الفصل الرابع عشر
استيقظَت هاري وقد اعترَتْها صدمة، وهي تسمعُ مَن ينادي اسمها، ولم تعرف للحظةٍ مكانَها، لكنها كانت مقتنعةً بأنها سجينة. لكن كلُّ ما هنالك أنَّ جاك هو مَن كان ينادي عليها بينما يقفُ عند مَدْخل غرفة النوم. فتنهَّدَت واسترخَت، مدركةً أنَّ كثيرًا من ذُعرها سببُه حقيقةً أنَّ يدَها اليمنى كانت تقبض على أغطية الفراش. نظرَ جاك إليها على نحوٍ ساخر، وهو يعلم ما تفتقده القبضةُ اليمنى البيضاء. وقال: «إنه هنا»، وأومأ برأسه إلى يساره، حيث كان جونتوران معلَّقًا في مِشجَب على الحائط، بجانب داليج ذي المقبض الفِضِّي وتيكسن الطويل. أرخَت قبضتَها إصبعًا تلو الآخَر، وبيدها اليسرى بسطَت أغطية الفراش. نهضَت سيناي وتيريم وسحَبا حذاءَيهما بهدوء، واستلقت ناركنون وخرخرَت غاضبةً على الوسادة التي تركَتها هاري للتو.
وُضِعَ طعامٌ على الطاولة مرةً أخرى، ووقفَ تيد الصامتُ جانبًا، في انتظار مَلءِ طبق أو فنجان. وجاءت هاري إلى الغرفة الأمامية وذراعُها اليسرى قريبةٌ من جانبها ويدُها على بطنها، وقد علَّقَت جونتوران فوق كتفها اليمنى. وقالت: «جاك، هل تظن أنَّ بإمكاني استعارةَ حزامٍ منك؟ يبدو أنني قد … فقَدتُ وشاحي.»
نظرَ إليها جاك ثم نظرَ إلى الوشاحَين بلون الزعفران واللون الأزرق حول خاصرتَي رفيقَيها. وقال: «فقَدتِه؟» فهو يعرف بعضَ المعلومات عن أوشحة فرسان أرض التلال.
قالت هاري بحزم: «فقدتُه.»
وضعَ تيد إبريقَ القهوة وذهبَ للبحث عن حزامٍ جلدي مثل الذي يستخدمه أهلُ أرض الأغراب.
كانت السماءُ تكتسي باللون الأحمر عندما انطلق ما يَزيد عن عِشرين فارسًا من فرسان أرض الأغراب المتجهِّمين بجانب ثلاثة من فرسان التلال، واحدةٌ منهم ترتدي حزامًا ذا إبزيمٍ نحاسي مثل الذي يستخدمه أهلُ أرض الأغراب، متَّجهين شمالًا ثم غربًا، بعيدًا عن حصن أرض الأغراب. قال جاك بمرح: «إنَّ معنا بوقًا فاخرًا. وسنعرف على الأقل إن كنا قادمين أم ذاهبين.» كان رجاله يرتدون زيَّ هوملاند ذا اللون البُني الباهت، مع شريطٍ عمودي أحمر على الجهة اليسرى من الصدر؛ مما يشير إلى الخدمة في دامار. شعرَت هاري بوخزةٍ من حنين عندما وقعَ نظرُها للمرة الأولى على هذا الزيِّ الرسمي، في القطار الصغير ذي الصوت المجلجِل، وهي جالسةٌ أمام شقيقها. وسألت: «أتُراه تهورًا غيرَ محسوب، أم مجرد تظاهُر بأن الأمر على ما يُرام، أنكم ترتدون الزيَّ العسكري الرسمي اللائق؟»
أجابَ جاك، وهو يُحدِّق في الجبال: «كلُّ ما في الأمر أنَّ معظمنا ليس لديه من الملابس المَدنية ما يصلح لمثلِ هذه المهمة.» والتفتَ إليها وابتسم. ثم أضافَ: «وإلى جانب ذلك، فإن الملابس التي اعتدنا عليها تُشعرنا بالراحة أيضًا. وأظن، الآن فقط، أنه من الأفضل أن نُفكِّر في الروح المعنوية كلما استطعنا.»
ساروا بثباتٍ مُمتطين صهواتِ خيولهم، مع كثير من أصوات الجلجلة الصادرةِ عن سروج خيول الحصن ولجامتها؛ لقد نسيَت هاري مدى الصخب الذي تُصدره اللجاماتُ والسلاسل ورِكَابات السروج، وشعرت أنَّ جنود الشمال سيسمعونهم من وراء الجبال وهم يتقدَّمون. توقَّفوا قبل الفجر بقليل، في وادٍ عند بداية التلال السفحية. قالت سيناي: «الليلة، يجب أن نتوجَّه شرقًا إلى هذه التلال، فهناك قريتي.» فأومأت هاري برأسها.
بدا جاك مضطربًا. وقال: «هاري، لستُ متأكِّدًا من أن مجموعتي ستحظى بترحيبٍ كبير في قرية سيناي. إذا كنتِ ترغبين في ذلك، يمكننا أن نتقدَّم مسافةً أطولَ قليلًا على الطريق، حتى لا نُضيع الوقت، ونلقاكِ بالقرب من الممرِّ — عند سفح المسار الأخير المؤدِّي إليه، ربما.»
قالت هاري: «إمم» وأوضحَت الأمر لسيناي، التي نظرَت إلى جاك ثم هاري في دهشة. وقالت: «سنتحرَّك جميعًا معًا. نحن رفاقُ سلاح.»
لم تكن هاري بحاجة إلى الترجمة. وابتسم جاك قليلًا. وقال: «أتساءل عمَّا إذا كان كورلاث سيُوافق على هذا.»
التقطَت أُذنا تيريم اسم الملك، فسألَ هاري عمَّا قيل. ثم أجابَ تيريم: «كان سيقول الشيءَ نفسَه بالطبع. صحيحٌ أننا غالبًا في عداوة واقتتال، ولكن حتى مع عداوتنا، من الممكن أن نصبح حليفَين، وهو ما لا يمكن حدوثه مطلقًا مع أهل الشمال، على الأقل ما دام الدم البشري فقط هو ما يَسْري في عروقنا. وهذا ما يجعل هذه الحربَ مريرةً للغاية. لا يمكننا أن نوجد معهم على الأرض نفسِها. وهكذا كان الأمر دائمًا.»
قال جاك: «نحن أنفسنا لا نوجد على الأرض نفسِها معكم دون نشوبِ نزاعات بيننا، رغم أننا بشر، وعندما نظر تيريم إليه متسائلًا، أعادَ جاك كلامه بلغةِ أرض التلال.
زمَّ تيريم شفتَيه للحظة. ثم قال: «أجل، نحن نتقاتل، ولا يحبُّ بعضُنا بعضًا عادةً، لكننا ما زلنا على حالنا. أما أهل الشمال، فليسوا كذلك. سوف ترى. حيثما تخطو أقدامُهم، سيُصبح الأمر كما لو أن أرضنا قد بُذِرَت بالمِلح.»
نظرَ جاك إلى هاري، ونظرَت هاري إلى جاك. وقالت: «لستُ متأكِّدة من هذا. أنا أعلم أن السحر الذي يُمارسونه يختلف عن سحرِ أرض التلال، و… أعلم أن أيَّ احتمال لوجودِ شخص يحمل في عروقه شيئًا من دم أهل الشمال هو أمرٌ يُنظَر إليه باشمئزاز و… خوف. إذا وصفتَ شخصًا بأنَّ دم الشمال يجري في عروقه، ثيديك، فيمكن ألا يُعاقب إذا حاول قتلك.» ثم أصبح صوتُ هاري هادئًا للغاية، وهي تُتابع: «من الواضح أن دم أهل التلال ودم أهل أرض الأغراب يمكن أن يمتزجا عبر النَّسب على نحوٍ أكثرَ سلاسة.»
وبينما كان جاك يُحدِّق في رقبة حصانه، انحنَت سيناي تجاهه ولمسَت غُرَّة حصانه. وقالت: «نحن متشابهون على نحوٍ كافٍ، يا جاك ديدام، كلنا نتبع هريماد-سول.»
ابتسمَ جاك. وقال: «كلنا نتبع هريماد-سول.»
قالت هاري: «جاك، أنت لا تتبعني. لا تفتح هذا الموضوع.»
نظرَ إليها جاك وهو لا يزال يبتسم، في الواقع نظرَ إلى أعلى؛ لأن حصانه المتبلِّد الخصيَّ دراكو كان أقصرَ من صنجولد بمقدارِ يد ونِصف. لكنه لم يرد.
استراحوا معظم اليوم، ثم واصلوا رحلتهم مرةً أخرى قبل ساعةٍ من غروب الشمس، متَّبعين توجيهاتِ سيناي. صارت الصحراءُ وراءهم الآن؛ ومن ثَم لن تُجبرهم الشمس، ولا سهولةُ رصدِهم وهم يتحركون عبر الصحراء الخالية، على السير ليلًا فقط. كان الوقت يقترب من منتصف الليل عندما تقدَّم رجلان داخل المسار أمامهم، وهما يرفعان شُعلتَين من النار على نحوٍ مفاجئ. فبُوغِتَ الجميع، ونَفضَت خيولُ أرض الأغراب رءوسَها. ثم قال صوتٌ من خلف إحدى الشعلتين بحِدَّة: «مَن أنتم، يا مَن تريدون الدخول إلى بلدة شبارديث؟»
أجابت سيناي: «ثانتو، هل نسيتني بهذه السرعة؟»
تقدَّم ثانتو إلى الأمام حامِلًا شعلته عاليًا، وترجَّلت سيناي عن صهوة حصانها. فقال: «أنتِ سيناي بالفعل»، وتمكَّن مَن هم خلفها على مقربةٍ من رؤيته يبتسم. وتابعَ: «سوف تسعدُ عائلتك برؤيتك تعودين إليهم»، وإنْ راحَ يتفحَّص الباقين بعينَيه، وكان صوتُ جلجلة اللجامات عاليًا للغاية في أذنَي هاري.
قالت سيناي ببساطة: «هؤلاء هم رفاقي»، فأومأ ثانتو برأسه. ثم تمتَّم ببضع كلماتٍ لرفيقه، الذي استدارَ واندفعَ بعيدًا، وقد تمايل ضوءُ شعلته حتى اختفى قربَ منعطف الطريق الصخري.
ترجَّلت هاري عن صهوة حصانها، وظهرَت ناركنون من جديد خارجةً من الظلام لتجلسَ تحت خاصرة صنجولد وتُشاهد ما يجري، وتتأكَّد من أن شيئًا لم يَفُتها مما يُثير الاهتمام. فالتفتت سيناي إلى هاري وقدَّمتها بوقار على أنها «هريماد-سول»، وعندئذٍ قدَّم لها ثانتو تحيةَ أرض التلال بانحناءةٍ راقية للغاية، تضمَّنَت إيماءاتِ اليد الدالةَ على الاحترام، وحاولَت هاري ألا تجرَّ قدمَيْها. ثم تقدَّموا جميعًا إلى الأمام مرةً أخرى، وبعد بضع دقائق انفتح الطريقُ الضيق. واتسعَ ببطء حتى تحوَّل إلى رقعةٍ مستديرة من العشب محاطة بمسار أبيض يلمع في غموض على ضوء الشعلة. وسَرَى في الأرجاء حولهم نسيمٌ خفيف، مُعبَّقًا برائحةٍ تشبه رائحة الورود.
قادهم ثانتو نحو المسار الأبيض، حيث يوجد عند الطرَف المقابل من الدائرة مبنًى مرتفعٌ من الحجر البُني والرمادي، أُنشئَ داخل جانب الجبل، وقد زُرعَت أشجارٌ خضراء صغيرة بعناية حول سقفه. وبدا عبر نوافذ المبنى أنه مضاءٌ من الداخل. ومع اقترابهم أكثر، فُتِحَ البابُ الخشبي بعنف، واندفعَت عبره طفلةٌ ترتدي ما يمكن على الأرجح اعتبارُه ثوبَ نوم، وارتمت بين ذراعَي سيناي بالضبط. وقالت الطفلة مُعاتِبةً: «لقد غبتِ عني أسابيعَ وأسابيع.»
قالت سيناي: «أجل، يا حبيبتي، لكنني أخبرتُكِ أنني سأغيبُ طوال هذه المدة»، فدفنَت الطفلة وجهَها في صدر سيناي وقالت: «اشتقتُ إليكِ.»
خرجَ ثلاثةُ أشخاص آخَرين من الباب الذي لا يزال مفتوحًا. الأول كان رجلًا عجوزًا طويلَ القامة يحمل فانوسًا، ويعرج على ساقٍ واحدة، وجاءت خلفه على نحوٍ مسرع امرأةٌ أصغرُ منه في السن، ثم سارعَت إلى الأمام كي تقول: «رايلي، اذهبي إلى الداخل.» أبعدَت سيناي برفقٍ رايلي المتردِّدة، التي تحركَت عائدةً إلى الداخل، وهي تؤخِّر قدمًا وتُقدِّم الأخرى، باتجاه المنزل، غيرَ مكترِثة بمَن قد تصطدم به، حتى اصطدمَت بإطار الباب، ودلفَت من خلاله، واختفَت عن الأنظار. التفتَت المرأةُ الشابة إلى سيناي، واحتضنتها مدةً طويلة دون أن تنبسَ بكلمة. وعندما وصل الرجلُ العجوز إليهما، تحدَّث إلى سيناي مخاطبًا إياها بعبارة يا ابنتي. شعرَت هاري بالدهشة؛ لأن هذا الرجل كان بالتأكيد الزعيم المحلي، سولا هذا المكان؛ إذَن، ربما لم يكن الأمرُ مفاجئًا أن يُقرِّر إرسال ابنته إلى منافسات لابرون.
كان الشخص الثالث شابًّا صغيرًا، هو أخو سيناي؛ لأن كليهما يُشبه والدَهما، وقد ربتَ على ذراعها وهو يشعر بالحرَج وقال: «كيف كانت المنافسات؟» وقد بدا عليه أنه يبلغ من العمر نحو ستة عشر عامًا.
ابتسمَت سيناي له. وقالت العبارة التقليدية: «لقد هُزِمتُ بشرف، وحصلتُ على وشاحي»، ولمسَت أصابعُها موضعَ التمزُّق. فتنهَّدَت هاري. وقالت سيناي: «هذه هي هريماد-سول، صاحبة السيف الذي مزقَ وشاحي. وهي التي فازت بالمنافسات.»
التفت الرجلُ العجوز ونظر إليها متفحِّصًا، ونظرَت هاري نحوه وهو يُحدِّق فيها، متسائلةً عمَّا إذا كان سيُعلِّق على ملامحها التي تدلُّ بوضوحٍ على أنها من أرض الأغراب رغم أنها ترتدي زيَّ أهل التلال، لكنه نظر إليها لحظةً، بينما ضوء الفانوس يتألَّق في عينَيها، ثم انحنى لتحيتها، وقال: «لقد شرَّفتِ منزلي.» عندها فقط، نظرَ إلى المقبض الأزرق المرئي من وراء حافة عباءتها. ثم التفتَ لينظر إلى بقيتهم، ولم تتغيَّر ملامحُ وجهه الهادئ وهو ينظر إلى عشرين من سلاح الفرسان في أرض الأغراب وهم يقفون على نحوٍ غير مريح أمام عتبة منزله. فقالت سيناي مرةً أخرى: «هؤلاء هم رفاق السلاح في مهمتي»، فأومأ والدها لتحيَّتهم، وقالت المرأة، زوجةُ والِد سيناي، على نحوٍ رسمي: «مرحبًا بهم في منزلنا.»
تبعَ تيريم وجاك هاري وسيناي إلى داخل المنزل، في حين اصطُحِب رجالُ جاك وخيوله على طول الحافة الحجرية لجانب الجبل، الذي بُنِي منزلُ سولا أمامه، إلى قاعةٍ منخفضة طويلة. وأوضحَت سيناي قائلةً: «إنه مكانُ انعقاد اجتماعات القرية. إن العديد من مدن أرض التلال لديها أماكنُ للاجتماعات، بالقرب من منزل سولا، حيث يمكن أن يجتمع جميعُ السكان للتحدُّث أو للاحتفال، وعند الضرورة يمكننا إيواءُ أصدقائنا وتسكينُ خيولهم.»
أومأَت هاري ببطء. وقالت: «وإذا استوجَب الأمر … دافعتُم؟»
ابتسمَ الرجلُ العجوز على نحوٍ لا يدل على السخرية. وقال: «لدينا الكهوف، ومساراتٌ متعرِّجة تقود مَن يتتبعوننا إلى جدران حجرية أو منحدرات، ويمكننا أن نختفيَ إذا توجَّب علينا ذلك. ما كنت ستستطيعين القدومَ بسهولة إلى هذا المكان إذا لم تُرشدكِ سيناي. إنَّ أرض التلال ليست بلدًا يسهل دخوله من قِبَل الغُزاة. يوجد فيها كثير من المتاهات.»
غَمغم جاك: «هذا صحيح.»
كانت الحجرةُ التي دخلوها ضخمة، حيث توجد أبسطة مفروشة على الأرضيات ومعلَّقة على الجدران، ومائدة طويلة منخفضة بجانب نافذةٍ طويلة، على الرغم من أنَّ الستارة التي أمامها مغلقةٌ الآن. نادَت الأم على طفلتها بحزم، وقالت: «رايلي، يمكنكِ البقاءُ مستيقظة وقتًا قصيرًا، لكن عليكِ أن ترتدي ثيابَكِ وحذاءك.» فاختفت رايلي مرةً أخرى.
دخلَ الخدمُ إلى الحجرة ومعهم مشروبُ مالاك وكعكاتٌ صغيرة غليظة القوام، وعادت رايلي للظهور واحتضنتها سيناي وأحاطتْها بذراعها. انتظرَت هاري، وهي تتساءل عما إذا كانت ستُضطرُّ إلى شرحِ مهمتهم، لكن سيناي قالت بالبساطة نفسِها التي أوضحَت بها أن جنود أرض الأغراب هم رِفاقها: «سنذهب لصَدِّ هجوم جنود الشمال الذين سيأتون عبر بوابة مَدامر. مَن يمكنه الانضمامُ إلينا؟»
انضمَّ إليهم ستة عشر فارسًا في الصباح عندما مضَوا في طريقهم مجدَّدًا، وبدأت هاري في الشعور بالسخافة بعضَ الشيء وهي تمتطي حِصانها على رأسِ ما أصبح مَوكبًا على أقلِّ تقدير، إنْ لم يكن جيشًا. ولكن كان من الواضح أن الجميعَ ينتظر منها أن تتقدَّم الموكب، وهي مُشرئبَّة الرأس، تحدِّق إلى الأمام على نحوٍ صارم. ورأت أنَّ هذا أفضلُ من اندفاعها كفتاةٍ مجنونة من أرض الأغراب بمفردها وهي تمتطي حصانًا من أرض التلال. وتساءلت ماذا كانت ستفعل إذا لم يتبعها سيناي وتيريم، وإذا لم يكن جاك في الحصن؟
ونادَت قائلةً: «جاك.»
فأجاب: «نعم؟»
«هل سبقَ لك أن رأيتَ ريتجرز جاب؟»
«كلا. لماذا؟»
«إنني أتساءل، بوجهةِ نظر قيادية يمكنها توقعُ الأمور، كم سيبدو سخيفًا مظهرُ بضع عشرات منا متناثرين عبر الجاب — إذا قرَّر جيش الشمال إرسالَ جنوده ليمرُّوا من هناك.»
لوَى جاك قسماتَ وجهه. وقال: «ليس سخيفًا للغاية، حسبما أظن. أعتقد أنه مكانٌ ضيق للغاية، يوجد وادٍ فسيحٌ عند الطرَف الآخَر منه، لكن يمكننا لبعض الوقت صَدُّ أيِّ هجوم عبر الفجوة نفسها عند الطرف المواجهِ لنا، حتى لو كنا أقلَّ عددًا من هذا.»
تنهَّدَت هاري بعصبية. وقالت: «ما زلتُ أفكِّر في مدى حماقةِ هذه المهمة.»
فابتسمَ جاك. وقال: «إنها مهمة حمقاء، ولكنها على الأقل تنبع من النُّبل وحُسن النية.»
في تلك الليلة، راودَ هاري حُلمٌ: كانت ريتجرز جاب، أو بوابة مَدامر، عبارةً عن شقٍّ ضيق وسط الصخور، لا تتَّسع إلا لمرورِ حصانَين؛ وعند الطرف الجنوبي توجد هضبة صخرية صغيرة، تنحدر على نحوٍ مفاجئ نحو سفح الجبل الذي تُغطيه الشُّجيرات. وعند الطرف الشمالي يوجد وادٍ فسيحٌ تغطيه بعضُ الشجيرات القصيرة الباهتة والصخور المتناثرة؛ منطقة وَعْرة يصعب السير فيها، هكذا ظنَّت في حُلمها، ولا توفر حماية. ومن ثَم، لا يصلح لاختياره ساحةً للمعركة. يؤدي الوادي إلى الفجوة الضيقة النهائية وسط الصخور. التفتَت في حُلمها، ورأت طابورًا صغيرًا من الفرسان، يمتطي قائدُهم حصانًا ذهبيًّا مرتفع القامة، يتلألأ مثل النار في ضوء الشمس، ويصعدون المسار نحو الهضبة الصخرية. لقد شاهدَت هؤلاء الفرسان من قبل، يصعدون هذا الجانب من الجبل بصعوبة. أراحتها أُلفة هذه الرؤية؛ ربما أنها، في نهاية الأمر، قد اتخذت الخيار الصحيح عندما أصبحَ المسار متشعِّبًا. ربما ستؤكِّد أن ثقة لوث في قدرتها على حُسن الاختيار كانت في محلِّها.
وماذا عن كورلاث؟
استيقظَت وهي ترتجف. كان لونُ السماء رماديًّا قبل انبلاج الفجر في السماء، لكنها نهضت رغم ذلك وبدأت في إذكاء النار. ولاحظَت، في لحظةٍ من الخوف والغضب، أن يدَها ترتجف، ثم تصاعدَت ألسنةُ اللهب، وفي قلبها الأحمر رأت وجهَين. الأول كان وجه كورلاث. كان يقفُ بهدوء، بينما يُحدِّق في شيءٍ لم تستطِع رؤيته، وبدا حزينًا، وحزنَ قلبُها كما لو كانت هي سببَ ذلك. ثم تلاشى وجهُه وسط ألسنة لهب نيران المعسكر مرةً أخرى، لكنها ومضَت وتشكَّلت من جديد على هيئة وجه إيرين، التي ابتسمَت على نحوٍ مرح، وتبادر في ذهن هاري أنه ربما كان لإيرين صلةٌ بالسبب الذي دفعَ سيناي وتيريم كي يتبعاها، ودفعَ جاك لأن يُرسل ريتشارد بمفرده في مهمةٍ دبلوماسية للتفاوض نيابةً عن حصن الجنرال ماندي. ابتسمَت هاري للوجه المرتسم في النار ابتسامةً باهتة، وعلى نحوٍ واهن. فنظرت إيرين بعيدًا، كما لو أن شيئًا قد لفَت انتباهها، ولمعَ بريقٌ أزرقُ إلى جانبها، ربما من مقبض جونتوران، أو فقط من شرر النيران.
قال جاك بصوتٍ خشن يُخالجه النوم: «هل سنُواصل رحلتنا مبكرًا، إذَن؟»
قالت هاري: «لا أحبُّ أحلامي، وأظن أنني يجب أن آخذ بعضَ أحلامي بعين الاعتبار.»
تسبَّب صوتهما في إيقاظ النائمين الآخرين، وبحلول الوقت الذي أصبحَت فيه الشمس فوق قمة التلال عن يمينهم، كانوا قد قطعوا بعض الأميال. قالت هاري عندما توقَّفوا للاستراحة في منتصف النهار: «سنصل إلى هناك بحلول الغد»، وقد أدهشَتها الصرامة التي بدَت على صوتها. كانت جالسةً على الأرض وهي تتحدَّث، فجاءت ناركنون إليها، ولفَّت نفسها حول كتفَيها وظهرها مثل عباءةٍ من الفراء، كما لو كانت تريد أن تُشعِرَها بالراحة.
وفجأةً، انبعثَ صوتُ شجار من أحد الجوانب، فنظرت هاري حولها في تحفُّز، وقد وضعَت يدها على جونتوران. وخرجَت امرأةٌ طويلة من بين الأشجار، يقف بجوارها اثنان من جنود جاك، ويبدُوان غير مهندمَيْن، ويعتريهما شيءٌ من الانزعاج والخوف. يحمل أحدُهما نصفَ رغيف من الخبز ويحمل الآخر خنجرًا مشهرًا؛ لكنه يُمسك به مثل سكين الخبز. كانت المرأة ترتدي ملابسَ من الجلد البُني، وحول خصرها حزامٌ أزرق منسوج، أزرق بلون السماء، لون يُريح العين، وتعتمر على رأسها قبعةً قرمزية باهتة، وتحمل كِنانةً من السهام فوق كتفها وقوسًا طويلًا في يدها، مُطعَّم بخرزاتٍ أسفل المقبض وهي زرقاءُ بلون الحزام الملفوف حول خصرها.
قالت: «أنا كينتار، أستميحكم عُذرًا على وصولي المفاجئ.»
همسَت سيناي قائلةً: «الفيلانون.» وهي تقف على نحوٍ متحفِّز إلى جانب هاري.
تمتمَت هاري: «مَن؟» ثم قالت للمرأة الطويلة: «لقد أثبتُّم لنا للتو أننا بحاجة إلى تخصيصِ جنود للحراسة، حتى من أجل لقمة من الخبز. كنا نظن أنفسنا وحدنا هنا، وقد جعلَتنا الرغبةُ في الوصول إلى مقصدنا على وجه السرعة غيرَ مُبالين بتشديد الحراسة.»
«أظن أنَّ جنود الحراسة لن يتمكَّنوا من منعي، وكما ترين …» وأمسكَت كينتار قوسها وهي تقول: «لقد جئتُ إليكم قاصدةً السلام؛ ذلك أنني لا أستطيع أن أُخرِجَ سهمًا قبل أن يمنعَني واحدٌ من جنودكم.»
كانت تتحدَّث بلغة أرض التلال، لكن لهجتها غريبة، ولم تكن مخارجُ ألفاظها مُتوقَّعة. وجدت هاري أنها مضطرةٌ إلى الاستماع من كثبٍ للتأكُّد من أنها سمعَت بشكل صحيح؛ لأنها هي نفسها لم تكن متمكِّنةً من لغة أرض التلال بدرجةٍ تفيدها في فَهْم تلك اللهجة. ربما كان اهتمامُها هو الذي التقطَ كلمة «حتى» التي لم تُنطَق قبل جملة «لا أستطيع أن أُخرِجَ سهمًا»، فابتسمَت على نحوٍ خافت. وقفت كينتار في ثباتٍ تام، وهي تبتسم في المقابل. وجاءت ناركنون للجلوس على قدمَي هاري، متصنِّعةً أنها قطةُ حراسة. وألقت على كينتار واحدةً من نظراتها الثاقبة الطويلة، ثم بدأت تُخرخر، دون أن تتحرك.
قالت هاري في نفسها: علامةٌ واحدة في صالحك؛ لأن تقييم ناركنون للبشر صائبٌ في المعتاد. ثم قالت: «ماذا تريدين منا؟»
قالت كينتار: «لقد سمعنا، حتى في قمم التلال المرتفعة لدينا، حيث نتحدَّث في كثيرٍ من الأحيان إلى السُّحب ولكن نادرًا ما نتحدَّث إلى الغرباء، أنَّه قد ظهرت مَن تحمل سيف الليدي إيرين لتخوض المعارك مرةً أخرى؛ واعتقدنا أننا ينبغي أن نسعى إلى لقائها، فقد تبعَتها أمهاتُ أمهاتنا منذ زمنٍ بعيد، عندما جاء جونتوران لأول مرة إلى دامار في أيدي العرَّاف لوث. ولذا، أخَذنا عُدَّتنا وتأهَّبنا لرحلةٍ طويلة، ثم اكتشفنا أن جونتوران، والسول التي تحمله، سيأتيان إلينا؛ ومن ثَم انتظرنا. انتظرنا ثلاثةَ أسابيع، كما قِيل لنا، وها أنتِ هنا، ونحن سنتعهَّد لكِ بالولاء.» في الجملة الأخيرة، تخلَّت كينتار عن نبرتها الراقية، فنظرَت، على نحوٍ سريع وقَلِق، إلى وجه هاري، واحمرَّت وجْنتاها.
أجْرَت هاري بعضَ الحسابات السريعة. قبل ثلاثة أسابيع، جلسَت في قاعة حجرية، وتناولَت وجبة الإفطار مع رجلٍ نحيف طويل أخبرها أنه لا يستطيع التنبُّؤ بمصيرٍ محدَّد لها، لكن ينبغي لها أن تفعل ما تشعر بأنه يتحتَّم عليها فعلُه.
واجهَت هاري نظرة كينتار على نحوٍ يشوبه بعضُ الأسى. وقالت: «إذا كنتِ قد علمتِ متى سنصل إلى هنا على وجه التحديد، فربما قد علمتِ أيضًا أن عددَنا قليلٌ على نحوٍ مؤسف، وأن المهمة التي أخذناها على عاتقنا تتَّسم بالتهور. لكننا نُرحب بمساعدتكم في صَدِّ هجمات جنود الشمال لأطول متَّسعٍ من الوقت، إذا كانت هذه هي رغبتَكم أيضًا.»
داعبت كينتار بخنصر يدِها التي تُمسِك بالقوس إحدى الخرزات الزرقاء الموجودة على قبضته، واعتقدت هاري أن كينتار ليسَت أكبرَ سِنًّا منها. وقالت كينتار: «هذا ما نبتغيه بالفعل. وإذا بقيَ أيٌّ منا بعد ذلك، فسوف نتبعكِ إلى ملككِ، الذي لم نرَه منذ أجيال؛ لأنه ينبغي في هذه المعركة أن يتَّحد كلُّ من تبقَّى من أهل دامار القديمة معًا، إذا أراد أيٌّ منهم النجاة.»
أومأَت هاري برأسها، وهي تقول لنفسها إنها ربما ستتمكَّن من إقناعِ قبيلة كينتار بالعودة من دونها عندما يحينُ الوقت؛ لأنه من المرجَّح أن كورلاث سيسرُّه رؤيتُهم دون أن يكون وسطهم مَن تمرَّدَت على الإذعان لأوامره، لكن مثل هذه الأفكار غيرُ ذات جَدْوى إلى أن يرَوا إنْ كان أيٌّ من جيشهم القليل العدد سيبقى على قيد الحياة بعد مواجهة جنود الشمال. استدارت كينتار وعادت بسرعة إلى الغابة.
غمغَمَت سيناي مرةً أخرى: «الفيلانون.»
قالت هاري: «اﻟ… ماذا؟»
كرَّرت سيناي قولها: «فيلانون.» وتابعَت: «قبيلة الأشجار. إنهم أكثرُ الرماة براعةً في كل دامار، ويُقال إنهم يتحدَّثون إلى سهامهم، التي يُمكنها الالتفاف حول الزوايا أو القفزُ فوق العقبات تنفيذًا لرغباتهم. إنهم في حُكم الأساطير الآن، حتى قبيلتي، التي تعيش بالقرب من غاباتهم، كانت تظن أنه لم يتبقَّ منهم أحدٌ على قيد الحياة حتى لو كانت الحكايات القديمة صحيحة، ومنذ أن انتقلَ الفيلانون، بأقواسهم الزرقاء، للعيش فوق قمم الجبال، حيث لم يذهب أحدٌ آخَرُ سِواهم إلى هناك.» توقَّفتْ لحظةً ثم أضافت: «نادرًا ما وجدَ أحدُنا إحدى الخرزات الزرقاء؛ إذ يعتقد أنها تجلب الحظ. والدي لديه واحدةٌ وجدَها والدُه عندما كان طفلًا صغيرًا. كان يرتديها في اليوم الذي طعنه فيه خنزيرٌ بَرِّي بأنيابه، وقال إنه كان من الممكن أن تكون الطعنةُ في البطن، وتقتله، لولا أن أبعدَت الخرزةُ الزرقاء الخنزيرَ في النهاية.»
قال جاك: «أخبريني، أيتها القائدة، هل تضمِّين دائمًا إلى جيشكِ المتجوِّلين الهائمين الذين تجدينهم في الغابة إذا عرَضوا الانضمامَ إليكِ؟»
ابتسمَت هاري: «فقط عندما يَرْوون قصصًا تروق لي. قبل ثلاثة أسابيع كنتُ أتحدَّث إلى … رجل حكيم أخبرني بأن … أمورًا ستحدث لي. وأنا أميلُ إلى الاعتقاد بأنَّ هذا أمرٌ منهم. وإلى جانب ذلك، فقد أُعجِبَت بها ناركنون.»
أومأَ جاك وقال: «أفضِّلُ أن أصدِّقَكِ. وإن كانت لديَّ شكوكي تجاه ما يُمثِّله رأيُ قطتك في تقييم الأشخاص من قيمة.» ونظرَ نحوها مرة أو مرتَين. ثم أضافَ: «أتعلمين أنكِ قد أصبحتِ مختلفةً عمَّا كنتِ عليه أثناء إقامتكِ معنا في أرض الأغراب. وهو اختلافٌ أعمق من مجرد سفعاتٍ سبَّبَتها الشمس على بشرتك.» قال هذا، وهو يعلم حقيقته، وقد اجتاحه الفضولُ لرؤيةِ تأثيره على الفتاة التي كان يعرفها من قبل، وشاهدها من قبل تُحدِّق في صحراء داريا.
نظرَت هاري إليه، وكان جاك متأكِّدًا من أنها تعرف بالضبط ما الذي يدور في ذهنه. وقالت: «لقد أصبحتُ مختلفة. لكن الاختلاف هو شيء يمتطيني مثلما أمتطي أنا صنجولد.» وبدا التهكم في نبرتها.
ضحكَ جاك ضحكةً قوية. وقال: «عزيزتي، أنتِ فقط في مرحلةِ تعلُّم مسئولية القيادة. ولكن، لو أنكِ تحت إمرتي، لَمنَحتُكِ ترقية.»
انتهَوا من تناول وجبة الظهيرة دون أن يرَوا كينتار مرةً أخرى، ولكن أثناء امتطائهم الخيول، وبينما ينظر كثير منهم حوله بعصبية متوقِّعًا ظهورَ مزيد من الرُّماة الطِّوال القامة من وسط الشجيرات، ظهَروا بالفعل على نحوٍ مفاجئ. وقفَت كينتار أمام هاري وبجانبها رجلٌ ذو شعر داكن، يحمل قوسًا هو الآخر، ولكن بين الخرزات الزرقاء في قبضة قوسه توجد خرزة خضراء، ويرتدي سترةً بُنية باهتة تميل إلى الرمادي. ثم رأت هاري دون أن تُدير رأسها الكثيرَ من الرماة وقد اصطفُّوا على المسار، أومأت برأسها على نحوٍ غير مبالٍ كما لو أنها توقَّعت أن يظهروا هكذا — وهو في الحقيقة ما توقَّعَته بالفعل — وحثَّت تسورنين على السير. اتخذَت كينتار والرجلُ الذي معها موقعَهما المناسب مع هاري وجاك وسيناي وتيريم، واتخذَ بقيةُ الرماة موقعَهم خلف الفرسان. سارت كينتار على قدمَيها بخطوةٍ سريعة ونشطة مثل صنجولد.
اكتشفَت هاري أنَّ الفوج الجديد الذي انضمَّ إلى جيشها الصغير يقترب عددُه من المائة، حيث أحْصَتهم عندما توقَّفوا مرةً أخرى. وكانوا يصطحبون معهم نحو عشرين من قطط الصيد: أضخم جسمًا، وأكبر رأسًا من ناركنون، وهي ذات ألوان أكثر تنوعًا مما شاهدته هاري بين وحوش كورلاث. وحافظت ناركنون بعناية على موقعها خلف هاري: حتى ناركنون التي لا تُقهَر بدا أنها تشعر بأن الحَذر هو أفضلُ جزء من الشجاعة عندما تواجه عشرين من نوعها، وكلُّها تفوقها حجمًا بمقدار الثُّلث.
عثرت هاري ومجموعتُها على تجويفٍ صخري صغير، مَحميٍّ من الرياح الشمالية الغربية التي بدأت تهبُّ بعد ظهر ذلك اليوم، فتجمَّعوا فيه، حول عدة حلقاتٍ صغيرة من النيران. وفكَّ الرُّماة أوتارَ أقواسهم وغمغَموا إلى سهامهم وفوقها، وشاهدهم الآخرون خِلسةً. بدَت الأقواسُ بالنسبة إلى حاملي السيوف في مثل غَرابةِ أن ينبت ريشٌ على جلود خيولهم. شعرَ رجالُ جاك بعدم الارتياح بسبب عدم إحضار المسدسات معهم.
واصَلوا زحفَهم مرةً أخرى عند الفجر، وشعرَت هاري الآن أنها تسير في حُلمها، وربما كانت ستستيقظ وتجد نفسها في خيمة الملك، مع كلماتٍ غير معروفة على شفتَيها بينما يُمسك كورلاث كتفَيها بيدَيه، وتبدو الشفقة في عينَيه. انطلَقوا، والرماة يسيرون من ورائهم بخُطًا سريعة، على دربٍ ضيق في قمم الجبال، أعلى المنحدرات الوعرة المظلِمة على حدود الشمال. حيث يُداعب الهواء الرقيق البارد حلوقَهم، وتسقط أشعةُ الشمس على نحوٍ متراصٍّ من خلال أوراق الشجر. كانت الأرض تحت أقدامهم من الصخر الطَّفْلي اللين، لكن تسورنين لم يتعثَّر مطلقًا، كانت أذناه منتصِبتَين إلى الأمام وهو يخطو بثبات. نقرت هاري بأظفارها على الحجر الأزرق الكبير على مقبض جونتوران وهي تتذكَّر أغنية كانت تُغنيها وهي طفلة، تردَّدَت النغمات في ذهنها، لكنها لم تستطِع تذكُّر الكلمات على نحوٍ كامل. لقد جعلَتها تشعر بأنها معزولة، كما لو أن طفولتها لم تحدث بالفعل، أو على الأقل لم تحدث على النحو الذي تتذكَّره. ربما كانت تعيش على الدوام في أرض التلال؛ لقد شاهدَت تسورنين وهو لا يزال مُهرًا، وكانت أولَ مَن وضع سَرجًا على ظهره الصغير، ودرَّبته على أن يقف على قائمتَيه الخلفيتَين والضرب كحصانِ حرب. شعرَت في أعماقها بإحساسٍ مرح.
وصلوا إلى ريتجرز جاب، بوابة مدامر، قبل غروب الشمس، وهي فجوةٌ تقع على بُعد بضعة أمتار فوقهم في نهاية الهضبة الصغيرة المؤدية إليها، حيث توجد أشجار على الجانب وصخورٌ جرداءُ حولها حتى قمة الجبل. كان هناك كهفٌ مجوَّف طويل على أحد الجانبَين، حيث تنحني قمةُ الجبل على نفسها، وأشجار منخفضة تحمي معظمَ واجهته. فقال جاك بصوتٍ مبتهِج: «سننام فيما يُشبه المأوى الليلة. على الأقل ما دامت الرياح لن تُغيِّر اتجاهها وتقرِّر الهبوبَ علينا من جهة الجنوب.»
كانت هاري تُصغي إلى النسيم الشمالي؛ إذ كان يُحدِّثها على نحوٍ ساخر. وقالت: «لن تُغيِّر اتجاهَها.» نظرَ جاك نحوها، لكنها لم تقل المزيد. تردَّد صوتُ لُهاث الرجال والخيول عبر الهضبة. كانوا يسارعون الخُطا للوصول، تمامًا كما أخبرها حُلمها أنهم سيفعلون، أو يجب عليهم أن يفعلوا؛ في الساعة الأخيرة، كان على الرجال والخيول أن يتدافَعوا، جنبًا إلى جنب. وانحنَت هاري على كتف صنجولد، مُمتنَّة لصلابة بُنيانِه الحيواني، فأدارَ رأسه نحوها كي يمضغ كُمَّها بلطفٍ حتى ربتَت عليه. وبعد دقيقةٍ من التحديق حولها، تبعَت ناركنون ببطء وهي تصعد حتى مدخل الفجوة نفسِها وتُحدِّق في الوادي الواقع خلفه. حتى ناركنون بدَت مُنهَكة، لكن ربما كان هذا بسبب الأميال الوعرة التي قطعوها في هذا اليوم.
يمكن لفارسَين متجاورَين على صهوة حصانَيهما عبور الفجوة الضيقة وسط الصخور، ربما، لكنَّ ركبتَيهما ستتلامسان. على هذا الجانب من الفجوة، تتصاعدُ الهضبة لأعلى حتى أعتاب الشق الضيق في نهاية الفجوة، وتنحدرُ بعد الشق لأسفل على الجانب الآخر، حيث يمكن أن يصعد الرجال والخيول البارعة. حدَّقت هاري وقد مدَّت رأسها إلى الأمام، وأصبحت تشعر بأنفاس صنجولد الدافئة على مؤخرة رقبتها. قفزت ناركنون من موقعها بجانب الشق، وأدارت ظهرَها إليه، وراحت تلعقُ جلدَها. فوقفَت هاري داخل الفجوة نفسِها، وانحنَت على الموقع الذي أخْلَته ناركنون. كان وراء الشق منحدرٌ مغطًّى بالحصى، يؤدي إلى وادٍ مغطًّى بالشجيرات بين جانبَي الجبل، وكان للوادي عند جانبه البعيد جدارٌ منخفض، لكنه يتلاشى عند سفح التلال. شعرَت هاري بأنَّ بصرها يمتدُّ بعيدًا، إلى السهل الوعر وراء الوادي ذي اللون الباهت وصَفِّ التلال المنخفضة الحادة، وعلى حافة السهل رأتْ ضبابًا يتدحرج وينجرف، مثل مَدٍّ قادم، مستكشِفًا الشاطئَ أمامه، ويمتدُّ ليضربَ التلال الصغيرة قبل أن يكتسحَها.
استدارَت هاري وعادت إلى جيشها الصغير. وقالت، دون أن تُوجِّه كلامَها إلى شخصٍ بعينه: «سيصلون هنا غدًا.»
سادَ الصمتُ في المعسكر تلك الليلة. بدا الخوفُ، النابعُ عن التأثُّر بالخرافات، في تصرفاتِ الجميع تقريبًا، فراحوا يُلمِّعون خناجرَهم للمرة الأخيرة على نحوٍ ملحوظ للغاية، وأجْرَوا مزيدًا من الفحص الهادئ للمُعدَّات، وإن كان بحركةٍ تتَّسم بالحرص الشديد. لم ينظر أحدٌ في عينَي الآخر، ولم تصدر أيُّ أصوات لرنينِ معدِنٍ على معدن. حتى وَقْعُ الأقدام كان مكتومًا.
أصبحَ دراكو، الحصانُ البني المحمر الخَصِيُّ الخاص بجاك، وصنجولد حصان هاري؛ صديقَين على مدار أيام هذه المهمة. كانت خيولُ أرض الأغراب تلتزم دائمًا بالبقاء بجوار فرسانها، بينما تتجوَّل خيول أرض التلال في حرية، لكنها لا تبتعد أبدًا عن موقع المعسكر، ويقف صنجولد ودراكو في كثيرٍ من الأحيان وقد اقترب أنفُ هذا من أنفِ ذاك، وهما يُغمغِمان معًا، ربما حول الطقس ومسيرة اليوم الماضي، وربما عن غرائبِ فارسَيهما وانشغالاتهما. وقد وقفَا في هذه الليلة أحدهما بالقرب من الآخر ورأساهما في الاتجاه نفسِه — وراحَا ينظران نحونا؛ هكذا قالت هاري لنفسها، بينما نحن ننظر إليهما أيضًا، أو ينظران إلى تلك الرياح الشمالية الغربية الرهيبة. حرَّك صنجولد أحد أذُنَيه إلى الخلف، ثم إلى الأمام مرةً أخرى، وضربَ الأرض بحافره. وأدارَ دراكو رأسه لينفخ بعمق على رفيقه، ثم استقرَّ كِلاهما واستغرقَا في النوم، مع إرخاء إحدى القائمتَين الخلفيتَين، وقد هدأَت عيونُهما وغاب عن بؤرتها التركيز. راقبَتهما هاري بحسد. وأخذت الرياحُ الشمالية تعوي.
«إنَّ دراكو، الذي يعرف الكثير عن المعارك مثلما أعرف، أخبرَ صنجولد القليلَ الخبرةِ بضرورة أن يحصل على قدرٍ جيد من النوم. وأنا، المحارب المخضرم — من الصعب أن أقول هذا بعد ساعاتٍ طويلة فوق السرج — على وشكِ أن أقولَ الشيء نفسَه لك، يا قائدتي الشابَّةَ العبقرية.»
تنهَّدَت هاري. وقالت: «توقَّف عن مناداتي بالقائدة. إن حِمْلَ جونتوران يكفي، وهو ليس أسطورتَك.»
قال جاك: «سوف تعتادين على ذلك، أيتها القائدة. هل ستحرمينني من تسليةٍ صغيرة واحدة؟ لا تُجيبي. ولْتَخلدي إلى النوم.»
أجابت: «ربما لو كان بإمكاني الوقوفُ على ثلاث أرجُل وتركُ عينَيَّ تلمعان، لصار هذا مفيدًا. لا أشعر بالرغبة في النوم و… أخشى أن تُراودني الأحلام.»
قال جاك: «حسنًا. حتى مَن ليسوا مجبَرين منَّا على تصديقِ ما نحلم به ليسوا سعداءَ بالأحلام في الليلة السابقة للمعركة، ولكن هذا … أمرٌ حتمي.»
أومأت هاري برأسها، ثم نهضَت لبسطِ فِراشِها القماشي وألقَت بنفسها عليه انصياعًا للواجب. لم تستطِع ناركنون أيضًا الاستقرارَ في مكانٍ واحد. وظلَّت تخطو حول حلقة النار، ثم تذهب لتُلامس أنفَها مع أنف صنجولد، وتعود، ثم ترقد، ثم تتجوَّل. وقالت هاري: «سأرسل كينتار ومجموعتَها إلى قمم الأشجار المطلة على الجانب الآخر من الفجوة للإشراف على الوادي، ويمكننا جميعًا أن نحتشد معًا هنا — ونواجه ما سيأتي عبر الشق.»
قال جاكَ من تحت غطائه، بعد أن خلعَ حذاءَه: «رائع، لم أكن أنا نفسي لأُرتِّب الأمور على نحوٍ أفضل من هذا.»
ضحكت هاري ضحكةً قصيرة مكتومة. وقالت: «ليس هناك الكثيرُ لترتيبه، يا صديقي الحكيم. حتى أنا أعلم ذلك.»
أومأَ جاك برأسه. وقال: «كان من الممكن أن تأمرينا بالدخول عبر هذا الشق الصخري على مجموعاتٍ من جنديَّين، كي يُمزقنا العدو إربًا إربًا؛ وعندئذٍ كنتُ سأعترض على تنفيذ الأمر. لكنكِ لن تفعلي ذلك. اخلُدي للنوم، أيتها القائدة.»
نخرت هاري.
ظلَّت عينا هاري مفتوحتَين، ورأت السُّحبَ وهي تمرُّ من أمام القمر، وسمعَت عواءَ الرياح الشمالية وهو يعلو بينما تحجب السُّحبُ ضوءَ القمر. وسمعَت ضربةَ حافر حصان على الأرض وهو مربوط على وتدٍ داخل المعسكر، وغمغمةً غيرَ واضحة من أحد الجنود النائمين وهو يشعر بعدم الارتياح؛ وناركنون، التي قرَّرَت أخيرًا فعل الصواب وخلدَت إلى النوم، وهي تُخرخر على نحوٍ طفيف بينما تُسند رأسها إلى صدر هاري. وبخلاف هذه الأشياء سمعَت … أشياءَ أخرى. ولم تُصدِر أوامرها بعمل نوباتِ حراسة؛ لأنها كانت تعرف أن جنود الشمال لن يصلوا قبل الغد؛ ومن ثَم فلا ضرورة لنوبات الحراسة. لقد كان من حُسن الحظ أن يُتاحَ لكلِّ فرد من جيشها الصغير النومُ في الليلة التي تسبق المعركة، وسيكون من الحمق ألا تقبل أيَّ فرصة يمنحها لها الحظُّ الجيد.
لكن بينما كانت ترقد مستيقظةً بمفردها، سمعَت ضرباتِ الحوافر التي لم تُثبَت فيها حَدْواتٌ من الحديد، وحركةَ أجسام حيواناتٍ تُستخدَم للركوب لكنها ليست خيولًا، وشخيرَ نومِ فرسانٍ ليسوا بشرًا. وبعد ذلك، هدأَ عقلُها بضعَ دقائق تقريبًا، لكنها سمعَت حَفيفًا، وبينما ميَّز عقلها الذي يُغالبه النعاس ببطءٍ صوتَ الحفيف على أنه صوتُ انسدال جَناحِ خيمة، سمعَت صوتَ كورلاث يقول بحِدَّة: «غدًا». فنهضَت من رُقادها وجلست في حالة صدمة، وانزلقت ناركنون عن كتفِها وتقوقعَتْ من جديدٍ على الأرض. ومن حولها بدَت أكوامٌ ثابتة قليلة العدد من أصدقائها وأتباعها النائمين، وبصيص الجمر الأحمر من حلقات نار المعسكر، والظلام المُطبِق للمنحنى الصخري والظلام المتمايل المتمثِّل في قمم الأشجار. التفتَت إلى الجانب الآخر وتمكَّنَت أن ترى على نحوٍ باهت صورةً غيرَ واضحة المعالم لقوائم الخيول، وسمعَت رنَّة الحديد على الصخر حين تضربه حوافرُ الخيول. كان جاك يتنفس بعمق، وقد أبعدَ وجهه عن وهج النار الآخذ في التلاشي، ولم تتمكَّن من رؤية تعبيرات وجهه، حتى إنها تساءلت عمَّا إذا كان يتظاهر بالنوم كي يجعلها تُقلِّده. ونظرت إلى ناركنون، التي مدَّدت جسمها بجانبها، كان رأسها الآن فوق ركبتَي هاري. لم يكن هناك شكٌّ في أنها مستغرقة في النوم حقًّا. وقد ارتجفت شواربها، وخرخر حلقُها.
استلقت هاري في فراشها مرةً أخرى. كان صوتُ الرياح مكتومًا حول الصخور، لكنها كانت تعوي بشدة، عبر الجبال، وتتَّجه إلى السهول الهادئة في دامار، وهي تحمل معها همساتٍ وتأوهات غيرَ بشرية من الجيش الشمالي. فارتجفت هاري. ولمسَت إصبعٌ من النسيم وجهَها فتراجعَت، ثم اندفع فوق كتفها واختفى. ومن ثَم سحبت الغطاءَ على وجهِها.
لا بد أنها قد استغرقت في النوم؛ إذ عندما أزاحت الغطاء عن وجهها مرةً أخرى، كان الفجر قد بزغَ فوق قمة الجبل وشعرَت بجفافٍ في فمها. ومن ثَم نهضت. كانت ناركنون لا تزال نائمة. فتحَ جاك عينيه. وراحَ يُحدِّق متجهِّمًا في لا شيء، ثم شاهدَت عينَيه تُركِّزان وتنظران نحوها. نهضَ جاك، دون أن يقول شيئًا، ووضعَ مِرفقَيه على ركبتَيه، وفركَ بقايا الشعر الرمادي في رأسه بيدَيه. وبدأ الآخرون يتقلَّبون في نومتِهم. كان هناك نبعٌ صغير وسط الصخور عند الجزء الأمامي من الكهف تُحيط به الأشجار، فملأَ أحدُ جنودِ جاك كوبًا معدنيًّا وأحضره إلى أحد رماة كينتار، الذي أوقدَ لسانًا نحيفًا من اللهب من رماد الليلة الماضية. حدَّقت هاري على نحوٍ حالِم في النار الصغيرة حتى حالَ شيءٌ أسودُ بينهما، اتضحَ أنه جاك، وقد وقفَ أمام حلقة النار الخابية بجوارهما مستندًا إلى ركبتَيه. نهضَت هاري، وهي تركل غِطاءَها، وذهبَت لجلب كوبٍ آخرَ من الماء.
ابتسمَ جاك إليها عندما عادت. حاولت أنْ تبتسم إليه؛ إذ لم تكن متأكدةً من مدى نجاحها.
وبينما كانوا ينتظرون أن يغلي الماء، سارت هاري إلى بوابة مدامر وحدَّقَت عبرها. كانت قمةُ رأسها أعلى من قمة الشق الصخري، بينما تهبُّ عليها الرياحُ الشمالية وهي تعوي، فشعرَت بأن فروة رأسها مشدودةٌ وباردة. ولا يزال الضباب معلَّقًا حيث رأته في المساء من قبل، عند بداية التلال السفحية، لكنها شعرَت هذا الصباحَ أن بإمكانها رؤيةَ ومضاتٍ من الألوان والحركة داخله. كان اللون هو لونَ الخوف.
دفعَتها الرياح، فعادت إلى الكهف. كانوا جميعًا جالسين، وقد تجمَّعوا حول حلقات النار الصغيرة، وكانوا جميعًا ينظرون نحو هاري، ما عدا جاك، الذي كان يحلق ذقنه. وقد أُعجبَت بثبات يده وهو ينحني أمام قطعةٍ من مرآةٍ تستند إلى صخرة على الأرض. توقَّفت أمام مدخل الكهف. وقالت: «ابقُوا بعيدًا قدر المستطاع عن مَهبِّ الرياح، إنها ليست … برياحٍ مسالِمة.»
نظرَ تيريم إلى أعلى، كما لو كان بإمكانه أن يرى شكل الرياح نفسها، وليس فقط الطريقة التي تهزُّ بها الأوراقَ وتذرُّ بها الحصى من فوق الصخور. وقال: «لقد أرسلَ جيشُ الشمال رياحه كي تُخيفنا.»
تذكَّرَت هاري اللمسة الزاحفة على وجهها في الليلة الماضية. وقالت ببُطء: «أجل. كي تُخيفنا — لكنني أعتقد أيضًا كي تتجسَّس علينا. أرى أنَّ من الأفضل ألا نجعَلها تعلم عنا إلا ما نحن مضطرُّون إلى قوله.»
عند منتصف الصباح وضعَت هاري السرج على صهوة صنجولد، وبسَطَت الجزءَ العاليَ من حذائها وربطَته على فخذَيها، وارتدَت سُترتَها الجلدية بعنايةٍ خاصة على كتفَيْها، وثبَّتَت جونتوران بحزامه حول وسطها. وعلَّقت الدرع والخوذة في مقدمة السرج، والتفَت صنجولد كي ينظر إليها. بدا مظهر السرج غريبًا، وغيرَ متوازن، من دون الجُعبات الجلدية الكبيرة التي تُربَط حوله. أخذَ دراكو يلوكُ لجامه، فوجَّه تسورنين أذنَه مدةً وجيزة نحو مصدر الصوت.
قُبيل الظهيرة، أرسلت هاري كينتار ورُماتَها وقططَهم الكبيرة ذاتَ الخُطا الخفيفة إلى ما وراء البوابة، عند آخِر الأشجار التي فوق أكتاف الجبال المطلَّة على الوادي الأجرد. راقبَت هاري بقلق؛ لأن الأشجار المتقزِّمة لم تُوفِّر غطاءً جيدًا، وشعرت أن كلَّ خرزة زرقاء ستصبح مرئيَّة، لكنَّ الرماة اختفَوا كما لو أنهم حصواتٌ أُلقِيَت وسط الأشجار. كانت هاري متأكِّدةً من أن ما يقتربُ منهم — أيًّا كانت ماهيتُه — قد علم أن البوابة محميةٌ ضد هجماته، علم وابتسم على الرواية التي جلبَتها الرياح، لكنها لا يمكن أن تفعل أكثرَ من ذلك.
رآهم جاك لأول مرة قبل أن تذهب كينتار ورماتها. ذلك أنه كان يُحدِّق من خلال منظارِ تجسُّس أسود رفيع، كانت يداه ثابتتَين مثلما كانتا أثناء استخدامه لشفرة الحلاقة. أما هاري، فراحَت تفرك يدَيها وتقبض بإحداهما على الأخرى، ولم يمنعها من ذلك سوى التفكيرِ في الأمر باستمرار؛ ومن ثَم ثبَّتتهما على حزام السيف. فشعرت بأنهما قد تعرَّقَتا. كانت هاري قد راقبَت أولئك القادمين نحوهم طوال الصباح، واستغرقَ الأمرُ لحظةً حتى تفهمَ الصوت المفاجئ الذي أصدره جاك من أنفه، والذي يدل على فهمه أمرًا ما. تدفقَ الضباب إلى مدخل الوادي، وتشكَّل على هيئة كتلٍ من الأشكال المتحرِّكة المظلمة التي لا تزال تبدو مظلَّلةً أكثرَ مما ينبغي؛ لأنها أصبحَت قريبةً للغاية.
قالت هاري: «امتطُوا خيولَكم.»
ضحكَت الرياح على نحوٍ شرس وهي تندفع بشدةٍ خلال شعر الجميع، وتنقر في جنونٍ على المعدن بينما استقرَّت الخوذات في مكانها، واحتكَّت بأصابع القفازات، وأطراف السيوف، وذيول الخيول. وقَف صنجولد وأنفُه يواجه البوابة، ووقف دراكو بجوارِ ركبة هاري، على نحوٍ يتَّسم برِباطة الجأش، وقد انتصبَت آذانهم. شعرَت هاري بارتجاف تسورنين، لكنه كان بسبب التلهُّف على البدء، فعضَّت شفتَها خجلًا من نفسها وفخرًا بحصانها. مَدَّ حصانُ تيريم رأسه على نحوٍ يُثير القلق وحرَّك ذيلَه؛ كان وجه تيريم تحت الخوذة غيرَ واضح كي يُمكن تفسير تعبيراته. وعادت ناركنون إلى الظهور من المكان الذي قضَت فيه الصباح، وهي تلعق فمها؛ إذ لم تكن راضيةً عن العصيدة هذا الصباح. كما لمعَت شواربها بعناية، ثم جاءت إلى مقدمة الصف، كي تجلس بين تسورنين ودراكو. قالت هاري: «ناركنون، يا عزيزتي، لماذا لا تنامين الآن بجوار النار، إلى أن … إلى أن نعود؟ هذه ليست رحلةَ صيد.»
نظرت ناركنون لأعلى نحوها، مدركةً تمامًا أنها تُوجِّه الكلام إليها، ثم خفضَت نظرها مرةً أخرى وحدَّقت عبر الوادي.
قال جاك: «رماة الفيلانون اصطحبوا قططهم معهم. سوف تؤذين مشاعرها إذا حاولتِ تركها خلفك.»
قالت هاري بغضب: «هذا ليس الوقتَ المناسب لإلقاء النكات السخيفة.»
قال جاك: «على العكس أيتها القائدة، هذا هو بالضبط الوقتُ المناسب.»
ازدردَت هاري لُعابها ونظرت إلى الشمال مرةً أخرى. في مقدمة الجيش الذي أمامهم كان هناك فارسٌ على حصان أبيض. كان الحصان رائعًا، في نفس ارتفاع قامة صنجولد، مع نفس الرأس الفخور والذيل المرتفع، وتُرفرف أشرطةٌ حمراء من غُرَّته وقمةِ رأسه. وكان لجامه ذهبيًّا برَّاقًا يلمع مقابل رقبته البيضاء كالثلج، ويمتشق الفارسُ سيفًا ذهبيًّا رائعًا كبيرَ الحجم. وبجانبه، يقف فارسٌ يرتدي زيًّا أسود، ويمتطي حيوانًا داكنًا بلون الطين ويحمل راية: لونُها أبيض، مرسومٌ عليها طائرٌ أحمر، وهو طائر مفترس ذو منقارٍ معقوف.
قال جاك: «لا يمكن لأي جيش أن يتحرَّك بهذه السرعة.»
قالت هاري: «أجل.»
صهلَ الحصانُ الأبيض، فصهل صنجولد ردًّا عليه، ورفعَ قائمتَيه الأماميتَين؛ فلَكَمَت هاري رقبتَه بقبضتها، فاستقرَّ مرةً أخرى، لكن عضلاته الخلفية كانت متحفِّزة، في انتظار الاندفاع إلى الأمام.
قالت هاري: «حسنًا، سنذهب لمواجهتهم الآن.»
انهمرَت السهامُ كالمطر من السماء إلى البحر المظلم عند أقدامهم، وسقطَت بعضُ الأجسام المظلمة ذات الظلال العديدة، ووصلَت صرخاتٌ غريبة إلى آذان المترقبين عند البوابة. وسمعت هاري تيريم يقول: «على الأقل يمكن للسهام أن تخترقَ أجسادهم.» كانت أذُنا صنجولد مسطَّحتَين على رأسه، وهو يقفز في مكانه. وكان بإمكان هاري سماعُ الخيول خلفها وهي تتقارب، ووقفَت سيناي وتيريم وقد وضعَ ككٌّ من حِصانَيهما قائمتَيه الأماميتَين على المنحدر الصخري على جانبَي الفجوة.
قالت هاري: «انتظر أنت هنا يا جاك؛ سنعود عندما نُصبح مستعدين للاستراحة، ويمكنك التفاوضُ معهم مدةً من الوقت.»
قال جاك: «كما تأمرين، أيتها القائدة.» ثم أضافَ وهو يهمس: «حظًّا مُوفَّقًا، يا هريماد-سول.»
أشارت هاري إلى عازِف البوق المرافِق لجنود جاك، وخرجوا بينما تُعلن النغماتُ النحاسية الرنَّانة عن مسيرتهم؛ إذ كانوا لا يحملون أيَّ شيءٍ آخر.
قفزَ صنجولد عبر الشقِّ نحو أسفل المنحدر، ورفعَ الحصانُ الأبيض الفحل قائمتَيه الأماميتَين وصهلَ، فوجَّهه فارسُه وركضَ إلى أحد الجانبَين، وتدفَّقَت جحافلُ الجيش في جنبات الوادي. وتردَّدَت صيحاتُ الحرب في الحناجر الخشنة، ونطقَت بلغاتٍ مختلفة.
كان الموقع أمام البوابة مفيدًا لهاري، فليس به سوى مساحةٍ ضيقة للمناوَرة، ولا يوجد متَّسَع للأعداد الكبيرة من جنود الشمال كي تجتاح خُصومَها الضئيلي العدد وتسحقَهم. وعلى كل جانبٍ أن يُقاتِل على جبهة ضيقة، وكان التساؤل الوحيد هو إلى متى سيصمد جنودُ أرض التلال ويستمرون في القتال؛ إذ سيكون هناك دائمًا مَن يحلُّ محلَّ أيِّ جندي من جيش الشمال قد يُقتل أو ينال منه الإنهاكُ والتعب. شهَرَت هاري جونتوران من غِمده ولوَّحَت به، وهي تصيح في الهواء، واندفعت نحو جنود الشمال وهي تُمزِّق أجسادهم بضربات سيفها وهم يتساقطون، وقد تعالَت صرخاتهم، تحت أقدام صنجولد. فصاحَ تيريم: «جونتوران!» ونادت سيناي: «هريماد-سول وجونتوران!» كي لا يفوق الأمرُ طاقتها؛ ثم اندفعَ جنود أرض التلال نحو جنود الشمال.
اندفعَ صنجولد وسط الحشود وضربَ بالأسنان والحوافر بينما يُمزِّق جونتوران ويطعن، وشعرت هاري بالموجة الصفراء ترتفع في ذهنها، وكانت سعيدةً بها؛ لأن تفكيرها وحده لا يُجدي كثيرًا، وليس بالنوع المناسب الآن، ولاحظَت أن جونتوران أصبح مغطًّى بالدم، لكنه دمٌ ذو لونٍ غريب. وتكاثرت السُّحب لتحجب الشمس، لكنهم استمروا في الكَرِّ والفَرِّ، وقاتلَ جنودُ أرض التلال على نحوٍ أشدَّ بأسًا كي يُثبِتوا أن الجيش الأسود ليس جيشًا لا يُقهَر.
أدركَت هاري دون أن تنظر نحوه أنَّ رأس دراكو بجوار ركبتِها مرةً أخرى، وهدأتْ لحظةً عندما تمكَّنَت من إراحة ذراعها اليمنى ودرعها الصغيرة على ساقها، وقالت: «من أين أتيتِ؟»
قال جاك: «بدا الأمرُ كما لو أنكِ لن تعودي أبدًا وتمنحينا فرصةَ المشاركة، وقد سئمنا من الانتظار»، ثم ازدادت حِدَّة المعركة من حولهما مرةً أخرى، وارتفعَ صليلُ السيوف وارتطامُ الضربات العنيفة وأحاطَ بهما. وقد تلطخَت رقبة صنجولد بالدم، وبينما يندفع برأسه، تطاير الزَّبَدُ من فمه للخلف وسالَ على ساعِد هاري.
لم يكن باستطاعة الجنود الرؤيةُ على نحوٍ واضح إلا بصعوبة بالغة، حتى على مقربةِ ضربة سيف. بينما تمكَّنَت هاري من الرؤية على نحوٍ أكثرَ وضوحًا من بقية الجنود، لكنها لم تستطع تحديدَ سببِ تأكُّدها من أنَّ الكائنات التي تُقاتلها ليست بشريةً بالكامل. كان لدى بعضهم عيونٌ متلألئة لأذرعٍ سريعة مثل البشر؛ لكن بدَتْ أطرافُ البعض الآخر كأنها تتأرجح من مفاصل الكتفَين والفخذَين على نحوٍ غريب، وبدَت مواضعُ العيون غريبةً في الجماجم ذاتِ الشكل الغريب — على الرغم من أن الجماجم ربما كانت سليمة، وكانت الخوذات غريبةَ الشكل على نحوٍ مُتعمَّد. كانت بعضُ الخيول أيضًا خيولًا حقيقية، لكن بعضها كان جلده يتلألأ مثل قشور الأسماك، وله أقدامٌ تدبُّ على الأرض لا تُشبه الحوافر، وأنيابٌ مثل أنياب الكلب.
مرَّت دقائقُ عاشَ خلالها جونتوران حياةً خاصة به، وفي المرة التالية التي رأت فيها هاري جاك، اصطدمَ بها دراكو من جانبٍ واحد، وتشابكَ رِكابُ جاك مع كاحلها؛ فصاحَ قائلًا: «يُمكنكِ أن تُفكري في التراجع بضعَ دقائق، أيتها القائدة؛ لقد كبَّدناهم خسائرَ فادحة، ونحن نستحقُّ بعضَ الراحة.»
نظرَت هاري حولها في حيرة، لكنه كان مُحقًّا؛ لقد تمكَّنَت كتيبتُها الضئيلة العدد من إجبار الجيش الأسود على التراجع؛ حيث تقهقَروا إلى منتصف الطريق أسفلَ الوادي مرةً أخرى. فقالت: «أوه. أوه. أجل.»
صاحَ جاك وهو يقف على رِكابه: «تراجَعوا! تراجعوا إلى الفجوة!» أصدرَ عازفُ البوق نغمة الانسحاب؛ لأنه تبعَ جاك عندما كافحَ الكولونيل للوصول إلى هاري، مثلما تبعَ الكولونيل ديدام في كثيرٍ من الأحيان من قبل طوالَ السنوات والمعارك الماضية، ولم يُصَب حتى الآن بأيِّ جروح تمنعه من العزف، على الرغم من أن المناوشات الحدودية التي اعتادَ المشاركةَ فيها قد جهَّزَته بعضَ الشيء لهذا اليوم. لقد أصبح متعَبًا وملطَّخًا بالدماء الآن، واستغرقَ الأمرُ لحظةً كي يملأ رئتَيه بالهواء ويجعل البوق يُصدر صوتَه، لكن بعد ذلك حلَّقَت النغمات مرةً أخرى، فوق رءوس المقاتلين، وتجمَّعَت كتيبة هاري استعدادًا للتقهقر إلى الفجوة. رأت هاري سيناي بالقرب منها، ثم التفتَ الآخَرون، واحدٌ وراء الآخَر، وهم نصفُ منتبهين، فوق سروجهم، بعد أن سمعوا نغمات الانسحاب، وقد سمع بعضُهم الصيحةَ ونشروها حتى مسافةٍ أبعد، أما رُماة الفيلانون فكانت لديهم نغمةٌ غنائية طويلة واضحة تناقَلوها فيما بينهم. وبينما استدارَت خيول أرض التلال وأرض الأغراب كي تنسحب، واستعدَّت هاري كي تتبعَها؛ ظهر الحصانُ الأبيض الضخم أمامها على نحوٍ مفاجئ.
بدا هذا الحصانُ تقريبًا وكأنه حصانٌ حقيقي؛ هكذا قالت لنفسها. لكنه كشَّرَ عن أنيابه، وكانت تُشبه الأنيابَ المنحنِيةَ الحادَّة لدى الوحوش الآكلةِ اللحم. وينتهي كلُّ طرَفٍ من طرَفَي لجامه بما يُشبه السكينَ الحادَّ على كل جانب من جوانب فكِّه، حتى يتمكَّنَ من طعن أيِّ حصان يواجهُه بضربةٍ جانبية من رأسه. وقد مدَّ أذنَيه الطويلتَين على جُمجمته، وجحظَت عيناه الزرقاوان. رفعَ قائمتَيه الأماميتَين وصهلَ صهيلَ حصانٍ فحل مرةً أخرى، فردَّ عليه صنجولد بالمثل. ولكن عندما ضربَت أقدامُ حصانها الأرض مرةً أخرى، قفز إلى الأمام، ورأت هاري فارسَ الحصان الآخر يَشهَرُ سيفَه الذهبيَّ في تحدٍّ. وتلألأ جونتوران في ضوء الشمس، وعندما تلامس السيفان، شعرَت بأن الضربة ناتجةٌ عن قوةٍ أكبر من قوة بشر. لكن سيف الفارس الآخَر لم يلحق به أيُّ أذًى، فقط تراجعَت هاري على سرجها، وبسبب الضجيج الذي أحدَثه السيفُ على درعِها الملطَّخة بالدماء، وأحدثَت الضرباتُ نقرًا على سطحه؛ سرَت موجاتٌ من الخوف في جسدها، وتحوَّل غضبُ الحرب الأصفر لديها إلى اللون الرمادي الخافت. رفعَ صنجولد قائمتَيه الأماميتَين وصهلَ. ولم يكن الحصانُ الأبيضُ سريعًا بما فيه الكفاية، وعندما أبعدَ صنجولد قائمتَيه وأنزلَهما على الأرض، كانت هناك دماءٌ تسيل على رقبة الحصان الآخر وكتفِه ولجامِه.
يبدو أنَّ هذه الضربة دفعَت الحصانَ الأبيض إلى الجنون، فهاجمَ مرةً أخرى، وسمعَت هاري من خلال الرعد المميت في أذنَيها ضجَّةَ الفارس الآخَر. فرفعَت عينَيها إلى حيث ينبغي أن يكون موقعُه، تحت خوذته البيضاء اللامعة، ورأت بُقعتَين من النار الحمراء، وأسفلَهما كشفَت ابتسامةٌ عن أسنان في فكٍّ ربما كان يومًا ما فكَّ إنسان. إنَّ القوة التي ظهرَت على هذا الوجه، وسرَت في الذراعَين إلى السيف والدرع، كانت من النوع الشيطاني، وأدركَت هاري أنَّ قوتها أقلُّ من تلك القوة، وعلى الرغم من حرارة جونتوران في يدها، كان قلبها باردًا من الخوف. رفعَ الفحلان قوائمَهما الأمامية مرةً أخرى، ووجَّها الضربات بها لتمزيق بعضهما بعضًا، وقد أحاطت الدماءُ الآن برقبة الفحل الأبيض كشريطٍ أحمر، مثل الأشرطة الحقيقية التي كانت ملفوفةً على غُرَّته. رفعَت هاري ذراعها ووجَّهت ضربةً بالسيف، وشعرت بصدمة قوية عند ارتطامه بالسيف الآخر؛ ورنَّت قبضتا السيفَين معًا، وتطاير الشَّررُ من ارتطام المعدن، ويبدو أن الدخان ارتفعَ منهما وأعجزَها عن الرؤية. شعرت بالأنفاس الحارَّة للفارس الآخر أمام وجهها. وقد انفرجَت شفَتاه فأمكَنها رؤية لسانه؛ كان لونُه قرمزيًّا، وبدا أشبهَ بالنار أكثرَ من اللحم الحي. وشعرت بأن ذراعها قد تخدَّرَت. استمرَّ الاشتباك لحظةً واحدة فقط، ثم ابتعدَ صنجولد بفارسته، وقد أحكَمَت هاري تثبيتَ ساقَيها على ظهره بحُكم التعوُّد، بينما كانت تُكافح فقط لعدم إسقاط سيفها. وعضَّ صنجولد الفحلَ الأبيض فوق الذيل مباشرةً، الذي وجَّه رفسةً بقائمته الخلفية، لكنها كانت متأخِّرةً للغاية، حيث تفاداها صنجولد وعضَّه مرةً أخرى في خاصرته، وتدفَّق الدمُ من الجرح الطويل الغائر. مدَّ الفحلُ الأبيضُ رأسَه واندفعَ إلى الأمام، بعيدًا عن عدوِّه. وسمعَت هاري الفارسَ يضحك مرةً أخرى، رغم أنه لم يُحاول كبْحَ جِماح حصانه كي يلتفَّ لشَنِّ هجوم آخر؛ هجوم عرَفَت هاري أنه سيُصبح دفاعَها الأخير. لكن يمكنه الانتظار. فهو يعرف قوةَ جيشه، ويعرف قلة عدد الكتيبة التي اختارت محاولةَ التصدي له؛ لأن الرياح التي أرسلها قد أخبرَته.
ولكن في تلك اللحظة، وبينما كان الفحلُ الأبيض يركض هاربًا منهما، وقد استدار حاملُ الراية ليتبع قائده، قفزَ جسدٌ مخطَّط طويل من فوق أرض الوادي السوداء اللينة وألقى بنفسه وهو يُزمجر على الوحش ذي اللون الطيني. واندفعَ صنجولد إلى الأمام مرةً أخرى قبل أن تُدرك هاري أن ساقَيها تُحكِمان الثباتَ حوله؛ لأن الجسد المهاجم كان لناركنون. جرحَت القطةُ الفارسَ، ثم سقطت بعيدًا مرة أخرى، ثم قفزَت على وجه الوحش وأمسكَت أنفه بأنيابها، فانبجَسَت منه دماءٌ أرجوانية وسالت على جانبَي جسدِ ناركنون. رفعَ الوحشُ قائمتَيه الأماميتَين، محاولًا تمزيقَ القطة بمخالبه، لكن ناركنون لوت جسدها في الهواء. وضعَ الوحشُ قائمتَيه الأماميتَين على الأرض مرةً أخرى بينما وجَّه راكبُه ضربةً بسيفه نحو القطة، لكنه لم يُصبها، حيث اعترضَت هاري طريقه بسيف جونتوران. ورفعَ الوحش قائمتَيه الأماميتَين مرةً أخرى، غاضبًا من الألم، وألقى بنفسه إلى الوراء، فوقعَ فوق راكبه ولم ينهض أيٌّ منهما مرةً أخرى، ودُهِسَت الرايةُ ذاتُ اللونَين الأحمر والأبيض تحت الأقدام.