالك أن قالت مثل قولهم والدمع ملء عينيها، فانتبه لها بعض الوقوف فالتفتوا إليها فاستحيت وبالغت في إخفاء وجهها.
أما الحسين فعاد إلى الكلام وخاطب أبناء عمه فقال: «يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.»
فأجابوه: سبحان الله! ماذا يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله ما نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
فأرادت سلمى أن تقول قولًا فإذا برجل رفع صوته بين الناس وقال: «نحن نتخلى عنك؟! وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله حتى أطعن في صدروهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخلِّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسله فيك. أما والله لو قد علمت أني أُقتل ثم أحيا ثم أُذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى أُلقي حسامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدًا؟!»
فسألت سلمى عن القائل فقيل لها: إنه مسلم بن عوسجة، ثم سمعت غيره قال مثل قوله، فانتعشت آمالها وأعجبها ما رأته من الاتحاد والتفاني في سبيل الحق.
فأثنى الحسين عليهم، وتحول إلى خبائه، وتحول الباقون، وسارت سلمى إلى خباء زينب لتفتقد الطفل، وكان الليل قد أقبل، فإذا هو ما زال نائمًا، فسُرَّت بنومه، ورأت زينب بجانب فراش المريض تمرِّضه فجلست إلى جانبها وقد انتعشت آمالها بما سمعته في ذلك المساء، وذهب كل إلى فراشه وبقيت زينب وسلمى ساهرتين تمرِّضان عليًّا، وتتحدثان.
وفيما هما تتكلمان همسًا والليل هادئ، وعلي قد نام وهو يئنُّ من شدة المرض سمعتا قائلًا يقول:
وكان الصوت خارجًا من فسطاط الحسين فعلمت زينب أنه صوته فلم تتمالك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبها وهي حاسرة الرأس، فتبعتها سلمى حتى انتهتا إلى الحسين فرأتاه جالسًا وبجانبه خادمه يعالج سيفه ويصلحه، فصاحت زينب: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم. ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن. يا خليفة الماضي وثمال الباقي.
فنظر الحسين إليها وقال: «يا أخية، لا يُذهبنَّ حلمك الشيطان.» ثم ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «لو ترك القطا لنام.»
فقالت زينب: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصابًا، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، وغلبها الحزن وبرح بها الأسى فخرَّت مغشيًّا عليها، فهمَّت سلمى بها وأجلستها، وقام الحسين لها وقال: «يا أختاه، اتقي الله وتعزَّي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله. جدِّي خير مني، وأبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة.» ثم قال لها: «يا أخية، إني أقسمت عليك فأبري قسمي، ولا تشقِّي عليَّ جيبًا، ولا تخمشي عليَّ وجهًا، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.»
فأطاعته وخرجت وسلمى تتبعها صامتة، وقد أحبت الموت مع الحسين، أما هو فقضى ليله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وأصحابه كذلك، وقضت سلمى ليلتها مثلهم وقد أخذ العطش منهم مأخذًا عظيمًا.
وأصبحوا في اليوم التالي وهو العاشر من المحرم، فاشتغل الحسين بترتيب رجاله فأمرهم أن يدخلوا أطناب الأخبية بعضها في بعض حتى تصير كأنها خباء واحد، وأن يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم، ولم يكادوا يفعلون ذلك حتى رأوا الخيل أقبلت عليهم وفي مقدمتها شمر بن ذي الجوشن، وكانت سلمى واقفة في باب الخباء، فلما رأت شمرًا ارتعشت أعضاؤها ورفعت نظرها إلى السماء وطلبت إلى الله أن ينتقم منه.
ثم حدثتها نفسها أن ترميه بسهم ولكنها تذكرت أن الحسين أبى عليهم القتال فصبرت واكتفت بالدعاء وملاطفة الطفل.
أما الحسين فركب راحلته وعليه جبته وقلنسوته وتقدم وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أهل العراق»، فسمعه أكثرهم وأصغوا لما سيقوله فقال: «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق عليَّ، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النَّصَف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النَّصَف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليَّ ولا تُنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. أما بعد: فانسبوني وانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين المصدق لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله بما جاء من عند ربه؟! أوليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟! أولم يبلغكم ما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لي ولأخي: «هذان سيدا شباب أهل الجنة.» فإن صدقتموني فهو الحق، والله ما تعودت كذبًا منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم.» ثم قال: «فإن كنتم في شك من هذا فتشكون أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطالبونني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»
فأجابوه: إننا لا نفهم ما تقول. وحملوا وحمل رجاله.
فلما علت الضوضاء صحا الطفل من نومه فأسرعت سلمى إليه وقلبها يتقطع حزنًا عليه، واشتغلت بإسكاته وهو يصيح من العطش كأنه ذُعر لأصوات الناس فازداد بكاءً وعويلًا، وزينب مشغولة بنفسها لا تدري ماذا تعمل وقد اشتد المرض بابن أخيها فشغلها الاعتناء به.
وفيما هم في ذلك وقد علت الضوضاء، رأت سلمى فارسًا مقبلًا من معسكر أهل الكوفة يستحث فرسه نحو الحسين، وكان الحسين واقفًا ينتظر ما يبدو وهو لا يصدق أنهم يحاربونه، فلما رأى الفارس مقبلًا لبث يتوقع وصوله، ولم يكد يقترب حتى عرف أنه الحر بن يزيد الذي كان قد لقيهم قبل وصولهم إلى كربلاء، ورأته سلمى أيضًا من خلال الخيام فعرفته وتعجبت لقدومه، فلما وصل إلى الحسين رمى قوسه بين يديه وهو يقول: جُعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، أنا صاحبك، حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، جعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ويبلغون بك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، فإني تائب إلى الله مما صنعت، فهل لي من توبة؟
فقال له الحسين: «نعم يتوب الله عليك، فانزل.»
قال: فأنا لك فارسًا خيرٌ مني راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول آخر ما يصير أمري.
فقال له الحسين: «فاصنع ما بدا لك.»
فلما سمعت سلمى كلام الحر دمعت عيناها وقالت في نفسها: هل يشعر مثل هذا الشعور ابن زياد أو يزيد؟ ثم رأت الحر يسوق فرسه أمام الحسين نحو أهل الكوفة فتبعته ببصرها وأذنيها، لترى ما يكون منه فإذا هو ينادي أهل الكوفة قائلًا: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبَل والعبر، دعوتم هذا السيد الصالح، حتى إذا جاء أسلمتموه. وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه؟ ثم عدوتم عليه لتقتلوه، وأمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ومنعتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري، يشربه اليهود والنصارى والمجوس، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه؟ فها هم قد صرعهم العطش. بئس ما خلفتم محمدًا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ.
ما أتم الحر بن يزيد كلامه حتى حمل أهل الكوفة وفي مقدمتهم عمر بن سعد، وكان عمر هذا أول من رمى سهمًا في الوقعة، وتصاول الفريقان وتراموا بالسهام حتى وقع بعضها في الخيام.
وكان النهار قد أضحى وسلمى تشاغل الطفل وتسكته، وقلبها يميل إلى النزال لعلها تلقى أجرًا في الدفاع عن الحق، وشاعت عيناها وهي تنظر إلى القوم عن بعد لعلها ترى ابن ذي الجوشن فلم تره بين الرجال، فطلعت على مرتفع والطفل بين ذراعيها تقيه بكفيها وزنديها وقلبها يختلج. فأرسلت بصرها في ذلك السهل فرأته مملوءًا بالرجال والفرسان من أهل الكوفة بما يزيد عددهم على أربعة آلاف، وليس مع الحسين إلا اثنان وثلاثون فارسًا وبعض الرجالة، ولكنها رأت رجال الحسين لا يحملون على جانب من جوانب العدو إلا كشفوه، ثم ما لبثت أن رأت الحر بن يزيد وقع قتيلًا، ووقع غيره، فحولت بصرها إلى الحسين فرأته لم يحمل بعد، فما زالت ترجو أن يستبقوه إذا ضعف أمره أو قُتل رجاله، ولم تستطع سلمى البقاء هناك خوفًا على الطفل من نبلٍ يصيبه، فعادت إلى الفسطاط فرأت زينب وسكينة وفاطمة يبكين بجانب فراش المريض، وسمعته يخفف عنهن ويهوِّن عليهن كأنه شيخ محنَّك وما به من مرض، ولما رآها مقبلة وأخوه بين ذراعيها يبكي، قال لعمته وأخته: قمن فاستسقين له واتركنني فلا بأس عليَّ، فصاحت زينب: ومن أين نستسقي له وهو يسقينا؟ يا ليته يشرب الدمع فنرويه من آماقنا! قالت ذلك ونهضت إلى الطفل فتناولته وجعلت تقبله وهي تبكي وتضمه إلى صدرها، فبكت سلمى مثل بكائها، ولكنها رأت من الحكمة أن تتجلَّد وتصبِّرها، فاسترجعت الطفل إلى حجرها وقالت: تصبَّري يا سيدتي وسكِّني روعك، لعل الله يأتينا بفرج من عنده.
وكانت الشمس مالت عن خط الهاجرة فسمعت سلمى في المعسكر أصواتًا متداخلة، فهرعت وخرجت من الفسطاط، وخرجت زينب في أثرها، فرأت الحسين يصيح في رجاله يدعوهم إلى صلاة الخوف، فتجمع الرجال ووقفوا والنبال تتساقط عليهم وصلى فيهم الحسين صلاة حارَّة يخشع لها قلب الجماد، فلما فرغوا من الصلاة تجددت آمالهم واطمأنت قلوبهم — والصلاة أحسن معزٍّ للإنسان في ضيقه — فتقدم أحد رجال الحسين حتى أقبل على أهل الكوفة، وفيهم حمَلة النبال والسيوف بين فارس وراجل، وقال لهم: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يا قوم لا تقتلوا حسينًا فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب من افترى. قال ذلك وهجم وهو يقاتل حتى قُتل، وهجم غيره في أثره، وما زال رجال الحسين يقاتلون حتى لم يبقَ منهم إلا أهل بيته خاصَّة.
حدث ذلك وسلمى لا تدري ماذا تعمل، والطفل بين يديها، وقد شغل خاطرها بالغلام المريض، فلما رأت رجال الحسين يقتلون طار خوفها ونسيت مصيبتها وغلب عليها اليأس، وأحبت أن تخالف الحسين وتقاتل معه، ولكنها لم تجد سبيلًا إلى ذلك والطفل يتوجع وقد تقطع قلبها لبكائه، وفيما هي في تلك الحيرة بباب الخباء رأت عليًّا الأكبر ابن الحسين، وهو شاب أصبح الوجه جميل الصورة، في التاسعة عشرة من عمره، تنبعث الهيبة من عينيه، قد هجم على القوم بسيفه وهو ينشد قولًا حماسيًّا، فخُيِّل إليها أنه فرج مرسل من السماء، ولكنها ما لبثت أن رأته أصيب في صدره فخرَّ صريعًا يتخبط بدمه، وكان أبوه الحسين بالقرب منه فصاح: «قتل الله قومًا قتلوك يا بني، ما أجرمهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول!» قال ذلك وانهملت الدموع من عينيه، فلم تتمالك سلمى أن صاحت: قتلوه قتلهم الله.
وما أتمت كلامها حتى رأت زينب تهرع وهي تنادي: وا أخياه وابن أخياه! وجاءت حتى أكبَّت عليه، فأخذ الحسين برأسها فردَّها إلى الفسطاط، ونادى فتيانه فقال: «احملوا أخاكم.» فحملوه حتى وضعوه في الفسطاط، فتكاثرت النبال المتساقطة هناك فأصيب غيره، وكلما أصيب واحد حملوه إلى ذلك المكان.
وخافت سلمى على الطفل فأرادت أن تلجأ إلى الخباء، فرآها الحسين والطفل بين يديها، فأشار إليها أن تأتي، فأتت والطفل يبكي من العطش وقد بُحَّ صوته، وهي تحنو عليه لتقيه من النبال، فتناوله الحسين من ذراعه وأسرع نحو المعركة فأسرعت إليه وشخصت ببصرها إليه وقلبها يختلج خوفًا عليه، ولم تفهم معنى ذلك ولم تدرِ ما تعمل، فإذا بالحسين يخاطب أهل الكوفة والطفل مرفوع بين يديه ويقول لهم: «يا أهل الكوفة خافوا من الله واسقوا هذا الطفل، إذا كنت أنا في اعتباركم ظالمًا أستوجب الموت فما ذنب هذا الطفل الصغير؟ يا قوم خافوا من الله واذكروا عذاب يوم أليم.»
فتأثرت سلمى من ذلك الكلام وحسبت أولئك القوم يحنُّون على الطفل فيسقونه، ولكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى رأت رجلًا من نبالة الكوفة أوتر قوسه ورمى الطفل وهو يقول: خذ اسقه. فأصاب السهم أحشاءه، فصاح الطفل صيحة الألم، ثم تحول صياحه إلى أنين، فأحست سلمى أن السهم أصاب قلبها، وركضت إلى الحسين والطفل يختلج بين يديه وقد تدلى رأسه على صدره والدم يقطر من جبينه، فصاحت: ويلاه! ما أظلمهم! ويلاه! ما أقسى قلوبهم! وهمَّت بتناول الطفل فمنعها الحسين من ذلك وقال لها: «لا تبكي يا بنية، إن له أسوة بجده وعمه وأهله الصالحين.» ثم رفع يديه والغلام بينهما وشخص ببصره إلى السماء وقال: إن تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين، ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته وفيهم إخوة الحسين وأولاده وأبناء عمه وأبناء أخيه، والتفت إلى سلمى وقال لها: «ارجعي يا فتاة إلى الخباء.» فتراجعت وقلبها يقطر دمًا وعيناها تسكبان الدمع ولم تجد سبيلًا إلى مخالفة الحسين.
وبينما هي راجعة وكفَّاها على عينيها تستلقي الدمع وتندب القتلى أحست بيد قبضت على يدها وجرَّتها بعنف شديد، فأرادت أن تجذب يدها ونظرت فإذا بالشيخ الناسك وهو كالأسد الكاسر قد طوق خصرها وحملها بين ذراعيه كأنه من مردة الجان، وخرج بها من بين الخيام حتى أتى مضيقًا فوق الخندق مر فوقه، وهي تظن نفسها في حلم. حتى إذا وصل بها إلى كهف وراء الخيام، ألقاها إلى الأرض وهو يلهث من شدة التعب فصاحت فيه: إلى أين تذهب بي يا عماه؟ دعني أمت مع الحسين فإنها أحسن موتة يرجوها المؤمن في دنياه.
فلم يستطع الشيخ أن يجيبها لتسارع أنفاسه من التعب، ولكنه أشار إليها أن تصبر فحاولت الإفلات منه والرجوع إلى المعركة فأمسكها وأقعدها وهو يقول بصوت متقطع: ليس الموت مما يُسرَع إليه. وكيف تتركين عبد الرحمن؟
فلما سمعت اسم عبد الرحمن تجددت أحزانها وزادت شجونها فبكت بصوت عالٍ وقالت: أين هو عبد الرحمن؟ ألم يسبقني إلى العالم الآخر. دعني أمت وألحق به.
قال: من أنبأك بموته؟
قالت: نعم إنه مات وسبقني. دعني ألحق به. دعني أمت مع الحسين وأهل بيته.
قال: إن عبد الرحمن لم يمت يا بنية، فهدئي روعك واعلمي أن الحسين مائت، ولا فائدة من الدفاع عنه.
قالت: أتعلم أنه مائت وتطلب بقائي؟ وما الفائدة من بقائي وبقاء عبد الرحمن إذا مات سيد شباب المسلمين؟ دعني أمت معه. قالت ذلك ونهضت وهي تقول: لا. لا. لا يموت. من يجرؤ على قتله؟! ومن يمد يده إليه ولا تيبس؟! وأي أرض تتلقى دمه ولا تجف؟! لا. لا يجرءون على قتله وهو ابن بنت الرسول وسيد شباب المسلمين.
فأمسكها الشيخ بيدها وقال: ألا تصدقين أنه مائت؟
قالت: لا.
قال: قومي وانظري موته.
فقامت وهي تهرول في مشيتها حتى وقفت على أكمة تشرف على الوقعة فرأت الحسين يمشي نحو فسطاطه والدم يقطر من فمه لسهم كان قد أصابه هناك ولم يقتله، ولم يصل إلى الفسطاط حتى أحاط به جماعة من رجال الكوفة فيهم رجل أبرص ما كادت سلمى تراه حتى عرفت أنه شمر بن ذي الجوشن، فأرادت أن تصيح فأمسكها وأسكتها.
فوقفت كأنها على الجمر وعيناها على الموقعة فرأت رجلًا يضرب الحسين على رأسه بالسيف فقطع السيف القلنسوة وأصاب رأسه وامتلأت القلنسوة دمًا، فرفع الحسين القلنسوة وشد رأسه بخرقة، ثم وضع عليه قلنسوة أخرى بينما رجع عنه شمر ومن كان معه، فحسبتهم قد عدلوا عن قتله، ثم رأت الحسين عائدًا إليهم ومعه ابن أخيه عبد الله، وهو غلام لم يراهق كان عند النساء، فلما رأى عمه في ذلك الضيق لم يتمالك عن أن تبعه وزينب في أثره، فسمعته يقول لها: «احبسيه يا أختي.» فأرادت أن تُرجعه فأبى وامتنع عليها امتناعًا شديدًا وقال: والله لا أفارق عمي. ولم يتم كلامه حتى رأى رجلًا يُهوي بالسيف على الحسين، فصاح الغلام فيه: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟!
فضربه الرجل بالسيف فاتقاها الغلام بيده فانقطعت يده إلى الجلد حتى تدلَّت وهي معلقة بقطعة من جلد وأصيب رأسه، فنادى الغلام: يا أماه! فهمَّ الحسين به وضمَّه وهو يقول: «اصبر يا ابن أخي على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يُلحقك بآبائك الصالحين.»
ومات الغلام لساعته وألحقت جثته بجثث أهله وسلمى تنظر، فطار صوابها ولم تعد تستطيع صبرًا، فإذا بالحسين قد دعا بسراويل يمانية قطعها ولبسها، فلما رأته يقطعها استغربت ذلك منه، فقال لها الشيخ: أتعلمين لماذا فعل ذلك؟ لقد قطع السراويل لكيلا يسلبوها بعد موته.
قالت: أهو مائت كما تقول؟ لا أظنهم يقتلونه.
ولم تتم كلامها حتى رأت شمر بن ذي الجوشن هاجمًا عليه، ولم يكن قد بقي أحد مع الحسين إلا ثلاثة رجال قُتلوا بين يديه، فهجم الحسين عليهم وعليه القلنسوة والجبة وتلك السراويل المقطعة، وهي هجمة اليأس، وكأنهم ذُعروا لهجومه ففرُّوا من بين يديه فرار المعزى من الوحش، فاستبشرت سلمى بذلك وقالت للشيخ: ألم أقل لك إنهم لن يقتلوه؟! ألا تراهم كيف يفرُّون أمامه؟!
ولم تقل ذلك حتى رأت السهام تتساقط عليه كالمطر، وقد صار كالقنفذ، فأحجم الحسين والرجال واقفون بإزائه لم يجرؤ أحدهم أن يبدأ بقتله، وعند ذلك خرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط وصاحت وجند الكوفة يسمعها: يا عمر بن سعد أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها.
فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد.