الفصل الثاني عشر
بزَغ الصباح الثالث مشرقًا ومشجعًا مثل اليومين السابقين؛ وحاشية كورلاث التي لم تزَل مرتبكةً بعض الشيء لكن مبتهجة، راحت تتأهَّب لاتباع زعيمها في رحلة الهبوط من قمة الجبل. وتعمَّدَت هاري السيرَ في آخر الموكب، وراحت تنظر حولها بينما كان الحصان والفارس قبل الأخير يُغادران الساحةَ أمام القاعة ويختفيان في الممرِّ المحفوف بالأشجار. كانت واقفة في المكانِ نفسِه الذي تقف فيه الآن عندما خطا كورلاث إلى الساحة الواقعة أمام القاعة، وخلفه فايرهارت، لتوديع الرجل الذي جاء لزيارته. إذ تحدَّثا ببضع كلمات، بصوتٍ خفيض جدًّا فلم تتمكَّن من سماعها وهي متواريةٌ في الخلفية، مثلما يمكن لأيِّ شخص يمتطي حصانًا مرتفعًا ذا لونٍ كستنائي لامع مع قطةِ صيد عند قدمَيه أن يتوارى، ثم رأت كورلاث يمدُّ إحدى يديه، وكفُّها لأسفل وأصابعها ممدودة، نحو لوث. ونظر كلٌّ منهما في عينَي الآخر لحظةً طويلة، ثم مد لوث إصبعَين للمسِ ظهر يد كورلاث. فاستدار كورلاث بعيدًا وامتطى صهوةَ حصانه، وبدأ فرسان الملك في تتبُّعه نحو فتحة الممر.
كانت ناركنون تتثاءب بشدة، وهي تميل على إحدى قائمتَي صنجولد الأمامية. ظلَّت تُخرخر لنفسها طَوال الصباح، على الرغم من أنها بدَت وكأنها تعلم أنهم سيُغادرون، بما أنها فضلَت أخيرًا مغادرةَ السرير وتتبُّعَ هاري حين أخذَت هاري سرجها وأغراضَها، وذهبَت لإحضار صنجولد. خطر لهاري مندهشةً أنها في يومين فقط أصبحَت مولعةً بهذا المكان، وكانت آسفةً لمغادرته. يشعر المرء في هذا المكان بأنه في بيت؛ ربما ليس بيتَها، ولكن بيت شخصٍ ما، اعتاد على إيواءِ سيده وحمايته وإقامةِ صداقة معه. لم يكن في فراغه الخَواءُ الكائن في قلعة كورلاث، رغم أن قلعة المدينة الشمَّاء كانت أكثرَ ترفًا في الأثاث. أخبرَت نفسها بصرامةٍ أن سبب حبِّها لهذا المكان يمكن أن يكون ببساطة لأنها تخشى ما ستُواجهه بعد مغادرة هذه الملاذِّ. وجدَت لوث يقف بجانبها، وقد وضع يدَه برفق على غارب صنجولد — في ألفةٍ نادرًا ما يسمح بها صنجولد لأيِّ شخص غريب.
ثم قال لها: «هاري»، فطرفَت بعينيها؛ إذ لم يُنادها أحدٌ بلقبها القديم منذ ذلك اليوم الأخير لها في القصر، ممَّا بعث فيها جيَشانًا مُربكًا من الحنين إلى الوطن؛ لأن أهل التلال لم يستطيعوا نطقه مثلما ينطقه أهلُ هوملاند؛ إذ ينطقه ماثين هكذا «هري». تابع لوث قائلًا: «أعتقد أن كلَّ شيء سوف يسير على ما يُرام معكِ: أو على الأقل أنكِ ستختارين البقاء على أفضلِ مسار مما سيعرض عليكِ، وهذا أكثر ما يمكن لأي إنسان أن يأمُلَ فيه. لكنني لا أتنبَّأ بأمورٍ حسنة للغاية، لدرجة أن الشكوك لا تُساورني، بالنسبة إليكِ أو إلى أيِّ شخص آخر؛ وإنني خائفٌ عليكِ. إن الظلام القادم على دامار لن يهدأ من أجل شخصٍ غريب. إذا أصبحتِ بحاجة إلى مكانٍ لتأتي إليه، فيُمكنكِ دائمًا القدومُ إلى هنا. سوف تجدينه بمنتهى السهولة؛ ما عليكِ سوى امتطاءِ حصانكِ والمجيءِ إلى هذه الجبال — أي: جبال دامارية ستَفي بالغرض، وإن كان الأقربُ إلى هنا هو الأفضلَ — وردِّدي اسمي من حين إلى آخَر. سوف أسمعكِ، وسوف يُعرفكِ مرشدٌ بنفسه.» كان هناك بريقٌ من المرح في عينَيه الزرقاوَين ذاتِ الجفنَين المتهدلَين، لكنها أدركَت أن بإمكانها أخْذَ كلماته على محمل الجِد رغم ذلك.
فقالت: «شكرًا لك»، وسار صنجولد إلى الأمام بين الأشجار. وانطلقَت أمامه ناركنون، بعد أن مدَّدَت جسدها مرةً أخيرة وحرَّكَت ذيلها. لم تنظر هاري إلى الوراء، لكن رؤيتها المحيطية عبر طرفِ قزحيَّةِ عينها أخبرَتها كيف تَراجع ضوء الشمس، وانغلقَت الأشجار خلفها، وأصبحَت ساحة لوث مجردَ بقعة من الذهب، على بُعد مسافة طويلة.
كان النزول من الجبل أسهلَ بكثيرٍ من صعوده، وعلى الرغم من صعوبة السير عند النزول أكثرَ فأكثر؛ فقد سار صنجولد بخطواتٍ قصيرة متوازنة، تتحسَّس حوافرُه مواضعَها بعناية، لكن سحابةً من التنبُّؤ، أو الصدفة، قد تخلَّفَت وراءهم وسط الغموض الطيب الذي ساد الأيام الثلاثة التي قضَوْها في قاعة لوث. وأيًّا ما كان القدر المخيف الذي ينتظرهم الآن، فهو قدرٌ محدَّد ذو شكلٍ محدَّد، وكلما أسرَعوا في سيرهم، تمكَّنوا من ملاقاته بسرعة والانتهاءِ منه، أيًّا كانت النتيجة.
ومِن ثَم أقاموا معسكرهم عند حافَة التلال السَّفْحية في تلك الليلة، وعاد الجيش للظهور مجتمعًا حولهم؛ وبدا الجميعُ أكثرَ هدوءًا واسترخاءً، بل اطمئنانًا على نحوٍ غامض، بسبب الاستراحة التي حصَلوا عليها أيامًا قليلة، ليتسكَّعوا وسط السفوح الشجرية للجبال، ويستمعوا لأصوات الطيور، ويصطادوا الأرانبَ والظِّباء من أجل الطهي. ومع ذلك، لم تتَّسم جميعُ الأمور بالخمول؛ إذ زادَ جيش كورلاث بضعَ مئاتٍ أخرى ذلك الصباح بعد مغادرته موقعَ لوث.
سار تيريم مُمتطيًا حصانَه بجوارها بعد أن بدأ الجيش زحفَه، وظلَّ بجوارها طوال اليوم؛ كانا يسيران في المقدمة مع كورلاث وفرسانه، ومورفوث، وبعض زعماء القبائل الآخَرين الذين قادوا أكثرَ من خمسين فارسًا حتى راية كورلاث. ورأت هاري سيناي على نحوٍ مفاجئ، على بُعد عدة صفوفٍ من الخيول — حيث الصفوفُ متقاربة — فانتبهَت لها وبادرَتها الابتسام؛ ولكن فجأةً وهي غير متأكدةٍ كيف يتصرَّف الفائز في منافسات لابرون مع واحدةٍ من أولئك المهزومين، التي ترتدي وشاحًا به شق من صنعها، أخفضَت عينيها قبل أن تُتاح للآخر فرصةُ الرد. ومع ذلك، في المساء، عندما ترجَّلَت هاري، وجدَت نفسها تُحدق في خاصرة حصان بُنِّي اللون لم تتعرَّف عليها لحظةً، وقد ترجَّلَت راكبتُه أيضًا، فاكتشفَت أنها سيناي. هذه المرةَ نظرَت الشابَّتان إحداهما إلى الأخرى مباشرة، وابتسَمتا.
ومرَّت عدة أيام أخرى، وكان جيش كورلاث الصغير يُصدر صوتَ رعدٍ مهيبًا ومخيفًا عندما يركض؛ وفي الوقت نفسِه الذي تصوَّرَت فيه هاري أن الأغراب لم يقدروا أن يكون هناك كثيرٌ من الناس في جميع أنحاء أرض التلال، دار بذهنها أيضًا ما يعرفه كلُّ واحد من أهل التلال: أن أهل الشمال عددهم أكبرُ بكثير. أصبحَت هاري الآن تسير ممتطيةً حِصانها بينما تيريم على جانبها وسيناي على الجانب الآخر، والثلاثةُ يتناولون طعامَهم معًا. وقد لاحظَت هاري أنه رغم بقاءِ فرسان الملك كمجموعةٍ في مكانٍ واحد، فقد بدا أن جميعهم لديهم أصدقاءُ أو أقاربُ من الجيش خارج مجموعتهم، وقد اقترَبوا من مكانهم ووقَفوا إلى جانبهم، مثلما اختار تيريم وسيناي، أيًّا ما كان دافعهما، الوقوفَ إلى جانبها. سيُقاتل أفراد جيش كورلاث الصغير متكاتفين تجمعهم الصداقة، وهذا أمرٌ يبعث على بعض الارتياح.
وجدها ماثين مرةً، وقد أسنَدَت رأسها إلى رقبةِ صنجولد والفرشاة تتدلَّى من يدِها بارتخاء. ونادى عليها: «يا هري …» فارتجفَت واعتدلَت في وقفتها، وبدأَت في تنظيفِ كتف صنجولد. فقال مرةً أخرى: «يا هري، إنه أنا، مُعلمكِ القديم، وليس هناك ما يدعو لأن تخجَلي من أفكاركِ. فإنها تخطر لنا جميعًا، ولكنها أصعبُ عليكِ، وعلى كلِّ أولئك الذين انضمُّوا إلينا لأول مرةٍ من المنافسات، لكنها أصعبُ عليكِ لأنكِ لابرون مينتا، وحاملةُ السيف الأزرق. لا تقسي على نفسكِ.»
قالت هاري: «إنني لا أقسو على نفسي.»
ابتسم ماثين ابتسامةً باهتة. وقال: «أنا لا أُصدقكِ. لكن اعلمي أنه حتى تيريم الشاب، الذي يعشق الأرضَ التي تمشين عليها …» نخرت هاري، بينما تابع هو: «قضى السنواتِ الثلاثَ الماضية وهو يتدربُ فوق صهوة حصانه على الحدود، تحت عين والده الحكيمة والمنتبهة؛ كي يتمكَّن من أن يضرب أول ضربة غاضبة ويسفك دمَ أعدائه بسيفه الذي حصَل عليه حديثًا قبل المعركة الكبيرة في بليدفي جاب. وأنت لم تحصلي على تدريب لمدة ثلاث سنوات. إنه ليس خطأَكِ.»
«لن يحدث أيُّ فارق في أن الأمر ليس خطَئي، أليس كذلك؟» حاولَت هاري أن تبتسم، لكن وجه ماثين المتجهِّم كان قلقًا للغاية؛ لذا أمسكَت عن الابتسام. وقالت: «شكرًا لك يا مُعلمي القديم؛ سأحاول أن أتذكَّر ما تقوله.»
قال ماثين بهدوء: «أنتِ لا تزالين صديقتي التي يُشرفني خدمتُها، يا هريماد-سول، وأنا أثقُ في قدراتكِ، مهما حدث. إذا نسيت كل شيء، فلا تنسَيْ هذا.»
قالت هاري: «لن أنسى.»
ومن ثَم ترَكوا الجبال التي كانت تُمثل لهم نوعًا من الحماية، وزحَفوا باتجاه الشمال الغربي عبر السهل ليصلوا إلى الفجوة الكبيرة في السلسلة الشمالية على نحوٍ سريع قدر الإمكان، حيث سيتدفَّق الغُزاة الشماليون. وقد تحرَّكوا بسرعة ولكن دون استنفادِ كامل طاقتهم؛ لأن الخيول والفرسان سيحتاجون إلى قوتهم عند الاشتباك مع الجيش الآخر؛ كذلك رغب كورلاث في أن يصلوا إلى هناك قبل عدوِّهم بوقت كافٍ؛ حتى يتمكنَ من اختيار المكان الذي سيتواجهون فيه. وقد عبَروا مساحةً صغيرة من الصحراء الحقيقية؛ فبعد مدةٍ وجيزة من مغادرتهم حدودَ التلال السفحية، بدأ هامشُ الشجيرات الجافة في الصحراء يتحوَّل إلى اللون الأخضر، ثم اجتازوا الحقول الصغيرة المتقطعة المرويَّة بعناية، التي أصبحَت ساكنةً وخاليةً الآن.
في غضونِ ثلاثة أيام، كانوا سيصلون إلى بوابة الشمال، بليدفي جاب، فدعا كورلاث مرةً أخرى إلى اجتماع مع فرسانه وزعماء القبائل. انتظر تيريم وسيناي خارجَ خيمة زوتار بجانب حلقةِ نيران صغيرة، لحراسة سرج هاري وأمتعتِها، وذهبَت هاري لسماع ما سيقوله ملكُها، وتذكَّرَت كلماتِ لوث لها: «إنه لَفي صالحكِ أن تَثِقي فيه.»
وقد أجْرَوا إحصاءً لعددِهم. كان هناك بعضُ الجنود المُشاة الذين سينضمُّون إليهم في نهاية مسيرتهم، ولكن فقط عدد قليل؛ إذ كان القليلون من أهل التلال الذين لا يشعرون بأنهم أفضلُ وأكثر فائدةً وأكثر واقعيةً على ظهور الخيل. باستثناء هؤلاء، كان الجيش مكتملَ العدد. ولم يأتِ سوى عددٍ قليل من أهل التلال من أقصى الحدود الغربية؛ لأن التلوُّث الأخلاقي للأغراب قد أثَّر عليهم. حدقَت هاري في يدَيها، وقد تحول لونها إلى البنيِّ الفاتح كلون القرفة مثل أيِّ شخص من أهل التلال. كان شعر إيرين أحمر اللون، هكذا قالت لنفسها، ثم حسرَت غطاءَ رأسها، وها أنا ذا فارسةٌ من فرسان الملك.
بلغ تَعداد قواتِ الجيش الصغير ما يقرب من ألفَي مقاتل، فساد الصمتُ بينما يُفكر الجميع في التفوق الكاسح لجيش الشمال من حيث العدد، وفي اتساع الممرِّ الجبلي. كورلاث، دون الإدلاء بأي ملاحظات لحفظِ ماء الوجه حول أن الأمور ليست سيئةً كما تبدو — إذ إنَّ أهل التلال، هكذا قالت هاري لنفسها، لا يروق لهم على ما يبدو هذا النوع من الأشياء؛ ماذا كان السير تشارلز المسكينُ ليفعل هنا؟ — بدأ في شرح الخيارات المتاحة أمامهم، لكن هاري، وهذا ممَّا أثار رعبها، وجدَت عقلها يشرد. فانتزعَته من شروده، وصبَّت تركيزه على كورلاث، لكنه شرد على الفور مرةً أخرى. هل هذا هو أولُ أعراض ضعف الأعصاب؟ هكذا قالت لنفسها، وهي تشعر بالبرد والتعرُّق على الرغم من الحرارة الجافة.
ألقى العديدُ من الرجال الجدد أسئلةً أو تعليقات، ثم انفضَّ الاجتماع، ورغم أن العادة جرَت على أن مجالس فرسان الملك تنتهي دائمًا بهدوء، فقد ساد شعورٌ خافت داخل أجواءِ خيمة الملك، شعورٌ غير سار. ولم يتبقَّ سوى عددٍ قليل من الناس عندما وقفَت هاري وواجهت كورلاث وقالت منهَكةً، كما لو أنها لا تستطيع منع نفسها من قولِ هذا: «لماذا تُصرُّ على تجاهل الممرِّ الشمالي الغربي؟ لا أستطيع أن أصدِّق أن جيش الشمال لن يُباغتنا مباغتةً بغيضة باستخدامه.»
قال كورلاث: «إنني أتجاهله لأنه لا يتطلب اهتمامي»، ورغم أن صوته قويٌّ بعض الشيء، فلم يحمل ما يدل على الغضب.
«ولكن …»
«أنتِ لا تعرفين شيئًا عنه.»
استفزَّتها نبرتُه التي تفتقر إلى الحماسة فقالت: «إن خرائطَ الأغراب تتَّسم بالدقة، وقد رأيت خرائط تلك المنطقة — كما أنني أُجيد قراءةَ الخرائط أيضًا! وقد استنتجتُ منها أن كتيبةً من المقاتلين، كبيرةَ العدد بحيث لا يمكن تجاهلُها، قد تمرُّ بسهولة عبر الممر الشمالي الغربي، وتتبع الجبال شرقًا، وتُهاجمنا في السهل من الخلف، وهكذا ستُخترق الدفاعات والمتاريس الطبيعية التي تعتمد عليها خُطتُك عندما نُباغَت من ظهورنا!»
زأَر كورلاث قائلًا: «كفى! بالنسبة إليكِ سأضعكِ في تجويف على جانب التل، حتى تتمكَّني من رؤيةِ كل الاتجاهات، وأنصحكِ أن تتطلَّعي عاليًا أيضًا؛ من أجل النسور التي قد تحمل الصخور!»
استدارت هاري وغادرَت مسرعة. ولاحظَت، دون انتباهٍ كامل، أن إيناث وفاران وماثين وقفوا يستمعون، ولم ترَ النظرات المضطربةَ التي وجَّهوها نحوَها وهي تخرج.
كان هواء الليل باردًا مع البرودة المفاجئة للصحراء عند حلول الظلام، فأخذَت بعض الأنفاس العميقة. ثم توجهَت إلى حلقةِ نارها، وجلسَت وحاولت أن تجعل وجهها يبدو هادئًا؛ ولو كان عقلُها هادئًا، لربما ظنَّت أنه من الغريب ألَّا يَطرح عليها سيناي وتيريم أيَّ أسئلة، لكنها شعرَت بالارتياح من صمتهما، وتصارعَت قدر استطاعتها مع هواجسها. ثم جاء ماثين وجلس بالقرب منها أيضًا، وظلَّ صامتًا هو الآخر، ولم تلحظ كيف كان ينظر إليها.
ومن ثَم خفتَت حلقاتُ النار، وخلد الجميع للنوم. وقرَّرَت هاري ألَّا تنام في الخيمة الملَكية زوتار تلك الليلة؛ وظل ماثين بجانبِ نيرانها الخافتة أيضًا رغم أنه ظل دون أن يقول شيئًا. تقلَّبَت هاري على ظهرها وحدقَت في السماء.
تركَت النجوم تتأرجحُ فوقها بعض الوقت، ثم وقفَت بهدوء، والتقطَت فِراشَها وحقيبة سرجها، وشقَّت طريقها إلى الخيول، وتذكَّرَت ما علَّمها ماثين عن التسلل. لم تصدر عن ناركنون أيٌّ من حركات احتجاجها المعتاد على إزعاجها، وتبعتها بخنوع. حكَّ صنجولد رأسه بها لكنه لم يُصدر أيَّ صوت؛ لأن خيول الحرب مدرَّبةٌ على الصمت، فامتطَت صهوته وغادرَت ببطء. كانت تُعاني من صداعٍ رهيب، ظل يشتدُّ طوال المساء، والآن يبدو أنه يُحيط بها مثل السحابة. وربما كان سحابةً بالفعل؛ إذ لم يعترض طريقَها أحدٌ وهي توجِّه رأس صنجولد باتجاه الغرب.
لقد قطَعوا عدة أميال قبل بزوغ الصباح؛ لأن صنجولد واحدٌ من أفضل خيولِ أرض التلال، وكانت السرعة التي يتحرَّك بها الجيش بطيئةً مقارنةً بسرعته. تذكَّرت هاري تلالًا صغيرة ناتئةً ممتدَّة وسط السهل الأوسط، الذي يجب أن تصل إليه قبل أن يغمره ضوءُ الصباح بشكل واضح للغاية، يسمح لجواسيس الاستطلاع برؤية حصانٍ كستنائي بمفرده يمتطيه مقاتلٌ من أرض التلال، ويشق طريقه غربًا على عجَل. كانت تأمُل؛ لأن التلال بدَت مكسوَّةً بالزرع على خريطة أرض الأغراب، ولأن ديدام بنفسه كان قد توغَّل فيها ورسم الخريطة بنفسه، وأنها ستُصبح قادرةً على التواري فيها، كما كانت تأمُل في أن يُصبح من السهل العثورُ على الجدول الذي يتدفَّق عبرها.
وقد أصابها الإنهاكُ بحلول الوقت الذي أصبحَت فيه الشمس وراء ظهرها، وعرَفَت أن صنجولد قد أُنهِك أيضًا، على الرغم من أن خطوته ظلَّت طويلةً ومرنة كما كانت منذ ساعات. وظلَّت ناركنون تركض بجانبهما، مواكِبةً للخطوات. لكن التلال كانت على مقربة؛ نتوءاتٌ خشنة من الصخور ذاتِ اللون الرمادي والأحمر الصدِئ، ليس فيها سوى نباتِ الأشنة ليكون أولَ ما يقع عليه نظرُ المسافر، ولكن بينما كان صنجولد ينتقي طريقَه بحرصٍ حول حجرٍ رمادي مرتفع، ظهر العُشب فجأةً أمامهم، وداسَت أقدام صنجولد تُربةً داكنة لينة، ثم سمعوا صوتَ انسيابِ ماء الجدول.
وصلَت ناركنون إليها أولًا، لم يكن لديها أيُّ نفور من الماء مثل معظم القطط، فقفزَت فيه، دافعةً الماءَ في جميع الاتجاهات، ولترشَّ هاري بمرح عندما تبِعَتها. فقالت لها هاري: «ما كان يجبُ أن أتركَكِ تأتين معي، لكن لا أعتقد أنه كان بإمكاني منعُكِ بأي طريقة. شكرًا للآلهة.» ثنَى صنجولد أذنَيه للخلف في غضبٍ وهميٍّ وراح يضرب الماء بقائمتيه الأماميتين، بينما كانت ناركنون ترشُّه أيضًا. فتابعَت: «وإلى جانب ذلك، في رأيي أن صنجولد كان سيفتقدكِ، وكان عليَّ أن أُحضره.»
وبعد أن خرَجوا جميعًا بخفةٍ من الماء، سمعت صوتَ حوافر خيول، فاستدارت لتُواجهها. لم يبدُ على وجهَي رفيقَيها ذَوَي الأرجُل الأربعة أيُّ انزعاج، حيث التفَتَ صنجولد برأسه لفتةً بسيطة لينظر من فوقِ كتفه إلى مَن سيُقبل عليهم أيًّا كان مَن هو، لكن هذا لم يكن مريحًا؛ لأنهما لم يفهما فظاعةَ ما فعلته، أو أن الأصدقاء الذين كانوا يتبعونها لم يعودوا أصدقاء.
كان القادمان هما سيناي وتيريم. بدا على حِصانَيهما السرعةُ التي أتَيا بها أسوأ ممَّا بدَت على صنجولد، لكنهما وقَفا في هدوء وتهذيب، ينتظران على أملِ أن يُخبرهما فارساهما بالتوقُّف والحصول على راحة؛ كي يشرَبا ويأكلا، مثلما كان يفعل صنجولد الآن.
قالت هاري: «لماذا جئتما ورائي؟ هل أرسلَكما كورلاث؟ أنا … أنا لن أعود. إذا أخذتما صنجولد مني، فسأذهب سيرًا على الأقدام.»
ضحك تيريم. لم تكن ضحكةً جيدة، ولكن كان بها بعضُ المرح الذي يشوبه الإجهادُ بالرغم من ذلك. وقال: «لا أعتقد أن أي شخص يمكنه أن يأخذ صنجولد منكِ، إلا ربما عن طريقِ تقطيعه إلى أشلاء، ونحن لم نُرسَل مِن قِبَل أي شخص. لقد تبعناكِ …»
قالت سيناي: «لقد تبعناكِ لأننا اخترنا أن نتبعَكِ. وقد قام ماثين وشاهدَنا نذهب، ولم يقل شيئًا، ولن تُعيدينا؛ لأننا سنتبعكِ على أيِّ حال، مثل ناركنون.» ترجَّلَت سيناي بتأنٍّ، وأرسلَت حصانها الممتنَّ إلى الماء، وفعل تيريم مثلها.
جلسَت هاري في المكان نفسِه الذي كانت تقفُ فيه. وقالت: «هل تُدرِكان ما فعلتُه أنا؟ وما فعلتماه باتباعي؟»
قال تيريم: «ليس على نحوٍ دقيق. لكن والدي لديه أبناء آخَرون، يمكنه تحملُ حرمانِ واحد أو اثنين من الميراث.»
كانت سيناي تصبُّ الماء على رأسها. وهي تقول: «هناك قليلٌ ممَّن سيأتون إليَّ، سنمرُّ بالقرب من قريتي، وسأخبرهم، وسيتبعوننا. لم يتبقَّ كثير من الناس في الطرف الغربي من هورفيلز. لكن أغلب مَن هناك يَدينون بالولاء لوالدي. للأسف، لقد انضمَّ أفضلهم إلى كورلاث بعد أن غادرتُ أنا للاشتراك في المنافسات، ولكن هناك البعض — مثل والدي نفسه — الذين اختاروا عدمَ التخلي عن الأرض التي أحبُّوها لأجيال.»
قالت هاري: «لن ينفعَكِ ذلك عندما يتبرَّأ منكِ، مثل والد تيريم.»
هزَّت سيناي شعرها المبلَّل وابتسمَت. وقالت: «والدي لديه عددٌ قليل جدًّا من الأطفال ولن يتبرَّأَ من أحدهم، وأنا الابنة الوحيدة لزوجته الأولى، وقد ربَّاني ومنحَني الحرية لأقرِّر بنفسي. كانت الطريقة التي فعل بها ذلك هي الاستجابةَ لي عندما أطلب شيئًا، حتى عندما كنتُ أتَّسم بالحماقة. لقد عشتُ بهذه الطريقة، وأنا أعرف كيف أتخذ قراراتي، وسيفعل هو ما أطلبه منه.»
هزَّت هاري رأسها. وقالت: «هل تعرفان إلى أين … نحن … ذاهبون؟»
قال تيريم متفاجئًا: «بالطبع. علاوةً على ذلك، لقد أخبرنا ماثين، منذ أيام.»
كانت هاري لا تُفضل الجدل، وأدركَت في أعماق ذهنها أنها لا تريد المجادلة. لقد شعرَت بالدفء والارتياح بسبب وجود صديقَين آخرَين معها في المنفى الذي اختارته بنفسها، وعلى عكس صنجولد وناركنون، لم تشعر أنها أرغمَت هذا الرجل وهذه المرأةَ على صحبتها. قال تيريم بنبرةٍ واقعية: «وقد جلبنا المُؤَن. لا يجب أن يذهب المرءُ في مهامَّ يائسةٍ من دون طعام.»
قالت هاري وهي تحاول الابتسام: «كانت ناركنون ستعتني بي، على ما أظن.»
قال تيريم: «حتى ناركنون لا تستطيع إعداد الخبز»، وفرد قطعةً من القماش تحتوي على عدة أرغفة من الخبز من النوع المستدير نفسِه المخبوزِ في قدور، الذي يأكله الجيشُ بكمياتٍ كبيرة.
ومن ثَم أزالوا سروج خيولهم في صمتٍ وهم يشعرون بحسن الصحبة، وفرَكوا علامات العرق بالعشب، وخاضت الخيول في الجدول مرةً أخرى، ورشَّت بطونها بالماء، ثم وجدَت مواضعَ رملية على الشاطئ لتتدحرج فوقها، وتخدشَ ظهورها وغواربها وتصهلَ بسعادة. استراحت الخيول والفرسان معًا في ظل بعض الأشجار الرفيعة المنخفضةِ الفروع، حتى مالت الشمس للغروب، ومشَّط الفرسان خيولهم حتى تألَّقَت في ضوء الشفَق. ثم وضعوا السروج على ظهورها وامتطَوْها وساروا بها، بينما ضوءُ الشمس الغاربة يبهر أعينَهم، مع ظلٍّ طويل نحيف لقطَّةٍ خلفهم.
لم يستطع ماثين النوم بعد أن تمنَّى في صمتٍ السرعةَ والتوفيق لسيناي وتيريم. حيث استلقى مرةً أخرى، وهو يسترجع ما جرى خلال الأسابيع الماضية، وظلَّت الذكريات تسيطر على ذهنه لدرجة أن الفجر بدأ في البزوغ، وكانت الأجساد الأخرى تتحرك قبل أن يُفكر هو في النهوض. انضمَّ إليه إيناث عند حلقةِ النار التي جلس حولها سيناي وتيريم وهاري في الليلة السابقة، ولم يتفاجأ أيٌّ منهما عندما رأى كورلاث يترك خيمة زوتار ويأتي نحوهما مباشرة. وظلَّا جالسين، وحدَّقا فيه وهو واقفٌ أمامهما، ولكن عندما نظر إلى أسفل وجدا أنهما لا يستطيعان مواجهة عينَيه، أو لم يرغبا في معرفة التعبير الموجود فيهما، فحدَّقا في النار مرةً أخرى. واستدار هو وسار بضع خطوات وتوقَّف، ثم انحنى، والتقط شيئًا ما. كان وشاحًا طويلًا باللون الأحمر الداكن، متكومًا على شكل منحنًى فوق الأرض، بحيث بدا كأنه ظلٌّ بذاته. وضعه على يده فتدلَّى مثل حيوانٍ ميت، وبدا نسيمُ الصباح الخفيف غيرَ قادر على تحريكه.