الفصل السادس عشر
في الصباح التالي، غادروا بوابةَ مدامر، ليهبطوا من فوق الجبل عبر طريق الصعود نفسِه. أصبح تعداد القوة الصغيرة أقلَّ من نصفِ ما كان عليه في الصباح السابق، وكانوا يتحركون ببطءٍ أكثر؛ بسبب ما بهم من إرهاق وجروح و… شعورٍ طفيف بزوال الخطر؛ هكذا ظنَّت هاري في نفسها. وكانت هاري مصابةً بصداعٍ كريه. كانت كلُّ خطوة يتخذها صنجولد تضرب مثل مِطرقة خلف عينيها، وتُحدِثُ فيهما بريقًا. فسألت جاك: «هل يشعر المرء دائمًا بالضياع قليلًا، في اليوم التالي للمعركة؟» بينما كان يمتطي حصانه إلى جانبها في ثبات وصرامة إلى حدٍّ ما. كان دراكو قد أصيب بجرحٍ في مؤخَّر رأسه، وقد رُبط الجزء الذي يُحيط بالرأس من اللجام بقطعة من القماش الأزرق.
قال: «أجل. حتى عندما يُحقق النصر.»
تحركوا ببطء ولكن بوتيرةٍ ثابتة طوالَ ذلك اليوم. وفي المساء قالت هاري لكينتار: «يمكنك المغادرة الآن، إذا كنتِ ترغبين في ذلك، كي تعودي إلى موطنك. أنا … نحن جميعًا ممتنُّون لمساعدتكم. من المحتمل للغاية أننا لم نكن لنتمكَّن من صد هجومهم مدةً طويلة بما يكفي لكي … لكي يسقط جونتوران الجبال عليهم، بدون مساعدتكم.» ثم قالت هاري بمزيدٍ من التردُّد: «ومن الجيد أيضًا أن نجد صديقًا وحليفًا آخر.»
ابتسمَت كينتار. ابتسمَت الآن بسهولةٍ أكبر مما كانت عليه عندما خرجَت هي ورُماة السهام لأول مرة من وسط الأشجار؛ لتتعهَّد بالولاء إلى هريماد-سول، وهاري لم تظنَّ أن ذلك كان فقط بسبب صدِّ تهديد جيش الشمال. وقالت كينتار: «من الجيد أن يعثر المرء على صديق، أيتها الليدي، مثلما قلتِ، ومن السيئ أن يفقد ذلك الصديقَ بسرعة. سنظلُّ نتبعك، وسنُقابل ملكَكِ، ونمنحُكِ مزيدًا من المجد عند عودتك. أعتقد أننا نحن الفيلانيين ربما قد عزلنا أنفسنا في غاباتنا مدةً طويلة، وبدونك، يا هريماد-سول، لم يكن ليظل لدينا موطنٌ كي نعودَ إليه الآن. لقد كنَّا من أهل دامار حتى وقتٍ ليس ببعيد، وبايع آباؤنا آباءَ كورلاث ملوكًا. سنذهب معك.» كان أربعةٌ من رماتها قد اقترَبوا ووقَفوا أمام ضوء النار ليقفوا بجانبها عندما بدأتْ تتحدث، وأومَئوا برءوسِهم تصديقًا على حديثها. كان أحدهم يرتدي خرقةً بيضاء حول جبهته، وقد غطَّت حاجبًا واحدًا من حاجبَيه؛ مما منحه مظهرًا يوحي بالتحيُّر والتردد، لكن لم يكن هناك ترددٌ في إيماءته الحادة.
نظرَت هاري بحزن إلى يديها. وقالت: «أنا … أنا لستُ متأكدة أن من الحكمة أن تأتيَ إلى كورلاث في أعقابي، وتناديني بلقبِ سول. لقد جئت إلى هنا — لقد تركتُه هو وجيشه وخططه القتالية — في مخالفةٍ صريحة لأوامره، وأعتقد أنه من المرجَّح أن أواجهَ مشكلة؛ لأنني اخترتُ العودة. أنا … أُشيد بفكرة أنه يجب عليكم إعلان أنفسكم على أنكم من أهل دامار مرةً أخرى، لكنني — في الواقع — أوصي بشدةٍ أن تسلكوا سبيلكم الخاصَّ إلى كورلاث، من دوني.»
لم يبدُ أن كينتار قد فوجئَت بكلمات هاري، لكن لا بد إذَن أن تيريم أو سيناي قد أخبرَتها بالقصة. فقالت: «أعتقد أن مَلِككم كورلاث ليس بأحمق، وسيُصبح من الحماقة أن يُعامل الشخص الذي دفن ثورا والآلاف من جيشه، بمعاملةٍ أقلَّ من التكريم والحفاوة البالغَين. سنأتي معك، وإذا طردك، فسنظل معك. وسنُرحب بك في موطننا هنا»، قالت ذلك وهي تشير بيدها وصوتُ صلصلةٍ موسيقية خافتة من الخرزات الزرقاء حول معصمها. وأردفَت: «لن تذهبي إلى المنفى بلا مأوًى.»
لم تقل هاري شيئًا. وجدَت أنها متعبةٌ للغاية لدرجة أنها لا تستطيع المجادلة، وممتنَّة جدًّا لولائهم؛ لأنها كانت ببساطةٍ خائفةً مما ستُواجهه عند العودة — خائفة أساسًا لأنها أدركَت مدى رغبتها اليائسة في أن تُصبح قادرةً على العودة. كان صحيحًا أن كورلاث سيُضطرُّ إلى تكريمها لأنها سببُ سقوط ثورا؛ ذلك أنه ليس بأحمق، بل ملكٌ موقَّر للغاية، لكنها لم تكن تريده أن يكون مجبرًا على ذلك. فقالت في النهاية: «حسنًا، لتكن رغبتك.» فانحنَت كينتار، انحناءة قصيرة رشيقة. وقالت هاري: «شكرًا لك.»
قالت كينتار: «إنه لَشرفٌ لي أن أتبع هريماد-سول.»
ابتسم جاك لهاري وهي تجثو على ركبتَيها مرةً أخرى بجوار حلقة النار، وزاحمتها ناركنون من جانبها، وقد بدت ناركنون وكأنها تأثرَت بطريقتها الخاصة بسقوط الجبال مثلما تأثر البشر. وقال جاك: «نحن نتشبَّث بك مثل العلقات»، فنظرَت إليه بدهشة. وأضاف: «أو هكذا أعتقد أنه كان جوهر محادثتك الآن.»
فأومأت له هاري.
«لذلك ربما يكون هذا هو الوقتَ المناسب لأن أُنذرَكِ بأن ريتشارد وأنا وعصبتنا نُخطط للذهاب معك أيضًا — وأن نُلقي بأنفسنا تحت رحمة ملكِكم في التلال. لم يتبقَّ لنا في الوطن من شيء. و…» ثم أدار يديه لتدفئة ظهريهما بجوار النار، وحدَّق في راحتيه المتصلبتين — وتابع: «نحن نود ذلك.»
«ولكن …»
«لن تَثْنينا عن الأمر إلا بجهدٍ غير عادي؛ لأن أيَّ سبب قد يخطر ببالك، سنفترض على الفور أن له صلةً برغبتك الجديرة بالثناء في تجنيبِنا الألمَ أو المتاعب، ونحن قد عقدنا العزم بكل أنانيةٍ أن نتَّجه شرقًا في أعقابك. ولا يتحلَّى أحدٌ منا بالقوة كي يحتمل الجدل المطوَّل على أي حال، بما في ذلك أنت. قد أكون عجوزًا ومتصلبًا ومتألمًا، لكنني عنيدٌ على نحو سيثير دهشتك.»
ساد الصمت لحظة. ثم قالت هاري: «حسنًا.»
نكَز ريتشارد، الجالسُ عن يسار جاك، النارَ بعصًا. وقال: «كان ذلك أسهلَ مما توقَّعت.» فابتسم جاك في دهاء.
ومن ثَم وصلوا إلى قرية سيناي في اليوم التالي، واستقبلوا باحتفالٍ كبير. وقال والد سيناي موضِّحًا: «شعرنا أن الجبل يسقط منذ ثلاثةِ أيام؛ لأن الأرض اهتزَّت تحتنا وهبَّ الرماد فوقنا. ثم شعرنا أن الجوَّ أصبح أكثرَ إشراقًا بعد ذلك، وبذا علمنا أن الأمور سارَت معكم على ما يُرام.»
قالت رايلي: «كان لونُ الغبار أزرق.»
قالت المرأة اليافعة والدة رايلي والزوجة الثانية لوالد سيناي: «والطريق يستغرق ثلاثةَ أيام إلى البوابة من هنا؛ لذلك توقعنا قدومكم اليوم»؛ وقال ناندام والد سيناي: «تحيا هريماد-سول، ساحرة تامير، مطبقة الجبال.»
قالت هاري بلغةِ هوملاند: «يا للعجب!» نخر جاك بأنفه وسعل، وطالب ريتشارد بأن يشرح له أحدٌ تلك الدعابةَ. ولكن عندما قُدِّمت لهم الأطباق الممتلئة والساخنة، استقرَّت على أن الشهرة لها مَزاياها. فهي لم تتناول قدرًا جيدًا من الطعام منذ أن جلست إلى المأدبة التي مُنحَت خلالها لقب فارس الملك … مع كورلاث …
ومما أثار فزعَها في صباح اليوم التالي أن ناندام جاء يمتطي حصانًا عاليًا أسودَ اللون له قدمٌ واحدة بيضاء. قال ناندام: «سوف آتي معك. لقد جعلَتني هذه الساقُ عديمَ الفائدة في المعركة، لكنني لستُ بلا شرف، وقد عرَفني كورلاث منذ زمن طويل؛ لأن سيناي ليست أولَ فارس يُرافق ملكَ المدينة من عائلتي وجبلي. سأنضمُّ إلى موكبك أنا أيضًا، يا ساحرة تامير.»
انتفضَت هاري. وقالت: «لكن …» أصبحَت هذه هي كلمتَها المفضَّلة في الآونة الأخيرة.
قال ناندام: «أنا أعلم. لقد أخبرتني سيناي. هذا هو سببُ مجيئي.»
ومن ثَم تجنَّبوا المرور على حصن بلدة الأغراب، الذي يربض في سلامٍ تحت الشمس، غيرَ متأثِّر بالأمور القبَلية المرهقة للداماريين القدامى. كان الأغراب يعرفون طَوال الوقت أن أهل التلال عددهم أقلُّ بكثيرٍ مما يُمثل مشكلاتٍ خطيرة، وإذا كانت الأرض قد اهتزَّت قليلًا تحت أقدامهم قبل أيامٍ قليلة، فلا بد أن الجبال ليست عتيقةً للغاية كما اعتقدوا، ولا تزال تتحركُ وتتشكَّل في مكانها على الأرض. وربما يؤدِّي نشاطٌ بركاني صغير إلى شقِّ شريانٍ جديد للثروة، ولن تظلَّ مناجمُ إيل هي السببَ الوحيد لذَهابهم إلى جبال راميد.
أطال جاك النظرَ بحزنٍ إلى الجدار الحديدي الذي قضى بداخله معظمَ الوقت في السنوات الثمانية عشرة الماضية. ووجد هاري تنظر إليه فقال: «أيُّ شيء هناك ينتظرني هو من نوعية «ضَع نفسك قيد الإقامة الجبرية في مسكنك بينما نُقرر ما يجب أن نفعله معك — يا له من مسكين، لقد أثَّرَت الصحراء على عقله، وأصابه الجنون في نهاية المطاف.» لذا لن أعود.»
ابتسمَت هاري ابتسامةً خافتة. وقالت: «أوَتعلم، لقد أفسدتَ الأمر. لو كنتُ أعرف ما سأتسبَّب فيه، لذهبتُ وحدي، وأسقطتُ بهدوءٍ نصف سلسلة الجبال في أفضل مكان يؤدِّي إلى أفضل نتيجة …»
قال جاك: «وتغادرين ممتطيةً سحابة، ولن نسمع عنكِ مرةً أخرى. أظن أحيانًا أن التفانيَ الأعمى — أو ضغط الأعداد الكبيرة — لأتباعك المخلصين هو السبب الوحيد لعودتك إلى ملكك.»
زاغت هاري ببصرها في أفق التلال التي تُحبها، وتذكرت كلمات إيرين، وأن ديكي أعادها إلى هذا العالم ثانيةً في وقت مبكِّر بعضَ الشيء.
تابع جاك حديثه: «هل هو رهيبٌ إلى هذا الحد فعلًا؟ ألا تريدين العودة؟»
التفتَت هاري ونظرت إلى الوراء على البقعة الواقعة وسط الرمال الذهبية الرمادية التي هي إيستن. وقالت: «كلا، هو ليس برهيب. وبلى، أريد العودة — كثيرًا. وهذا هو سببُ خوفي.»
نظر إليها جاك، كانت تشعر بنظرته إليها، لكنها لم تقوَ على النظر إليه.
بعد أقلَّ من ثلاثة أيام، فكَّرَت هاري في نفسها آسفةً أن رحلة العودة بدَتْ أقصرَ بكثيرٍ من رحلة الذهاب، وهذا على الرغم من حقيقةِ أنهم كانوا يتحركون ببطءٍ من أجل جَرْحاهم الذين قاوَموا البقاء في قرية ناندام إلى أن تشفى جراحُهم، وطالبوا بمرافقتهم. «لا يريدون تفويتَ أيِّ لحظة من المرح»، هكذا قال جاك معتذرًا، كما لو كان كل ذلك خطأَه.
قالت بغضب: «مرح؟»
قال جاك: «ربما كان موقفك صارمًا بعضَ الشيء بلا داعٍ.»
تمتمَت هاري بشيءٍ كان من الأفضل ألا تقوله بصوتٍ عالٍ، وأضافت: «إنهم يأخذون الشرف والولاء على محملِ الجِد هنا، أيها الغريب المفتون بدامار.»
هز جاك كتفَيه. وقال: «وإذا طردونا جميعًا وردُّونا على أعقابنا — أعتقد أن هذا يعدُّ مرحًا من نوعٍ ما.» ثم صمت، ونظر إليها من زاوية عينه. وأضاف: «لكن أخشى أن لديَّ النظرة المتفائلة نفسَها مثل بقية عصبة هاري.»
احتجَّت هاري، قائلةً: «لكنني أعرف أكثرَ عن الأمر!»
أجاب جاك: «إن الجهل نعمة.»
لم يجدوا صعوبةً في العثور على طريقهم إلى معسكر ملك التلال. لم تُفكر هاري في الأمر قَط، بخلاف عبارة «التوجُّه شرقًا» البسيطة. لكن وعلى الرغم من أن «الشرق» يُغطي مساحةً شاسعة من الأراضي، فإنها وجَّهَت أنف صنجولد كما لو كانت رحَّالةً ومرشدةَ طرق، تقطع المسار نفسَه الذي تسلكه لسنوات. تمنَّت الآن لو لم تكن دقيقةً إلى هذا الحدِّ. إذ استطاعت أن ترى خيمةَ الملك تلوح في الأفق أمامهم، وغروب الشمس يتلاشى خلفهم، وظلالهم الطويلة تبدأ في الذوبان في تموُّجات الرمال الرمادية تحت الأقدام. كانت تعلم أن حرَّاس الملك قد رصَدوا اقترابهم، لكن لم يُلقِ أحدٌ التحية عليهم. كانت تعرف جيدًا أن حُرَّاس الملك تعرَّفوا عليهم على الفور، لكنَّ أحدًا لم يُحيِّهم. كانت هاري تؤمن تمامًا أنها سهلة التمييز هي وصنجولد وجونتوران، لكنها فوجئت أن وجود اثنَي عشر رجلًا مسلحًا من الأغراب جليِّين في موكبها لم يُثِر أيَّ تعليق حتى ولو لم يُلقوا القبض عليها فور رؤيتها.
وبما أنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بخلاف ذلك، فقد تقدمَت إلى خيمة الملك مباشرةً لكن في تردُّد، برزَت الخيمة وسط الخيام الأخرى، وعلى قمتها تُرفرف رايةٌ بألوان الأسود والأبيض. لكنَّ أحدًا لم يوقفها أو يستجوبها حتى الآن، إلا أن العديدين قدَّموا لها تحيةَ اليد في صمت، تحيةً من النوع الذي يتوقعه فارس الملك، وقد أراحها هذا قليلًا. لكنها كانت تتمنى أن ترى شخصًا تعرفه جيدًا بما يكفي للتحدُّث معه — ماثين أو إيناث بالتحديد — لتسأله عن نوع الترحيب الذي ينبغي أن تتوقعه.
كانت هناك قليلٌ من الدلائل على أن هذا الجيش قد خاض معركةً يائسة ضد أعدائه قبل أيام فقط، وأدركَت فجأةً أنه لم يخطر ببالها قَط أن كورلاث قد يُهزَم. كانت تتعلم أن تُصدِّق ما يُخبرها به جَفْناها. كانت جميع الخيام منصوبةً بدقة وترتيب، وكانت الخيول التي رأتها نظيفةً ونشيطة. لكن في أرجاء المعسكر سادت همهمةٌ تنمُّ على التوتر، وكان بإمكانها الشعورُ بذلك؛ إذ غلَّف الصمتُ المكان، وبدا أولئك الأشخاصُ الذين رأتهم وهم يُسارعون من خيمة إلى أخرى كما لو أن خروجهم هذا لمسألةِ حياة وموت.
كان وقْعُ خطواتِ صنجولد سريعًا جدًّا. ولم ترَ أيَّ فارس آخَر، وعند باب خيمة الملك توقَّفَت، ووقفَت صحبتها خلفها، ثم انتشروا في حاشيةٍ صغيرة حول قائدتها. حيَّاها الحارس ذو الوشاح الذهبي مثلما فعَل قبل نصف عام؛ حتى إنها ظنَّت أنه كان الرجل نفسَه، وإن كان يبدو أكبرَ سنًّا، يبلغ من العمر تقريبًا قدْرَ ما شعرَت هي أنها قد كبرَت في السن. ظلَّت هاري فوق السرج، أرادت البقاءَ فوقه إلى الأبد، على الأقل يجعلها هذا أطولَ من رجلٍ يقف على قدمَيه — حتى كورلاث. ماذا ينبغي أن تقول؟ «عاد الضال؟ يرغب المتمرد في أن يُردَّ؟ بعد أن واجه المرءوسُ كثيرًا من المتاعب لإثبات خطأ قائده، عاد ويتعهَّد بأن يظلَّ بعدئذٍ تابعًا صغيرًا مطيعًا، أو على الأقل حتى المرة القادمة؟»
وعندئذٍ أزاح كورلاث بابه المصنوعَ من الحرير الذهبي ووقف أمامها، وحدقَت فيه من أعلى، حينها ما كانت لتستطيع النزولَ من فوق السرج حتى ولو أرادت ذلك. وقد أدركَت السبب، عندما أظهرته لها الكيلار الخاص بها وهو في المعركة منذ بضعةِ أيام، لم تتعرف عليه في البداية؛ لأنَّ وشاحه كان بلونٍ مغاير. إذ كان يرتدي وشاحها.
قال كورلاث: «هري»، ثم «هريماد-سول»، فيما سار نحو جوار صنجولد، ظنَّت أنه يتحرك بصلابة، وذُعِرَت لدى فكرةِ أنه ربما يكون قد أُصيب. وظلَّت تحدق فيه، ولا تستطيع الحركة، وبعد ذلك، وعلى استحياء، وضع يده حول كاحلها الجلديِّ المغبرِّ، وقال بحذرٍ: «هاري.»
سحبَت ساقها فوق كتف صنجولد وانزلقَت مثلما انزلقَت مرةً من فوق فايرهارت، ووضعَت ذراعيها حول ملكِها وعانقَته بشدة، وأطبق ذراعَيه حولها وتمتم بشيءٍ إذ كانت أذناها تؤزَّان، فلم تسمع ما قال.
لم يكن الوضع مريحًا للغاية، احتضان شخص يرتدي سيفًا وقطعًا مختلفة من الدروع الجلدية، ويكون أقلَّ راحةً أيضًا إذا كان الطرفان مجهَّزان بزيِّ القتال بهذا الشكل. أسقط كورلاث وهاري ذراعَيهما بعد وقتٍ قصير، ونظر كلٌّ منهما إلى الآخَر، وراودَهما ظنٌّ قَصِيٌّ أن الآخرَ يبتسمُ ابتسامةً سخيفة إلى حدٍّ ما، ولاحظَت هاري أن عينَي كورلاث كانت بلون ذهبي.
قالت وقد بدا صوتُها خفيضًا في أذنيها الفائرتين: «أنت لم تُصَب بأذًى؟»
قال: «أنا لم أُصب بأذًى. وأنتِ؟»
قالت هاري: «بلى»، وهي لا تزال تنظر إلى عينيه الذهبيتين. وأضافت: «أو كلَّا. أنا لم أتأذَّ.»
قال ملكها: «أنا سعيد»، وكان صوته لا يزال خفيضًا وحَيِيًّا، وأضاف: «لرؤيتك … هنا … وأنك ما زلت …» وتابع في تردد: «ما زلتِ تنتمين لأهل التلال؟»
أخذَت هاري نفَسًا عميقًا. وقالت: «سأظل أنتمي لأهل التلال حتى أموت، ولكن ماذا ستفعل بي لأنني غادرتُ بهذه الطريقة؟ وهذا ليس خطأَهم»، وتابعَت على نحوٍ متسرِّع، وهي تشير إلى من يقفون وراءها، «لكنهم أصروا على القدوم معي على الرغم من أنني حذرتهم بما فعلته وما قد ينتظرني. أيًّا كان ما ستقوله، فسأطيع، لكن … ما هو؟» توقفَت؛ لأنها بينما تُحاول تقديم أعذار، أو تكفير، أو أيًّا كان ما تريد، تذكرَت أنها وكورلاث ليسا وحدهما، وأنها مارقة. رفعَت نظرها وجالت به في الأرجاء، لكن رفقتها كانت مجردَ أجسادٍ قاتمة في عينها، مُعتمة بتلاشي النور.
قال كورلاث: «سأعيد إليك وشاحك»، لكنَّ يدَيه لم تتحرَّكا لفكِّه من حول خصره. وتابع: «ما كان يجب أن يضيع منكِ — لأني أظن أنه قد ضاع منك. إذا لم يكن الأمر كذلك، وأنكِ طرَحتِ به عمدًا، فسيُعدُّ ذلك علامةً على أنكِ نقَضتِ عهد ولائكِ لي، ولدامار، وجعلتِ نفسَك منفيَّةً إلى الأبد.»
قالت هاري مذعورةً: «أوه، كلا»، وتحوَّلَت الابتسامةُ الحمقاء والمتشكِّكة على وجه كورلاث إلى ابتسامة حقيقية، ابتسامة لا تُشبه أيَّ ابتسامة رأتها هاري على وجه ملك التلال من قبل. وقال: «كلا. هذا ما كنتُ آملُه.»
همسَت هاري: «لقد كرَّمتني كثيرًا — منذ البداية.»
أجاب كورلاث: «لم أفعل إلا ما وجب؛ لأن الكيلار لم تمنَحْني أيَّ خيار، لكنني … وثقتُ في قدراتك، ولم يكن يُهمُّني ما قالته الكيلار.»
«وهل وثقت بي حينها، عندما غادرتُ وتركتك، يا مولاي، وكنتُ أنا التي من فرسان الملك، مخالفةً لأوامرك؟»
تلاشَت الابتسامة، لكن ظلَّت عيناه صفراوَين زاهيتَين. وقال: «لقد فعلت.» وأردف: «لقد حذَّرني … لوث من أنكِ ستفعلين شيئًا جنونيًّا — وأنا … خشيتُ شيئًا آخَر، لأنه بذا يجعل الإنسانُ من نفسه أحمقَ، ولا يفهم ما تُرسله إليه الآلهةُ من حكمة. ولم أدرك ما قاله لي لوث — وقد نسيتُ ما قالته لي الكيلار — إلى أن غادرتِ.»
قالت هاري: «شيئًا آخر؟ ماذا كنتَ تخشى؟» وخفق قلبها بسرعةٍ أكبر بينما كانت تنتظر ردَّه، وكانت تأمُل أن يسألها سؤالًا ربما تجيب عنه بما يُمليه عليها قلبُها.
لكن نظر كورلاث حولهما. وقال: «إن جنود الأغراب الذين أحضَرتِهم إلى معسكري ليسوا هنا ليُرافقوكِ إلى موطنك، أليس كذلك؟»
هزَّت هاري رأسها بعنف. وقالت: «إنهم رفقتي بالفعل إلى موطني، وسيظلُّون برفقتي فيه، في التلال، إذا كنتَ ستقبل بقاءهم.»
قال كورلاث: «سأستقبلهم، وسأخلع عليهم تكريمًا»، وظلَّت عيناه مركزتَين على جاك، الذي يمتطي صهوةَ دراكو بهدوءٍ بين ريتشارد وتيريم، وأضاف: «أولئك الذين صمدوا عند بوابة مدامر وشاهَدوا الجبل يسقط على ثورا. آمُل أن يَرْووا هذه الحكاية، وأن يرووها كثيرًا.»
قالت هاري: «وآمُل ألا أُضطرَّ أبدًا إلى فعل أي شيء كهذا مرةً أخرى»، ولم تتمكَّن لحظةً من رؤية عينَي كورلاث الصفراوَين، لكنها رأت شيئًا شيطانيًّا كان فيما قبل إنسانًا يمتطي صهوةَ فحلٍ أبيضَ وله أسنانُ فهد.
أطرَق كورلاث نحو رأسها المحني. وقال: «من أجلك أيضًا أرجو ألا تُضطرِّي إلى فعل ذلك؛ إن قوة الكيلار ليست بهبةٍ هيِّنة.
لقد رأيت … شاهدتُ الجبل يسقط. سمعتُكِ تناديني وعرَفتُ عندئذٍ مَن كنتِ تُواجهين — ومن ثَم فلماذا لم أرَه يُواجهني هنا: ولماذا تَمكنَّا من صد جنود الشمال وإجبارهم على التراجع، رغم أنهم يفوقوننا في العدد. أظن أنهم لم يتوقَّعوا منا أن نكون بمثلِ هذه القوة، وإلا لم يكن ثورا ليقسمَ جيشه كما فعل؛ لأن دم ثورا الشيطاني أخبره أن هباتِ الشيطان فقط هي التي تتَّسم بالقوة.
كنتُ فخورًا بكِ — وسعيدًا لأنك ناديتِ عليَّ أنا.» ثم خفَت صوتُه إلى مستوى الهمهمة، لكن بعد ذلك تحدَّث بصوتٍ عالٍ: «ثَمَّ تقليدٌ يعود إلى مئات السنين، إلى زمن إيرين وتور، ولا نراه كثيرًا في زمننا هذا؛ لأن عدد المحاربات كان قليلًا في الآونة الأخيرة، وذلك إلى أن عاد جونتوران يُشارك في المعارك مرةً أخرى. لكن يقضي التقليدُ بأن يتبادل الخاطبُ ومخطوبته الأوشحةَ، وبذا يتعهَّدان بتشريف بعضِهما بعضًا، أمام أنظار الجميع. سأعيد لك وشاحَكِ إذا اخترتِ ذلك؛ فليس لي الحقُّ في ارتدائه، حيث لم تمنحيني ذلك الحقَّ. لكنني تشرفتُ بارتدائه، في عيون شعبي، حتى عودتكِ — لأنني لم أكن أثقُ بك بالقدر الكافي على الرغم من كلام لوث لي؛ لذلك قررتُ أن أثق في أنكِ ستعودين، إلى التلال وإليَّ أنا، وآمُل أن إجابتك ستُسوِّغ تصرفي.»
قالت هاري بوضوح، بحيث يتسنَّى للجميع أن يسمعوا: «يا مليكي، من الأفضل أكثرَ أن تحتفظَ بوشاحي كما احتفظتَ لي به بدافع الثقة فيما كنتُ بعيدةً عنك، وأن تمنحَني وشاحَك لأرتديَه بدلًا منه. لأنك قد اكتسبتَ احترامي، وما هو أكثرُ من احترامي، على مدى الأشهر الماضية، لكنني لم أرَ بوضوحٍ أكثرَ مما رأيتَ أنت إلى أن ابتعدتُ عنك، وعرَفتُ بعد ذلك ما سأتكبَّده إذا لم أتمكَّن من العودة. وأكثر من ذلك، كنتُ أعرف ما الذي سأتكبَّده إذا عدتُ فقط لأظلَّ فارسةً من فرسان الملك.»
وعندئذٍ تعالَت هتافات الابتهاج من حناجرَ كثيرة، وليس فقط من حناجرِ صحبة هاري؛ ذلك أن أكثرَ أفراد المعسكر تجمَّعوا في الساحة المركزية أمام الخيمة الملكية زوتار ليشهدوا كيف سيجري هذا اللقاء؛ لأنهم رأَوا وشاحَ هريماد-سول حول خصر ملكهم، وأولئك الذين تذكَّروا التقليدَ أخبروا به مَن لا يعرفونه. ولم يشعر أحدٌ بأي مفاجأة، سواءٌ من تبعوا هاري أو من قاتَلوا مع كورلاث، بل شعر الجميع بالفرح، ولا بد أن أصداء تلك الهتافات وصلَت إلى حدودِ مدينة الأغراب التي تُسمى إيستَن، والبوابة المنيعة لحصن الجنرال ماندي. وقد اندهَش الجنودُ الأغراب الذين تبعوا جاك ديدام عندما قرَّر أن يتبع الفتاةَ هاري كرو، التي أصبحَت هريماد-سول وفارسةً من فرسان الملك، والذين لا يعرفون لغةَ أهل التلال، فنظروا حولهم، وإلى الشخصيتين الطويلتين أمامهم وهما بجانب الحصان الضخم ذي اللون الكستنائي، وهتَفوا هم أيضًا، فقال جاك لهم في هدوء: «في حال كنتم ترغبون في التأكُّد مما تهتفون من أجله، فإن هاري ستتزوَّج هذا الرجل. إنه الملك، كورلاث.»
وتحت غطاء الصيحات، جذب كورلاث بهاري إليه وقال: «لقد أحببتُكِ منذ مدةٍ طويلة، على الرغم من أنني لم أكن أعرف ذلك في البداية، لكنني عرَفتُ ذلك عندما أرسلتُكِ إلى التلال مع ماثين وتسورنين مُعلِّمَين لكِ؛ لأنني أدركتُ حينها كيف اشتقتُ إليك. وعندما وجدتُ في المدينة أن ناركنون قد تبعَتكِ، شعرتُ بالغيرة من قطةٍ يمكنها الذَّهاب إلى حيث تشاء.»
قالت هاري، بصوتٍ خافت، حتى يسمعَها هو وحده: «كان بإمكانك أن تُصارحني.»
ابتسم كورلاث بسخرية. وقال: «خشيتُ أن أخبرك؛ لأنني قد سلبتُكِ من وسط أهلك، وربما كان إيقاظُ قدرة الكيلار بداخلك قد جعلَكِ تكرهينني؛ لأن المرأة التي أورثَتك دماؤها هبةَ الكيلار غادرَت أرض التلال منذ مدةٍ طويلة. وعندما تعرفين ما الذي منحَكِ إياه هذا الإرثُ، فقد يدفعك بقوةٍ أكبر للعودة إلى شعب والدك، إلى مصيرٍ ليس لأهل التلال نصيبٌ فيه. إن تلك الهبة ليست بعبءٍ حسَن.
ولكن عندما رأيتك قد غادرتِ، اتجهتُ إلى الغرب؛ لأنني كنتُ أعرف إلى أين ينبغي بكِ الذَّهاب، وأقسمتُ إذا نجا كلٌّ منا من الموت، وعندما نلتقي مرةً أخرى، فسأخبرك أنني أحببتُك، وأطلب منك الوقوفَ إلى جواري ليس بصفتِك فارسةً ولكن بصفتك ملكة؛ لأن الأمر بدا أنه يستحقُّ المخاطرة فجأةً، ولم أستطع تحمُّل أنك ربما لن تعرفي شعوري هذا أبدًا.»
قالت هاري: «أنا أحبك، وقد سيطر عليَّ الشعورُ بأنني سأصبح منفيَّةً بسبب عِصياني، ليس بعيدًا عن الناس الذين زعمت أنهم أهلي، رغم أن هذا كان عقابًا كافيًا، ولكن بعيدًا عنك، أنت الذي أحببتُه أكثرَ من أي شيء وأي أحد. أظن أنني كنتُ أعلم أنه لا يمكنك نفيي؛ بسبب الانتصار الذي حقَّقه جونتوران لك ولأرض التلال، لكنني علمت أنك إذا غضبتَ مني لتركِك مثلما فعلت، فسيُصبح هذا هو المنفى الأكثرَ مرارةً، حتى لو جلست عن يسارك بصفتي فارسةً بقية حياتي.»
كان إيناث هو الذي جذَبها بعيدًا في النهاية ورقص معها وسط الساحة؛ لأن إيناث كان لا يتحلَّى بالوقار، وبدا أن كورلاث وهاري قادران على تجاهُل الجلبة المحيطة بهما إلى الأبد. ثم أخذها جاك منه، وبعدها هلَّلوا لها، ثم دارت ذَهابًا وإيابًا بين الجمع حتى أصيبت بالدوار، لكنها ضحكَت وابتهجت وشكرَت كلَّ من رقص معها. لكن كان هناك وجهٌ واحد بالتحديد بحثَت عنه ولم تجده، وأزعجها غيابُه. وأخيرًا تركوها كي تعودَ إلى كورلاث مرةً أخرى، وانتقصَت سعادتها بسبب الوجه الذي لم تجده، فأمسكَت ذراعه بقلق وقالت: «أين ماثين؟»
جَمُد كورلاث في مكانه، وهو الذي كان يرقص أيضًا.
فقالت وقد ارتفع صوتها حتى بحَّ: «لم يَمُت، أليس كذلك؟» لكن عندما هزَّ رأسه نافيًا لم تشعر بالراحة. فأمسك يدها في يدِه وقال: «تعالَي»، وقادها بعيدًا عبر الخيام. أمكنَها الآن أن ترى آثار المعركة؛ لأنها رأت، على ضوء الفانوس، مُعدَّاتٍ ملطخةً بالدماء وسيوفًا وملابسَ ممزقة يتحرك أصحابها مجهولو الهُوية متفجِّعين في نسيم المساء، وبعض الأشخاص، منهم مَن هو مُغطًّى بالضمادات، أو يعرج، أو مستلقٍ بجوار حلقات نار المعسكر، يتلقَّون الرعاية بلطفٍ من قِبَل أولئك الذين لم يُصابوا بأذًى. قادها كورلاث إلى خيمة طويلة منخفضة الارتفاع وجذبها إلى الداخل، وصدمَتها رائحة الموت على الفور، على الرغم من أن الأجساد التي ترقد على الأبسطة والبطانيات والوسائد قد تلقَّت العناية على نحوٍ جيد وضمدت الجروح بضمادات نظيفة، وكانت صدورهم لا تزال ترتفع وتهبط مع التنفُّس، وكان هناك كثيرٌ من الممرضات يُقدمن الرعاية والشراب وقليلًا من الطعام. أخذها كورلاث إلى الطرَف البعيد من الخيمة الضيقة، ووجَّه الجسدُ الراقد هناك رأسَه نحوهما. فألقت هاري بنفسها على ركبتَيها وهي تبكي؛ لأن صاحب الجسد كان ماثين.
قال ماثين: «كنتُ أعلم أنكِ ستعودين»، وتحرَّكَت يدُه شيئًا قليلًا لتقبض على يدِ هاري في وهن، ابتلعَت هاري ريقَها وأومأت برأسها، لكن دموعها ما زالت تنهمر ولم تستطع إيقافَها. وتابع: «وسوف تتزوَّجين ملِكَنا؟» بنبرةٍ يمكن أن تُعتبر نبرةَ حديث لو لم تكن خافتةً للغاية، فأومأت هاري مرةً أخرى.
وقالت: «أريدك أن تُهديَنا نخبًا في حفل الزفاف، يا صديقي القديم ومُروِّضَ الخيول ومُعلمي.»
ابتسم ماثين. وقال بنبرةٍ لطيفة: «سأترك شرفي في أيدٍ أمينة، مع أفضل ابنة.»
قالت هاري: «كلا»، وبينما كانت دموعها لا تزال تنهمر، زادت قوةُ صوتها. «كلا.» وبينما هي جاثية على ركبتَيها، انغرس مقبضُ جونتوران بين ضلوعها، فوقفت في جزع وفكَّته وتركَته يسقط، وبينما كانت تنحني مرةً أخرى، سقطَت بضعُ دموع على يدها، وكانت دموعها حارَّة، بل حارقة، وتركَت علاماتٍ حمراءً حيث لامسَت جلدها، وأدركت أن عينَيها وخدَّيها يحترقان بدموعها. فسحبت الغطاء بعيدًا عن صدر ماثين وبطنه، حيث ينزف جرحٌ طويل مُميت من بينِ الأربطة؛ كان الدم فاسدًا، لونه تقريبًا أسود، ويشوبه لونٌ أخضر طفيف، وتصدر عنه رائحةٌ رديئة.
غمغمَت هاري: «في زمن إيرين، كانت الكيلار مفيدةً في كثير من الأشياء. لم تكن تُستعمل في الأذى فقط، وإثارة المتاعب.»
اقترب كورلاث من خلفها. فنظر ماثين إلى ملكه وقال: «إيرين …»
شعرَت هاري بيدَي كورلاث على كتفيها، والتفتَت وهي في مكانها جاثيةً وأمسكَت بيديه. وقالت: «ساعدني. لقد ساعدتَني على قمة الجبل تلك. كان الأمر كما لو أنك رفعتَني لأعلى، كما لو أنك أمسكتَني من كتفي كما فعلت في الليلة الأولى عندما تذوقتُ ماء البصيرة.» وابيضَّت عيناها المفتوحتان عن آخرِهما فلم تستطع الرؤية؛ كان الأمر أشبهَ بالغضب الذهبي للحرب، إلا أنه كان أسوأ؛ كاد شعورها بالغضب يشقُّ جسدها، وكادت تَذْوي، وكاد لونها يستحيل أسودَ لشدة حرارته.
قال كورلاث، كما لو كان رغمًا عنه: «لقد سقط ماثين، وهو يحرس جسدي، بينما كنتُ بعيدًا على قمة جبل؛ لولاه، لما كان لديَّ أي جسد أعود إليه.»
ارتجفت هاري وأكلَت الحرارةُ أعصابها واستنفدَت قوتها، ومدَّت يدها دون أن ترى كي تلمس ماثين، ولمست أصابعها جلد ذراعه العارية، وشعرَت به يرتجف، وأنفاسه تُحدِث هسهسةً بين أسنانه. وأيًّا ما كان ما بداخلها، فقد هدرَ في عروقها كالرعد وملأ رئتَيها وبطنها ويديها وفمها؛ فتركَت ماثين والتفتَت إلى الفراش المجاور، ونبشَت أغطيتُه الفِراش؛ لأنها لم تستطِع أن ترى سوى العاصفةِ الذهبية، ولا تشعر بشيءٍ سوى إحدى يدَي كورلاث تقبض على يدها، ولمسَت حلق المصاب الراقد على الفراش المجاور لماثين. وتلمَّسَت طريقها على طول تلك الخيمة الطويلة وهي تتعثَّر، وتكاد تزحف لولا كورلاث، فأخذت تتلمَّس الجبهاتِ والأيديَ والأكتاف، وأعادت الممرضاتُ الفُرُشَ إلى مكانها، ونظرت عيونُ المحتضَرين في عينيها العمياء وهم يأمُلون في لمسةٍ منها ولكنهم يخشونها، ولم يقترب منها أحدٌ ممن هم أصحَّاء سوى كورلاث؛ إذ لم يكن بمقدور أحدٍ أن يقتربَ منها بما يكفي حتى لملامسة طرَفِ سترتها؛ لأن عملية التنفُّس حتى كانت صعبةً إن كانت بهذا القدر من القُرب في وجودِ هذه القوة التي بداخلها. فارت النار داخلها، وكان لها صوتُ طقطقة في أذنيها حتى إنها أصبحت صمَّاءَ أيضًا؛ لكن أخيرًا وصلا إلى الباب، وأخرجها كورلاث، ومع كل خطوة تخطوها لم تكن قدماها الضعيفتان تعرفان أين سيكون موضعهما، ثم شعرَت بنسيم المساء، وبدأت النارُ فيها تهدأ، وقد وجدَت لذلك صعوبةً في البداية. لكن عندما انصرفَت عنها، وعادت إلى حيث أتت، أخذَت معها لُبَّ عظامها ومرونةَ عضلاتها؛ لأن هذا هو وَقود النار، واتَّكأَت على كورلاث. فطوَّقها بذراعيه، وعندما ومضَت النار أخيرًا وخرجَت منها وانهارت هاري، حملها واتَّجه إلى خيمته الملَكية، ورقدت بين ذراعَيه منهارةً مثلما خدرَها كي تنام في الليلة التي خطفها فيها من القصر.
استيقظَت هاري وهي تشعر بأنها كانت مريضةً لمدة عام وتتماثلُ الآن للشفاء. وحدقَت في السقف المدبَّب للخيمة، وأدركَت ببطءٍ مكانها. حتى ذهنها كان أضعفَ من أن يوحيَ لها بفكرة التحرُّك من مكانها. عرَفَت ناركنون، بحسِّ القطط الزائد، أن هاري قد فتحَت عينيها، ودون أن تتحرك من موضعها وهي ممدَّدة على ساقَي هاري، بدأت تُخرخر.
جاء كورلاث بعد أن سمعها تُخرخر؛ إذ كان جالسًا خلف الستارة المعلَّقة حول فِراش هاري كي لا تُزعجها حركةُ الدخول والخروج من خيمة الملك. وأزاح الستارَ حين سمع ناركنون. كان هو نفسُه مرهقًا؛ لأن كثيرًا من القوة التي استخدمَتها هاري في الليلة السابقة كانت من قوَّتِه هو، ولم يتمكَّن من النوم في تلك الليلة كي يحرسَها. وقد سهر على رعايتها وهي نائمة؛ على أملِ أن تستيقظ فقط وقد استعادَت حالتها الطبيعية. كان منفعلًا للغاية وهو يُلقي بنفسه إلى جوارها.
ساعدَت النظرة على وجهه في أن تتمالكَ هاري نفسها على نحوٍ قوي، وقامت تجلسُ وهي ترتجف بعضَ الشيء، فوضع ذراعه حول كتفَيها، وكانت سعيدةً أن تُسند رأسها إلى صدره في سكون.
لم تكن تريد أن تسأل، لكنها لم تستطع كبْحَ نفسها، فقالت في النهاية: «ماثين؟»
بدا صوتُه أعمقَ من أي وقتٍ مضى بينما كانت أذنُها على صدره وهو يتكلم. حيث قال: «سيحمل ندبةً كبيرة، لكنها لن تؤثِّر عليه، وسيستعيد قوته بما يكفي لامتطاء ويندرايدر عندما نُغادر هذا المكان للعودة إلى المدينة، في غضون أيام قليلة، على الرغم من أن ذراعه اليمنى لا تزال تؤلمه إلى حدٍّ ما؛ بسبب الحرق الطويل والشديد بالقرب من الكتف، كما لو أن النار قد أحرقَته.»
تذكرَت هاري كيف عرَفَت أن النار تلتهمها، وأنها لن تترك شيئًا منها، وفتحَت يدها اليمنى، التي لامست ماثين. وبدَت اليدُ مثلما كانت دائمًا، باستثناء العلامة البيضاء الصغيرة الموجودة على راحتها، التي كان عمرها شهرين فقط.
«والآخرون؟»
«لن يموت أحدٌ منهم، وفي حينِ أن أحدًا لم يتعافَ بالسرعة نفسها مثل ماثين، فلا أحد يحمل علامة المكان الذي لمسَته فيه هريماد-سول.»
«و… قومي؟ جاك وكينتار ومن تبعَهم؟ وناندام و… وريتشارد؟ هل قابلتَ أخي ريتشارد؟»
«صديقك جاك عرَّف كلٌّ منا بالآخَر.» تذكَّر كورلاث الكولونيل ديدام عندما رآه يقف في الشفَق خلف هاري، تذكَّره على أنه الرجل الوحيد الذي بدا أنه يستمع إلى ما قاله فورلوي، ويعتقد أن رجال التلال ربما يقولون الحقيقة، حتى إلى الأغراب. كان ذلك المنظر للرجل الذي قدَّم ولاءه لملكِ التلال أثناء وقوفه في شُرفة القصر هو الذي أعطى كورلاث الشجاعةَ لإعلان حبِّه لهاري في الليلة السابقة. لقد بدا له في ذلك الوقت شيئًا جريئًا رائعًا أن يربط وشاحها حول نفسه ويرتديَه علانيةً، لم يخطر بباله حتى رآها ومعها عُصبتها من خلفها، وقد ثبتَت عينيها الشاحبتَين عليه بتعبيرٍ لم يستطع تفسيرَه، أن ذلك سيُجبره على مواجهتها على الفور بحبِّه وما يعنيه ذلك، وقتما يراها مرةً أخرى — إذا ما رآها مرةً أخرى. مما لا شك فيه أن اختيار الوقت والمكان اللذَين يُناسبانه كان سيصبح أكثرَ لطفًا أو كِياسةً — وأقلَّ خطورة؛ بدلًا من التصريح به على الملأ. ولكن رغم ذلك، من دون الوشاح حول خصره وشعبُه يراقب النتيجةَ بتلهُّف؛ كان من المحتمل للغاية أن تخذلَه شجاعتُه مرةً أخرى، على الرغم من كل كلماته البارزة حول خوض المجازفات. كلُّ هذه الأشياء سيقولها لهاري لاحقًا. ومن ثَم تابع قائلًا: «لكن ملامح ريتشارد تُشبه ملامحَ عائلتك كثيرًا، باستثناء العيون، وكنتُ سأُخمن مَن يكون.»
«إن لدى جاك أمنيةً يعتبرها أفضلَ من أي شيء في العالم، وهي أن يمتطيَ حصانًا من التلال.» سمعَت هاري بدايةَ ضحكته بداخله قبل أن تنفجرَ في الهواء، ورفعت رأسها ونظرَت مستفسرةً في وجهه. فهزَّ رأسه وقال: «يا حبيبتي، سيحصل صديقك جاك على مائةٍ من خيولنا، وعلى الرحب والسعة»، ثم حنى رأسه وقبَّلَها، فجذبَته إلى جانبها. وبعد بضعِ دقائق، نزلَت ناركنون من فوق الفراش، وهي تُخرخر في تذمُّر، وابتعدَت في كبرياء.
كان ماثين أكثرَ شحوبًا بقليل من المعتاد عندما تحرَّك جيش كورلاث وزحَف في اتجاه الشرق، لكنه امتطى ويندرايدر بسهولة، وأخذ ينظر في كل مكان حوله كما لو كان يُذكِّر نفسه بما اعتقد أنه قد فقدَه، لكنه في أغلب الأحيان كان ينظر إلى هريماد-سول، وهي تمتطي حِصانها وتسير عن يمين الملك. كان الجيش يتحرَّك ببطء، حيث يحمل الجنودُ بعضَ النقالات، وليس هناك داعٍ للإسراع. حتى شمس الصحراء فوقهم بدَت معتدلةً ومتألِّقة وليست قائظةً، وسيتزوَّج ملكُهم دامالور-سول التي تقلَّدَت السيفَ الأزرق جونتوران، وقد اندحَر جيش الشمال، على الأقل في زمنهم هذا، وربما حتى زمن أطفالهم، وربما حتى زمن أحفادهم، ولا تزال دامار تحت رايتهم. وأيضًا كان الجيش يتحرَّك ببطءٍ من أجل جاك ديدام وريتشارد كرو، اللذَين كانا يمتطيان حصانَين من أرض التلال، ووجدا صعوبةً في السيطرة على هذه الخيول على نحوٍ أكثرَ بقليلٍ من هاري، وكانا قلقَين من فكرة القدرة على إيقاف حصانٍ يعدو بأقصى سرعة، فقط عن طريق الجلوس بقوة أكبر على السرج. وعندما لم تكن هاري مع كورلاث، كانت تدور حولهما بحصانها في دوائرَ كي تسخَر منهما، وجعلَت صنجولد يؤدِّي كلَّ أنواع الخطوات والانعطافات الرائعة، ليس لإزعاجهم في الواقع؛ ولكن فقط لأنها لم تستطع احتواءَ نفسها من فرط السعادة. وأخذ صنجولد يقفُ على قائمتَيه ويثِبُ حتى اضطُرَّت هاري إلى التشبُّث بعُرفه لتُثبِّت نفسها — وكان لدى جاك الجُرأةُ ليضحك — ولم يكن يتصرَّف مثل حصانِ حرب حَسُن تدريبُه على الإطلاق، وبدا سعيدًا مثلها تمامًا.