في دمشق الشام
وبعد أن طافوا بالرأس في أسواق الكوفة أمر يزيد جماعة من رجاله أن يحملوا رأس الحسين ورءوس أصحابه ومن بقي من أهل بيت الحسين إلى دمشق ليرى رأيه فيهم، فحملوا الأحمال وقاموا يطلبون الشام، وسلمى في جملة الأسرى لا تفارق زينب وسكينة وفاطمة، وكانت تعزية كبرى لهن، ولم يكن عالمًا بحالها إلا زينب، ولكن مصابها شغلها عن التحدث معها عن عبد الرحمن وعامر، ولم تجرؤ سلمى على فتح ذلك الحديث.
وكان يزيد بن معاوية بعد أن أمَّر ابن زياد على الكوفة وأوصاه بدفع الحسين لم يهدأ له بال وهو يفكر في حال الشيعة؛ لعلمه أن قلوب المسلمين مع الحسين، ولكنه كان شديد الثقة بابن زياد؛ لما يعلمه من دهاء أبيه زياد من قبله، وكان يرجو أن يكون له كما كان أبوه لأبيه، على أنه لم يكن يتوقع بلوغ الشدة بابن زياد حتى يفتك بالحسين وأولاده وأهل بيته إلى هذا الحد.
وكان لا ينفك عن استطلاع الأحوال ممن يرد عليه من رسل ابن زياد حينًا بعد حين، فعلم بنهوض الحسين من مكة وقدومه إلى الكوفة، ثم لم يعد يسمع شيئًا. حتى إذا كان في مجلسه ذات يوم وقد جلس الأمراء والأعيان بين يديه إذا بغلامه دخل وأنبأه أن بالباب رسولًا من الكوفة، فخفق قلب يزيد لما يتوقعه من الخبر الجديد فقال: ليدخل.
فدخل رجل عليه أمارات السفر وقد تزمَّل بعباءته واعتم بكوفيته، فابتدره يزيد قائلًا: من الرجل؟
قال: زجر بن قيس رسول عبيد الله بن زياد إلى أمير المؤمنين.
قال: وما وراءك؟
قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره.
فاستبشر يزيد وأشرق وجهه وابتسم وقال: بشرك الله بالخير.
قال: اعلم يا أمير المؤمنين أن الحسين بن علي ورد علينا في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال.
فقال: وهل قاتلتوهم؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، إننا عدونا عليهم من شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هامِ القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون بالآكام والحفر كما لاذ الحمائم من صقر.
فصاح يزيد: بورك فيكم وشد أزرنا بكم.
فقال زحر: ثم والله ما كان إلا جزر جزور أو نومة نائم حتى أتينا على آخرهم.
فابتدره يزيد وقد بغت وقال: وهل قتلتموهم جميعًا؟
قال: نعم يا مولاي، وهاتيك أجسادهم مجرَّدة، وثيابهم مرمَّلة، وخدودهم معفَّرة، تصهرهم الشمس وتُسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقاع سبسب.
فصاح يزيد صيحة قوية وقال: والحسين؟
قال زحر: والحسين أيضًا.
فدمعت عينا يزيد وأطرق وهو يقول: لعن الله ابن سمية! لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. رحم الله الحسين. قال ذلك وانتهر الرسول وأخرجه من مجلسه ولم يصله بشيء.
فخرج الرسول ويزيد ما زال مطرقًا وقد قطب حاجبيه وبان الحزن في جبهته، وفيما هو في ذلك سمع رجلًا في صحن الدار يقول: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم.
فصاح يزيد: من ينادي هذا النداء؟
قالوا: هذا محفر بن ثعلبة ومعه جماعة يقولون إنهم جاءوا برأس الحسين.
فقال يزيد: خسئ محفر، والله ما ولدت أم محفر ألأم وأحمق منه. ثم قال: أين الرجل. ادخلوا به علي.
فأدخلوه عليه ورأس الحسين على كفِّه وقد تصاعدت ريحه، فأقبل الرجل حتى وضع الرأس بين يدي يزيد على البساط ومنظره ينفطر له القلب وقد تكمَّش جلده وتجعَّد شعره واختلطت رائحة الطيب بروائح الدم المتعفن، وتغيَّر لون الشعر بما خالطه من الدم والتراب، فلما وقع نظر يزيد عليه اقشعرَّ بدنه وتصور هول ذلك العمل الفظيع، وتذكر أنه يرى رأس ابن بنت الرسول فتخشَّع وتهيَّب.
وما كاد ينظر إلى الرأس حتى خرجت إليه من وراء الستار امرأة مقنَّعة هي إحدى نسائه، واسمها هند بنت عبد الله، فاستغرب القوم خروجها على تلك الحال وهمَّ يزيد أن يسألها عن سبب خروجها فصاحت فيه وهي تشير بإصبعها إلى الرأس قائلة: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله؟
قال وهو يتلجلج بكلامه: نعم، فأعولي عليه والبسي الحداد على ابن بنت الرسول، عجَّل ابن زياد فقتله، قتله الله.
فأخذت في العويل والبكاء ثم أدخلوها إلى خدرها، وأذن يزيد للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه وهو ينظر إليه ومعه قضيب ينكت به ثغره ويقول: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
وكان في جملة الحضور رجل من أصحاب الرسول اسمه أبو برزة الأسلمي، فلما رأى يزيد بنكت ثغر الحسين قال له: «أتنكت بقضيبك ثغر الحسين؟ أما والله لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذًا لربما رأيت رسول الله ﷺ يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه.» قال ذلك ثم قام وولى.
فلما سمع يزيد قول الرجل نظر إلى الرأس وعيناه لا تزالان تدمعان وقال: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم التفت إلى الناس وقال: «أتدرون من أين أتى هذا ولماذا قُتل؟ لأنه علم أن الله أكرم يزيد بالخلافة. قال: أبي علي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه.» فأما قوله: أبي خير من أبيه، فقد تحاجَّ أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حكم الله له. وأما قوله أمه خير من أمي فلعمري فاطمة بنت الرسول خير من أمي. وأما قوله: جدي رسول الله خير من جده، فلعمري ما أحد يؤمن بالله وباليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلًا ولا ندًّا، ولكنه إنما أُتي من قبل فقهه ولم يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ.
فلما فرغ يزيد من كلامه علم الناس أنه إنما قال ما قاله تخفيفًا لهول فعلته، ولم يجرؤ أحد منهم على قولٍ فسكتوا، ثم سمع يزيد جلبة في الدار فقال: ما هذه الجلبة؟
فقال غلامه: هؤلاء نساء الحسين في صحن الدار.
قال: أدخلوهن.
فأدخلوهن وفيهن زينب أخت الحسين، ومعها فاطمة وسكينة بنتا الحسين وبقية النساء، وفي جملتهن سلمى، وكانت سلمى مقنَّعة كسائر النساء فلم تكن تخاف أن يعرفها يزيد، وبالغت في التقنُّع لإخفاء أمرها، ولكنها ما كادت ترى تلك القاعة حتى تذكرت يومها في دار يزيد وموقف عبد الرحمن هناك، فتجددت أحزانها، على أنها صبرت لترى ما يكون.
أما سكينة وفاطمة فتطاولتا من وراء الناس لتريا رأس أبيهما، ويزيد يستره عنهما، فلما رأتا الرأس صاحتا وصاح سائر النساء، وولولت بنات معاوية، وقالت سكينة وكانت أكبر من فاطمة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟!
فأثر قولها فيه فقال: يا ابنة أخي إني لهذا كنت أكره.
فقالت: والله ما تركوا لنا خرصًا.
فقال: ما أتى إليكن لأعظم مما أخذ منكن.
فقام رجل من الحضور وهو من أهل الشام وقال ليزيد: هب لي هذه. يعني فاطمة.
فلما سمعت فاطمة قوله ارتعدت فرائصها وعلمت أنه يريد أن يأخذها سبيَّة فخافت وأمسكت بثوب زينب، فالتفتت هذه إلى الرجل وقالت: كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا له.
فغضب يزيد وقال لها: كذبت والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.
قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
فغضب يزيد واستطار ثم قال: أإياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.
قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك.
قال: كذبت يا عدوة الله.
فقالت: أنت أمير تشتم ظالمًا وتقهر بسلطانك.
فاستحيى وسكت.
ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخلوه عليه والغل في يديه ورقبته، وهو غلام صغير وقد تعب من حمله على الأقتاب في أثناء الطريق، وكان المرض قد فارقه ولكنه ما زال ضعيفًا مهزولًا، فوقف الغلام بين يديه وقال: لو رآنا رسول الله ﷺ مغلولين لفكَّ عنا.
فخجل يزيد وقال: صدقت، وأمر بفكِّ غلِّه عنه.
فقال علي: لو رآنا رسول الله ﷺ بُعداء لأحب أن يقرِّبنا.
فأمر به فقرب منه، وقال له يزيد: إيه يا علي بن الحسين. أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما رأيت.
فقال علي: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
فقال يزيد: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، ثم سكت عنه.
وكانت سلمى في أثناء ذلك تنتفض من شدة الغضب، وتوقعت أن يتكشف أمرها فتهيأت للدفاع بأي وسيلة كانت، فلما رأت سكوت يزيد هدأ روعها، ثم رأته يشير بيده أن يخرجوهن، فخرجوا بهن إلى دار النساء، فخافت أن يفتضح أمرها هناك؛ إذ لا تستطيع البقاء مقنَّعة بين النساء، فاحتارت في أمرها ولم ترَ خيرًا من أن تشكو حالها إلى زينب وتستشيرها؛ لأنها كانت عالمة بحكايتها مع يزيد.
فلما خرجوا بهن من مجلس يزيد وأدخلوهن دار النساء، أقبل عليهن نساء يزيد وسائر أهل بيته، وبكين معهن وأقمن المأتم، وسلمى تتظاهر بالانشغال وهي ترى نساء يزيد وبينهن العجوز قيِّمة الدار وتستتر منها، وتنتظر فرصة لتخاطب زينب على انفراد، حتى إذا جاء المساء خلت إليها واستشارتها في أمرها، فقالت زينب: لا تظنِّي أني نسيت حالك، وقد كنت وأنا في بكائي ونحيبي أفكر في أمرك، فاعلمي يا بنية أن يزيد خيَّرنا في الإقامة حيث نشاء، وسنختار الإقامة بالمدينة، فإذا شئت المضيَّ معنا فأهلًا بك ومرحبًا.
قالت سلمى: إني على ما تشائين يا مولاتي، ولكنني ما زلت آملة أن … وبكت.
فأدركت زينب أنها تعني عبد الرحمن فقالت: لا قطع الله لك أملًا، وسكتت لأنها لا تدري ما آل إليه أمر عبد الرحمن وعامر بعد مسيرهما إلى الكوفة، وإن كانت ترجح موتهما، وبعد السكوت برهة قالت زينب: ذلك أمر سننظر فيه بعد خروجنا، ولكنني لا أرى بقاءك هنا إلا خطرًا.
قالت: وأنا أراه كذلك، فهل تأذنين لي في الخروج إلى الغوطة فأقيم بدير خالد ريثما تخرجن، فأكون معكن إن شاء الله؟ وقد اختارت الدير لكي تزور قبر أبيها وتبكيه مرة أخرى.
فقالت زينب: لقد رأيت حسنًا، امكثي هناك حتى نخرج.
ثم تظاهرت زينب بأمر تريد إنفاذ سلمى فيه إلى خارج القصر، وأخرجتها منه فخرجت وهي كالضائعة الرشد لفرط ما هاج من أشجانها هناك؛ إذ تذكرت كل ما قاسته من الأهوال في ذلك المكان، فلما أصبحت خارج القصر سارت في أسواق المدينة تطلب الغوطة حتى إذا اشتمَّت رائحة البساتين ووقع بصرها على تلك الغياض تذكرت حالها مع عبد الرحمن وثارت أحزانها، فسارت تلتمس قبر أبيها وقد اشتد بها اليأس ولم تعد ترى في الحياة لذة.
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فترددت سلمى بين أن تتحول إلى الدير أو تسير إلى قبر أبيها، وساقتها قدماها إلى تلك الجوزة وهي لا تشعر، فلما أطلت على المكان وقد غابت الشمس سارعت إلى القبر وألقت بنفسها على التراب وأخذت في البكاء والنحيب وهي لا تبالي بما يتهددها من الظلام المقبل، وما زالت تبكي حتى بللت ذلك التراب وجعلت تندب أباها بصوت قد أضعفه التعب وتقول: ويلاه يا أبتاه! قم وانظر إلى فتاة خلَّفتها وخلَّفت لها الشقاء، وحمَّلتها فوق ما تحمَّلته النساء! شببت وشبَّ معي حب الانتقام، ولكن وا أسفاه لم أجد إلى الانتقام سبيلًا. قم وانظر ما جرى. انظر إلى فتاة عاشت يتيمة حزينة لم يكن لها من معدات الحياة إلا حبيب يحبك، وقد بذل نفسه من أجل الانتقام لك، ولكنه وا لهفي عليه! لا أرى ما آل أمره إليه. آه! من ينبئني ببقائه حيًّا فأسعى إليه! ولكن أنى له الحياة وقد كُتب القتل على الصالحين والأبرياء؟! هل خطر لك يا أبتاه وأنت على قيد الحياة أن الناس سينقمون على الحسين ابن بنت الرسول ويقتلونه، ويحملون رأسه من الكوفة إلى الشام؟
•••
وفيما هي في تلك الحال وقد أمسكت تنفُّسها لئلَّا يكدِّر ذلك السكون، وأصبحت كالجماد لفرط خوفها ووحشتها، سمعت سعالًا قويًّا، فوثبت بالرغم منها وصاحت صيحة الرعب، ولم تكد تتحقق جهة الصوت حتى رأت شبحًا قادمًا إليها من وراء شجرة بالقرب من الجوزة، فصاحت: ويلاه! من أنت؟ أمن الجن أم من الإنس؟ خف الله وابتعد عني.
ولم تتم كلامها حتى سمعت قائلًا يقول: لا تخافي يا سلمى، لا تخافي.
فتبادر إلى ذهنها لأول وهلة أن أباها قام من القبر، فوقف شعرها واقشعرَّ بدنها.
ثم دنا الشبح منها فإذا هو الشيخ الناسك، فلما عرفته وقعت مغشيًّا عليها، فأنهضها وجعل يروِّح لها بيديه حتى أفاقت فقال لها: سامحيني يا سلمى على هذا السعال، فقد حدث بالرغم مني، وما كنت لأزعجك إلا مكرهًا، فتشددت وجلست وهي تقول: أين عبد الرحمن؟ قل لي أيها الشيخ أين هو؟ وإلا فادفنِّي هنا في هذا التراب الآن.
فلم يجبها الشيخ إلا بالبكاء بصوت عالٍ وكأنه أصيب بجنَّة، وتركها وجعل يحثو التراب على وجهه ويبكي بكاء الطفل ويقول: يا حبيبي يا حُجْر، متَّ في سبيل نصرة الإمام علي، قم فانصر ابنه، بل قم فابكِه وابكِ أولاده وسائر أهله، فقد ماتوا جميعًا! هنيئًا لك أنك جالس معهم الآن في دار البقاء.
فلما سمعته يقول ذلك ورأت حاله، نسيت نفسها وتذكرت ما سمعته منه ليلة مقتل الحسين في كربلاء، فازدادت حيرتها وودت لو عرفت ما بعثه على ذلك، فقالت: من أنت أيها الشيخ. قل لي وفرج كربي؟
فلما سمع كلامها تغيرت حاله وسكت، كأنه ندم على ما فرط منه، ثم تجلَّد وقال لها: إنك تسألينني عن أمر ليس من شأنك يا سلمى. اسكتي وابكي ما شئت، وإذا شئت أن تعلمي من هو الشيخ الناسك فسوف تعلمين. ستأتي ساعة ينكشف لك فيها أمره، وأرجو ألا ينكشف إلا كما يريد هو.
فسكتت سلمى وخافت أن يبدو منه ما لا تريده، ثم أرادت أن تغير مجرى الحديث فقالت: أخبرني أين عبد الرحمن، أحي هو كما قلت لي؟
قال: لا أعلم، ولو لعلمت ما كنت لأقول لك؛ لأنك لا تصغين إلى قولي.
قالت: قل، بالله قل، إني مصغية.
قال: أتعملين بما أقول لك؟
قالت: نعم، أفعل كل ما تريده، ولو أمرتني بأن أدفن نفسي حية.
قال: اطلب إليك أن تعتزلي هذا العالم وتأتي معي إلى دير نقيم به لا نرى فيه الناس ولا نسمع بمظالمهم.
فجاء ذلك الاقتراح صدمة قوية على قلبها فقالت: وعبد الرحمن؟
قال: لا تسأليني، بل افعلي ما أقوله لك.
فسكتت ولم تدرِ بمَ تجيبه، ولكنها عولت على الإصغاء لقوله فقالت: وأي دير تريد أن نقيم به؟ أنقيم بهذا الدير؟
قال: كلا، لا نقيم في جوار أولئك الظالمين، هيا بنا إلى دير بحيراء في بصرى، وإن كان يعز علي أن أفارق هذا القبر. قال ذلك واختنق صوته.
قالت: وأين هو هذا الدير؟
قال: على بضع مراحل من هذا المكان في جهة البلقاء.