الفصل الثاني
استأذنَت هاري والليدي أميليا للانصراف، وأغلقَت المرأة الأكبر سنًّا بابَ غرفة الطعام وهي تتنهَّد. فابتسمَت هاري. والتفتَت الليدي أميليا إليها في الوقت المناسب لترى الابتسامة، فابتسمَت لها في المقابل بحزن. وقالت: «حسنًا. سنترك الرجال في انتظارهم غير المريح. وأنا سأذهب لزيارة السيدة ماكدونالد، وأنتِ ستذهبين في جولة بالخيل مع بيث وكاسي، وستعودين بهما إلى هنا لتناوُل الغداء.»
ردَّت هاري: «ربما في ظلِّ هذه الظروف …» لكن الليدي أميليا هزَّت رأسها بالنفي.
«لا أرى أيَّ سببٍ يمنعك من ذلك. إذا كان لدينا ضيفٌ هنا، فإن هاتين الفتاتَين تتمتعانِ بأخلاقٍ رفيعة للغاية، وهما بالفعل مَن سأدعوهما إذا أردنا تقديمَ عشاءٍ رسمي. و…» — هنا اتَّسعَت ابتسامتُها وأصبحَت شقيةً مثل ابتسامةِ فتاة صغيرة — «إذا أحضر معه صفوةَ رجاله الذين يبلغ عددهم ألفًا، فسوف نفتقر إلى النساء بنحوٍ رهيب، وأنت تعرفين مدى كُرهي لوجود مائدة غير متوازنة. يجب أن أدعوَ السيدة ماكدونالد أيضًا. أتمنى لك نزهةً ممتعة، يا عزيزتي.»
ارتدَت هاري ملابسَ ركوبِ الخيل الخاصةَ بها، وامتطَت مُهرَها القزم الهادئ، الذي كان بالفعل مُلجَمًا ومسرجًا وقد أمسكه لها أحدُ الخدم العديدين في القصر، فانطلقت وعقلُها منشغلٌ من أجل لقائها مع صديقتَيها. تساءلت أولًا ماذا وكم يجب أن تُخبر كاسي وبيث، وثانيًا: وجدَت نفسها تأمُل أن يظل كورلاث هذا على الأقل مدةً طويلة بالقدر الكافي كي تراه. هل سيبدو الملكُ الذي يُمارس السحر مختلفًا بأيِّ نحو عن أي رجلٍ آخر؟
كانت الشمس حارَّة بالفعل. فدفعَت قبعتَها للخلف بقدر كافٍ كي تنظر بحذر إلى السماء. كان السماء لونها بُنيًّا مائلًا إلى الرمادي أكثرَ منه أزرق، كما لو كانت، مثل كل شيء آخَر بالقرب من إيستن، قد بهتَت بسبب شراسة شمسها. وبدَت صُلبة مثل صدفة منحنية فوق الرأس، وهشَّة، كما لو أن رُمحًا مُصوَّبًا قد يخترقها. تهادى المُهر القزم الهادئ وأذناه تتحرَّكان بتثاقل، بينما أخذَت تُحدق في الرمال. كانت الغابة الواقعة إلى الغرب من بيت والدها عتيقة، عمرها مئات السنين، وكانت متشابكة مع الكَرْمة واللبلاب. وقد ماتت الأشجار القديمة، وتفسَّخَت حيث تقف؛ إذ لم يكن لديها مجال للسقوط. لم يظن أيٌّ من مُلاك الأرض أن الغابة العتيقة تستحقُّ الإخلاء وأن الأرض يجب استغلالها، لكنها أصبحت دَغلًا رائعًا بالنسبة إليها وإلى ديكي وهما طفلان، كي يلعبا بداخلها لعبةَ قاطعي الطريق، ويصطادا التنانين. ولطالما كانت ظِلالها الملتوية مُرحَّبًا بها بالنسبة إليها؛ وعندما أصبحَت أكبرَ سنًّا أعجبها الإحساسُ بتقدم العمر الذي منحَته لها الغابة، وبوجود حياة معقَّدة هائلة ليس لها علاقة بها، وهي ليست بحاجة إلى أن تُحاول تفسيرَها.
كانت الصحراء، مع الجبال السوداء ذاتِ الحافات الحادَّة التي تُحيط بها، مختلفةً عمَّا اعتادت هي عليه، مثلها مثل أيِّ مشهدٍ آخَر؛ ومع ذلك فقد وجَدَت بعد أسابيع قليلة فقط في إيستن أنها تقع تدريجيًّا في حبِّها؛ برمالها القاسية، وشمسها الحارَّة، ورياحها المحمَّلة بالرمل التي لا تعرف الرحمة. وقد وجدَت أن الصحراء تجذبها مثلما لم تفعل أرضُها الخضراء قَط — ولكن تجذبها نحوَ أيِّ اكتشاف، هذا ما لم تستطِع أن تُحدِّده.
لقد كانت حتى صدمةً أكبرَ لها أن تُدرك أنها لم تَعُد تشتاق إلى موطنها السابق. لقد كانت تفتقد المكانَ الذي عاشت فيه، وتفتقد والدها على نحوٍ أكبر. فهي قد غادرَت مباشرةً بعد الجنازة، لدرجة أنه من الصعب عليها تصديقُ أنه قد تُوفِّي، وأنه لم يعد يتجوَّل على صهوة حِصانه حول أرضه مرتديًا معطفَه الرث، ومنتظرًا عودتَها. ثم اكتشفَت أنها كانت تتذكَّر والديها معًا مرةً أخرى؛ كما لو أن أمَّها قد تُوفيت منذ مدةٍ قصيرة، أو أن والدها قد تُوفي منذ خمس سنوات — أو أن هذا الاختلاف، الذي كان هامًّا للغاية، لم يَعُد كذلك. وهي لم تكن تحلم بنباتاتِ العسلة والليلك. لقد كانت تتذكَّرها بحب، لكنها كانت تنظر عبر دوَّامات الرمال والكتل الصُّلبة الصغيرة من الشجيرات، فتجد أنها سعيدة بالمكان. وهمس صوتٌ خافت لها بأنها حتى لم تَكُن تريد العودةَ إلى الوطن مرةً أخرى. لقد كانت تريد أن تعبر الصحراء وتتسلَّق الجبال في الشرق؛ الجبال التي لم يتسلَّقها أحدٌ من الهوملانديين قَط.
وهي غالبًا ما كانت تُخمن رؤية الآخرين للمكان هنا. فأخوها لم يذكر لها رؤيتَه من قبل بطريقة أو بأخرى. وقد اعتادت أن تسمع الشباب الآخرين يُشيرون إليه بأنه «تلك الصحراء البغيضة» و«الشمس المروِّعة». لكن بيث وكاسي لم تفعلا ذلك؛ فقد عاشتا في جزء أو آخَر من داريا طوال حياتَيهما — «عدا السنواتِ الثلاث التي اصطحبَتنا فيها أمُّنا إلى الوطن، كي نكتسبَ السلوك الراقيَ، على حدِّ تعبيرها» — وبالنسبة إلى كِلتَيهما، فإن شمس داريا، وطقس داريا، سواء في الأرض الحمراء الخصبة في الجنوب، مع المعركة الأبدية ضدَّ الدغل من أجل الحفاظ على الحقول خاليةً من الأشجار، أو في النِّجاد الرَّطْبة الباردة لمَزارع البرتقال، أو في الرمال الساخنة للحدِّ الشمالي الشرقي، هما ببساطة من الأشياء الموجودة هناك، التي هي جزء من وطنهما، والتي يجب تقبُّلها والتأقلمُ معها. وقد سألتهما هاري عن مدى حبِّهما لهوملاند، فكان عليهما الصمتُ والتفكير في الأمر. ثم قالت كاسي بعد مدة: «إنها مختلفة للغاية»، وأومأَت بيث موافقةً إياها. وشرَعَت كاسي في قولِ شيءٍ آخر، ثم توقَّفَت، وهزَّت كتفَيها. ثم كرَّرت: «مختلفة للغاية.»
واصلت هاري التساؤل: «هل أعجبَتكما؟»
قالت كاسي وقد تفاجأت: «بالطبع.»
وقالت بيث: «لقد أعجبَتنا كلُّ الأماكن التي عشنا فيها، بمجرد أن عقَدْنا فيها بعضَ الصداقات.»
قالت كاسي: «لقد أعجبني الجليدُ في الشمال، ومعاطفُ الفِراء التي اضطُررنا إلى ارتدائها هناك في الشتاء.»
فاستسلمَت هاري.
وبدا أن الناس الأكبرَ سنًّا في القاعدة كانوا يتعايشون مع المكان مِن حولهم كما يتعايشون مع أي عيبٍ آخَر في مِهَنهم المختارة. وقد أكسبَت الخدمة في داريا، سواءٌ المدنية أو العسكرية، القدرةَ على التحمُّل دون شكوى عند أولئك الذين لم يستسلموا ويعودوا إلى الوطن بعد السنوات القليلة الأولى. وكان موقف عائلة جرينو، القائمُ على التعايش مع الأمر وتحقيقِ أقصى استفادة منه، بارزًا للغاية في هذا الشأن.
وقد حازت هاري مرةً على اعتراف من السيد بيترسون، والدِ كاسي وبيث. ففي ذلك المساء، كان هناك العديدُ من الأشخاص المدعوِّين لتناول العشاء في القصر، ومن بينهم عائلة بيترسون. وقد جلس السيد بيترسون في الجهة المقابلة لها على مائدة العشاء، ولم يُظهر أيَّ اهتمام بالمحادثة على الجانب الآخَر من المائدة. ولكن في وقتٍ لاحق من المساء ظهر إلى جانبها. فوجئَت بذلك؛ إذ نادرًا ما كان يتحدَّث في المناسبات الاجتماعية، وكان معروفًا عنه لدى سكان القاعدة أنه يتجنَّب السيدات الشابات غيرَ المرتبطات، بما في ذلك صديقات بناته.
جلسا في صمت في البداية؛ وتساءلَت هاري في نفسها عمَّا إذا كان ينبغي لها أن تقول أيَّ شيء، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو. كانت لا تزال تتساءل عندما قال: «لم أستطِع منع نفسي من الاستماع لبعضِ ما كان ذلك الشابُّ الذي بجوارك يقوله أثناء العشاء.» ثم سكتَ مرةً أخرى، لكن هذه المرة انتظرَت بصبرٍ أن يُتابع ولم تُحاول حثَّه. فتابع: «لم أكن لأُولِيَ كثيرًا من الاهتمام، لو كنتُ مكانك.»
كان الشابُّ المعنيُّ يُخبرها عن الصحراء البغيضة والشمس المروِّعة. لقد كان ضابطًا صغيرَ الرتبة في الحصن، وقد ظلَّ هناك مدةَ عامين، وكان يتطلَّع إلى تركِه بعد اثنين آخرَين. تابع الضابط: «لكنني لا أريدك أن تظنِّي أننا ليس لدينا تغيير في الفصول هنا. فنحن لدينا ذلك؛ فهناك فصلُ شتاء. وفيه تُمطر السماء بنحوٍ منتظم مدةَ ثلاثة أشهر، وكل شيء يصبح موحلًا، بما في ذلك أنتِ.»
قال السيد بيترسون: «أنا مُعجَب نسبيًّا بالمكان هنا. كثير منا يفعلون.» ثم نهض ومشى بعيدًا. ولم تتحدَّث هي بكلمة معه.
لكنها تذكَّرَت ما قاله لاحقًا عندما أدركَت أنها أيضًا أصبحَت واحدةً من أولئك الذين أحبُّوا المكانَ هنا. فكَّرَت فيمن قد ينتمي أيضًا إلى مجموعتِهما المختارة. لقد كانت لعبة، وكانت تُسلي نفسها بها عندما لا تستطيع المشاركةَ في محادثةٍ مهذَّبة. حدَّدَت في ذهنها كلَّ من لم يَشْتكِ من الحرارة، والرياح، وهطولِ الأمطار غيرِ المتكافئ، ثم حاوَلَت فصل أولئك الذين يُشبهونها ممَّن كانوا يستمتعون بالفعل بلسعة الرمال التي حمَلَتها الرياحُ والصداع من وهج الشمس، عن أولئك الذين يُشبهون كاسي وبيث ممَّن كانوا قادرين فقط على التكيُّف معها بابتهاج.
استقرَّت هاري في النهاية على الكولونيل ديدام باعتباره العضوَ الأكثر ترجيحًا في مجموعتها، وبدأت تُفكر فيما إذا كانت هناك أيُّ طريقة لمناقشة الموضوع معه. اعتقدت أنه ربما كانت هناك قاعدةٌ خاصة بالمجموعة تقول: لا يجب أن تتحدَّث عن الأمر. لكن فُرصتها جاءت أخيرًا، قبل أقلَّ من أسبوعين من وصولِ حامل رسالة كورلاث إلى القصر في الساعة الرابعة صباحًا.
كان ذلك في حفل عَشاء صغير آخَر في قصر عائلة جرينو. عندما ذهَب الرجال تفوح منهم رائحةٌ مروِّعة صادرة عن السيجار الفاخر الخاص بالسير تشارلز إلى غرفة الاستقبال كي ينضمُّوا إلى السيدات، جاء الكولونيل ديدام عبر الغرفة وألقى بنفسه على الكرسي الذي يوجد قربَ النافذة بجانب هاري. كانت هي تنظر إلى البِرَك البيضاء الغامضة التي يسكبها القمرُ عبر الصحراء.
وقال: «افتحي النافذةَ قليلًا، ودَعي بعضًا من هذا الدُّخان يخرج. أستطيع أن أرى أميليا المسكينة تتحلَّى بالشجاعة كي تُقاومه.»
فقالت وهي تفتح المِزلاج وتدفع زجاجَ النافذة: «لا بد أن نتعامل مع السيجار مثل البصل.» وتابعَت: «إما أن تتناوله الصحبةُ بأكملها، أو لا تتناوله بأكملها.»
ضحك ديدام. وقال: «مسكينة ميلي! أخشى أن تُفسد كثيرًا من الحفلات. هل سبق لكِ أن دخَّنتِ سيجارًا؟»
ابتسمَت، وقد لمع بريق في عينيها الشاحبتَين، فتذكر أن بعض الشباب قد وصَفوها بأنها باردة وتفتقر إلى حسِّ الدعابة. ثم قالت: «أجل، لقد فعلت: هكذا عرَفت تأثير السيجار. كان والدي معتادًا على تقديم العشاء لأصدقائه الصيادين، وكنتُ أنا المرأةَ الوحيدة الموجودة هناك. ولم أكن لآكلَ في غرفتي، كطفلٍ معاقَب، وكنت أحبُّ البقاء والاستماع إلى القصص التي يَرْوونها. وقد سمحوا لأنفسهم أن يعتادوا على وجودي؛ لأنني أستطيع ركوبَ الخيل والرماية على نحوٍ جيد. لكن الدخان، بعد بضع ساعات، كان يصعب احتماله.»
قال ديدام: «إذن والدك …؟»
«كلا، ليس والدي؛ لقد علَّمني الرماية، رغم تحفُّظِه على ذلك، لكنه رفض أن يُعلمني التدخين. لقد كان أحدُ أصدقائه هو مَن فعل؛ الأب الروحي لريتشارد، في الواقع. لقد أعطاني حفنةً من السيجار في نهاية إحدى هذه الأُمسيات الصعبة للغاية، وطلب مني أن أدخِّنها، ببطء وحذَر، في مكانٍ ما يمكن أن أصاب فيه بالإعياء دون أن يراني أحد. وفي المرة التالية التي وُزِّع فيها السيجار حول المائدة، أخذتُ واحدًا لنفسي، وقد ساعدني على مواجهة والدي. كانت الطريقة الوحيدة للنجاة من المعاناة. لقد كان مُحقًّا.»
قال ديدام مبتسمًا: «يجب أن أخبر تشارلز. يسرُّه دائمًا أن يعثر على محبٍّ آخرَ للسيجار.»
تحولَت نظرتها مرةً أخرى إلى ضوء القمر، لكنها التفتَت ثانيةً للداخل. «كلا، شكرًا لك، أيها الكولونيل. أنا لستُ كذلك. كانت القصص هي التي جعلت الأمرَ يستحق. أنا أقدِّر الدخان فقط عندما أرى أشياءَ من خلاله.»
رد: «أنا أعرف ما تقصدينه، لكن يجب أن تتعهَّدي بعدم إخبارِ تشارلز بذلك. ومن أجل السماء، ناديني جاك. إن ثلاثة أشهر طويلةٌ جدًّا بما يكفي كي تُناديني خلالها كولونيل.»
قالت: «ممم.»
«إن كاسي وبيث تفعلان ذلك على نحوٍ لطيف للغاية. قولي: جاك.»
قالت: «جاك.»
«هكذا، أرأيتِ؟ وفي الدرس التالي، سوف أمشي عبر الغرفة وأطلب منك أن تقوليها مرةً أخرى، وسترين مدى سرعة التفاتي وقولي: نعم؟»
ضحكَت. كان من الصعب تذكرُ أن ديدام يكبر السير تشارلز ببضع سنوات؛ فالأخير بدينٌ ووقور وذو شعر أبيض. أما ديدام فهو نحيف وبُنِّي البشرة، والشعر الذي تبقى لديه ذو لونٍ رمادي داكن. كان السير تشارلز مهذبًا وطيبًا؛ أما ديدام فيتحدَّث مع الناس مثل صديق.
«أراك تُحدِّقين كثيرًا عبر النوافذ في براري داريا. هل ترين أسيجة طقسوس وشجرةَ بلوط يتسلَّقها اللبلاب و… بقرًا وأغنامًا في مَراعٍ خضراء؟»
نظرَت إلى أسفل ناحيةَ حجرها، وشعرَت ببعض الاضطراب، حيث ظنَّت أنه لم يُلاحظها أحد؛ ولكن هنا كانت فرصتها. فرفعَت بصرها. وقالت: «كلا. أرى براريَ داريا الخاصة بنا.»
ابتسم قليلًا لعبارة «الخاصة بنا». ثم قال: «أنتِ تَتواءمين مع المكان هنا إذَن؟ لقد استسلمتِ للجو المُشمس طوال الوقت، باستثناء عندما يكون هناك كثير من الأمطار؟ لكنك لم ترَيْ شتاءنا بعد.»
«كلا … كلا، لم أفعل. لكنني لم أستسلم.» توقفَت عن الكلام، متفاجئةً بمدى صعوبة قولِ ذلك بصوت عالٍ، بينما تدفَّق إلى ذهنها أولُ قاعدة لمجموعتها. «إنها تُعجبني. لستُ متأكدةً من السبب، لكنني أحبُّ المكان هنا.»
اختفَت الابتسامةُ ونظر إليها بتمعُّن. ثم قال: «حقًّا؟» والتفت ونظرَ من النافذة. وتابع: «ليس هناك كثير منا ممَّن يفعلون ذلك. عن نفسي، أنا أحد … لا بد أنكِ خمَّنتِ أنني أحبُّ الصحراء. هذه الصحراء. حتى في فصل الشتاء، والأرض الموحلة التي تظلُّ ثلاثةَ أسابيع بعد توقفِ المطر قبل أن تشتدَّ حرارة الشمس مرةً أخرى. إن جانبًا كبيرًا من تذمُّري من أني أقدمُ كولونيل لا يزال في الخدمة؛ يتمثَّل في الشكوى فقط؛ فأنا أعلم أنهم إذا رقَّوني، فمن شبه المؤكَّد أنهم سيُرقونني بعيدًا عن هنا؛ إلى واحدة من أكثر الأجزاء تحضرًا في هذه الأرض غير المتحضرة. إن معظم داريا ليست كذلك، كما تعلمين.» ثم توقف عن الكلام. وتابع: «لا أظن أنَّ هذا يعني الكثير بالنسبة إليك.»
«لكنه كذلك.»
عبَس قليلًا، وأخذ يتفحَّص وجهها. وقال: «لا أعرف هل أقول إنكِ محظوظة للغاية أم العكس. نحن غرباء هنا، كما تعلمين؛ حتى أنا، الذي قضيتُ أربعين عامًا هنا. هذه الصحراء هي قطعةٌ صغيرة من دامار القديمة. إنها ليست حتى في واقع الأمر تحت نطاقِ سيطرتنا.» ثم ابتسم بسخرية. وتابع: «لا يقتصر الأمرُ على عدم قدرتنا على فهمها؛ فنحن أيضًا غيرُ قادرين على إدارتها.» ثم أومأ برأسه نحو النافذة. وأضاف: «وتلك الجبال التي في الخلف. إنها تقف هناك وتنظر إليكِ وأنتِ تعلمين أنكِ لن تتسلَّقيها أبدًا. لم يستطِع أحدٌ من الهوملانديين أن يفعل هذا — أو على الأقل أن يعود ليُخبرنا بما وجد هناك.»
أومأت برأسها. وقالت: «إنه ليس شغفًا مريحًا.»
ضحك ضحكةً خافتة. ثم قال: «أجل، ليس شغفًا مريحًا.»
«هل لهذا السبب لم يذكرها أحدٌ من قبل؟ يسمع المرء ما يكفي عن الطرف الآخر.»
«يا إلهي! أتفق معكِ تمامًا. «فقط أربعمائة وستة وتسعون يومًا حتى أخرج من حفرة الرمال هذه». أجل، أظن ذلك. إنه بلدٌ غريب، خاصةً هذه الزاوية منه، وإذا جعلتها تسري في دمِك بشدة، فهذا سيجعلك غريبة أيضًا. وأنت لا تُريدين حقًّا لَفْت الانتباه إلى ذلك.»
تذكرت تلك المحادثةَ وهي تمتطي مُهرها؛ والآن رأت كاسي وبيث يُهروِلان نحوَها. كانت تُفكر مرةً أخرى في كورلاث، وتحاول أن تتذكر القليلَ الذي تعرفه عن سكان التِّلال الأحرار. كان جاك لا يرغب في الحديث عنهم، ودفعَتها مُراوغته إلى الاعتقاد بأنه يعرف الكثير عنهم؛ لأنه كان دائمًا مُصرًّا على قوله إنه لا يعرف شيئًا. كان يحاول إبعادها، ربما، عن شغفها غيرِ المريح.
قالت في نفسها: أوه، يا إلهي، وبقفزةٍ سريعة تحوَّل فضولها إلى إثارة، فأضافت: آمُل حقًّا أن يكون هناك عندما نعود.
انتهت مسألةُ ماذا تقول لصديقتَيها دون مشكلة. حالما جاء مُهراهما القزمان إلى جانبها، قالت بيث: «ألم يصل بعد؟»
كانت هاري تتوقَّع أن تُقابلاها بالتحية والسؤال عن حالها، ولم تعرف لحظةً مَن هو المقصود بسؤالها.
قالت كاسي: «كورلاث. لقد جاء جاك إلى منزلنا لمقابلة أبي قبل الإفطار، وأخبره أن يذهب إلى القصر، حيث سيحتاجون إليه هناك.» كان السيد بيترسون وجاك ديدام هما الشخصَين الوحيدَين في القاعدة اللذَين يعرفان لغةَ سكَّان التِّلال بطلاقةٍ بعض الشيء. وقد تعلم معظمُ أهل داريا الذين كان لهم اتصال كبير مع الهوملانديين لغةَ هوملاند. وقد تعلمَت هاري بعض الكلمات من لغة داريا، لكن القليل منها فقط؛ إذ لم يُفكر أحدٌ من أهل هوملاند في كتابة قواعد لغة داريا من أجل الاستخدام العام، وعندما بحثَت في الأمر أكثر، قيل لها إنه لا داعيَ لتعلُّمها. الشخص الوحيد الذي شجَّعها، والذي علَّمها الكلماتِ التي كانت تعرفها، كان هو جاك ديدام، ولكن لم يكن لديه الوقتُ الكافي لتعليمها مزيدًا منها. كان السير تشارلز مُلمًّا بنحوٍ معقول بلغة داريا، لكنه كان غيرَ مرتاح بشأنها. لقد شعر أن المفوَّض المسئول يجب أن يعرف لغةَ أولئك الذين يُشرِف عليهم، لكنها لم تُساعده على تحقيق توقُّعاته الخاصة. فكان يحتفظ بمترجم بالقرب منه.
قالت هامسة: «كورلاث»، كما لو أن للاسم جاذبية. وأضافت: «يقول أبي إن سكَّان التلال لم يُحبُّونا كثيرًا قَط …»
قاطعَتها كاسي قائلةً: «لطالَما عرَفنا ذلك.»
«… لذلك من المحتمل أن يدخل ويخرج بسرعةٍ دون حتى أن نراه.»
قالت هاري: «لديَّ الإذن بدعوتكما لتناول الغداء. إذا كان هناك، فسنراه.»
قالت بيث: «أوه، رائع! بالتأكيد حتى هو لن ينتهيَ من مهمته قبل الغداء. دعونا لا نذهب بالخيول بعيدًا؛ يجب أن نراه عندما يأتي، وبعد ذلك سنعرف متى سنعود. إنه لأمرٌ مزعج للغاية أن يأتيَ ملكٌ حقيقي للزيارة ولا يكونَ لديك حتى سببٌ لمقابلته.»
قالت هاري: «هل تعرفان أيَّ شيء عن سكان التلال الأحرار؟» وذهبن بخيولهنَّ بزاوية بعيدًا عن القصر، بحيث يمكنهن رؤيتُه من فوق أكتافهن. «أنا لا أعرف. لن يخبرني أحدٌ بأي شيء.»
ضحكَت كِلتاهما. قالت كاسي: «إن سكَّان التلال هم أكثرُ الأسرار كتمانًا في داريا. أعني، نحن نعلم أنهم موجودون. بعضهم يأتون إلى هنا — إلى القاعدة أعني — إلى مَعرِض الربيع.» نظرَت إليها هاري. فأضافت كاسي: «أوه، بالتأكيد أخبرَتك الليدي أميليا عن معرضنا. بعد ثلاثة أشهر من موسم الأمطار، نخرج من مدةِ بياتنا الشتوي ونتخلَّص من مِزاجنا السيئ من خلال إقامة معرض …»
تابعَت بيث: «… حيث نبيع بعضنا لبعض كلَّ الحقائب والقلنسوات والدُّمى ومَساند الأقدام الصغيرة السخيفة التي صنَعناها أثناء هطول الأمطار حتى لا نُصاب بالجنون لأننا لم يكن بإمكاننا الخروج.»
أضافت كاسي وهي متجهِّمة: «أجل، معظمها لا قيمة له. لكن الجميع يكون مبتهجًا للغاية في أول أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بعد توقُّف المطر. فالجوُّ يكون رائعًا للغاية؛ إنه الوقت الوحيد خلال العام الذي يُمكنك فيه الخروج حتى في وقت الظهيرة؛ وهناك أشياءُ خضراء تنمو من الأرض، وكل ما تملكه منتشر على الأسطح ومُتدلٍّ من عتبات النوافذ، كما أنه أخضرُ أيضًا.» ثم أضافت: «ونحن نُزين الشوارع والساحةَ بالزهور الورقية والزهور الحقيقية واللافتات والشرائط، وتبدو البلدة بأكملها كما لو أنها في عطلة، مع الفساتين والبطانيات البادية في كل مكان. لدينا بالفعل زهورٌ حقيقية هنا — إلى جانب البيميتشي اللانهائي — على الرغم من أنه لا توجد زهورٌ تُشبه ما اعتدتُ عليها في الوطن، حسبما أظن. كل شيء ينمو بنحوٍ هائل لمدة أسبوعين؛ لذلك ففي الأسبوع الثالث، أسبوع المعرض، يصبح كلُّ شيء أخضرَ ومُزهِرًا — حتى الصحراء، إذا كنتِ تستطيعين تصديق ذلك.»
«ثم بالطبع تقتل الشمس كلَّ شيء مرةً أخرى. وهذا هو الأسبوع الرابع. وأنت تعرفين كيف هي الحال هنا بقية الوقت.»
«أجل، ولكن المعرض … يأتي الجميعُ إلى المعرض. وسكان التلال أيضًا، القليل منهم، على الرغم من عدم مجيء أي شخص مميز جدًّا منهم. بالتأكيد لم يأتِ الملك قَط. وليست كلُّ المحافظ المصنوعة من الخرز التي نصنعها ونحن في حالة من اليأس هي فقط التي توجد في المعرض. فهناك دائمًا بعضُ الأشياء الجميلة حقًّا، التي معظمها يصنعها أهلُ داريا أنفسهم. حتى الخدم لا يُتوقَّع منهم أن يُحققوا القدر نفسَه من الجودة، كما تعلم، أثناء هطول الأمطار. فبعد الأسابيع القليلة الأولى، تُصبحين أنت نفسك متململةً بحيث لا يُمكنك إعطاءُ العديد من الأوامر لأيِّ شخص آخر.»
«لكن في الغالب تأتي أفضلُ الأشياء من الجنوب. إنه الطريق الوحيد هنا حيث يكون الطقسُ سخيفًا جدًّا، لكن أهل الجنوب يعلمون موعدَ معرضنا، ويعلم التجَّار أننا، عندما نخرج من سجن الشتاء، نُصبح مبتهجين للغاية بحُرِّيتنا لدرجة أننا نُقدِم على شراء أي شيء؛ لذلك هم يأتون إلى هنا بأعدادٍ كبيرة.»
«هناك مَعارض، أو احتفالات بالربيع بنحو أو آخَر، في كل مكان هنا، لكن احتفالاتنا هي الكبرى.»
قالت بيث: «حسنًا، نحن أكثرُ مكان تتوفَّر فيه الأشياء التي يمكن شراؤها وما إلى ذلك؛ ونحن قاعدةُ هوملاند الوحيدة هنا. ولكن هناك عددًا كبيرًا من قُرى داريا حولنا، وهم يأخذون الربيع على محمل الجدِّ جدًّا. فهناك الكثير من الغناء والرقص، وهذا النوع من الأشياء. وهم يَرْوون أجملَ القصص، إذا كان بإمكانك العثورُ على شخصٍ يُترجمها لكِ إلى لغة هوملاند. وهو ما ليس متوفرًا في الغالب.»
قالت كاسي: «لدينا غناءٌ ورقص أيضًا.»
قالت بيث ببطء: «أجل، أعرف؛ لكن الأمر مختلف. رقصُنا هو مجرد تنفيس، بعد أن بقينا في الداخل مدةً طويلة. أما رقصهم فيعني شيئًا ما.»
نظرَت إليها هاري بفضول. وقالت: «تقصدين أنهم يطلبون من الآلهة أن تهبَهم سنةً جيدة؛ هذا النوعَ من الأشياء؟»
قالت بيث: «أظنُّ ذلك. لستُ متأكدة تمامًا.»
قالت كاسي: «لن يتحدث أحد عن أي شيء له صلة بداريا مع أحد الهوملانديين. لا بد أنكِ لاحظتِ ذلك.»
«أجل … لكنني جديدة هنا.»
قالت كاسي: «ستكونين دائمًا جديدةً هنا إذا كنتِ من الهوملانديين. الوضع مختلف في الجنوب. لكننا على الحدود هنا، والجميع يُدرك تمامًا أن الأحرار يعيشون في تلك التلال التي ترَينها خارج نوافذك كلَّ يوم. إن أهل داريا الذين يعملون لديكِ، أو معكِ، حريصون جدًّا على إثبات كيف أصبَحوا حقًّا من الهوملانديين، وكيف أصبحوا مُخلصين لكلِّ ما له صلة بهوملاند؛ لذلك لن يتحدَّثوا، أما الآخرون، فلن يتحدَّثوا للأسباب العكسية.»
قالت بيث: «لقد بدأت تتحدَّثين مثل أبي.»
ردَّت كاسي: «لقد سمعناه يقول كل ذلك كثيرًا بما فيه الكفاية.»
قالت هاري: «لكن سكَّان التلال.»
«أجل. إن الشيء الوحيد الذي أعتقد أنه يجمعنا جميعًا هو الفرح في تلك الأسابيع الثلاثة القصيرة من الربيع. لذا يحضر عددٌ قليل منهم إلى معرضنا.»
قالت بيث: «إنهم لا يتصرفون بسعادةٍ كبيرة، على الرغم من ذلك. إنهم يأتون في تلك الأردية الطويلة التي يرتدونها دائمًا، والتي تُغطي وجوههم أيضًا؛ لذلك لا يمكنك معرفةُ إذا ما كانوا يبتسمون أم يعبسون، وبعضُهم يرتدي تلك الأوشحةَ المرقَّعة المضحِكة حول الخصر. لكنهم يأتون، ويبقَون عدةَ أيام، وهم لديهم أعظمُ الخيول التي رأيتها على الإطلاق. وهم ينصبون مخيمًا خارج القاعدة، ودائمًا ما يضعون عليه حراسًا، بنحوٍ علني تمامًا، كما لو أنه لا يمكن الوثوق بنا …»
تمتمَت كاسي: «ربما نحن كذلك.»
«… لكنهم لا يبيعون خيولَهم أبدًا. ومع ذلك، فإنهم يجلبون أروعَ المنسوجات الجدارية، وأوشحة الخصر المطرَّزة، التي هي أجملُ بكثير من تلك المُرقَّعة التي يرتدونها هم أنفسهم. فتلك الأوشحة يبيعونها. وهم يسيرون بجدِّية حول حافة الساحة المركزية الكبيرة، السوق القديم، حاملين كلَّ تلك الأشياء البرَّاقة، بينما نضحك نحن ونتحدث ونركض. إنه لَأمرٌ مخيف بعض الشيء.»
قالت كاسي: «كلا، إنه ليس كذلك. أنتِ تستمعين إلى القصص كثيرًا.»
احمرَّ وجه بيث. وقالت بعد صمت: «هل ترين شيئًا في القصر؟»
قالت هاري: «كلا.» وأضافت: «أيُّ قصص؟»
ساد الصمت مرةً أخرى بينما أخذَت تنظر كاسي إلى بيث وتنظر بيث إلى غُرَّة مُهرها. ثم قالت كاسي على الفور: «إنه خطَئي. إذ ليس من المفترض أن نتحدث عنها. ينزعجُ والدي حقًّا إذا أمسك بنا نفعل ذلك. إن معظم تلك القصص تدور حول السحر. من المفترض أن كورلاث وشعبه منغمسان في مُمارسته، حتى في هذا اليوم وهذا العصر، ومن المفترض أن كورلاث نفسه مجنونٌ بعضَ الشيء.»
قالت هاري وهي تتذكر ما قاله ديدام سابقًا: «سحر؟» وأضافت: «مجنون؟» إنه لم يقل أيَّ شيء عن الجنون. وتابعَت: «كيف؟»
هزَّت كلتاهما كتفَيهما. وقالت كاسي: «لم نتمكَّن قَط من معرفة ذلك.»
قالت بيث: «ونحن يمكننا عادةً أن ننتزعَ ما نريد معرفتَه من والدي في نهاية الأمر؛ لذا لا بد أن ذلك الأمر مروِّع للغاية.»
ضحكت كاسي. وقالت: «لقد قرأتِ كثيرًا من الروايات يا بيث. من المرجَّح بالقدر نفسِه أن والدي ما كان ليتحدث عن الأمر لأنه يرفض الاعترافَ بأنه قد يكون حقيقيًّا؛ أعني السحر. أما جاك ديدام فيُصدق الأمر؛ هو وأبي يتجادلان حوله أحيانًا، عندما يعتقدان أنهما بمفردهما. إن الجنون، إذا كان هذا ما هو عليه، مرتبط بطريقةٍ ما بقوة الملك؛ ففي مقابل امتلاك قوة تتجاوز قدرات البشر أو ما شابه، فعليه أن يدفع ثمنًا عبر نوع من النوبات الجنونية.»
قالت بيث: «مَن الذي يقرأ كثيرًا من الروايات إذَن؟» فابتسمَت كاسي. فقالت كاسي: «إن الأمر يستحوذ على الخيال على نحوٍ ما»، فأومأت بيث برأسها.
قالت هاري: «لا عجب أنكما متحمِّستان جدًّا لرؤيته.»
قالت بيث: «أجل. أعلم أنه أمرٌ سخيف مني، لكنني أشعر أن الرؤية ربما ستُساعد بطريقةٍ ما. سيكون طوله ثمانيَ أقدام، وسيمتلك عينًا ثالثة في منتصف جبهته.»
قالت هاري: «يا إلهي!»
قالت كاسي: «آمُل ألا يكون كذلك.»
قالت بيث: «حسنًا، أنتِ تعرفين كيف تسير الخرافات.»
قالت أختها على نحوٍ قمعي: «كلا، ليس تمامًا. حتى عندما يُصبح والدي على استعداد لترجمة بعضها، يمكن أن تُدركي من خلال أوقاتِ صمته أنه يتجاهلُ كثيرًا من الأمور.»
قالت بيث في إصرار: «أجل، ولكن مع ذلك … من المفترض أن الملوك والملكات القُدامى كانوا أطولَ من البشر العاديين …»
قاطعتها كاسي قائلةً: «إن أهل داريا في الغالب أقصرُ منا، على الأقل مَن نراهم. يمكن للملك أن يبدوَ عاديًّا جدًّا بالنسبة إلينا ويبدو طويلَ القامة جدًّا بالنسبة إليهم.»
«… ويمكنك أن تُميزي الدمَ الملكي من خلال شيءٍ ما في العيون.»
ساد الصمت مرةً أخرى. فقالت هاري: «شيء ما؟»
مرةً أخرى هزتا كتفَيهما. وقالت بيث: «شيءٌ ما. هذا واحد من الأشياء التي يتغاضى والدي دائمًا عن ترجمتها. مثل الجنون.»
قالت كاسي: «أنت تأمُلين أن يُخرج رغوةً من فمه.»
ألقت بيث نظرةً غاضبة على أختها. وقالت: «كلا. سأكتفي بالعين الثالثة.»
قلَّل هذا الحديثُ من قيمة المنازل النائية المحيطة بالقاعدة، وكان يتخلى الغبارُ الذي تركله أقدامُ مهورهن حتى عن التظاهر بأنه أيُّ شيء آخرَ غيرِ رمال الصحراء. وساد الصمت؛ فاقترحَت كاسي أن يتحرَّكن بالخيول على نحوٍ خفيف، وهو ما حدث بالفعل. كانت الشمس حارةً للغاية لدرجة أنهنَّ عندما توقَّفن مرةً أخرى، بعد بضع دقائق فقط، أصبحَت أكتافُ المهور مسمَّرةً بسبب العرق. أرسلت هاري واحدةً من نظراتها الطويلة عبر الصحراء، واضطُرَّت إلى التحديق بعينين نصف مغمضتين في مقابل الضوء المرتعش.
سألَت بيث بلهفة، وظلَّلَت عينيها بيدٍ مرتدية فردةَ قفازٍ أبيضَ أنيق: «هل تعتقدان أنَّ علينا العودةَ الآن؟»
ابتسمت هاري ابتسامةً عريضة. وقالت: «يمكننا قضاءُ بقية الصباح في غرفة جلوسي، إذا أردتما. إنها تُطل على الباب الأمامي، كما تعلمان.»
أعطتها بيث نظرةً ممتنَّة، وضحكت كاسي ضحكةً خافتة؛ لكنهن جميعًا أدَرْن رءوسَ مهورهن بسرعة وأطلقنَ لها العِنان للركض إلى المنزل بأسرعِ ما تسمح به الحرارة.
بحلول الوقت الذي وصَلن فيه إلى الظل المفترض للأشجار العنيدة الرفيعة التي تُحدد حدود أطراف القاعدة، كانت هاري تشعر بالحر والصداع قليلًا، وكانت غاضبةً من نفسها للعودة السريعة هذه دون سبب. لا شيء كان من الممكن أن يُفلت من مُلاحظتهن؛ إذ يقع القصرُ بعيدًا قليلًا عن بقية القاعدة، في أرضه الخاصة، ويقع الطريق المؤدي لبابه الأمامي تحت أعينهن طَوال الرحلة. لقد استغرقَت رحلتُهن أكثرَ من ساعة بقليل. فكرَت هاري في اقتراحِ أن يلتقين مرةً أخرى بعد ساعة، وهو وقتٌ كافٍ لتغيير الملابس والاستحمام؛ فهي في حالتها الحاليَّة لم تكن ترغبُ في مقابلة أيِّ ملوك، سواءٌ كانوا مجانين أو غير ذلك.
لكنها استرقَت نظرةً نحو بيث ورأت كم كانت حريصةً على ألا يفوتها أيُّ شيء، وقالت لنفسها: حسنًا، يُمكنني غسلُ وجهي على الأقل، ويمكننا جميعًا تناولُ بعض عصير الليمون البارد، ومراقبةُ الباب الأمامي في هدوء.
سارت المهور ببطء في الشارع المؤدي نحو القصر. وخلعت كاسي قبعتها كي تستخدمها في التهوية على نفسها. وأغمضَت هاري عينيها لحظة. كانت هذه عادةً سيئة للغاية، هكذا قالت لِما يوجد داخل جفنَيها. فكان الرد: ماذا لو أن هذا الشيء الناعسَ السمين ذا الأذنَين والذيل؛ قد اندفَع أو فزع فجأةً؟ ماذا لو سقطت السماء؟
توقَّف المهر فجأةً عن الحركة في الطريق، ورفع رأسه بضعَ بوصات في اللحظة نفسِها التي قالت فيها بيث بصوتٍ هامس مخنوق: «انظرن.»
نظرَت هاري وكاسي. كنَّ قد اقتربنَ من نهاية الطريق؛ وما بقي هو الدائرةُ العريضة أمام القصر، التي كانت تصلح لوقوف العربات، أو تجمع نصف كتيبة. وقبالة أحدِ الجوانب، حيث كان يُلقي القصرُ الطويل بظلٍّ قليل، كانت تقف سبعةُ خيول ورجلٌ واحد. وقفَت الخيول في نصف دائرة صغيرة حول الرجل الذي كان يجلس متربعًا بالقرب من جدار القصر. لقد وقفَت بهدوء، تضرب بحوافرها بين الحين والآخر، وأحيانًا يمدُّ أحدها أنفه للمسِ الرجل؛ فيربت على خدِّه لحظةً ليرفع الأولُ رأسه مرةً أخرى. أول ما لاحظَته هاري هو جمال هذه الحيوانات؛ فلم يكن ارتفاع أحدها ليقلَّ عن ستَّ عشرة قبضة، وكانت لها أرجلٌ طويلة نظيفة، وذيول تكاد تُلامس الأرض. ثلاثة منها كانت بلونِ الكستناء، ويلمع جلدُها حتى في الظل المترب؛ وكان الرابع رماديَّ اللون، والخامس بُنيًّا داكنًا، والسادس بنيًّا مائلًا للَّون الذهبي؛ لكن أفضل حصان كان الأكثرَ بُعدًا عن المهور الثلاثة السَّمينة الواقفة بحماقة في طريق العربات. كان بُنيًّا مائلًا للونِ الدم، أحمر كالنار، أسود الأرجل والذيل، وقد وقف بمعزل عن الخيول الأخرى، وتجاهل الرجل الواقف عند أقدامه. حدَّق نحو الوافدين الجدُد كما لو كانت أرضه تلك التي يقف عليها، وهم دُخلاء. بينما كانت الخيول الأخرى تؤرجح رءوسها ببطء لترى ما كان ينظر إليه قائدُها، لاحظَت هاري شيئًا آخَر، وهو أنها لم يُوضَع على أيٍّ منها لجام.
قالت كاسي بنحوٍ قاطع: «إنه هنا.»
أخذت بيث نفسًا عميقًا. ثم قالت: «كيف؟»
قالت هاري: «انظرا إلى تلك الخيول»، وكانت اللهفة في صوتها واضحةً لدرجة أنها حتى سمعتها.
أشاحت كاسي ببصرها عن المنظر المستحيل لسبعة خيول قد شقَّت طريقَها بنحوٍ غير مرئي عبر صحراء جرداء، أمام ثلاثة أشخاص كانوا يبحثون عنها، وابتسمَت بتعاطفٍ نحو صديقتها. «ألم تُشاهدي أحدَ خيول سكان التلال قبل ذلك؟ من المفترض أنها الأفضلُ في داريا.»
قالت هاري متذكرةً: «وإنهم لا يبيعونها أبدًا.»
أومأت كاسي برأسها، على الرغم من أن عينَي هاري لم تُرفَعا عن الخيول قَط. وقالت: «قد يتخلَّى جاك ديدام عن ذراع من ذراعيه كي يمتطيَ أحدها مرةً واحدة.»
قالت هاري: «إنها بلا لجام.»
قالت كاسي: «وبلا رِكاب أيضًا»، ورأت هاري أن هذا صحيح. فقد وُضع عليها سروجٌ لم تكن أكثرَ من أغطيةٍ مبطَّنة فُصِّلَت ولُفَّت بعناية؛ واستطاعت أن ترى بريقَ التطريز على أحزمتها وقرابيسها الأمامية. لم يتحرَّك حصان من مكانه في نصف الدائرة، على الرغم من أن الجميع الآن، إلى جانب الرجل، كان يشاهد المهورَ الثلاثة وراكبِيها.
قالت بيث باشمئزاز: «خيول. ألا تفهمان ماذا يعني وجودها؟ يعني أنه هنا بالفعل، ونحن لم نلحظ شيئًا على الإطلاق. إذا لم يكن هذا سحرًا، فما هو؟» وحثَّت مُهرها على التقدم إلى الأمام مرةً أخرى. وتبعتها كاسي وهاري ببطء وتوقَّفن قبل درجات السلم. فظهر ثلاثةٌ من السيَّاس، مستعدِّين لإعادة المهور إلى الإسطبل خلف القصر.
بمجرد أن لامسَت قدما هاري الأرض — إذ بقي الصبيُّ بقلق على أحد الجانبين؛ لأنه تعلم من خلال التجربة المريرة أن هذه السيدة الهوملاندية لم تكن ترغب في الحصول على مساعدةٍ أثناء ترجُّلها من على ظهر المهر — حدثَت جلَبةٌ عند مدخل القصر. فاستدارت هاري في الوقت المناسب لترى البابَ الثقيل يُفتح بعنف، حتى اشتكَت مفصلاته؛ وخرَج عبره وهو يسير بخطواتٍ واسعة رجلًا يرتدي رداءً فضفاضًا أبيضَ اللون مع وشاحٍ قرمزي حول خصره. وانطلق مزيد من الأشخاص في أعقابه، وتجمَّعوا حوله حيث توقف في الشُّرفة. كان محورًا لعجلةٍ متوترة، وقد أخذ يُحرك رأسه ببطء لتفحُّص الأشخاص الأقل حجمًا منه الذين ظهَروا حوله وصاحوا في وجهه دون أن يجرُءوا على الاقتراب منه أكثرَ من اللازم. صُدمت هاري عندما تعرَّفَت على أربعةٍ من هؤلاء الرجال الأقل حجمًا، الذين كانوا السير تشارلز والسيد بيترسون وجاك ديدام وشقيقَها ريتشارد. كان الرجلُ ذو الرداء الأبيض طويلَ القامة، وإن لم يكن أطولَ من ريتشارد أو السير تشارلز. ولكن كان هناك ارتعاشٌ في الهواء من حوله، مثل ضباب الحرارة فوق الصحراء، الذي كان خارجًا من كُمَّيه الأبيضَين، ومنسابًا من ظلالِ وشاحه القرمزي. وأولئك الذين وقفوا بالقرب منه بدَوْا صغارَ الحجم وشاحبين وغامضين، بينما كان هذا الرجل لامعًا لدرجة أنه قد يخطف العيون. جاء مزيد من الرجال بهدوءٍ خلف الرجال الهوملانديين ووقفوا في أحد الجوانب، لكنهم أبقَوا أعينهم على مَلِكهم. لا يمكن أن يكون أيَّ شخص آخر. لا بد أن هذا هو كورلاث.
أخذَت هاري نفَسًا عميقًا. لم يبدُ عليه أنه مجنونٌ أو غير بشري. لقد بدا غيرَ متعاون. هز رأسه وعبَس بسبب شيء قاله أحدُهم، وبدا السير تشارلز غيرَ سعيد للغاية. هز كورلاث كتفَيه، وطوَّح ذراعيه، كرجلٍ يخرج من غابة بامتنان إلى ضوء الشمس. وخَطا خطوةً طويلة إلى الأمام نحو حافَة الشُّرفة. ثم خطا ديدام خطوتين سريعتين تجاهه وتحدَّث إليه، ببضع كلمات فقط، بنحوٍ عاجل؛ فاستدار كورلاث مرةً أخرى، وهو كارهٌ كما بدا، ثم نظر إلى الوراء. مدَّ ديدام يده وكفَّه إلى أسفل وأصابعُه ممدودة؛ وهكذا وقفا دقيقةً طويلة. أسقط كورلاث عينيه على اليد الممدودة نحوه، ثم نظر في وجه صاحبها. فحبسَت هاري، بينما تُشاهد الموقف، أنفاسها دون أن تعرف السبب. مع شعورٍ سيِّئ في فَمِ معدتها، رأت نظرةَ توترٍ فظيعٍ على وجه ديدام بينما كان ملكُ سكان التلال يُحدق فيه؛ وارتعشَت اليدُ الممدودة على نحوٍ قليل للغاية. ثم مدَّ كورلاث يده ببطء ولمس ظهرَ معصم ديدام بإصبعَين؛ فسقطَت اليد إلى جانب ديدام مرةً أخرى، ولكن كما لو كانت ثقيلةً كالحجَر، وشعر الرجل بارتياح؛ كقاتلٍ أُطلق سراحُه وهو فوق منصَّة الإعدام. اختفَت نظرةُ التوتر عن وجهه لتحلَّ محلها نظرةٌ تنم عن التعب الشديد.
استدار كورلاث مرةً أخرى، ووضع قدمه على درجة السلَّم العلوية، ولم يتحرك أحدٌ لإيقافه. ترك الرجالُ الخمسةُ الذين كانوا من سكان التلال، والذين كانوا يرتدون أرديةً فضفاضة؛ الشرفةَ وتبعوه. وجدَت هاري أنها لا تستطيع أن تُبعد عينيها عن الملك، لكنها لاحظَت من زوايا عينيها أن الرجال الآخرين أيضًا كانوا يرتدون أوشحةَ خصرٍ زاهيةً: ذهبية وبرتقالية وخضراء وزرقاء وأرجوانية. لم يكن هناك شيءٌ يشير إلى الملك سوى بريقِ حضوره.
كانت هاري تقفُ على بُعد بضعِ أقدام فقط من الدرجة السُّفلية، ممسكةً بلِجام مهرها. وكانت كاسي وبيث في مكانٍ ما خلفها، ووقف السائس جامدًا على بُعد خطوات قليلة من مرفقِها. لم يلحظهم كورلاث بعد، وأخذَت هاري، بانبهار، تُحدق فيه بينما كان يقتربُ منها. بدا أنَّ هناك زئيرًا في الهواء يدقُّ على طبلتَي أذُنيها ويضغط على مُقلتَي عينيها حتى رمشت. ثم نظر إلى أعلى فجأةً، كما لو كان من تفكيرٍ عميق لا يُسبَر غَورُه، فرآها، والتقت أعينهما.
كانت عينا الرجل صفراوَين مثل الذهب؛ الذهب السائل الساخن في فرن مُصهر. وجدَت هاري فجأة صعوبةً في التنفُّس، وفهمت التعبيرَ الذي كان مرتسمًا على وجه ديدام؛ فكادت تترنَّح. شددَت يدها على اللجام، وأخفض المهر رأسه ولعق شكيمتَه على نحوٍ غير مريح. كانت الحرارة لا تُوصف. كان الأمر كما لو أن ألف شمسِ صحراء تنهالُ عليها. سألت نفسَها من داخل الهدير: أهذا سحر؟ هل هذا هو السحر؟ لقد جئتُ من بلدٍ بارد، حيث تعيش السحَرةُ في غاباتٍ خضراء باردة. ماذا أفعل هنا؟ رأت الغضبَ الذي كان يكبحه الرجل؛ حدَّق الغضب في وجهها من خلال العينين الصفراوين، وانتشر عبر الرداء الأبيض اللامع.
ثم انتهى الأمر. إذ نظر بعيدًا، ونزل الدرجاتِ الأخيرةَ وتجاوزها وكأنها غيرُ موجودة؛ فانكمشَت على نفسها حتى تُبعد نفسها عنه حتى لا تلمسها أيُّ زاوية من كمِّه الأبيض. خرج الرجل الذي يحرس الخيول من الظل راكبًا أحدَ الأحصنة الثلاثة ذات اللون الكستنائي؛ واتجهَت الستة الأخرى نحو فُرسانها ومسَّتهم بأنوفها. ووصل الحصان ذو اللون البني المائل إلى لونِ الدم إلى الملك أولًا، وحيَّاه بصهيلٍ خافت. فامتطاه كورلاث بقفزةٍ سهلة لم تستطع هاري حتى أن تتبعَها بعينيها، على الرغم من أنها كان بإمكانها أن ترى الغضبَ يوجِّه طريقةَ وضع ساقيه على جانبَي الفحل الكبير. شعر الحصان بذلك أيضًا؛ ودون أن يتحرك، شُدَّت كلُّ عضلاته فجأة، وكان سكونه هدوءَ ما قبل المعركة. وامتطى الرجالُ الآخرون خيولَهم. لم ينظر إليهم كورلاث مطلقًا، لكن الفحل الأحمر اندفع إلى الأمام بسرعة، وتبعه الرجالُ الآخرون، والصوت الذي أحدَثَته حوافرُ الخيول على الأرض الصلبة ذكَّر هاري فجأةً كيف كان الجميعُ صامتين بنحوٍ غير طبيعي، منذ كلماتِ ديدام الأخيرة. تلاشى الهديرُ غير المسموع مع مَرْأى الأوشحة الملوَّنة والجوانب البراقة لخيول سكان التلال. انتبهَت هاري لنفسها، وللمكان الذي توجد به، وبدا السير تشارلز وجاك والسيد بيترسون بأحجامهم الطبيعية مرةً أخرى، وكانت تُعاني هي من صداعٍ حاد.