الفصل الثالث
حدَّق كورلاث في أذنَي حِصانه ذواتَي الأطراف السوداء. ومرَّ وفدُ سكان التلال عبر بوابة القصر ورفع كورلاث بصره ليمسح بعينَيه بغضبٍ شارعَ القاعدة المترب، والمحلاتِ والمنازلَ الصغيرة ذات اللون البنيِّ المائل للرمادي، والأشجار الصغيرة المُتناثرة. ومع تغييرٍ طفيف في وضعيةِ جلوس فارسه، هدَأ الحصان الأحمر من خطوته. فتغيَّرَت قعقعةُ الحوافر القاسية على الطريق الترابيِّ إلى الصوت الأكثر خفوتًا للرمل المضطرب. واستطاع أن يسمع رجاله وهم يُقللون من سرعتهم خلفه؛ فهز رأسه في محاولةٍ فاشلة لإفساح مساحةٍ صغيرة للتفكير وسط الغضب، وانحنى إلى الوراء على سَرجِه، فتباطأت خُطوة الحصان. لم يكن هناك أيُّ معنًى لاجتياز الصحراء في منتصف النهار؛ فهو أمرٌ صعب على الخيول.
اصطفَّ الفرسان الستة خلفه، واسترقَ الاثنان اللذان تقدَّما للسير إلى جانبه نظرةً سريعة إليه عندما اقتربا منه، ثم نظرا بعيدًا مرةً أخرى بسرعة.
الأغراب! تغير شكل يديه، اللتين كانتا موضوعتين برفق على فخذيه، لتُشكل قبضتَين. كان يجب أن يستبعدَ فكرةَ محاولة التحدُّث معهم. لقد حذَّره والده من ذلك، قبل سنوات عديدة. ولكن كان ذلك قبل أن يقترب الشماليُّون لهذه الدرجة. رمش كورلاث بعينَيه. كان من الصعب احتواءُ حرارةِ غضبه عندما لا يوجد ما يُمكنه تفريغها فيه؛ إن الغضب مفيدٌ بنحوٍ رائع في ساحة المعركة، لكنه لم يكن يواجه أيَّ أعداء في الوقت الحالي يمكن أن تضرب في أقدامهم وتصرعَهم في جماعات. كم كان يود، على سبيل المثال، أن يُشعل النار في القصر الغبي الكبير — فهو مبنًى سخيفٌ لا يتناسب مع العيش في الصحراء: لا بد أنه من نوع المنازل الذي يعيشون فيه في بلدهم — ويُشاهده وهو ينهار حول أذنَي المخلوق المترهِّل الضخم الذي يدعو نفسه المفوَّض … ولكن الغل يصلح فقط للصِّبية، وهو ملكٌ منذ ثلاثةَ عشر عامًا، فكبح غضبه وكتمه.
لقد تذكر عندما كان صغيرًا وقبل النضوج الكامل لقدرة «الكيلار» الخاصة به، تلك القوة الرهيبة المعروفة من قَبيل المفارقة باسم «الهبة»، أن والده أخبره أن الوضع سيكون في الغالب على هذا النحو: «نحن لسنا بارعين جدًّا في الواقع، إلا كآلاتِ قتال، وحتى في هذا المجال فائدتنا محدودة. سوف تلعنها، كثيرًا بالقدر الكافي، أكثرَ بكثيرٍ مما ستسعد بها، ولكن هكذا هو الحال». ثم تنهَّد، ونظر بامتعاض إلى ابنه. وتابع: «يقولون إنه في الأيام الرائعة في الماضي كان الأمر مختلفًا، وإن الرجال كانوا يستطيعون تحمُّلَها والصبر على تَبِعاتها، وكانوا يتمتَّعون بالذكاء الكافي لفهمها. تقول القصة إن الليدي إيرين هي التي عرَفَت هبتَها لأول مرة وطوَّعَتها وَفْق إرادتها، لكن ذلك كان منذ زمنٍ طويل، ونحن أقلُّ تحملًا لها الآن.»
فقال كورلاث بتردُّد: «إنهم يقولون أيضًا إن الهبة كانت يومًا ما تُستخدم لأشياءَ أخرى، مثل الشفاء والتهدئة والترويض.»
أومأ والده برأسه في حزن. وقال: «أجل، ربما كانت يومًا ما، ولكنها لم تَعُد كذلك الآن. لوث يعرف هذا، إذا كان سيُخبرك به؛ لأنه لديه قدرة الكيلار القديمة، وقد نسي حتى مَن هما والداه؛ لكن لوث يظلُّ كما هو. أما أنا وأنت، فمن دماءٍ أقلَّ نقاءً.
والسُّلالة الأقلُّ نقاءً هي التي أوصلَتنا إلى ما نحن عليه، وما بقينا عليه، وما تبقَّى لنا. تجنَّب الأغراب، إذا استطعت. إنهم لا يمكنهم فهمُنا، أو لن يفعلوا؛ إنهم لا يستطيعون تمييزَ الخيولِ من الثيران، وسيُحاولون أن يضَعوا عليك القيودَ نفسَها التي وضَعوها على بقية أرضنا. لكن قوتهم هي قوة العدد والعِناد والمُثابرة؛ لا تستخفَّ بها.»
كان بإمكانه رؤيةُ والده يقف في أحد الأفنِيَة الداخلية للمدينة في الجبال، ويُحدق في إحدى النوافير، والمياه تتدفق لامعةً فوق الحجارة الملوَّنة في أرض التلال، ويتحدث نصف كلامه إلى نفسِه. ثم تلاشَت الصورة، واختفت في موجةِ غضب سريعة أخرى؛ ووجد نفسه ينظر إلى الفتاة مرةً أخرى، الفتاة التي رآها واقفةً أمام قصر الأغراب. ما صلتها بأيٍّ من هذا؟
عبَس، وعادت أُذنا حصانه وغُرَّته السوداءُ للظهور أمامه. فنظر إلى أعلى؛ كانت لا تزال رحلةً طويلة إلى مخيمهم. لم يكن يرغب، على نحوٍ ما، في النوم على مقربةٍ كبيرة من الأغراب؛ لم يكن ذلك لأنه يشكُّ في احتمالية تعرُّضِه لخيانةٍ متعمَّدة، ولكن لأن الهواء الذي يعلق فوق أيِّ قاعدةٍ خاصة بالأغراب؛ كان يُرسل أحلامًا سيئة إلى سكان التلال.
وخَزه غضبُه مرةً أخرى مثل كعبٍ مزوَّدٍ بمِهْمازِ خيل؛ فجفَل. لقد كانت لها حياةٌ خاصة بها، تلك الهبة، اللعنة عليها! ما الشيء الذي لا يمكن تفسيره الذي كانت تريده هذه المرةَ منه؟ لقد عرَف بحلول ذلك الوقتِ أن تصرفات الملوك، وغيرهم ممَّن تحمل دماؤهم كثيرًا من الكيلار، كان يُنظر إليها بقلقٍ أكبرَ من قِبل الضحايا أنفسِهم أكثرَ من أصدقائهم ورعاياهم. لا يعني ذلك أن القلق كان مفيدًا بأيِّ نحو. إذا كان المرء مَلكًا، فلا يمكن له أن يُفسر تصرفاته الغامضة بالقول إنه فقط لا يمكنه الامتناعُ عن القيام بها.
كان هناك نمطٌ محَّدد لغضبه. من حينٍ لآخر كان يفهمه. انتظر، وهو يصرُّ أسنانه؛ فرأى الفتاة مرةً أخرى. هذه المرة، ما دامت هناك، كان ينظر إليها.
عندما رآها لأولِ مرة، عند أسفل السُّلم، قبل بضع دقائق فقط، كان عليه النظرُ إليها. فهو كان يعرف ما يمكن أن تفعلَه نظرتُه عندما يكون غاضبًا، وحاول أن يكون حذرًا بشأنِ من ستُلقى عليه، ومدةِ ذلك. لكن هذه الفتاة، لسوء حظها، كانت قد جذَبَت انتباهَه بطريقةٍ ما، وقد نظر نحوها مدةً أطول ممَّا كان يريد.
كانت طويلة، في مثلِ طول معظم الرجال، طويلةً حتى بمعايير الأغراب. وشعرها كان أصفر، بلون الشمس على الرمال، وبلمعانها نفسِه تقريبًا. إن شعبه، سُكان التلال، كانوا عادةً أصغرَ حجمًا من الأغراب، وكانوا داكني البشرة والشعر. لكن لم يكن حجمها ولا لونها هو ما جعله يظلُّ يفكر فيها منذ أولِ نظرة سريعة ومفاجئة وقعَت عيناه عليها خلالها؛ ولم يكن جمالها. كان هناك كثير من القوة في ذلك الوجه وفي عظام الجسم الطويلة في مقابل الجمال. ربما، هو شيء له صلة بهدوئها؟ أو ثباتها الشديد، شيء في الطريقة التي قابلَت بها عيناها عينَيه؛ إذ كانتا تشيان بمزيدٍ من التفكير أكثرَ من النظرة المعتادة نصف المُنومة ونصف المرتعبة التي تَعلَّم أن يتوقَّعها إذا نظر إلى أي شخص مدةً طويلة — حتى عندما تكون الكيلار الخاصةُ به هادئة. إنه شيء، هكذا اعتقد على نحوٍ مفاجئ، يُشبه الثبات الشديد الذي تعلَّمه هو نفسه، وهو يعلم جيدًا ما يمكن أن يحدث إذا قل. لكن هذا كان هُراءً. إنها كانت من الأغراب. وبينما لا تزال هناك رياضاتٌ وحشية بين شعبه، حيث تتحوَّل بضع قطرات من الدم الملكي من العديد من الأجيال الماضية فجأةً إلى كيلار كاملة في عروقِ طفل ينتمي إلى عائلةٍ عادية، لم يكن هناك مطلقًا حتى الآن أيُّ شخص من الأغراب يحمل أيَّ هبة لاحتوائها.
أخذه تسلسلُ التفكير هذا بعيدًا بالقدر الكافي عن مركز الغضب، لدرجة أنه بدأ في الهدوء قليلًا؛ فقد انفتحَت قبضتاه، والغُرة السوداء أخذَت تنسلُّ من بين أصابعه. ونظر إلى الأمام؛ كان يعلم، على الرغم من أنه لم يستطع رؤيتَه بعد، أن مخيَّمه كان يقع خلف هذا الجزء مما بدا كأنه صحراءُ جرداء محايدة ومسطَّحة، وكان في الواقع مرتفعًا قليلًا عن الأرض على هيئةِ تل صغير، وهو ما يكفي لعزله عن الرمال والعواصف، ويسمح بالحياة لبئرٍ صغيرة من الماء العَذْب، مع قليل من العُشب والشجيرات المنخفضة، خلف حاجز واقٍ.
بينما كان ينظر عبر صحرائه، بعد أن استعاد هدوءه تقريبًا مرةً أخرى، أو على الأقل وجد بدايات الهدوء، أنتجت الكيلار فجأة صورةً لوجه السير تشارلز الأبيض الأحمق وهو يقول بقلق: «سيدي العزيز … حسنًا … جلالتك»، ويشرح لماذا لم يستطِع مساعدته. فُرضَت الصورةُ على عينيه بقوة، فأخذ نفَسه بحدةٍ من بين أسنانه. وبعد أن لفتَت انتباهَه، أبعدَت الكيلار العاقدةُ العزم صورةَ السير تشارلز وقدمَت له صورة الفتاة مرةً أخرى.
صاح بينه وبين نفسه في صمت: ماذا عنها؟ لكن لم يكن هناك رد. كان من النادر أن تسهل الهبةُ الأمرَ عليه من خلال توضيحِ ما كانت تريده. في بعض الأحيان لم يعرف ما كانت تريده قَط، وكان يُترك ليخوضَ الأمور مثل أيِّ شخص عادي آخر — مع عيبٍ إضافي يتمثَّل في وجود رسائلَ غامضةٍ تدق داخل جمجمته.
تلاشى صبره؛ فانحنى إلى الأمام فوق السرج، فبدأ الفحلُ الكبير يعدو. والفرسان الستة، الذين كانوا يعرفون طبع ملكِهم، ولم يكونوا سُعداءَ للغاية باستقبالهم من جانب الأغراب، أفسَحوا له الطريق. فانحرف بعيدًا عن المسار الذي كان سيأخذه مباشرةً إلى المخيم.
ربت الرجلُ الذي يمتطي الحصانَ البنيَّ المائل إلى اللون الذهبي، والذي كان راكبًا عن يمين الملك، على حِصانه بيدٍ واحدة ليُهدئه. وقال: «كلا، نحن لن نتبعه هذه المرة.»
فنظر إليه الرجل الذي على يساره وأومأ برأسه بسرعة. وقال: «أدعو العادل المجيد أن يكون معه.» فأصدر أصغرُ الفرسان نخيرًا مع ضحكة، على الرغم من أنها لم تكن ضحكةً جيدة. «عسى أن يكون العادل المجيد معنا جميعًا. اللعنة على الأغراب!»
عبَس الرجل على الحصان الذهبي وقال: «إيناث، راقب لسانَك.»
أجاب إيناث: «أنا أراقبه، يا صديقي. عليك أن تكون مُمتنًّا لأنك لا تستطيع سَماع ما أفكر فيه.»
كان الملك قد اختفى في بريق الحرارة المتصاعد من الرمال، بحلول الوقت الذي اعتلتْ فيه المجموعةُ الصغيرة التلَّ الصغير، ورأت الخيامَ الباهتة لمخيمهم أمامهم، واكتفَت بإخبار أولئك الذين كانوا ينتظرونها بما حدث خلال الاجتماع مع الأغراب.
رمشَت هاري بعينيها وأدركَت وجود السائس الواقف عند مرفقها. وقالت وهي مشغولةُ الفكر: «شكرًا لك»، وقاد هو المهر بعيدًا، ونظر بقلقٍ من فوق كتفه إلى الطريق الذي سلكه رجال الصحراء، ومن الواضح أنه كان هو نفسه ممتنًّا لمغادرة المكان. ظلَّلَت عينيها بيدها لحظةً، الأمر الذي أدَّى فقط إلى تخفيفِ حدة صداعها الفظيع. نظرَت إلى أعلى إلى الرجال الموجودين في الشرفة ورأتهم يتحرَّكون على غير هدًى، كما لو كانوا يستيقظون، وهم لا يزالون تحت تأثير الأحلام غير السارة. شعَرَت مثل شعورهم. وأصدرت كتفُها صوتًا عندما أسقطت ذراعَها مرةً أخرى. على الأقل سيصبح الجوُّ ألطفَ في الداخل، هكذا ظنَّت، فصعدَت درجات السُّلم. وتبعتها كاسي وبيث، إثر اقتياد مطيَّتَيهما بعيدًا بعد مطية هاري.
مرَّت وجبة الغداء على نحوٍ هادئ. كل أولئك الذين لعبوا دورًا في مشهد الصباح كانوا هناك. كما لو أنهم، هكذا قالت هاري لنفسها، نوعًا ما لا يستطيعون الانفصال بعضهم عن بعض حتى الآن؛ ليس لأن لديهم أيَّ سبب معين للتشبُّث بصحبة بعضِهم بعضًا. كما لو كانوا قد مرُّوا للتو … بشيءٍ ما … معًا، وهم خائفون من الظلام. بدأ صداعها يهدأ مع كوبٍ ثانٍ من عصير الليمون، وقالت لنفسها فجأة: أنا لا أتذكر حتى كيف كان يبدو الرجل. لقد حدَّقتُ فيه طوال الوقت، ولا أستطيع أن أتذكر سوى طولِ قامته، والوشاح القرمزي، وتلك العينين الصفراوين. ذكَّرَتها العينان الصفراوان بصداعها، وركزَت تفكيرَها على الطعام الموجود في طبقها، ونظرتَها على الشحوب البارد لإبريق عصير الليمون.
كانوا قد انتهَوا من الأكل ورُفعت المائدة — وما زال الوضع كما هو حيث لم يتخذ أيُّ شخص أيَّ خطوة للمغادرة — عندما تنحنح جاك ديدام بطريقةٍ عملية وقال: «نحن لم نكن نعرف ماذا نتوقع، ولكن من خلال الطريقة التي نجلس بها ويتجنب بعضُنا أعيُنَ بعض …» رفعَت هاري عينيها، فابتسم لها جاك مدةً وجيزة «نحن ليس لدينا أيُّ فكرة عمَّا يجب أن نفعله تجاه ما مرَرْنا به.»
قال السير تشارلز، دون أن ينظر إلى أعلى، كما لو كان يُفكر بصوت عالٍ: «ما الشيء الذي قلتَه له، يا جاك، قبل أن يرحل مباشرة؟»
كانت هاري لا تزال تُركز بصرها على ديدام، وبينما كان صوته وهو يُجيب يحمل النبرةَ المناسبة بالضبط، لم تكن تعبيرات وجهه مطابقةً لها: «إنها إحدى العبارات المعتادة القديمة التي هي مِن قبيل: لنكن أصدقاء ولا نفترق، ونحن نشعر بالغضب بعضنا تجاه بعض حتى لو كنا نميل إلى فعل ذلك. إنها تعود إلى أيام الحرب الأهلية، على ما أظن؛ قبل وصولنا، على أيِّ حال.»
قال السير تشارلز: «إنها في اللغة القديمة. لم أكن أدرك أنك تعرفها.»
مرةً أخرى، اقترحت عينا ديدام شيئًا آخرَ غير ما قاله: «أنا لا أعرفها. كما قلت، إنها عبارة مشهورة. توجد كثير من التحيات الرسمية في اللغة القديمة، على الرغم من أنه لم يَعُد أحدٌ تقريبًا يعرف ما تعنيه.»
قال بيترسون: «أحسنت، يا جاك. لم يكن عقلي يعمل على الإطلاق بعد الصباح الذي قضيناه. ربما أبعدته فقط عن تجاهلنا تمامًا.» رأت هاري، وهي تُراقب ما يجري، في وجه بيترسون الشيءَ نفسَه الذي تساءلتَ عنه في وجه ديدام.
هزَّ السير تشارلز كتفَيه وانتهى التوتُّر. إذ قال: «أتمنى ذلك. سوف أتمسَّك بأي قشة.» وصمَت. ثم أضاف: «لم تَسِر الأمورُ على ما يُرام على الإطلاق.»
إنَّ هزَّ الرأس البطيءَ من قِبل ديدام وبيترسون على هذا التعليق أوضحُ على نحوٍ تعجز الكلماتُ عن وصفه؛ كيف أن تلك العبارة هي أقلُّ ما يُقال عن ذلك الموقف.
تابع السير تشارلز: «إنه لن يعود.»
ساد صمتٌ كئيب يدل على الاتفاق، ثم أضاف بيترسون: «لكنني لا أعتقد أيضًا أنه سوف يركض إلى الشماليِّين لإقامة تحالفٍ معهم.»
نظر السير تشارلز إلى أعلى أخيرًا. وقال: «هل تعتقد أنه لن يفعل؟»
هزَّ بيترسون رأسه؛ وكانت هزةً سريعة حاسمة. وقال: «أجل. إذ لم يكن ليُنصتَ إلى جاك في النهاية، إذا كان قد انتوى التحالفَ مع أعدائنا.»
قال جاك، مع ما وجدَته هاري من نفادِ صبرٍ مسيطر عليه: «إن سكَّان التلال لن يتحالفوا أبدًا مع الشماليِّين. إنهم يعتبرونهم أعداءً بالدم، والتاريخ … بكل ما يؤمنون به. وسيكون تحالفهم مع الشمال بمنزلةِ إعلانٍ عن فقدهم لهُويتهم كسكانٍ لأرض التلال.»
مرَّر السير تشارلز يده عبر شعره الأبيض، وتنهَّد، وقال: «أنت تعرف هؤلاء الناسَ أفضل مني، وسأثق في كلامك عنهم، لأنني لا أستطيع فعل أيِّ شيء آخر.» ثم صمت. وتابع: «سيتعيَّن عليَّ كتابة تقرير عن هذا الاجتماع، بالطبع؛ وأنا لا أعرف على الإطلاق ما سأقوله.»
كانت بيث وكاسي وهاري لا يسعَيْن لطرحِ أي أسئلة قد تَلفتُ الانتباه إلى وجودهم واهتمامهم بسماعِ ما يُقال وتؤدي إلى تأجيل المحادثة حتى يجتمع الرجال في مكانٍ رسمي يتَّسم بالخصوصية؛ حيث يمكن تناولُ الموضوع المهم على نحوٍ أكثر سرية. لذلك شعَرن بالفرح والقلق في آنٍ واحد عندما سألت الليدي أميليا: «لكن، يا تشارلز، ماذا حدث؟»
بدا أن السير تشارلز قد ركز نظرَه ببعض الصعوبة على وجه زوجته المتخوِّف، ثم تحركَت عيناه عبر المائدة فعرَفَت الفتيات أنهنَّ قد لوحظن مرةً أخرى. فحبسنَ أنفاسهن.
قال السير تشارلز: «أومم» وساد صمتٌ بينما تحوَّل طرَفا أذنَي بيث إلى اللون الورديِّ بسبب كتمها لأنفاسها.
فقال ديدام أخيرًا: «لا ضَير في إخبارك سوى أنه يجرح كبرياءنا. لقد كان هنا منذ أقلَّ من ساعتين؛ حيث جاء إلى هنا من حيث لا ندري، على حدِّ علمنا؛ لقد ظننَّا أننا كنا نُراقب الطريقَ جيدًا حتى نكون على علم قبل وصوله.»
تركَّزت عيونُ الفتيات على وجه ديدام، أو ربما تبادلنَ النظرات.
«وتقدم إلى الباب الأمامي كما لو كان يسير في فِناء منزله؛ لحسن الحظ، رأيناهم عندما دخَلوا البوابات الأمامية هنا وتجمَّعنا بنحوٍ أو بآخر للترحيب به؛ وأحسَن زوجك، تشارلز، صنعًا بفتح الباب قبل أن نكتشفَ إذا ما كان سيمرُّ عبره أم لا.
أظنُّ أن المشكلة الأولى كانت أننا لم نكن يفهم بعضُنا لغةَ بعض على نحوٍ جيد. إذ إن كورلاث لم يتحدث بلغةِ هوملاند على الإطلاق — رغم أنني، بصراحة، لا أضمن أن هذا يعني أنه لا يستطيع تحدُّثَها.»
نخر بيترسون.
«لقد لاحظتَ الأمر أنت أيضًا، أليس كذلك؟ فقد تولَّى أحدُ الرجال الذين كانوا معه مهمةَ الترجمة، ولم يؤدِّها على النحو المطلوب، وقد حاولتُ أنا وبيترسون التحدث بلغة داريا …»
قاطعه بيترسون قائلًا: «لقد تحدثنا بلغة داريا بالفعل. أنا أعرف لغةَ داريا تقريبًا مثلما أعرف لغة هوملاند — مثلما تفعل أنت، يا جاك، أنت أكثرُ تواضعًا في هذا الموضوع — وقد تمكنتُ من أن أكون مفهومًا للداريِّين من كل سكان الأركان الغريبة لهذه المنطقة الضخمة — بما في ذلك قليل من سكان التلال الأحرار.»
قالت هاري في نفسها: وملك سكان التلال تسمَّر في مكانه، غاضبًا مثلما كان، عندما خاطبه ديدام باللغة القديمة؟
وتابع ديدام قائلًا: «في جميع الأحوال، لم نبدُ قادرين على جعلِ أنفسنا مفهومين بسهولة بالنسبة إلى كورلاث.»
قاطعه بيترسون قائلًا: «ولم يُترجم مترجمه بطريقةٍ سريعة مثلما كان ينبغي أن يفعل، حسبما أظن.»
ابتسم ديدام قليلًا. وقال: «أوه، إن كبرياءك يمنعك من الحكم الصائب. احكم على نحوٍ عادل.»
ردَّ له بيترسون ابتسامته، لكنه قال بعناد: «أنا متأكدٌ من ذلك.»
قال ديدام: «قد تكون مُحقًّا.» ثم سكت. وأضاف بعد ذلك: «لن يُفاجئني ذلك؛ لقد منحَهم هذا الوقت لتفحُّصِنا قليلًا دون أن يبدوَ عليهم ذلك.»
قاطعه السير تشارلز قائلًا: «قليلًا! يا رجل، لقد بَقوا هنا أقلَّ من ساعتين! كيف يمكنهم — يمكنه — استنتاجُ أي شيء عنا في وقتٍ قصير جدًّا هكذا؟ إنه لم يمنحنا أيَّ فرصة.»
عاد التوتر. فقال ديدام بحذر: «أظنه اعتقدَ أنه كان يمنحنا فرصة.»
قال السير تشارلز بحزن: «أنا لا أكون سعيدًا عند التعامل مع شخصٍ متسرع للغاية مثله»، وقد ناقض وجهُه المتعب والقلق السخافةَ الفظَّة لكلماته. لمسَت زوجته يده حيث كانت تجلس عن يمينه، فالتفتَ إليها وابتسم. ثم نظر حول المائدة. فتجنَّب كلٌّ من بيترسون وديدام نظرته. وقال، باستخفاف، وعلى نحوٍ شبه مرح: «الأمر بسيط للغاية. إنه يريد أسلحة، ورجالًا، وسرايا، ووحدات؛ للمساعدة في إغلاق الممرَّات الجبليَّة. فهو، كما سيبدو، لا يُحب فكرة تدفُّق الشماليين عبر بلاده.»
قال ديدام بحذر: «هذا أمرٌ منطقي.» ثم أضاف ببطء: «سيتحول بلدُه إلى ساحةِ معركة، بين الشماليين و… وبيننا. إذ ليس هناك ما يكفي من سكان التلال للاشتباك مع الشماليين أيَّ مدةٍ من الوقت. وستُجتاح بلاده، وربما تُدمَّر، في هذه العملية. أو على الأقل ستُصبح تابعةً للمنتصر.»
قال السير تشارلز، وقد عاد إلى التفكير بصوتٍ عالٍ: «لا يمكننا بكل بساطة أن نفعل ما طلبه. لسنا متأكدين حتى ممَّا ينتويه أهلُ الشمال تجاهنا في الوقت الحاضر.»
قال بيترسون بعد برهة: «في ضوءِ موقف سكان التلال تجاه أهل الشمال، أعتقدُ على نحوٍ مؤكَّد أن شبكة جواسيس كورلاث جيدة.»
قال السير تشارلز: «لقد عرضنا عليه التعاون.»
ردَّ بيترسون بطريقته الفظة: «الاستسلام، تقصد.» وأضاف: «استسلامه هو.» فعبَس السير تشارلز. «إذا وافق على وضع نفسِه وشعبه تحت سيطرتنا بالكامل …»
قال ديدام: «دعك من هذا، يا بوب.»
قال بيترسون: «هذه هي حقيقة الأمر. يجب أن يتخلَّى عن حريةِ بلاده؛ التي تمسَّكوا بها، رغم وجودنا، كل هذه السنوات …»
قال السير تشارلز بصرامة: «ليس من غير المعتاد أن تضع دولةٌ صغيرة نفسها تحت حمايةِ دولة أكبر، عندما يتطلب الوضع ذلك.»
قبل أن تُتاح الفرصة لبيترسون للرد، تدخل ديدام في الحديث بسرعة قائلًا: «بيت القصيد أنه متكبر جدًّا لدرجة أنه لا يريد سَماع شروطنا، ونحن … حسنًا … نحن لا يمكننا المخاطرةُ بإعطائه — بإقراضه — قواتٍ بشروطه.»
قال السير تشارلز بأحسنِ نبرةِ صوت له بوصفه مفوضًا: «ستصبح الملكة والمجلس مستاءَين منا للغاية إذا عجَّلنا بحربٍ غير ضرورية»، فنخر بيترسون. وتابع السير تشارلز بحزن: «نحن لا نعرف شيئًا عن الرجل.»
تمتم بيترسون: «نعلم أنه يريد إبقاءَ الشماليين خارج داريا»، لكن ديدام تحرك في كرسيِّه على نحوِ ترجمته هاري بصورةٍ صحيحة على أنه لتوجيه ركلةٍ سريعة لكاحل بيترسون؛ فتراجع بيترسون.
أنهى ديدام الكلام قائلًا: «وما كان سيبقى للتفاوض. وها نحن ذا، نشعر كما لو أننا تعرَّضنا جميعًا للضرب على الرأس.»
تحرك كورلاث ذهابًا وإيابًا بطول خيمته، بينما كان يتجمَّع فرسانه. وتوقف عند أحد أطراف الخيمة وحدق في قماشها الذي هو من شَعر الخيل المنسوج على نحوٍ وثيق. تحرَّك هذا الطرف لأن رياح الصحراء لم تسكن قَط. كان هناك قليل جدًّا ممن تبقَّى من سكان التلال؛ على الرغم من القبائل المتوارية الصغيرة التي خرجَت من مقرَّاتها المنعزلة كي تُعلن ولاءها لراية دامار ذات اللونين الأبيض والأسود بعد أجيالٍ من العزلة. لقد عمل كورلاث بكدٍّ لإعادة توحيدِ مَن تبقى من الأحرار — ولكن من أجل ماذا، عندما يُفكر المرء في الآلاف من جنود الشمال، وفي النهاية الآلاف من جنود الأغراب الذين سيلتقون بهم؟ — لأن الأغراب كانوا سيعلمون قريبًا عن خُطط أهل الشمال لغزوِ الجنوب. وفي صراعهم كانوا سيُمزقون بلاده إربًا. إن شعبه كان سيُقاتل؛ لأنه يعلم بفخرٍ حزين أنهم سيصمدون حتى مقتلِ آخرِ شخص فيهم، إذا استدعى الأمرُ ذلك. في أحسن الأحوال سيُصبحون قادرين على الاستمرار في العيش في أرض التلال: في جيوبٍ سرية صغيرة من أرضهم، حيث سيختبئون في الكهوف ويجمعون الطعامَ في الظلام، وينسلُّون مثل الفئران في الظلال، ويتجنَّبون أولئك الذين يحتلون أرضهم، ويدَّعون ملكيَّتهم لها ويحكمونها. إن دامار القديمة، قبل الحروب الأهلية، قبل مجيء جيش الأغراب، كانت بمنزلة أسطورةٍ حزينة لشعبه الآن؛ ستبهت الصورة أكثرَ عندما لا توجد سوى حفنةٍ قليلة من الأحرار الذين يعيشون مثل المتسولين أو اللصوص في تلالهم.
لكنه لم يستطع أن يُلقي بهم … تحت رحمة العطف العملي إلى الأغراب، هكذا أطلق على الأمر بعد صراعٍ لحظي مع نفسه. كان هذا يعني أن يترك جيشه ليقوده جنرالاتُ الأغراب … ارتفعت زوايا فمِه في امتعاض. كان هناك بعضُ الفكاهة المريرة في فكرة أن الأغراب البراجماتيين قد يستجيبون لأوامرَ تُمليها عليهم قدرةُ الكيلار لدى كلٍّ من حلفائهم وخصومهم في الوقت نفسِه. فتنهَّد. فحتى لو أن الأغراب قد وافَقوا بمعجزة على مساعدته، فإنهم كانوا سيرفضون قَبول حماية الكيلار الضرورية — فهم لا يؤمنون بوجود الكيلار. إنه لَأمرٌ مؤسف عدمُ وجود طريقةٍ غيرِ قاتلة لإثباتِ خلاف ذلك لهم.
لقد فكَّر في الرجل الذي تحدثَ إليه في آخِر المقابلة، الرجل ذي الشعر الرمادي. لقد كان بداخله تقريبًا بعضُ الإيمان به؛ الإيمان بتقاليد أرض التلال، والذي استشفه كورلاث من تعابير وجهه؛ ربما كانا قادرَين على التحدث معًا. كان ذلك الرجل يتكلم بلغته بنحوٍ مفهوم على الأقل — على الرغم من أنه ربما لم يكن يعرف تمامًا ما كان يعرضه في كلماته القليلة باللغة القديمة. مسكينٌ فورلوي؛ إنه الشخص الوحيد من بين فرسانه الذي يعرف كثيرًا من لغة الأغراب مثل كورلاث. وبصفته مبعوثًا غيرَ مرحَّب به في دولةٍ أقوى بكثير من دولته؛ فقد شعر بالحاجة حتى إلى الدقائق القليلة التي قد تُتاح له كمُترجم، لمشاهدة وجوهِ أولئك الذين كان يرغب في إقناعهم.
لماذا لم تكن هناك طريقةٌ أخرى؟
اتخذ القماشُ الثقيل أمامه مسحةً من لون الذهب لحظةً؛ كان الذهب إطارًا لما قد يكون وجهًا، ونظرَت إليه عينان شاحبتان …
إنها لا علاقة لها بهذا الأمر.
استدار فجأةً ووجد كلَّ فُرسانه جالسين، يراقبونه، منتظرين.
«أنتم تعرفون بالفعل … أنه ليست هناك فائدة.» فأحْنَوا رءوسهم مرةً واحدة لإبداء مُوافقتهم على ما يقول، لكن لم ترتسم تعبيراتُ المفاجأة على وجوههم. «لم يكن هناك احتمالٌ كبير قَط …» ثم توقف على نحوٍ مفاجئ عندما أخفض واحدٌ من جمهوره رأسه كثيرًا على نحوٍ يتعارض مع ما تتطلبه جديةُ المناسبة، وأضاف: «حسنًا، يا فاران، لم يكن هناك أيُّ احتمال.» نظر فاران لأعلى، ورأى بدايةَ ابتسامةٍ على وجه ملكه؛ أقرب شيء لابتسامة رآها أيُّ شخص على وجه الملك منذ أيام. كرر كورلاث: «لم يوجد أيُّ احتمال. لكنني شعرت، حسنًا، أنني مضطرٌّ إلى المحاولة.» نظر لأعلى إلى السقف مدةَ دقيقة. وقال: «على الأقل لقد انتهى كلُّ شيء الآن.» الآن وقد قُضي على أيِّ فرصة للحصول على مساعدةٍ خارجية، فقد حان الوقت للُّجوء إلى أفضل السبل لحماية جبالهم بمفردهم.
حاول جيش الشمال اجتياح الجبال من قبل؛ لأنهم كانوا دائمًا جشعين ومولَعين بالحرب؛ لكن بينما كان المكرُ من صفاتهم، فقد اتَّسموا بالغدر، ولم يثقوا بأحدٍ لأنهم كانوا يعلمون أنهم أنفسهم لا ينبغي الوثوقُ بهم. حتى سنوات عديدة كان هذا بمنزلةِ حمايةٍ لسكان التلال؛ لأن أهل الشمال لم يتمكَّنوا من الاتحاد معًا مدةً طويلةً بالقدر الكافي، أو بأعدادٍ كبيرة بما يكفي ليُشكلوا تهديدًا كبيرًا لجيرانهم. ولكن في ربع القرن الماضي، ظهر رجلٌ قوي من صفوف الجنرالات الضعاف: رجل قوي بداخله قليل من الدم غير البشري، مما أكسَبه قسوةً تتجاوز حتى نزعةَ الشرِّ الشمالي المعروفة؛ وأيًّا ما كان المصدر الذي استمدَّ منه قوته، فهو أيضًا ساحرٌ بارع، يتمتع بالقدرات الكافية لتوحيد كلِّ الجماعات التي تجوب أرض الشمال، البشرية وغير البشرية منها على حدٍّ سواء، تحت إمرته. وكان اسمه ثورا.
كان يعرف كورلاث، على نحوٍ غير متعاطف، أن إمبراطوريةَ ثورا لن تدوم؛ سيفشل ابنُه، أو ابنُ ابنه على الأكثر، وسيتفرَّق أهل الشمال ويعودون إلى صراعاتهم الطاحنة الأقلِّ نطاقًا والأكثرِ إثارةً للاشمئزاز. لقد راقب والدُ كورلاث، ومن بعده كورلاث، ظهورَ ثورا من خلال جواسيسهما، وعرَف كورلاث أو استطاع أن يُخمن شيئًا عن تكلفة السلطة التي اختار أن يُمارسها؛ ولذا عرف أن ثورا لن يعيش أطولَ بكثيرٍ من أي رجل عادي. ونظرًا إلى أنَّ ملوك أرض التلال كانوا يعيشون أعمارًا طويلة؛ فقد يتمكَّن كورلاث، حتى لو انتصر جيش الشمال في الحرب القادمة، من قيادة شعبه في تمردٍ ناجح؛ ولكن بحلول ذلك الوقت، قد لا يُصبح هناك ما يكفي من البلاد للقيام بتمرُّد، أو للعيش بعد انتهاء التمرد. فمنذ ما لا يزيد كثيرًا عن خَمسمائة عام — في زمن إيرين — كانت الصحراء التي نصَب عليها خيمته عبارةً عن مَرْجٍ وغابة. وكانت آخرُ أرض مستويةٍ صالحة للزراعة تركها شعبُه لهم هو السهلَ الذي يوجد قبل الفجوة الكبيرة في الجبال، التي كان سيأتي عبرها جيشُ الشمال.
قد يرفض السير تشارلز المساعدةَ الآن، بينما لم يُهاجم جيشُ الشمال بعدُ أيَّ أراضٍ يسيطر عليها الأغراب. ولكن بمجرد مرورهم عبر أرض التلال سيُحاولون بالتأكيد الاستيلاءَ على كل ما يمكنهم. وقد تقع قارة داريا بأكملها في الأيدي الطماعة المجنونة لثورا وعصابته، التي يتَّسم كثيرٌ منهم بأنهم أقلُّ إنسانيةً منه، وعندئذٍ سيعرف الأغراب أكثرَ مما يرغبون عن السحر.
وماذا لو انتصر جيشُ الأغراب؟ لم يكن كورلاث يعرف عدد القوات التي سيكون على قادة الأغراب الدفعُ بها في المعركة، بمجرد اندلاع المعركة؛ إنهم سوف يعلمون، على نحوٍ مروِّع، عن قدرة الكيلار على يد ثورا. ولكن حتى قدرة الكيلار محدودةٌ في نهاية الأمر، والأغراب يتَّسمون بالعناد، وهم في عنادهم يتَّسمون بالشجاعة؛ هم في بعض الأحيان يتَّسمون بالغباء، وفي أحيانٍ أكثر بعدم الفاعلية، وهم لا يُصدقون شيئًا لا يمكنهم رؤيته بأعينهم. لكنهم كانوا يبذلون قُصارى جهدهم بالفعل، وفقًا لمعاييرهم، وكانوا في كثيرٍ من الأحيان لطفاء. وإذا انتصر جيش الأغراب، فسيرسلون الأطباءَ والمزارعين والبذور والمحاريث والبنائين، وفي غضونِ جيلٍ واحد سيصبح شعبه منعدم الهوية مثل بقية أهل داريا التابعين لأرض الأغراب. كما كان يتسم قادةُ الأغراب بأنهم بارعون للغاية في الإدارة، من خلال المثابرة الشديدة. فهم يتمسَّكون جيدًا بما يقع في أيديهم. فلن يحدث تمردٌ على الإطلاق يمكن أن يراه كورلاث أثناء حياته.
لم يكن من الجيد أن يأمُل في انتصار جيش الشمال.
إن فرسانه كانوا يعلمون معظم هذا، حتى لو لم يرَوه بالوضوح الشديد الذي اضطرَّ كورلاث إلى أن يراه به؛ ومثل ذلك خلفيةٌ مناسبة للأوامر التي كان سيُصدرها كورلاث الآن. لم يكن فرسان الملك يميلون إلى الجدال مع ملكهم؛ لكن كورلاث كان رجلًا لا يُفضل التعاملَ الرسمي، إلا في بعض الأحيان عندما يصبح تحت تأثير هبته ولا يستطيع الاستماع جيدًا إلى أي شيء آخر، وعادةً ما يشجع على التشاور. ولكن عصر ذلك اليوم، كان الفرسان يلتزمون الصمت، وعندما وصل كورلاث إلى نهاية ما توجب عليه قوله، توقَّف ببساطة عن الكلام.
لم يكن تفاجؤ كورلاث أقلَّ من تفاجؤ رجاله عندما سمع نفسه يقول: «هناك أمر أخير. سأعود إلى بلدة الأغراب. الفتاة … الفتاة ذاتُ الشعر الأصفر. ستأتي معنا.»