الفصل الخامس
ترجَّل كورلاث عن صهوةِ حِصانه في الحال، وصاح مُصدِرًا أوامرَ جعلَت الأشخاص الذين يرتدون أرديةً طويلة يُهرولون في جميع الاتجاهات. جلسَت هاري بمفردها على الحصان الكبير ذي اللون البنيِّ المائل إلى الحُمرة، الذي وقَف ساكنًا تمامًا، ورأت عيناها المرهَقتان والمرتبكتان عشَراتِ الخيام ومئات الأشخاص. وتقدَّم الرجال من مداخل الخيام وخرَجوا من الظلال؛ لِيَنحنوا لملكهم — تساءلت هاري في نفسها: هل لكي يُهنئوه على نجاحِ مُغامرته؟ هل كانت ناجحة؟ أُرسل البعضُ في الحال لأداء مهامَّ، وتلاشى البعض مرةً أخرى في الظلام الذي خرَجوا منه. وترجَّل الرجلان اللذان كانا يُرافقان الملك أيضًا، ووقفا خلفه قليلًا وهو ينظر عبر مخيَّمِه. ولم تتحرَّك هاري. لم تُصدق تمامًا أنهم قد وصلوا — وإلى جانب ذلك، كانت تتساءل في نفسها: أين يقع هذا المكان الذي هم فيه؟ لم تشعر أنها قد وصلتْ — أو لم ترغب في ذلك. فكَّرت بحزنٍ في سَريرها البغيض بعيدًا في القصر، وفي آني المملَّة والسمينة والفضولية. تمنَّت لو كانت في البيت، وكانت متعبةً جدًّا لدرجة أنها لم تكن متأكدةً أين هو البيت.
عندما التفتَ كورلاث إليها، استفاقت بما يكفي لتنزلقَ من فوق صهوة الحصان المرتفعة قبل أن يُحاول مساعدتها؛ هذه المرةَ لم تنزلق على نحوٍ بارع، لكنها استدارت لمواجهة كتف الحصان، ووضعَت يدَيها على السرج إلى أن لمسَت قدماها الأرض. لقد كانت المسافةُ كبيرة. كانت متأكدةً أنها زادت منذ آخرِ مرةٍ ترجَّلَت فيها عن صهوته. وقف فايرهارت بصبرٍ مثل مهرِها الوديع وهي تتَّكئ عليه، وربتَت عليه دون تركيز، كما لو كانت تربت على مُهرها، فأدار أنفه ليلمس ساعدها. تنهَّدَت، وفكرتْ في جاك ديدام، الذي ما كان ليُمانع في أن يفقد ذراعًا من أجل امتطاءِ أحد خيول سكَّان التلال، ولو مرةً واحدة. ربما لم تكن ستُحتسَب إذا امتطيتُه بالمشاركة مع أحد فرسانهم.
كانت هاري تولي ظهرها تجاه فاران وإيناث بينما كانا يقتادان الخيولَ بعيدًا. قال فاران: «من الصعب أن أقول إنني قد استمتعتُ بهذه الرحلة الطويلة على صَهْوة حِصاني، في سنِّي هذه»، فقال إيناث ضاحكًا: «في الواقع، يا جَدِّي، كان يجب أن تُربَط في سرجِك بلحيتك الرمادية الطويلة.»
ابتسم فاران ابتسامةً عريضة، وكان جَدًّا لعديد من الأحفاد، لكنه كان لا يزال يتطلَّع إلى أن يظل فارسًا من فرسان الملك عدةَ سنواتٍ قادمة، وكان يحتفظ بلحيتِه القصيرة ذاتِ اللون الرمادي الداكن، وقال: «أجل، أتوق إلى سريرٍ من الريش، وفتاةٍ ممتلئة الجسم تُعجب بمحاربٍ عجوز من أجل ندباته وقصصه.» التفتَت عيناه، ونظر مباشرةً إلى هاري لأول مرة منذ أن حمَلها كورلاث — إذ كانت عبارةً عن كومةٍ رفيعة ملفوفة بقماشٍ أسود، محمولةٍ بهدوء بين ذراعَيه لدرجة أنه كان من الصعب تصديقُ أنها تحتوي على أي شيء بشري — إلى الظل حيث كان ينتظرُه رجلان وثلاثةُ خيول. لكن هاري كانت تنظر في ضيق إلى قدمَيها القذرتين ولم تلحظ نظرته نحوها.
قال فاران ببطء، بنبرةِ رجل أمين سيظل عادلًا مهما كان الثمن: «انظر إلى فتاة الأغراب هذه. لم أعرف أن الأغراب يُعلمون أبناءهم التحلِّيَ بمِثل هذه الكبرياء. لقد أبْدَت كثيرًا من الكبرياء في هذه الرحلة.»
فكَّر إيناث فيما قاله رفيقُه. إن إبداء الكبرياء لهو إشادةٌ كبيرة من جانب رجلٍ ينتمي إلى أرض التلال، ولكنه عندما فكَّر فيما حدث خلال اليومين الماضيَين، كان عليه أن يتَّفق معه. لكنه كان أصغرَ من زميله الفارس بجيل تقريبًا، وقد نظر إلى مغامرتهم بنحوٍ مختلف. وقال: «هل تعلم أنه كان أكثرَ ما يُقلقني أنها قد تبكي؟ أنا لا أستطيع تحمُّلَ امرأة تبكي.»
ضحك فاران بصوتٍ منخفض. وقال: «لو كنتُ أعرف ذلك، لنصحتُ ملكنا — بقوة — أن يختار فارسًا آخر. لا يعني ذلك أن الأمر كان سيُهمُّ كثيرًا، على ما أظن: كانت فقط ستجبر على الدخول في سُباتٍ عميق مرةً أخرى.» سحبَ غِطاءَ خيمةٍ جانبًا، واختفيا هما والخيول عن أنظار هاري. لقد تعرَّفت على المقصود بكلمة «الأغراب» التي يقولها سكان التلال، وتساءلت في إحباطٍ عمَّا كانا يقوله رفيقا كورلاث، اللذان تجاهَلاها على نحوٍ واضح خلال رحلتِهم معًا. وهزَّت أصابع قدمَيها المتَّسخة في الرمال.
نظرَت إلى الأمام ولاحظتْ أنها كانت تقف على بُعد بضعِ أقدام فقط من … ماذا يمكن للمرء أن يُسمي ذلك الجزءَ من الخيمة؟ كلمة «باب» كانت تعني ضِمنًا وجودَ مفصلات وإطار … حسنًا، واجهةِ أكبرِ خيمةٍ من بينِ كل الخيام. كانت بيضاء، مع قِطاعين عريضَين بلونٍ أسودَ عبر قمتها من اتجاهَين متعاكسين، يلتقيان ويتقاطعان عند المركز، ويمتدَّان إلى الأرض مثل شريطَين أسودَين. ورفعَت رايةً باللونين الأبيض والأسود من المركز المتقاطع، والذي يعدُّ أعلى نقطة في المخيم، حيث كانت الخيمة هي الكُبرى. قال كورلاث وهو يقف إلى جانبها مرةً أخرى: «ادخلي، هناك بالداخل مَن سيتولَّى رعايتَكِ. سوف أنضمُّ إليكِ بعد قليل.»
وبينما كانت تقترب، أزاح رجلٌ جانبًا ذلك المستطيلَ الحريريَّ الذهبي الذي كان يُستخدم بابًا للخيمة الكبيرة. وقد وقف مُنتصبًا مُبدِيًا قدرًا كبيرًا من التوقير كما لو كانت ضيفًا مرحَّبًا به، وربما ملكة في بلدها. أعجبها هذا، وانتابتها فكرةٌ شاردة أن ملك هيلز على ما يبدو كان يُهذب أتباعه على نحوٍ جيد، وابتسمَت له وهي تدخل، وشعرَت بالرضا من النظرة المندهشة التي عبَرَت وجهه عندما تمكَّنَت من جذبِ انتباهه. على الأقل هم ليسوا جميعًا غامضين، هكذا دار بخَلدِها. ربما كان سيبدو أحدُ أتباع ديدام هكذا.
كان من المريح أيضًا أنها نجحَت أخيرًا في جذبِ انتباه شخصٍ ما.
ما لم تكن تعرفه هو أن حارس الشرف عند الباب، الذي كان يقفُ منتصبًا لأنه كان حارسَ شرف، وما كان يمكنه سوى إبداءِ أكبر قدرٍ من الاحترام لأي شخص أنعمَ عليه الملكُ بدخول خيمة الملك، كان يقول لنفسه: إنها تمشي وتبتسم لي كما لو كانت سيدةً رفيعةَ المقام في بيتها، وليست أسيرةً … أسيرة … تلعثَم هنا، لأنه لا هو ولا أيُّ شخص آخر كان يعرف بالضبط سببَ جعلِها أسيرة، أو ضيفةً على عكسِ رغبتها، أو أيًّا ما كانت حقيقة وضعها هنا، عدا أن هذه هي إرادة الملك. وكان هذا بعد رحلةٍ جعلَت حتى فاران العجوز، الذي يتمتَّع بقوة وصلابة مثل الحديد، يبدو منهكًا بعضَ الشيء. كانت هذه قصةً سيرويها لأصدقائه خارجَ أوقات العمل.
نظرَت هاري إلى ما حولها داخل الخيمة في دهشة. إذا كان المخيَّم من الخارج يكتسي بألوانِ الأبيض والرمادي والبنيِّ المائل للرمادي، وتسوده الكآبة، لولا الرايةُ التي بالأبيض والأسود التي تُرفرف من خيمةِ الملك، مثل الرمل والشجيرات القصيرة حولها، ولا يُضْفي عليه بعضَ البريق سوى الأرديةِ والأوشحة التي يرتديها بعضُ الرجال، فإن هذه الخيمة من الداخل — كانت متأكدةً من أنها خيمةُ كورلاث — كانت تشعُّ بالألوان. كانت المنسوجات الجدارية مُعلَّقةً على الجدران، وبينها سلاسلُ ذهبيةٌ وفِضِّية، وكراتٌ وقضبان مزركَشة، وميداليات برَّاقة مطليَّة بالإينامل — التي بعضها كبير بما يكفي ليُعتبر درعًا. كانت البُسط السميكة الناعمة متراصَّةً على الأرض بواقع ثلاثة أو أربعة بعضها فوق بعض، وكان كلٌّ منها فخمًا بما يكفي كي يُبسَط تحت أحد العروش؛ وقد تناثرَت فوقها عشَراتُ الوسائد. كانت هناك صناديقُ منحوتة ومُطعمةٌ من الخشب الأحمر المعطَّر والخشب البُني الفاتح والخشب الأسود، وقد وُضِعت كُبْراها أمام الجدران. وعُلِّقت مصابيحُ على سلاسلَ قصيرةٍ تتدلى من الأضلاع الأربعة المنحوتة التي عبَرَت السقف الأبيض المرتفع لتلتقيَ عند القمة المركزية، التي تُرفرف الرايةُ فوقها في الخارج، ويمتدُّ تحتها عمودٌ مفصلي رفيع من الأرض إلى السقف. وتوجد أعمدةٌ مشابهة عند كل ركن من أركان الخيمة الأربعة، وأربعةٌ أخرى تُقوِّي الأضلاع في مراكزها، ومِن كل عمود كانت تمتد ذراعٌ قصيرة يوجد في طرَفِها المنحوتِ المقعَّرِ مصباحٌ آخر. كانت جميعُها مضاءة، مما غمَر الخيمة المليئة بالأشياء المتنوعة في اللون والشكل والملمس بوهجٍ ذهبي ليس مُستمَدًّا بأيِّ نحوٍ من ضوء الصباح الذي يزداد سطوعًا ببطء في الخارج.
كانت تُحدق في قمة السقف وتشعر بالإعجاب بالهيكل السلس للخيمة — إذ إن معرفتها بالخيام كانت مُستمَدَّةً فقط من القصص الخاصة بجيش هوملاند، التي تضمَّنَت الحبال وقماشَ القِنَّب وكثيرًا من الشتائم والتسريبات عند هطول الأمطار — عندما أعادها ضجيجٌ طفيف خلفها مرةً أخرى إلى إدراكها بوجودها في مخيمٍ تابع لسكان التلال. استدارَت بعصبية، لكن ليس بعصبيةٍ شديدة كما كانت من المفترض أن تكون؛ لأنه كان هناك كرمٌ — وحسنًا، إنسانية، ربما، إذا حاولت التفكيرَ في كلمةٍ مناسبة — وراءَ توفير تلك الغرفة الكبيرة ذاتِ الجدران البيضاء التي جعَلتْها تشعر بالراحة، رغم علمها أنها ما كان عليها أن تشعر بهذا.
دخل إلى الخيمة أربعةُ رجال يرتدون أرديةً بيضاء. أحضروا معهم حوضًا فِضيًّا ضخمًا، حاملين إياه من المقابض الموجودة حول حافَته، وكان بحجمٍ يتَّسع كي يستحمَّ فيه المرء، هكذا قالت لنفسها. وقد كان ذا قاعدةٍ عريضة وجوانبَ تلمع بخِفة. وقد شُكِّل المعدنُ على نحوٍ ما، لكن تراقُص ضوءِ المصابيح فوق الأنماط منَعها من تحديد شكل التصميم.
وضع الرجال الحوض الكبير عند أحد أطراف الخيمة، واستداروا للمغادرة، واحدًا تِلو الآخَر؛ وانحنى كلٌّ منهم، بينما كان يمرُّ بجوارها وهي تقف في توجُّس بالقرب من المنتصف، تحيةً لها. شعرَت بعدم الارتياح بسبب المجاملة، واضطُرَّت إلى منع نفسها من اتخاذ خطوة أو خطوتين إلى الوراء. وقفَت وذراعاها بجوار جانبَيها، لكنَّ يدَيها، غيرَ المرئيتَين في الكُمَّين الطويلين لروبها الذي تعرَّض للتلف، انغلقتا ببطء وتحوَّلتا إلى قبضتين.
وبينما كان الرجال الأربعة يمرُّون أمامها في طريقهم للخروج، دخَل آخَرون عديدون، ومعهم جِرارٌ من الفِضة على أكتافهم، وعندما أفرَغ ما بها الناقلون في حوض الاستحمام الفضِّي — لا بد أنه كان كذلك — اكتشفَت أنها كانت تمتلئ بالماء الساخن الذي يتصاعد منه البخار. لم تنسكب أيُّ قطرة خارج الحوض، وانحنى كلُّ رجل لتحيَّتها بينما كان يُغادر. وتساءلتْ عن عددِ هؤلاء الذين قاموا بحملِ الماء؛ إذ لم يكن هناك قَط أكثرُ من عددٍ قليل منهم في الخيمة في كلِّ مرة، ولكن بمجرد أن تُفرغ إحدى الجِرار، كان يتقدَّم رجلٌ آخر من الخلف ليفرغ أخرى.
لم يستغرق الأمر سوى بضعِ دقائق هادئة، كان الصوت الوحيد خلالها هو ذلك الذي يصدر عن الماء المصبوب في الحوض، حتى يمتلئ، وتوقف تدفُّق الخدم كذلك. أصبحَت بمفردها للحظة، وأخذت تُشاهد سطح الماء يتلألأ بينما تتوقَّف التموُّجات الأخيرة؛ ورأت أنَّ جانبًا من التصميم الخاصِّ بالحوض كان ببساطةٍ مجردَ مفصلات، فضحكَت. فقد كان هذا مُخيمًا متنقلًا، في نهاية المطاف. ثم دخل أربعةُ رجال معًا ووقَفوا في صفٍّ — مثل رعاة الخيول، هكذا ظنَّت، لكن مع وجود حيوانٍ طبعُه غير معروف هذه المرةَ — ونظروا إليها؛ فنظرَت إليهم. كانت تظن أن هؤلاء هم الأربعةُ الذين جلبوا الحوضَ في البداية، لكنها لم تكن متأكِّدة. ما لاحظتْه كان شيئًا آخَر، شيئًا لم تُلاحظه تمامًا بينما كان الطابور المتثاقل المنتظم من الرجال والجِرار يخرج، وهو أن كلًّا من هؤلاء الرجال كانت لديه علامةٌ بيضاء صغيرة تُشبه الندبة على جبهته، في وسط منطقة الحاجب فوق العينين.
تساءلت في نفسها عن هذا، ثم تساءلت عمَّا يُشبه المناشف التي قد وُضعت على أكتافِ ثلاثة من الرجال، ثم اقترب منها الرجلُ الرابع، وبحركةٍ سريعة ومهذَّبة، وغير مهدِّدة إلى حدٍّ ما، أزاح العباءة الخاصة بسكَّان التلال التي كانت ترتديها عن كتفَيها، ولفَّها على ذراعه قبل أن يَصدر منها أيُّ ردِّ فعل جراءَ هذا. عندئذٍ استدارت بسرعة ثم تراجعَت خطوة، وكانت شبهَ متيقنة من أن النظرة على وجه هذا الرجل كانت تدل على تفاجُئه. فوضع العباءة برفقٍ شديد على صندوقٍ خشبي، وأشار نحو الحوض.
كانت ممتنةً لأنه على الأقل لم ينحنِ لها مرةً أخرى؛ إذ إنَّ هذا ربما ما كان سيجعلها تقفز مثل أرنب مذهول. لم يكن الأمر، حسبما ظنت، أن الإيماءة كانت تحمل أيَّ إجبارٍ غيرِ سار. لكنها بدَت كإشارة إلى أنها تسيطر على الموقف بطريقةٍ ما — أو من المفترض أن تكون كذلك. لذلك كان الافتقار إلى الإجبار مزعجًا؛ لأن هؤلاء الرجال كانوا قادرين تمامًا على ملاحظةِ أنها لم تكن تشعر مطلقًا كما لو كانت تُسيطر على الموقف.
نظَر بعضهم إلى بعض لحظةً. فقالت لنفسها عندئذٍ وهي غيرُ مصدقةٍ للموقف: هم بالتأكيد لا يتوقَّعون أن يساعدوني في الاغتسال، ولاحظتْ من جانبَي عينَيها أن الرجال الثلاثةَ الآخرين كانوا يقفون خلف الحوض الآن، وعند بسطِ إحدى المناشف اكتشفَت أنها روب، بحبلٍ ذهبي مجدول عند الخصر.
مدَّ الرجل الذي يقف أمامها مباشرة، والذي نزع عنها عباءتها، يدَيه ووضعَهما على حزامِ روبها، وفجأةً اعتراها شعورٌ بالغضب. حمل اليومان الأخيران لها إهانةً تلو الأخرى، رغم حدوثها على نحوٍ مهذَّب، وللحفاظ على ما يمكنها من احترام الذات — ومن الشجاعة — فضَّلَت عدم التفكير فيهما بنحوٍ متعمِّق. لكن ألا يُسمح لها حتى بالاستحمام بدون حارس — وأن يُتوقَّع منها الخضوعُ بهدوء للمساعدة من أربعة رجال … رجال … مثل … مثل … اختار خيَّالها أن يخذلَها هنا، بعيدًا عن البيت، مع رعب المجهول والأَسْر، فقط مجرد محتجَزة على بُعد. أزاحت أصابعَ الرجل المهذبة بأكبرِ قدر ممكن من العنف، وقالت بغضب: «كلا! شكرًا لك، ولكن كلا.» ثم قالت في نفسها: يا إلهي، هناك ما يكفي منهم، كي يُجبروني على الوقوف على رأسي لو أرادوا. لكنني لن أتعاونَ معهم.
رفع شخصٌ باب الخيمة الحريريَّ الذهبي عند سماع صوتها، وظهر ظلٌّ جديد على ضوء المصابيح. حيث دخل كورلاث، الذي كان يحوم في الخارج ليرى كيف ستتصرَّف أسيرته التي تنتمي للأغراب، إلى الخيمة. وقال كلمتين أو ثلاثًا، فغادر الرجالُ في الحال، وانحنى كلُّ واحد منهم لها أولًا ثم لِمَلكِهم. لاحظ جزءٌ من عقل هاري، الذي رفض أن تُرهبه فظاعةُ الموقف، أنَّ الانحناءات كانت متساويةً في العمق والمدة، وكانت لدى الجزء العقلي نفسِه الجسارةُ للاعتقاد بأن هذا أمرٌ غريب.
ساد صمتٌ قصير آخر بعد مغادرة الرجال الأربعة، ولكن هذه المرة كان الملك هو مَن تُواجهه. لكنها كانت غاضبةً على نحوٍ جعلها لا تكترثُ بذلك. إذا قالت أيَّ شيء كانت ستقول الكثير، لكنها لم تنسَ تمامًا أنها تحت رحمةِ غرباء، لذلك كبَتَت غضبها وأخذت تُحدق في سخط. لماذا كان يحدث كلُّ هذا؟ لاحظ الجزءُ من عقلها الذي علَّق على تَساوي الانحناءات حاليًّا أن الغضب أفضلُ من الخوف؛ لذلك قرَّر تشجيعَ الغضب على الاستمرار.
من الواضح أن كورلاث كان قد استحمَّ بالفعل؛ فشعرُه الأسود مبلَّل، وحتى بشرتُه المسمرَّة بسبب التعرُّض للشمس أصبحَت أفتح ببضع درجات. كان يرتدي رداءً طويلًا ذهبيَّ اللون، مطرزًا بخياطةٍ أنيقة، ومفتوحًا من الأمام ليُظهر ثوبًا فضفاضًا كريميَّ اللون يصل تقريبًا حتى قدمَيه اللتَين ترتديان صندلًا. في بلدها كانت ستُسميه قميصَ نوم تحت نوعٍ غريب من الأرواب — على الرغم من عدم ارتداءِ أحدٍ من قبلُ لوشاح خصر قرمزي فوق قميص النوم — لكنه بدا رسميًّا للغاية هنا. كان عليها ألا تنسى أن تُحدق في سخط، وإلا فقد تشعر بالرهبة. وبعد ذلك، حتمًا، بالخوف.
أدركَت ميزة صمتِه عندما تحدَّث أخيرًا؛ إذ انتابها الشعور نفسُه الذي شعرَت به عندما تحدَّثَت إليه لأول مرة، في المخيَّم الصغير في رحاب أحد الكثبان الرملية، بأنه كان يختار ويُرتب كلماته بعناية فائقة.
قال: «ألا ترغبين في الاستحمام إذَن؟ لقد كانت رحلتُنا طويلة.» كان يقول لنفسه: إذَن لقد تسبَّبتُ في شعورها بالإهانة سريعًا. إن الأمر يجري بنحوٍ مختلف في المكان الذي أتت منه، وهي لا تستطيع أن تعرف ولا بد أنها غيرُ قادرةٍ على التخمين — ولكن كيف يمكنها أن تُخمن؟ — أنه في أرض التلال يحظى الرجالُ والنساء ذَوو المقام الرفيع فقط برعايةِ الخدم من كِلا الجنسَين. كنتُ أخشى … ولكن ما الفائدة؟ نحن لا يعرف بعضنا شيئًا عن عادات بعض، وخدمي من الرجال لم يفعلوا سِوى ما ينبغي عليهم فعلُه؛ لقد عامَلوا أسيرةَ الملك التي هي من الأغراب بأكبرِ قدر من الاحترام.
هاري بدورها هدَأَت قليلًا بعد سماعها كلمةَ «رحلتنا». لقد كانت وُديةً أكثرَ من كلمة «رحلتك» العدائيةِ التي كانت تتوقَّعها. لكن لم تهدأ بالقدر الكافي الذي يمنعها من أن تقول ببرود: «أنا معتادةٌ على الاستحمام بمفردي.»
قال في نفسه: أه. أجل. لا أظن أنني يجب أن أشغَل نفسي بتقديم تفسيراتٍ معقَّدة في هذه المرحلة، أليس كذلك؟ إنها لا تبدو في مِزاجٍ جيد لسماعها. ثم قال لها: «إن هؤلاء هم خدمي. كانوا يرغبون في … مساعدتك.»
نظرَت بعيدًا وشعرت أن غضبها بدأ ينحسر؛ ولذلك، كانت غيرَ مستعدة عندما خطا خطوةً مفاجئة إلى الأمام بينما هي تخفض عينيها. أمسك بذقنها وأجبرها على رفعِها، ووجَّه وجهها نحو النور وحدَّق لأسفل فيها وبدا وكأنه مندهش. ومن ثَم أحسَّت على نحوٍ مفاجئ بعودتها إلى الحالة التي تُجبَر خلالها على التحرُّك في هذا الاتجاه أو ذاك، وَفْق إرادة شخصٍ آخَر؛ مما جعل غضبَها يتصاعد مرةً أخرى في الحال، ووجَّهَت عينَيها اللامعتين نحوه دون أيِّ أثر للخوف.
كان يُحدق في تلك العينين، بينما يتراقصُ الضوء بالكامل فيهما، ويقول لنفسه: هذا هو السبب. أنا لا أفهمه، لكن لا بد أن هذا هو السبب … الخطوة الأولى لمعرفة السبب. كان قد ألقى مجردَ نظرةٍ خاطفة، وساورَه شك، عندما أبعدَت وجهها، بالطريقة التي سقط بها الضوء، وقد مدَّ يده نحوها قبل أن يُفكر. كانت عيناها، عندما نظر إليها، تتلألآن باللون الأخضر المائل للرمادي مع فقاعاتٍ من اللون الكهرماني التي تومض مثل البرق في الأعماق، وتطفو كي تتكسَّرَ مثل النجوم على السطح: عينان لا قرارَ لهما بحيث إن أيَّ رجل أو حيوان لديه من الحماقة ما يكفي للنظر إليهما طويلًا سيَهْوي داخلهما ويغرق. كان يعلم — فهو من القلائل الذين ما كان للخوف أن يعرف طريقَه إلى قلوبهم — أنها لم تكن تعلم. وقد واجهَت هي عينيه بوضوح للغاية: لم يبدُ في عينيها سوى غضبٍ بسيط وصريح — ولم يستطع لومَها على ذلك. تساءل عمَّا إذا كانت قد تعلمَت عن طريق الصدفة ألا تُركز غضبها، أو ما إذا كان الأشخاص الذين كرهتهم لديهم عادةُ السقوط أسفل السلالم أو الاختناق من عظام السمك — أو إذا لم تكن قد كرهت قَط. إن المرء عمومًا لا ينظر في المرآة عندما يُصبح غاضبًا؛ إذ إن لديه أشياءَ أفضلَ ليفعلها، مثل السير ذَهابًا وإيابًا في مكانه، أو رمي الأشياء. ربما لم يلحظ أحدٌ ذلك من قبل، أو كان في وضع يسمح له بالملاحظة. وجاءت الفكرة إليه بنحوٍ غامض، دون سببٍ معين، أنها لا يمكن أن تكون قد وقعَت من قبلُ في الحب. فلو أنها قد سلَّطَت من قبلُ نظراتِ عينيها التي تلمع بفعل قدرة الكيلار بكامل شدتها على أي إنسانٍ عادي، لَتعرَّض كِلاهما لصدمة، ولَما عاد باستطاعتها أن تحتفظ قَط بالبراءة كي تُواجه بها عينَي أيِّ إنسان مثلما تُواجه عينيه الآن.
أبعد يدَه عن ذقنها والتفَت مبتعدًا. وبدا عليه الخجلُ قليلًا، حسبما ظنَّت، وقال: «أستميحكِ عذرًا»، وبدا صادقًا في اعتذاره. لكنه بدا مُراعيًا لمشاعرها أكثرَ من أي شيء آخر، وأدركَت على نحوٍ سبَّب لها مفاجأةً أنه شعر بالارتياح، كما لو كان قد اتخَذ — أو اتُّخِذ له — قرارًا مهمًّا. قالت لنفسها: هل هناك مشكلةٌ في وجهي؟ هل تحوَّل أنفي إلى اللون الأخضر؟ إنه لطالما كان معقوفًا، لكنه لم يدهش أبدًا أيَّ شخص من قبل.
لم يُقدم لها أيَّ تفسير لتصرفه، ولكن بعد صمته لحظةً قال: «سوف تستحمِّين بمفردك، مثلما ترغبين»، ونظر نحوها مرةً أخرى كما لو كان يتأكد من أنها حقيقيَّة، ثم ترَكها بمفردها.
لفَّت ذراعيها حول جسدها وارتجفَت، ثم قالت لنفسها: حسنًا، أنا بالفعل أحتاج إلى الاستحمام، والمياه بدأت تبرد، لكن كم من الوقت يُتوقَّع أن يستغرق الاستحمامُ قبل أن يأتيَ شخصٌ آخر مُهرولًا إلى داخل الخيمة؟
أتمَّت استحمامها في أسرعِ وقت استغرقَته طَوال حياتها، وكانت بشرتُها حمراء بشدةٍ بسبب فركها لها، لكن نظيفة تمامًا عندما خرجَت على نحوٍ مسرع من الحوض مرةً أخرى، وجفَّفَت جسدها، وتدثرَت في الروب الأبيض الذي تُرك من أجلها. وصل الكُمَّان إلى مرفقَيها، والحاشية إلى كاحليها تقريبًا. كان هناك سروالٌ طويل فضفاض كي ترتديَه تحته، ولكن كان سميكًا لدرجة أنه يبدو كتنُّورة تقريبًا، وقد كان يتموَّج ويلتصق بجسدها أثناء تحركها. كان كلُّ ما ارتدَتْه من ملابس مصنوعًا من خامةٍ غيرِ شفافة، ولكن عندما ربطَت الحبل الذهبي اللون حول وسطها، كانت لا تزال تشعر على نحوٍ محرج بأنها لا ترتدي ملابس؛ فزيُّ نساء هوملاند كان يتضمن مزيدًا من الطبقات. نظرَت إلى الروب المتَّسخ الذي كانت ترتديه، لكنها تردَّدَت في أن تُعيد ارتداءه مرةً أخرى، وظلت مترددةً في هذا الأمر بينما كانت تُجفف شعرها بالمنشفة الثانية وتحاول فكَّ تشابُكه بأصابعها، عندما عاد كورلاث، وهو يحمل رداءً باللون الأحمر الداكن يُشبه إلى حدٍّ كبير رِداءه ذا اللون الذهبي — كما أحضر معه مشطًا. كان مقبضُ المشط عريضًا وغيرَ ملائم لحجم يدها، ولكن أسنانه كانت بالحجم المألوف، وهذا هو كلُّ ما كان يُهم في الأمر.
وبينما كانت تعتني بشعرها المبلَّل، فُرِّغ نصفُ الحوض مثلما مُلئ، وحُمل باقي الماء وهو لا يزال في الحوض الفِضي. حمله الرجالُ الأربعة من مَقابضه بسلاسة، ولم يتعرَّض الماءُ للسكب على الإطلاق عبر الجانبين. بعد ذلك ساد الصمت، ثم جاء أحدُ الخدم — أو هذا ما ظنَّت أن علامة الجبهة كانت تُشير إليه — حاملًا مرآةً في إطارٍ جلدي وجثا أمامها على رُكبة واحدة، وأسند المِرآة على الركبة الأخرى، وأخذ يضبط وضعها بحيث تتمكَّن من رؤية وجهها فيها. فنظرت لأسفل، وهي مندهشة، ووجدت أن الرجل يوجِّه بصره نحو الأرض. هل حصل جميعُ الخدم في أرض التلال على دروس في ضبط وضع المرايا عند الزاوية الصحيحة، بالنسبة إلى ارتفاعِ الشخص الذي سيستخدمها ووضعيَّته؟ ربما كانت هذه مهارةً خاصة، يمتلكها فقط القليلُ منهم، وكان سيُحتفظ بهؤلاء الأشخاص، بالطبع، من أجل خدمة الأسرة الملَكية. فرقَت شعرها بجدية وألقته إلى الخلف على كتفَيها، حيث سقط بقوة متجاوزًا الورِكَين. كان اللون الأحمر الداكن لردائها جميلًا للغاية، والظلال التي يُلقيها مخمليةً مثل بتلات الورد. قالت بلُغةِ سكان التلال: «شكرًا لك»، آملةً أن تكون قد تذكَّرَت العبارة على النحو الصحيح، فوقف الرجل، وانحنى مرةً أخرى، وانصرف.
وفي هذه الأثناء، كانت تُنصَب مائدةٌ طويلة تحت قمة الخيمة، بجانب العمود المركزي. وكانت تتكوَّن من العديد من الأقسام المربَّعة — مع ساق في كل ركن من كل مربَّع — الموضوعِ بعضها بجوار بعض في صفٍّ واحد طويل، تساءلتْ كيف تمكَّنوا من نصبِها على نحوٍ مستوٍ فوق الطبقات الغريبة من السجاد. كان كورلاث يسير ذهابًا وإيابًا عند طرَف الخيمة المقابل لها، وقد أحنى رأسه وعقَد يديه خلفه. رُتِّبت الأطباقُ على المائدة — حيث وُضع، حسبما كان يرى، طبقٌ أمام كل مكان للجلوس، وواحدة من الملاعق المسطَّحة الغريبة، ووِعاءان مختلفا الحجم، وقدحٌ طويل. كانت المائدة منخفضة جدًّا، ولم يكن هناك مقاعد، وجُمع بعضٌ من الوسائد المنتشرة في جميع أنحاء الخيمة وكُوِّمت حولها. ثم أُحضِرَت أوعيةٌ كبيرة من الخبز والفواكه والجُبن؛ حسبما ظنت، وخُفض ارتفاعُ المصباح المتدلِّي من الضلع الخشبي فوق المائدة حتى أصبح على بُعد بضعِ أقدامٍ فقط من الطعام الوفير. كان فقط فوق مستوى عينَيها بقليلٍ بينما كانت تقف تُراقب. وقد كانت المصابيح المتدليةُ من عوارض السقف معلقةً على سلاسلَ رقيقة، متصلة بحبالٍ رفيعة مربوطة حول صف، مما كان يُشبه إلى حدٍّ كبير أوتادَ الربط في سفينةٍ تصطف أمام جدارٍ واحد.
توقَّف كورلاث عن التحرُّك، وتبعَت عيناه خفْضَ المصباح، لكن التعبير المرتسم على وجهِه أوحى بأن أفكاره كانت في مكانٍ آخَر. راقبَته هاري من طرْفٍ خفي، وكانت على استعداد للنظر بعيدًا إذا تذكَّرَها ونظر نحوها، وعندما ثُبِّت المصباح في موقعه الجديد، رأته يستعيدُ تركيزه على نحوٍ مفاجئ. فمشى بضع خطوات إلى الأمام للوقوف عند أحدِ طرَفَي المائدة الطويلة، ثم تلفَّتَ حوله باحثًا عنها. لم تكن في وضعٍ جيد للحكم على مثلِ هذه الأشياء، لكنها شعرت أنه تذكر وجودَها بشيء من الجهد، مثلما يتذكر الرجلُ مهمةً غير سارة. سمحت له بأن تلتقيَ عيناه بعينيها، فأومأ لها كي تتخذَ مكانَ جلوسها عن يساره. في تلك اللحظة، رُفع الباب الحريري الذهبي اللون مرةً أخرى، ودخلَت مجموعةٌ أخرى من الرجال.
استطاعت تمييزَ اثنين منهم؛ فقد كانا الرجليَن اللذين ذهبا مع كورلاث للمساعدة في … خطفِها. لقد فوجئت قليلًا بأنها استطاعَت تمييزهما بسهولةٍ شديدة؛ لأن ما شاهدته في الغالب منهما كان رأسيهما من الخلف عندما كانا يشيحان بوجهَيهما، أو قمَّتَي رأسَيهما أو غطاءَي رأسَيهما عندما كانا يُحدقان نحو الأرض. لكنها ميزَت شخصيهما بالفعل، ولم تشعر بأيِّ خوف من التحديق في وجهيهما بالكامل الآن؛ لأنهما لم يُظهِرا ميلًا أكثرَ من أي وقت مضى إلى النظر إليها.
كان هناك ثمانيةَ عشر رجلًا في المجمَل، بالإضافة إلى كورلاث وإليها؛ وكانت متأكدةً من قدرتها على تمييزهم كمجموعة، ينتمي أفرادُها بعضُهم إلى بعض ويرتبطون معًا بروابطَ قويةٍ مثل الدم أو الصداقة، حتى لو رأتهم متفرِّقين وسط حشدٍ من عدة مئات. كان لديهم وعيٌ متكاملٌ بعضهم ببعض، كما لو كان غريزيًّا. كانت تعرف شيئًا عن آليَّة هذا النوع من الصداقة الوثيقة من خلال مراقبةِ ديدام وبعضِ رجاله، ولكن هنا، مع هذه المجموعة من الغرباء، كان يمكنها قراءتُها بسهولة كما لو كانت طُبِعَت على صفحةٍ أمامها، وقد جعَل صمتُهم — حيث لم يهتمَّ أيٌّ منهم بإلقاء أيِّ نوع من التحية التي اعتادت عليها هاري، مثل مَرحبًا وكيف حالك، ولكن بلغةِ أرض التلال — الأمرَ أكثرَ وضوحًا أمامها. وبدلًا من أن تشعر بأن وحدتهم مخيفة، وأنها وحيدة ومنبوذة تمامًا وسطهم، وجدَت أنه من المريح أن وجودها ما كان ليُزعجهم إلا ربما على نحوٍ بسيط. وبدا أن هذا الوعيَ الغريزي قد شملها أيضًا، وتقبَّلها؛ فهي غريبةٌ عنهم، وواحدةٌ من الأغراب، وامرأة، ومع ذلك فهي موجودة هنا، وكان هذا هو كلَّ شيء.
جلسَت عندما جلس الجميع، وبينما كانت تُمرر الأوعيةَ والأطباق، وجدَت أن وعاءها وطبقَها قد مُلئا وأُعيدا إليها دون أن تُضطرَّ إلى فعل أي شيء سوى قَبولِ ما قُدِّم إليها. ثم أُخرجت السكاكين، من أعلى الأكمام وتحت الأوشحة وأسفلَ قمم الأحذية، وأخرج كورلاث سكينًا إضافيًّا من مكانٍ ما وقدَّمه لها. تحسَّسَت حدَّ السكين على نحوٍ حريص بإصبعٍ واحدة، ووجدته حادًّا للغاية؛ وسعدَت على نحوٍ طفيف لأنه قد سُمح للأسيرة أن تستعمل أداةً حادَّة للغاية كهذه. قالت في نفسها: لا شك أن سبب ذلك هو قدرةُ أيٍّ من هؤلاء الرجال على استخلاصه من يدي عند أولِ بادرةٍ على التمرُّد من جانبي، دون حتى أن يتوقف عن مضغِ طعامه. بدأت تُقشر ثمرةَ الفاكهة ذات القشرة الصفراء الموجودة في طبقها، مثلما كان يفعل الرجلُ الجالس في الجهة المقابلة لها. بدا الأمرُ كما لو أن سنواتٍ قد مرَّت منذ واجهَت السير تشارلز عبر مائدة الإفطار.
لم تلاحظ متى بدأت المحادثة؛ لقد شرَعوا فيها على نحوٍ سلس للغاية بحيث لم يكن هناك شيءٌ مفاجئ للغاية كبداية، وكانت هي مشغولةً بكيفية التمكن من تناول طعامها. وقد دلَّت نبرةُ أصواتِ هؤلاء الرجال أنهم كانوا يُقدمون تقاريرَ إلى ملكهم، وقد نوقشت فحوى التقارير باعتبارها أمرًا مهمًّا بين كلِّ من يجلسون على المائدة. لم تفهم أيَّ كلمة من ذلك؛ لأنها لم تستطع أن تستنتجَ من حديثهم المسترسِل بلُغتهم كلماتٍ مثل «أجل» و«كلا» و«من فضلك» و«جيد»، لكنها وجدَت أنها لغةٌ يسرُّ المرءَ أن يستمع إليها، تتضمن مجموعةً متنوعة من الأصوات والمقاطع التي ظنَّت أنها ستُناسب أي حالة مزاجية أو طريقة للتعبير.
بدأ ذهنُها يشرد بعد قليل من الوقت. فقد استنفدَت قُواها بعد الرحلة الطويلة، لكن توتُّر موقفها — لن أقول إنني مرعوبة تمامًا، هكذا قالت لنفسها — ساعدَ على نحوٍ جيد في أن يُبقِيَها يقظةً وواعية بصعوبة بكل ما كان يحدث حولها. وتساءلَت عمَّا إذا كان بإمكانها أن تستدلَّ عبر أيٍّ من هؤلاء الرجال بنظرة أو إيماءة نحوها إذا تطرَّقَت المحادثةُ إلى موضوعِ فتاة الأغراب الجالسة بينهم.
ولكن بعد الاستحمام، والملابس النظيفة، حتى وإن كانت غريبة، والطعام الجيد؛ لأن الطعام كان جيدًا للغاية، وحتى الصحبة؛ إذ بدا لها من تعاملاتهم وهي برفقتِهم أنهم يُبْدون لها التقدير، أصرَّ عقلها على الاسترخاء. لكن هذا الاسترخاء كانت له مميزاتٌ وعيوب في أحسنِ الأحوال؛ لأنه مع تراجُعِ التوتر ولو بقدرٍ بسيط، عادت أفكارُها بلا هوادة إلى محاولةِ كشف غموضِ سبب وجودها في هذا المكان.
قالت في نفسها: إنه أمرٌ له علاقة بذلك الاجتماع الفاشل في القصر، بين وفدِ سكان التِّلال وقادة الأغراب، على الأرجح. لكن لماذا؟ لماذا أنا؟ إذا كان من الممكن أن أُخطَف من سريري — أو مقعد نافذتي — فيُمكنهم إذَن خطفُ شخصٍ ما من سريرٍ آخَر — ويبدو أن السير تشارلز أكثرُ احتمالًا باعتباره شخصيةً سياسية. وهنا كبحَت ابتسامةً عريضة. وإن كان من المستبعَد للغاية أن يُوضع على سرج الحصان أمام الفارس الذي كان سيخطفه. لا بد أن هناك سببًا أفضلَ من ذلك المتعلِّق بالضخامة الجسدية قد جعَلهم يختطفونها بدلًا من … أي شخصٍ آخر كان بإمكانهم اختطافُه. لقد اختُطفت خِلسةً من منزلها، رغم الأبواب المغلَقة وكلاب الحراسة، ووجود السير تشارلز والليدي أميليا نائمَين في غرفتهما على بُعد خطواتٍ قليلة منها. بدا الأمر كما لو أنَّ بإمكان كورلاث — أو أتباعه — السَّيرَ عبر الجدران: وإذا أمكنهم السيرُ عبر جدران القصر وتفادي كلاب الحراسة، فمن المحتمل أنه يمكنهم السير عبر أيِّ جدران أخرى — على الأقل جدران هوملاندية — قد يختارونها. إنه أمرٌ خارق للطبيعة. لقد تذكَّرت أن ديدام، الذي تثقُ في صواب رأيه أكثرَ من أي شخصٍ آخر في القاعدة، والذي يعرف أكثرَ من أي شخص آخر من أهل هوملاند عن بلده التي يعيش فيها، يؤمن بأن بعض تكتيكات سكَّان التلال تتَّسم بأنها خارقة للطبيعة. وهذا ما أعادها إلى المربَّع الأول من هذه اللعبة: لماذا هي؟ لماذا هاري كرو، الإنسانة التي يستضيفها أهلُ القصر كحالةٍ تستحقُّ الإحسان، والتي جاءت لهذا البلد للمرة الأولى منذ بضعةِ أشهر فقط؟
كانت هناك إجابةٌ واحدة واضحة، لكنها تجاهلَتها بمجرد ظهورها. إذ كانت سخيفةً للغاية، وهي مقتنعة بأنه بغضِّ النظر عن النقائص التي قد يتَّسم كورلاث ورجاله بها، فإن الطيش ليس إحداها. وكورلاث لم ينظر إليها بالطريقة التي ينظر بها الرجلُ إلى امرأةٍ يُخطط لأن تُشاركه فراشَه، ولا بد أن اهتمامه كان قويًّا للغاية بالفعل كي يخوض مثل هذه المتاعب الجمَّة لخطفها. إنه ينظر إليها بدلًا من ذلك كرجلٍ ينظر إلى مشكلةٍ يُفضل كثيرًا ألَّا يتعرض لها. وهي تظنُّ أنه كان مفخرةً من نوعٍ ما أن تُعدَّ مصدرَ إزعاج لأحد الملوك.
كما أنها تجاهلَت بسرعة، وعلى نحوٍ شبهِ تلقائي، فكرةَ أن يخرج أهلُها الحاليُّون في حملة للعثور عليها، وجلبِها إلى البيت مرةً أخرى. إن سكان التلال كانوا على دراية بكل بُقعة في صحرائهم؛ على عكس أهل هوملاند. كما أن إقامتها في القصر كحالةٍ تستحقُّ الإحسان لا تضمن بذْلَ جهودٍ غير عادية. قالت لنفسها بتجهُّم: إذا خمَّن جاك أين أنا، فسيظنُّ أنني لست بحاجة إلى الإنقاذ … لكن ديك المسكين سيتمكَّن من إقناع نفسه بأن هذا خطؤه، فهو مَن جاء بي إلى هنا في المقام الأول. … ومن ثَم أخذت عيناها ترمشان على نحوٍ سريع، وعضَّت شفتَيها. وقد تنمَّلَت ساقاها اللتان كانتا تجلس عليهما مربَّعتَين، وآلَمها أسفل ظهرها. فقد كانت معتادةً على الجلوس على كراسي. بدأت بنحوٍ خفي في تدليك فخذيها بضربات من قبضتيها حتى بدأت تشعر بسرَيان الدم فيهما بنحوٍ مؤلم مرةً أخرى، ثم كرَّرَت الأمر على بطنَي الساقين. وبحلول الوقت الذي تمكَّنَت فيه من الإحساس بأصابع قدمَيها، انحسر الشعورُ المؤلم حول عينيها، وتمكنَت من التوقف عن الرمش بعينيها.
دخَل الخدم إلى الخيمة الملَكية مرةً أخرى، ورفعوا محتويات المائدة. واستُبدل بالخبز والفواكه أوعيةٌ بها شيءٌ داكن ولامعٌ قليلًا. وعندما قُدِّم إليها قليل منه، اكتشفَت أنه لزجٌ ومقرمش وحُلو للغاية، وبحلول الوقت الذي أكلَت فيه معظمَ ما قُدم لها بسخاء، وما تبقى التصقَ بوجهها وأصابعِها، لاحظَت أن وعاءً من الماء ومنديلَ مائدةٍ نظيفًا قد وُضعا بجوار مرفقِ كل شخص. ثم ساد هدوءٌ لحظيٌّ بينما كان يتنهَّد الجميع ويتمطَّى، وقال كورلاث بضعَ كلمات للخدم، غادر أحدُهم الخيمةَ على إثرها وظلَّ الثلاثة الآخَرون بالداخل للمرور على الجدران؛ لإطفاء المصابيح جميعِها باستثناء المصباح الذي عُلِّق منخفضًا على المائدة. لمعَت الجدران المنسوجة الثقيلة في ضوء النهار؛ لذا أصبح الداخل مُضاءً على نحوٍ شاحب، وأخذ يحترق المصباح فوق المائدة مثل شمسٍ صغيرة مُلقية أنصافَ ظلال في الأركان الهادئة من الجدران البيضاء المتوهجة وفي حدقات العيون. وساد الصمت في الخيمة.
ثم عاد الخادم، وهو يحمل كيسًا جلديًّا داكنَ اللون نُحاسيَّ الحواشي على شكلِ قرن شراب. وقد كان له شريطٌ يتدلَّى من عنقه وقاعدته، والذي وضَعه الخادم فوق كتفه. وقدَّمه أولًا لكورلاث، الذي أشار إلى الرجل الذي عن يمينه. فقدَّمه الخادمُ إليه بجدِّية، وانحنى للتحية، ثم غادر، ولم يكن هناك في الخيمة الآن سوى هؤلاء العِشرين الذين يجلسون حول المائدة.
شرب الرجلُ الأول رشفةً واحدة، ورأتْه وهو يتركها تنزلقُ ببطءٍ عبر حلقِه. ثم وازنَ الكيس على المائدة وحدَّق في المصباح المشتعِل. بعد لحظةٍ بدا على وجهه تعبيرٌ كان واضحًا للغاية لدرجة أن هاري شعرَت بأنه كان ينبغي عليها تمييزُه على الفور؛ لكنها لم تفعل. فصُدِمت بسبب قوته وبسبب فشلِها في قراءته، وبعد ذلك اختفى. نظر الرجلُ إلى أسفل، وابتسم، وهزَّ رأسه، وقال بضع كلمات، ومرَّر القرن للرجل الجالس عن يمينه.
أخذ كلُّ رجل رشفةً واحدة، وابتلعها ببطء، ثم حدَّق في المصباح. وتكلَّم بعضُهم، ولم يتكلم البعض الآخر. رجل واحد، ذو بشرة داكنة بسبب الشمس مثل لون القِرفة، عدا ندبةٍ شاحبة على فكِّه، تحدث لمدة دقيقة أو دقيقتين، فصدرَت كلمات تنمُّ على المفاجأة من العديد من مُستمِعيه. نظروا جميعًا إلى كورلاث، لكنه جلس صامتًا وغامضًا، وقد أسند ذقنه إلى يده؛ ومن ثَم انتقل قرن الشراب إلى الرجل التالي.
هناك رجلٌ واحد تذكَّرتْه هاري على وجه الخصوص؛ كان أقصرَ من معظم الموجودين، بينما كانت كتفاه عريضتَين للغاية ويداه كبيرتين. كان شعره رماديًّا وتعبير وجهه متجهمًا، وكان وجهه تنتشر فيه التجاعيدُ بشدة، ولكنها لم تستطع التخمينَ هل كان ذلك بسبب التقدُّم في السن أو الخبرة أو كِلَيهما. وقد جلس بالقرب من نهاية المائدة على الجانب المقابل لها. وقد شرب، وحدَّق في الضوء، ولم يتفوَّه بكلمة، ومرَّر القرن للرجل الذي عن يمينه. لقد أظهر كلُّ الآخرين، حتى أولئك الذين لم يقولوا شيئًا، تعبيرًا ما على وجوههم؛ تعبيرًا ظنَّت هاري أنه واضحٌ لأي شخص لديه أعينٌ ليرى ما وراءه، إحساس قوي، سواء كان متعلقًا بالبصر أو بالشعور — لم تستطع حتى تخمينَ هذا. لكن هذا الرجل ظلَّ بلا أي تعبير، جامدًا مثل الجلد والدم والعظام الموجودة في جسده. يمكن للمرء أن يرى عينَيه تتحرَّكان، وصدرَه يرتفع وهو يتنفس، لم يكن هناك أيُّ مؤشرات لمزيدٍ من التكهنات. تساءلَت ما اسمُه، وما إذا كان قد ابتسم من قبلُ من الأساس.
بينما كان الكيس الجلديُّ يدور حول نهاية المائدة ويظهر في الجانب الآخر، ولم يَعُد بإمكان هاري رؤيةُ وجوهِ شاربيه؛ أسقطَت عينيها على يديها، وهنَّأت نفسها على مدى هدوئهما، حيث كانت الأصابع مسترخية، ولم تُمسك بعضَها ببعض أو تفرك مفاصلَها حول كوبها. كان الكوب لا يزال نصفَ ممتلئ بسائل شاحب، حُلوِ المذاق مثل العسل بعض الشيء، لكن دُون (ظنَّت أنها تستطيع الآن أن تستنتج) مخاطرِ شراب الميد المُسكِر ذي المذاق اللطيف، الذي جعلها هذا الشرابُ تتذكَّره. حركَت إصبعًا واحدةً على نحوٍ تجريبي، ونقرَت به على الكوب، ثم حركَته إلى الخلف ثانية، وأعادت ترتيبَ يديها كسيِّدة تستعدُّ للحياكة، وانتظرَت.
لاحظَت وصول قرن الشراب إلى الرجل الذي عن يسارها، ولاحظَت الارتجافَ الطفيف الذي سرى فيه قبل أن يتكلم مباشرةً؛ لكنها أبقت عينيها إلى أسفل، وانتظرَت أن يمدَّ كورلاث يده متجاوزًا إياها ويأخذَ قرن الشراب الذي ينتظر مَن يتلقَّاه. فلم يكن هذا شيئًا من المتوقَّع أن ينضمَّ إليه أحد الأغراب — وهذا أمرٌ جيد. وأيًّا ما كان ذلك المشروب، فإن مشاهدة وجوهِ الرجال عندما كانوا يشربون جعلَتها تشعر بقليل من الرجفة.
ولذا فقد فوجئت كثيرًا عندما دخلَت إحدى يدَي كورلاث في نطاق رؤيتها، ولمسَت ظهر إحدى يدَيها بالسبَّابة. فرفعَت بصرها.
قال: «تناولي رشفة.» مدَّت يدها بصعوبة، وأخذَت الكيس النحاسي الحواشي من الرجل الذي كان يُمسكه، مبقيةً عينيها على الكيس نفسِه فقط. كان دافئًا بفعل كلِّ الأيدي التي أمسكَت به، وعن قربٍ أمكَنها رؤيةُ مدى تعقيد التركيبات النحاسية الملتوية. وقد فاحت منه رائحةٌ خفيفة، نفَّاذة بعضَ الشيء، ومشجعةٌ بنحوٍ غامض. فأخذت نفسًا عميقًا.
قال كورلاث: «فقط رشفة واحدة.»
منع وزنُ قرن الشراب يدَيها من الارتجاف. أرجحَت رأسها إلى الوراء وأخذت أصغرَ رشفة ممكنة؛ بضع قطرات فقط. وابتلعَتها. كان شرابًا غريبًا للغاية، من حيث قوةُ الطعم، لكنها لم تستطع معرفة اسمه؛ إذ لم تتذوَّق شرابًا مثله من قبل.
ومن ثَم رأت سهلًا واسعًا من الأرض، بألوانٍ خضراء وصفراء وبُنية، مع حشائشَ طويلة، وجبالٍ عند حافَته، تلقي بظلالٍ طويلة. برزَت الجبال على نحوٍ مفاجئ، مثل الأشجار، في مقابلِ تسطُّح السهل؛ وبدَت شديدةَ الانحدار والوعورة، ومع وجود الشمس خلفها، بدَت سوداء اللون تقريبًا. ورأت أمامها مباشرة فجوةً صغيرة في تلك الجبال، كانت أشبهَ بتوقفٍ قصير في مسيرة القمم الحادة للجبال، وقد كانت عاليةً فوق أرض السهل. وأعلى جانب الجبل، بالقرب من القمة، كانت تُرفرف رايةٌ برَّاقة.
ورأت فرسانًا، لم يكن عددهم يَزيد عن أربعين، يجرون بخيولهم بأسرعِ ما يمكن على المسار الصخري الوعر، وقد أخفضت الخيول رءوسَها وألقتها إلى الأمام، وهي تراقب أقدامها، وتتأرجح مع خطواتها، بينما الفرسان يبذلون قصارى جهدهم للتطلع إلى الأمام، كما لو كانوا يخشون الوصول بعد فوات الأوان. وخلف الفرسان كان يأتي المُشاة، وقد علَّقوا الأقواس فوق ظهورهم على نحوٍ مائل، يتقاطع مع كِنانات السهام؛ ربما كان عددهم خمسين، وقد كانوا يتبعون الخيول، بخطواتٍ مسرعة مثل خطواتها. وتسير بجانبهم أشياءُ برَّاقة طويلة ومتحركة ذاتُ لونٍ بُني، مرنة كالمياه، تنزلق من الضوء إلى الظل بسرعةٍ كبيرة بحيث لا يمكن تمييزها، وقد كانت ذات أربع أقدام، على ما يبدو؛ ربما كانت كلابًا. انعكس ضوء الشمس على مقابض السيوف، والروابط المعدنية للأحزمة وواقيات السواعد الجلدية، والدروع المتعددة الأشكال، والأوتار الفِضية اللون للأقواس.
كانت الجوانب البعيدة للجبال أقلَّ انحدارًا، ولكن ليست أقلَّ وعورة. وامتدَّت التلال السَّفحية المتكسِّرة إلى مسافةٍ طويلة، عبر الامتداد الضبابي، ونما قليل من العشب الجافِّ أو بعض الشجيرات المتقزمة هنا وهناك. إن الوصول أسفل الفجوة في الجبال عبر أي مسارٍ آخر غيرِ الوادي كان سيصبح مستحيلًا، على الأقل بالنسبة إلى الخيول. وكانت هذه الفجوة من النوع الذي يمكن لقوةٍ صغيرة ثابتة العزم أن تُدافع عنها، مدةً قصيرة.
تجمَّع الفرسان والرُّماة تحت الراية البراقة في المساحة المنبسطة الصغيرة خلف الفجوة، وأصبحوا مجموعةً واحدة. توجد هناك هضبةٌ صغيرة غير منبسطة، بها شقوقٌ ضحلة، واسعة بما يكفي للمعسكرات الصغيرة، وتؤدي إلى الممرَّات الصخرية على كِلا الجانبين، مع وجود رفٍّ طويل منخفض، متدلٍّ إلى جانب واحد، يُشكِّل ما يشبه الكهف. وتضيق الهضبةُ لتنتهي إلى شقٍّ يتسع بصعوبة لمرور اثنين من الفرسان على صهوةِ جوادَيهما جنبًا إلى جنب، حيث تتقارب قمم الجبال بعضُها من بعض للغاية، قبل أن تؤدِّي مباشرة إلى الوادي المغطَّى بالشجيرات، والمنحدرات النازلة الوعرة وراءه.
توقَّف الفرسان وترجَّل بعضهم، وتحرك البعض حتى وصل إلى الحافَة واستكشف المكان. كان يتلألأ شيءٌ ما عند الحافة البعيدة للتلال السفحية، وهو أكثرُ قتامةً من أن يكون عشبًا، وأكثرُ ارتفاعًا من أن يكون مياهًا. وعندما اندفع عبر تلك التلال، اتَّضحَت هُويته؛ إنه جيش. سار هذا الجيش ممتطيًا خيولَه بسرعةٍ أقل من الفرقة الصغيرة التي كانت تُرتِّب الآن نفسها داخل وحول الممر، لكن تعجُّلهم كان أقل. إذ إن أعدادهم الهائلة كانت هي كلَّ التكتيكات التي يحتاجون إليها.
لكن الجيش الصغير الذي كان ينتظرهم نظَّم نفسه بجدِّية كما لو كانت لديه فرصةٌ للنجاح فيما هو مُقبل عليه، وربما كان بعض التأخير من جانب الجيش الضخم الذي سيُواجهونه هو كلَّ ما كان يتطلبه الأمر. تلألأ الغبارُ وراء التلال، ولمع مع اقترابِ فرقةٍ وراء أخرى من الجبال …
ثم بدأ الوقت في التسارع بجنون، ورأت قائدَ الجيش الصغير يهبط إلى الوادي وبعضُ جنوده خلفه، وقد استلَّ سيفًا يومض باللون الأزرق في يده. كان يمتطي صهوةَ حصان مرتفع ذي لونٍ كستنائي، برَّاق مثل ضوء النهار، واكتسح جنودُه التلَّ خلفه. لم تستطع رؤيةَ الرماة، لكنها رأت وابلًا من السهام ينهمرُ مثل المطر من الأشجار المنخفضة على جانبَي الفجوة. قفزت الفرقة الأولى من الجيش الآخر تجاههم بحماسة، وواجه رجلٌ يمتطي صهوة حصان أبيض مرتفع مثل الحصان ذي اللون الكستنائي — كانت شرائطُ حمراء معقودةً في ذيله الطويل — صاحبَ السيف الأزرق بسيف يتلألأ بلون الذهب …
ثم وجدَت هاري نفسها مرةً أخرى داخل الخيمة، وقد بحَّ صوتها كما لو كان من الصراخ، وقد كانت واقفةً على قدمَيها، بينما تُمسكها قبضتان قويتان من كتفَيها، وأدركَت أنها بدون دعمِهما كانت ستقع على ركبتَيها. لم يزَل وهج السيوف الشديدُ في عينيها. فرمشَت بعينيها وهزَّت رأسها، وأدركَت أنها كانت تُحدق في المصباح؛ لذا أدارت رأسها ونظرَت نحو كورلاث، الذي ينظر نحوها وقد ارتسَم على وجهه — لاحظَت هذا مصدومةً — تعبيرٌ مثل الشفقة. لم تستطع أن تفكر في شيء لتقوله، فهزَّت رأسها مرةً أخرى، كما لو كان لتطرد منه كلَّ ما رأته للتو؛ لكنه ظل حيث كان.
ساد الصمت، لحظةً، أو ربما مدةً طويلة. أخذَت نفَسًا مرة أو مرتين، شعرَت بأن الهواء قاسٍ على نحوٍ غيرِ طبيعي في حلقها الجاف. وبدأت تشعر أن كومة البُسط تضغط على قدمَيها، وخفَّفَت يدا كورلاث من قبضتيها على كتفيها. ووقفا، الملكُ وأسيرته، يواجه كلٌّ منهما الآخَر، ونظر نحوهما جميع الرجال على المائدة.
قال كورلاث في النهاية: «أنا آسف. لم أظنَّ أن تأثيره عليكِ سيكون بهذه القوة.»
بلعَت ريقها ببعض الصعوبة، فوجدَت النكهة البرِّية الجميلة للشراب المجنون الذي تذوَّقته للتو لا تزال عالقةً في أركان فمها، وفي أركان عقلها. فقالت: «ما هذا الشراب؟»
أومأ كورلاث بإيماءةٍ طفيفة، تدل على التقليل من شأنها أو جهلها. وقال: «المشروب … نحن نُسميه ميلدتار … أي: ماء الرؤية، أو ماء البصيرة.»
«إذَن … فكل ما رأيته … قد رأيته بالفعل. ولم أكن أتوهَّمه.»
«تتوهَّمينه؟ هل تقصدين أن تسألي عمَّا إذا كنتِ قد رأيتِ أمورًا حقيقية؟ لا أعلم. يتعلم المرء، في النهاية، عادةً أن يعرف، وأن يصبح قادرًا على القول إن كان من المفترض أن يُصدق الرُّؤى أو أنها … مجرد خيالات. ولكن أن يتوهَّمها مثلما تقصدين — كلا. إن هذا الماء يُرسل هذه الأشياء، أو يجلبها.»
ساد الصمت مرةً أخرى، لكن لم يشعر أحدٌ بالاسترخاء، خاصةً هي. إذ يحمل الأمرُ ما هو أكثرُ من هذا؛ أكثر من الهلوسة البسيطة — أكانت بسيطة بالفعل؟ نظرت إلى كورلاث، في عبوس. وقالت بهدوء كما لو كانت تسأل عن هلاكها: «وماذا يفعل أيضًا؟»
قال كورلاث، كما لو كان يؤجِّل الأمر: «هناك شيءٌ آخر.» تردَّد، وبعد ذلك تحدث بضع كلمات بلغةٍ لم تتعرف عليها. لم تكن اللغة الدارية المعتادة التي سمعَت السكانَ الأصليين حول القصر يتحدثون بها، أو اللغة الأكثر حذرًا بعض الشيء التي يستخدمها ديدام والسيد بيترسون؛ كما أنها لم تبدُ مثل اللغة المختلفة النبرة التي يتحدث بها سكان التلال، والتي كانت لا تزال معروفةً لمن يتقنون اللغة الدارية. كانت هذه لغةً ذات طريقةِ نطق أكثر صرامةً وقوة، على الرغم من أن العديد من الأصوات — الغريبة عن أذنَيها التي اعتادت على سماع لغة أهل هوملاند — كانت شائعة في اللغة الدارية المألوفة لديها. نظرت إلى كورلاث، في حيرة، وهو يسترسل قليلًا في الحديث بها. لكنها لم تعرف شيئًا عن هذه اللغة.
قال كورلاث في النهاية: «هذه اللغة ليست مألوفةً لديكِ، أليس كذلك؟» وعندما هزت رأسها بالنفي لتؤكِّد هذا، قال: «أجل، بالطبع كلا، فكيف يمكن أن تصبح كذلك؟» ومن ثَم التفَّ. وقال: «علينا أن نجلس مرةً أخرى»، وجلس بتأنٍّ كبير. جلسَت هي أيضًا، في ترقُّب. حيث عادت النظرة التي رأتها من قبلُ على وجهه، نظرةُ رجل يواجه مشكلةً كان يُفضل تجنُّبها، لترتسم عليه، لكنها تغيرَت. كانت نظرتُه تدل الآن على أنه قد فهم ما المشكلة، وأنها أكثر خطورةً مما كان يتوقع.
فقال: «هناك أمران. إن ماء الرؤية لا يُحدِث مثلَ هذا التأثير على الجميع. إنه فقط يجعل معظم الناس يصابون بالإعياء. وهو يُسبب صداعًا لعدد قليل؛ صداعًا مصحوبًا بألوان غريبة وحركات غريبة تجعلهم يصابون بالدوار. لكن هناك قلة قليلة ممن يرون رؤًى على نحو واضح — نحن التسعة عشر، الموجودين هنا الليلة، جميعنا شربنا ماءَ الرؤية عدة مرات. ولكن حتى بالنسبة إلينا، يرى معظمنا فقط صورةً موجزة ومفاجئة — أحيانًا يستمر المشهد لوقت قصير للغاية بحيث يصعب تمييزه بدقة. وغالبًا ما يكون عن شيء مألوف: الأب، الزوجة، الحصان. هناك سمة مميزة لهذه الصور، أو الذكريات، لا تجعلها تشبه أيَّ شيء آخر، مثل ذكرى طوعية قد تستدعيها بنفسك. لكن في غالب الأحيان هذا كل شيء.
أحيانًا قد يرى أحدُ سكان التلال رؤًى أكثرَ من ذلك. مثلما أرى أنا. ومثلما أثبَتِّ أنتِ للتو أنكِ ترَين. وأنا لا أعرف لماذا رأيتِ أنت ما قد رأيت. لقد أخبرتِنا عن جانبٍ مما رأيتِه بينما كنت ترَينه. ربما شاهدتِ معركةً من الماضي — أو معركة لم تحدث قَط — أو معركة قد تحدثُ في المستقبل؛ في دامار، أو … في أحد البلاد الأخرى.»
وقعَت كلمات «قد تحدث في المستقبل» على سمعِها كما لو كانت هي الهلاكَ الذي طلبَته، وتذكَّرَت التألق الغاضب لملك أرض التلال ذي العينَين الصفراوين وهو يقفُ أمام القصر هناك. فقالت، وهي مضطربة، وأدركَت بصعوبةٍ أنها تحدَّثَت بصوت عالٍ: «لكن … أنا لستُ حتى واحدةً من أتباعك من سكَّان التلال. لقد وُلدت ورُبِّيت في مكانٍ بعيد … في الوطن. لقد أتيتُ إلى هنا منذ بضعة أشهر فقط. ولا أعرف شيئًا عن هذا المكان.»
قال كورلاث: «لا تعرفين شيئًا؟ أنا قلت لك إن هناك أمرَين. وقد أخبرتك الأمر الأول. هو أنك قد أخبرتِنا بما رأيتِه بينما كنتِ ترَينه. لكن هذا هو الأمر الثاني: لقد تحدثتِ باللغة القديمة، وهي ما نُسميها لغة الآلهة، التي لا يعرفها أحدٌ سوى الملوك والسحَرة، وأولئك الذين يسمحون بتعليمها لهم. اللغة التي تحدَّثتُ أنا بها إليكِ للتو، والتي لم تستطيعي أن تُميزيها؛ فقد كنتُ أكرر الكلمات التي قلتِها بنفسك، قبل لحظة.»