الفصل السابع
استيقظَت في الحال عندما أزاح الخادمُ الستائر عن مكانِ نومها ووضع شمعة على الطاولة البرونزية السطح المنخفضة بجانب وسائدها. فنهضَت، وتمطَّت، وتطقطق جسدها، وتنهَّدت، ثم استبدلت ملابسها بسرعةٍ بملابس ركوب الخيل، وتجرعت مشروب المالاك الموضوع بجانب الشمعة. احتجت ناركنون على كلِّ هذا النشاط بتذمُّر يشوبه النُّعاس؛ ثم أعادت نفسها تحت الأغطية غير المرتبة واستكملت نومها. خرجت هاري من الخيمة لتجد حصانَ ماثين البنيَّ الداكن وحصانها صنجولد وقد أُعدَّا بالفعل. حوَّل تسورنين رأسه نحوها وصهل لها. همسَت له: «أنا متفقةٌ معك تمامًا»، فأخذ كتف ردائها بلطفٍ بين أسنانه. ظهر ماثين من الظلام وتبعه حصانُ حملِ أمتعة.
أومأ برأسه لتحيتِها، وامتطيا حِصانَيهما واتجها نحو التلال التي ترتفع على مسافةٍ قريبة جدًّا من المخيَّم، على الرغم من أنها لم تستطع رؤيتها الآن. وبينما كانت تتلاشى ظلمةُ السماء اكتشفَت أنهما قد صعدا بالفعل إلى التموُّجات السفلية لتلك التلال، واختفى المخيَّم الذي تركاه عن مرمى البصر. وأصبح صوتُ خطوات حوافر الخيول أكثرَ قسوةً الآن وهي تضرب أرضَ التلال. وبينما كانت تتنفَّس أصبحت تشمُّ رائحة الأشجار، وتأهَّب قلبها، على الرغم من مخاوفها، لخوض المغامرة التي كانت بصددها.
استمرا في التجوُّل طوال ذلك اليوم، وتوقَّفا فقط لتناول الطعام وسحب السروج من على الخيول لبضع دقائق وفرك ظهورها. كان على هاري أن تجد صخرة لتقف عليها كي تتمكَّن من امتطاء حصانها؛ نظرًا إلى عدم وجود رفاهيةِ من يساعدها من الخدم ذَوي الرداء البُني الذين يستندون إلى ركبةٍ واحدة ويشبكون أكفَّهم كي تصعدَ عليها، ومن الواضح أن صنجولد وجد طريقةَ فارستِه في استدعائه نحوَها، وهي تقف فوق صخرةٍ كبيرة كي تتمكَّن من امتطائه، غريبةً للغاية. قال ماثين: «هذا هو أولُ شيء سأُعلمه لك. راقبي هذا.» وضع يدًا على كل حافة من حافَتَي السرج، ودفع نفسه إلى أعلى وجلس على السرج، وهو يُبعد يده اليمنى، التي تُمسك بالحافة الخلفية من السرج، برشاقةٍ عن طريقه بمجرد أن دفع نفسه إلى أعلى.
قالت هاري: «لا يمكنني فعلُ ذلك.»
قال ماثين: «بل يمكنكِ. عليكِ أن تحاولي.»
ومن ثَم حاولَت هاري. حاولت عدةَ مرات، حتى مدَّ صنجولد أذنَيه نحو الخلف وثبَّت ذيله بين ساقيه الخلفيتين؛ وعندئذٍ سمح لها ماثين بالعثور على صخرةٍ صغيرة لتقف عليها وترفعها بضعَ بوصات فقط، وجعلها تُحاول مرةً أخرى. لم يكن صنجولد يرغب في أن تستدعيَه نحوها وأن يخوضَ تلك العملية غير المريحة مرةً أخرى، لكنه جاء، وثبَّت قدميه بقوة، ونجحت هاري في الوثب على السرج.
قال ماثين: «ستتمكَّنين قريبًا من فعل ذلك وأنتِ تقفين على الأرض.»
وهذه ليست سوى البداية، هكذا قالت هاري لنفسها على نحوٍ بائس. كانت تشعر بالألم في معصمَيها وكتفَيها. لم يحمل صنجولد أيَّ ضغائن، على الأقل؛ فبمجرَّد أن امتطَتْه مرةً أخرى، ارتفعَت أذناه وخطا بعضَ الخطوات الصغيرة الراقصة.
سارا على نحوٍ متواصل باتجاه أعلى التلال، إلى أن شعرَت هاري بالألم في ساقَيها وهي تُوجه نفسها إلى الأمام فوق السرج في مواجهة الجذب لأسفل. لم يتحدَّث ماثين، إلا لإجبارها على ممارسةِ القفز فوق السرج عند كلِّ توقُّف، وكانت راضيةً عن الصمت. إن المكان الذي كانا يتجوَّلان فيه كان مليئًا بأشياءَ جديدة عليها، فراحت تنظر إليها جميعًا من كثب: الصخرة الرمادية ذات العروق الحمراء التي تبرز تحت مساحات العشب، وألوان العشب، التي تتراوح من الأخضر المصفرِّ الفاتح إلى الأخضر الداكن الذي بدا أرجوانيًّا تقريبًا، وشكل الشفرات؛ العشب الذي يقترب لونه من الأرجواني، إذا كان هو عُشبًا بالفعل، كانت له جذورٌ عريضة وأطراف دائرية ضيقة، لكن حصان حملِ الأمتعة تهافتَ على أكلِه مثل العشب. وقد تحلَّى حِصانا الركوب بسلوكٍ مهذب ولم يفعلا مثله، ووقَفا يراقبانه، حتى بعد عدة أيام من الرحلة الصحراوية الجافة. وبرزَت زهورٌ صغيرة وردية وبيضاء، مثل زهور البيمتشي الخاصة بالليدي أميليا ولكن مع مزيد من البتلات، من الشقوق الصخرية، وغرَّدَت طيورٌ بُنية مخططة صغيرة مثل العصافير وتقافزَت وتحركت برشاقة فوق رءوس الخيول.
كان ماثين يلتفتُ نحوها وهو فوق سرجه من حين لآخَر كي ينظر إليها، وقد انشرح قلبُه العجوز من رؤيتها وهي تنظر حولها بسرورٍ مطلق في عالمها الجديد. وقال لنفسه إن الكيلار الخاصة بكورلاث لم تُخبره بشيء سيئ مثلما كان يظنُّ في البداية عندما أخبر كورلاث فرسانه بخطته للعودة إلى قاعدة الأغراب لخطف فتاة.
كانا يُخيمان عند الطرَف الضيق العالي لركنِ وادٍ صغير، وقد قالت هاري لنفسها إن ماثين كان على ما يبدو يعرف هذا المكانَ من قبل. كان هناك نبعٌ ينبثق من الأرض حيث نصَبا خيمتَيهما، وهما خيمتان صغيرتان من نوعٍ يُسمى تاري، كان ارتفاع كلٍّ منهما منخفضًا لدرجة أن هاري كانت تدخل خيمتها على يدَيها ورُكبتيها. وعند الطرَف السفلي الأكثرِ اتساعًا من الوادي، كان النبع يتَّسع ويتحوَّل إلى بِركة صغيرة. وقد فُرِكَت الخيول بعناية وقُدِّم لها بعضُ الحبوب، وحُررت من السروج وتُركت لتتحرَّك في حرية.
قال ماثين: «في بعض الأحيان يُصبح من الضروري، ونحن بعيدٌ عن الوطن وفي مخيَّم صغير، أن نربط خيولنا؛ لأن الخيول تشعر براحةٍ أكثر وهي وسط قطيع، لكن صنجولد هو حصانك الآن ولن يتركَك، وويندرايدر وأنا معًا منذ سنواتٍ عديدة. وفيكي، حصانُ حمل الأمتعة، سيبقى مع صديقَيه؛ لأنه حتى ولو كان القطيع صغيرًا فهو أفضلُ من أن يكون بمفرده.»
أعدَّ ماثين العشاء بعد إطعام الخيول، لكن هاري تأخرَت في الظهور، حيث راحت تُمشط غُرةَ صنجولد وذيله لفكِّ أي تشابك قد يوجد بهما. وعلى الرغم من إرهاقها الشديد، شعرَت بالسعادة لأنها تعتني بحصانها بنفسها، ولأنه ليس هناك سائسٌ ليعتنيَ به ويأخذَ هذه المتعة منها. وربما ستتمكَّن من تعلُّم القفز على السرج مثل ماثين. بعد مدةٍ تركَت حصانَها في سلام، ونظرًا إلى أنها لم يكن لديها أيُّ شيء أفضل لتفعله، اقتربَت على نحوٍ متردد من ويندرايدر مع فُرشاتها. رفعَت الفرَسةُ رأسها وقد شعرت بالمفاجأة على نحوٍ طفيف عندما بدأت هاري تُمشط غرتها الطويلة المنسدلة على أعلى كاهلها؛ لأنها لم تكن بحاجة إلى العناية مثل صنجولد، لكنها لم تعترض. لكن عندما أعدَّ ماثين لهاري طبقًا ممتلئًا بالطعام، تركَت الفرشاة وذهبت إليه على الفور. فأكلَت ما قدَّمه لها ماثين، ثم غرقَت في النوم بمجرد أن رقدَت في خيمتها.
استيقظَت في الليل بعد أن شعرَت أنَّ ثقلًا غير متوقَّع، ولكنه مألوف، استقر على قدميها. رفعَت ناركنون رأسها وبدأت تُخرخر بشدة عندما تحرَّكَت هاري. فقالت هاري: «ما الذي تفعلينه هنا؟ أنت غيرُ مدعوَّة للمشاركة في هذه الرحلة، وهناك شخصٌ ما في معسكر كورلاث لن يُصبح سعيدًا على الإطلاق بسبب غيابك عندما تخرج حملاتُ الصيد.» بسطَت ناركنون، التي لم تزَل تخرخر، جسدَها النحيف بطولِ رجل هاري، ومدَّت رأسها الكبير، وفتحَت فمها بحيث أظهرَت الأنيابَ المتلألئة التي تُقارب طول إصبع إنسان، وعضَّت هاري، بلطفٍ شديد، في ذقنها. جعل صوتُ الخوار، من هذه المسافة، عقل هاري يترجرج داخل جمجمتها، كما جعَلَت عضةُ الأسنان الخفيفة عينَيها تدمعان.
نهض ماثين عندما سمع صوت هاري. ورأى ذيل ناركنون يمتدُّ من الجانب المفتوح للخيمة، بينما يتلوَّى طرَفُه لأعلى ولأسفل على نحوٍ مطمئن. سمعَت هاري، وهي غيرُ مصدقة، ماثين يضحك؛ لم تكن تعرف أن ماثين يمكن أن يضحك.
«سوف يُخمنون إلى أين ذهبتِ، يا هريماد-سول. لا تشعري بالانزعاج. إن الجوَّ يصبح باردًا في الليل وسيكون أكثرَ برودةً هنا، ستُصبحين ممتنَّةً لرفيقةِ خيمتك قبل أن نُغادر هذا المكان. إنه لأمرٌ مؤسف أن أيًّا منا ليست لديه المهارةُ كي يصطحبَها للصيد؛ يمكن أن تصبح مفيدة. اخلُدي إلى النوم. أمامنا غدًا يومٌ شاق للغاية.»
رقدَت هاري، وهي تبتسم في الظلام، على ملاحظةِ ماثين اللطيفة: «لا أحدَ منا لديه المهارة كي يصطحبَها للصيد.» وقد بدَت فكرةُ تَلقِّي دروسها على يد هذا الرجل — خاصةً الآن بعد معرفتها أن بإمكانه الضحكَ والتحلِّيَ بروح الدعابة — أقلَّ تجهمًا. ومن ثَم غرقت في النوم وقد سُرَّ قلبها، كما تشجعَت ناركنون، بسبب هدوء موقع المخيم الصغير والخيمة الصغيرة، ومدَّت نفسَها بالكامل بجانب الشخص المفضَّل لديها، ونامت وهي تضع رأسها تحت ذقن هاري.
استيقظَت هاري عند الفجر، كما لو كان من المحتَّم أن تستيقظ في ذلك الوقت. ولم تَرُق لها على الإطلاق فكرةُ الخروج من الخيمة سريعًا، من الناحية العقلية، لكنَّ جسدها وقف على قدمَيه وعضلاتها كانت تُطيل نفسَها قبل أن تتمكَّن من الاحتجاج. وسارت الأسابيع الستة بأكملها التي أمضَتْها في هذا الوادي تقريبًا على هذا المنوال؛ كان هناك شيءٌ سيطر عليها بطريقةٍ ما، أو استولى على جزء منها كانت دائمًا تظنُّه خاصًّا بها على نحوٍ متفرد. ومن ثَم لم تفكر، بل تصرَّفَت، وفعَل ذراعاها وساقاها أشياءَ لم يفهمها عقلُها على نحوٍ واضح. لقد كانت تجرِبةً غريبة للغاية بالنسبة إليها؛ لأنها اعتادت على التفكير بنحوٍ كامل في كل شيء. كانت مفتونةً بخفةِ حركتها، ولكن في الوقت نفسِه تشكَّكَت في أن هذه هي قدرتها الخالصة. ربما كانت الليدي إيرين تُوجِّهها؛ لأن هاري لم تكن هي مَن توجِّه نفسها.
وقد اكتشفَت أيضًا أن ماثين يخلط طعامَهما بشيءٍ ما. فقد كان لديه جرابٌ صغير، بداخله كثير من الأكياس الصغيرة، ملفوفةً مع أدوات الطهي. وتحتوي معظمُ هذه الأكياس على أعشابٍ وتوابلَ غير ضارة، ميَّزَت هاري عددًا قليلًا منها عبر طعمها، ولكن لم تعرف أسماءها. وقد سألت عن تلك الأسماء الجديدة عليها منذ أن تذوَّقَت طهي سكان التلال لأول مرة، بينما كان يفركها ماثين بين أصابعه قبل أن يُسقطها في الحساء، فتتصاعد رائحتها وتملأ عينَيها وأنفها. كانت قد بدأت في طرح العديد من الأسئلة حول أكبرِ عددٍ ممكن من الأشياء، حيث تلاشى حذرُها من ماثين باعتباره رجلًا غريبًا غيرَ ودودٍ وحلَّ محله الإعجاب به كمُعلم ممتاز، وإن كان متعجرفًا في بعض الأحيان. وعلمَت أنه يُصبح في مزاجٍ مبتهج أكثرَ عندما يطبخ أكثرَ من أي وقتٍ آخر تقريبًا.
وعندما سألت عن الكومة الصغيرة من المسحوق الأخضر الموجودة في راحةِ يده، أجابها قائلًا: «إن اسمه ديرث، وهو مأخوذ من شجيرةٍ منخفضة، ذات أوراقٍ لها أربعة فصوص»، وفي مرةٍ أخرى، قال لها: «هذا اسمه نيمينج وهو مسحوقُ الثمار المجفَّفة لنباتٍ يحمل الاسم نفسَه.» ولكن كان هناك أيضًا مسحوقٌ رمادي ذو رائحةٍ نفاذة للغاية، وعندما سألته عنه تحفَّظ ماثين عن الإجابة، وأرسلها لتنظيفِ سرج حصانها، رغم أنه لا يحتاج إلى ذلك، وفي مرةٍ أخرى لجلبِ بعض الماء وهما ليسا في حاجة إليه. وعند المرة الرابعة أو الخامسة التي فعل فيها هذا قالت في حزم: «كلا. ما اسم هذا الشيء؟ إن سروجنا ستَبْلى من كثرةِ التنظيف، وصنجولد وويندرايدر نظيفان، وشعر كلٍّ منهما منسقٌ على نحوٍ رائع، والخيمتان آمنتان ضد أي شيء سوى حدوثِ انهيار صخري، وأنت لستَ في حاجة إلى مزيد من الماء. ما اسم هذا الشيء؟»
مسح ماثين يديه بعناية ولفَّ الأكياس الصغيرة معًا مرةً أخرى. وقال: «إن اسمه سورجونال. وهو … يجعل المرء أكثرَ انتباهًا.»
راحت هاري تُفكر في الأمر. ثم قالت: «تقصد أنه …» لم تستطع إيجادَ الكلمة المناسبة بلغةِ سكان التلال، فاستخدمَت الكلمة المقابلة في لغة هوملاند، وتابعَت: «مخدِّر.»
قال ماثين بهدوء: «أنا لا أعرف معنى كلمة «مخدر». إنه عشب منشِّط، أجل؛ إنه خطير، أجل، لكن …» وهنا ظهر بريقُ المرح غير المرئي تقريبًا، الذي تعلمَت هاري أن تكتشفَه في الوجه المربَّع لمُعلمها، وأشعل لهبًا صغيرًا داخل عينيه، فتابع: «أنا أعرف جيدًا ما أفعله. أنا مُعلمك، وأقول لك أن تأكُلي وتهدَئي.»
قبلت هاري طبقها الممتلئ، ولم تكن أبطأَ من المعتاد بنحوٍ ملحوظ أثناء تناوله. وسألت وهي تأكل: «إلى كم من الوقت … يمكن للمرء استخدامُ هذا … المنشِّط؟»
قال ماثين: «عدة أسابيع، لكن بعد المنافسات، ستُريدين النوم كثيرًا. وسيُصبح لديك وقتٌ لاستخدامه في ذلك الحين.»
إن حقيقة عدم قدرة هاري وماثين على اصطحاب ناركنون للصيد لم تُحبط ناركنون على الإطلاق. ففي كل يوم بعد انتهاء الدروس، وعودة هاري وماثين والخيول إلى موقع المخيَّم، مُتعَبين ومتَّسخين، مع بعض التقرُّحات في الأرجل على الأقل في حالة هاري، كانا يجدان ناركنون هناك، وقد مدَّت جسدَها أمام حفرة النار، مع صيد اليوم — أرنب، أو اثنان أو ثلاثةٌ من الطيور التي تُشبه الديك البريَّ ولكن طعمها مثل البط، أو حتى غزالٍ صغير. وفي المقابل كانت ناركنون تأكل عصيدةَ هاري كلَّ صباح. فقال ماثين في صباح اليوم الثالث عندما وضعَت هاري ثُلثَي وعائها لناركنون كي تأكله: «لم أُحضر ما يكفي لإطعام ثلاثةٍ لمدة ستة أسابيع.» قالت هاري: «أفضِّل أن آكلَ ما تبقى من لحم الطيور»، ومن ثَم فعلَت ذلك.
تعلَّمَت هاري كيفيةَ التحكم في سيفها، ثم حمل الدرعَ المستدير الخفيف الذي كان يستخدمه سكانُ التلال، ثم التكيُّف، إن لم يكن الارتياحَ على نحوٍ تام، مع ارتداء سُترةٍ جلدية قصيرة مقوَّاةٍ بالسلاسل، وبنطالٍ ضيق أعطاهما ماثين لها. وما دام هناك ضوءُ نهار، فهي تُؤمَر، أو تُجبر، على السير باستخدام خطواتها التي تتحسَّن باطِّراد على نحوٍ لافت — مُخيف — كما لو أنَّ شيئًا ما بالفعل قد استيقظ في دمها، هكذا قالت لنفسها، لكنها لم تَعُد تُفكر في الأمر، أو أخبرت نفسها أنها لا تُفكر فيه، كمرَض. لكنها لم تستطع تجنُّب ملاحظةِ الإحساس — ليس بالدروس التي كانت تتعلمها لأول مرة، ولكن بالمهارات القديمة المهملة، التي بدأت الآن، بالفعل، تُصقَل من جديد. لم تتعلم قَط أن تحبَّ سيفها، وتعتز به مثلما كان أبطالُ القصص التي قرأتها في طفولتها يعتزون بسيوفهم، لكنها تعلمت أن تفهمه. كما تعلمت أيضًا أن تقفز على السرج، ولم يَعُد صنجولد يُعيد أذنيه للوراء عندما تفعل ذلك.
وفي الأمسيات، على ضوء النار، علَّمَها ماثين الخياطة. وأوضح لها كيفيةَ مواءمةِ السرج الذهبي حتى يُناسبها بالضبط، وكيفيةَ ترتيب الخطافات والأحزمة بحيث تضع أمتعتها فوق صهوة الحصان على نحوٍ مثالي، وبذلك يُمكنها أن تستلَّ سيفها بسهولة من غِمده، ولن ترتطم خوذتُها بركبتها وهي معلقةٌ على السرج.
ونظرًا إلى أنها كانت تستوعبُ دروسها على نحوٍ أسرع وأكثر براعةً، اصطحبها ماثين إلى مزيد من أرض التلال حول مُعسكرهم في الوادي الصغير. ومن ثَم، تعلَّمَت كيفية التعامل؛ أولًا مشيًا على الأقدام ثم على صهوة حصانها، مع أوسعِ مجموعةٍ متنوعة من التضاريس المتاحة: الصخور المسطَّحة، والطَّفل السفحي سهل التفتُّت، والكتل الصغيرة المنزلقة من الحصى والرمال، والعُشب والحصى وحتى الغابات، حيث يكون على المرء أن يقلق بشأن الضربات غيرِ المُبالية من الفروع وكذلك الضربات المحدِّدة للخَصم. نزلَت هي وماثين إلى الصحراء مرةً أخرى مدةً وجيزة، حيث بارَز بعضُهما البعض هناك. كان ذلك في نهاية الأسبوع الرابع. ومن الأشجار والصخور والجدول المتدفق، استطاعَت معرفة المكان الذي نُصِب فيه مخيَّم الملك، لكن زوَّاره من الناس كانوا قد رحلوا منذ مدةٍ طويلة. وهناك بينما كانت تمتطي حِصانها فوق الرمال الرمادية وتسورنين يثبُ ويُغير اتجاهه تحتها، حدث شيءٌ غريب.
اعتاد ماثين دائمًا أن يضغط عليها بقوة بالقدر الذي يمكن به أن تُدافع أمامه عن نفسها؛ لقد كان ثابتًا ومنهجيًّا جدًّا بشأن هذا الأمر، لدرجة أنها لم تُدرك في البداية أنها كانت تتطوَّر. كان صوته دائمًا هادئًا، وعاليًا بما يكفي كي تسمعَه بسهولة حتى عندما كانا يُهاجم كلٌّ منهما الآخرَ بالأسلحة، لكن لم يكن عاليًا أكثرَ من ذلك، ووجدَت نفسها تستجيبُ بهدوء، كما لو كان تعلم فنون القتال لعبة منزلية جديدة. كانت تعرف أنه خيَّال ومبارز رائع، وأنه لا أحدَ يحصل على لقب فارس الملك ما لم يكن ماهرًا للغاية في كِلَيهما، وأنه كان يُدرِّبها. معظم الوقت، خلال هذه الأسابيع، كانت تشعر بالارتباك، وعندما أصبح عقلُها أكثرَ صفاءً، كانت تشعر بالفخر الذي يشوبه بعضُ الأسى، لكن الآن، بعد أن تعلَّمَت المناورة وتفاديَ الضربات، وكان يسمح لها بتوجيه الطعنات أو الضربات المسطَّحة الثقيلة من آنٍ لآخَر، وجدت أنها قد بدأت تغضب. تصاعد هذا الغضبُ في داخلها ببطء في البداية، على نحوٍ خافت، ثم هادر، وأصبحَت، على الرغم منه أو في ظلِّه، متحيرةً منه مثلما هي متحيرةٌ من كل شيءٍ آخر حدث لها منذ مغادرتها للقصر دون إرادتها. إنه شعورٌ بالغضب، غضب رهيب، وكان يتَّسم بالخطورة، وهو أسوأ بكثير من أي شيء اعتادت عليه. وبدا أنه لا علاقة له بفقدان أعصابها، وبالانزعاج على وجه التحديد من أي شيء، لم تفهم منبعَه أو غرضه، وحتى مع الألم في صُدغَيها بسببه، كانت تشعر بالانفصال عنه. لكن أنفاسها أصبحَت أسرعَ قليلًا، وبعد ذلك أصبحت ذراعُها أسرعَ قليلًا، وشعرَت بسرورِ تسورنين من سرعتها، ووسط ذلك وجدَت لحظةً لتقول خلالها لنفسها على نحوٍ ساخر، حتى مع تصاعد الضجيج في أذنيها إلى صداعٍ فظيع، إن صنجولد حصانٌ من الفئة المتميزة بينما مَن تركبه ليست فارسةً من الفئة المتميزة.
اضطربَت على نحوٍ طفيف تلك الابتسامةُ العريضة المعتادة التي كانت ترتسم على وجه ماثين وتدل على التركيز والزَّهو، حسبما كانت تظن هاري مؤخرًا، عندما فاجأَته بهجومٍ خاطف، ورفَع عينَيه مدةً وجيزة لينظر إلى وجهها، وحتى عندما التقى السيف بالسيف … ارتبك.
دون تفكير؛ لأن هذا هو ما كانت تتدرَّب من أجله، تقدَّمَت إلى الأمام، فاضطربَت خطواتُ ويندرايدر، وارتطم بها صنجولد، كتفًا في كتف، فسدَّدَت هاري بسيفها ضربةً على سيف ماثين فارتطمَت القبضةُ بالقبضة، وما جعلها تشعر برعب شديد، هو أنها دفعَته بقوة وأسقطته من على السرج. فارتطم درعُه بصخرة مُحدثًا صوتَ قعقعة وانقلب رأسًا على عقب، وتأرجَح على نحوٍ مثير للسخرية مثل طبقٍ مقلوب.
تباعَد الحِصانان وهما يتحركان على نحوٍ غير متَّزن وحدقَت هي إلى أسفل، في ذعر، نحو ماثين الذي كان يجلس على الأرض وسط سحابة من الغبار، وهو يشعر بالقدر نفسِه من الاندهاش الذي شعرَت به. وقد اختفَت الابتسامة العريضة لحظةً — وهذا أمرٌ مفهوم تمامًا، حسبما قالت لنفسها — ولكن بحلول الوقت الذي نهض فيه ليقفَ على قدميه وانزلقَت هي مِن فوق صهوة صنجولد، واقتربَت منه وهي تشعر بالقلق، عادت الابتسامةُ العريضة لترتسمَ على وجهِه من جديد. حاولت أن تُقابل ابتسامته بابتسامة فجاءت مهتزةً ومتوترة، ووقفَت وهي تشعر بالحرج وقد وضعَت سيفها خلف ظهرها كما لو كانت تُفضل ألا تُذكَّر بوجوده، ونقل ماثين سيفه المُتربَ من يده اليمنى إلى اليسرى، وتقدَّم نحوها وأمسك كتفَها. كان أقصرَ منها بمقدارِ نصف رأس، واضطُرَّ إلى النظر لأعلى كي يُوجِّه نظرتَه إلى عينيها. كانت قبضته قوية للغاية لدرجة أن الدرع الذي هو مِن الزَّرد الذي كانت ترتديه وخزَ كتفَها، لكنها لم تلحظ ذلك؛ لأن ماثين قال لها: «تفضَّلي بقَبول احترامي التام، يا سيدتي، يُشرفني تقديمُ خِدماتي لك في كلِّ ما تأمرين به. لم يتمكَّن أحدٌ من إسقاطي عن صهوة حصاني على هذا النحو منذ عشرِ سنوات، ومَن فعل ذلك كان كورلاث نفسَه. أنا فخورٌ بتعليمك، وأنا، يا سيدتي، لستُ أقلَّ الفرسان براعة.»
اختفى الغضب تمامًا، وشعرت بالجفاف والبرودة والخواء، ولكن عندما التقَت عيناها بعينَي ماثين دون رغبةٍ منها رأتْ فيهما بريقًا من الصداقة، وليس مجرد الرضا الموضوعي لمُعلم عن تلميذٍ نجيب، وقد أرضاها هذا أكثرَ مما فعَل الغضب. إذ أصبح لديها هنا في أرض التلال، وهي امرأةٌ من الأغراب، صديقٌ، وهو ليس أقلَّ الفرسان براعة.
استمرَّت الدروس بعد ذلك، لكنها أصبحَت أسرعَ وأكثر شراسةً، ولم يتَلاشَ الاهتمامُ المرتسم على وجه ماثين قَط، لكنه تغيَّر من التركيز القوي لمُعلم إلى الحماسة المتَّقدة لرجلٍ وجد تحدِّيًا. أصبحَت الطاقة والقوة اللتان كانتا يستهلكانها تتطلَّبان الآن أن يتوقَّفا من أجل الراحة في وقتِ الظهيرة، عندما تصل حرارةُ الشمس إلى ذروتها، على الرغم من أن منطقة التلال كانت أقلَّ حرارةً بكثير من الصحراء الوسطى. ما كان تسورنين ليعترف قَط بالتعب، وكان يُراقب هاري من كثبٍ في جميع الأوقات؛ تحسبًا لأن يفوته شيءٌ ما. وكان ينتظر موعدَ دروسها على نحوٍ متحمس للغاية، حيث كان يمدُّ أذنَيه للخلف ويضرب الأرض بحوافره، ويظلُّ يدور حولهما حتى يُضطرَّا إلى الصراخ في وجهه كي يبتعد. ولكن خلال الأيام العشرة الأخيرة، كان راضيًا بالوقوف في الظل، خافضًا رأسه ومرخيًا إحدى قائمتَيه الخلفيتين، في وقت الظهيرة، بينما هي تستلقي بجانبه.
وفي أحد الأيام قالت: «ماثين، هل تُمانع في أن تخبرَني شيئًا عن كيفية تدريب الخيول؟» كان ذلك أثناء حصولهما على راحة في وقت الظهيرة، بينما كان يتشمَّمها صنجولد بأنفه؛ لأنها غالبًا ما كانت تُطعمه أجزاءً لذيذة من غَدائها.
قال ماثين: «إن عائلتي تُربي الخيول.» كان مستلقيًا على ظهره، وقد شبَّك يدَيه على صدره، وأغمض عينَيه. ثم صمت بعضَ الوقت، ولم يقل أيَّ شيء آخر، فأرادت هاري أن تستحثَّه على الكلام إذ لم تستطع معه صبرًا، لكنها تعلَّمَت أن مِثل هذا السلوك كان سيجعل ماثين يمتنع عن الكلام تمامًا، أمَّا لو أمسكَت لسانها وجلسَت في ثبات، وسيطرَت على توتُّرها بهدوء، فإنه كان يُخبرها بالمزيد في بعض الأحيان.
ومن ثَم أخبرها بالمزيد هذه المرة: كيف أن والده وإخوته الثلاثة الكبار يُزاوجون ويربُّون ويُدربون بعضًا من أرقى خيول الركوب في دامار. قال بلا حماسة: «عندما كنت في مثل سنِّك، درَّبنا أفضل الخيول على حركات الحرب من أجل دقةِ السيطرة اللازمة لكلٍّ من الحصان والفارس، وليس من أجل أن تصبح جاهزةً لخوض المعارك.
لقد درَّب والدي فايرهارت. إنه عجوز للغاية الآن، ولم يعد يُدرب مزيدًا من الخيول، لكنه لا يزال يحمل معلوماتٍ عن جميع سلالاتنا في رأسه، ويُقرر أيُّ الفحول يجب أن يتزاوَجوا مع أيِّ الفرَسات.» ثم توقَّف عن الكلام، فظنَّت هاري أن هذا هو كل شيء، لكنه أضاف ببطء: «إن ابنتي هي مَن درَّبت صنجولد.»
ساد صمتٌ طويل. ثم سألته هاري: «لماذا لم تظلَّ معهم وتُدرب الخيول أنت أيضًا؟»
فتَح ماثين عينيه. وقال: «بدا لي أن والدي، وثلاثةَ إخوة وعائلاتهم، وزوجتي، وابنتي، وولديَّ، يُعتبرون عددًا كافيًا من عائلةٍ واحدة لفعل الشيء نفسِه. لقد درَّبت العديد من الخيول. فأنا أعود إلى المنزل … في بعض الأحيان، حتى لا تنسى زوجتي وجهي، لكنني دائمًا كنتُ أرغب في الشرود. وكفارس، يمكن للمرء أن يشرد. من الممكن أيضًا أنني لم أكن بارعًا بما فيه الكفاية. لم يرغب أيٌّ من بقية عائلتي يومًا في تركِ ما يفعلونه، ولو ليومٍ واحد. أنا الوحيد في عائلتي منذ أجيالٍ الذي امتطى حصانه وشارك في منافساتِ لابرون؛ كي أفوز وأحصل على سيفي.»
قالت هاري: «لماذا آل الأمرُ لأن تصبح أنت مُعلمي؟ هل كنت … هل أمرك كورلاث بذلك؟»
أغمَض ماثين عينيه مرةً أخرى وابتسم. ثم قال: «كلا. في اليوم التالي بعد أن تناولتُ الميلدتار ورأيت المعركة التي في الجبال، تحدثت أنا إلى كورلاث؛ لأنني علمتُ من تلك الرؤية التي رأيتِها أنكِ ستُدرَّبين من أجل المعركة. كان من الممكن إسنادُ المهمة إلى فورلوي، وهو الوحيد بيننا الذي يتحدَّث لغة الأغراب، أو إلى إيناث، وهو أفضلُ خيَّال بيننا، لكنني أكبرُ سنًّا، وربما أكثرُ قدرةً على الصبر، وقد درَّبت كورلاث وهو صغير، منذ زمن، عندما كنتُ فارسًا من فرسان والده.»
فورلوي، هكذا قالت هاري لنفسها. إذَن إن اسمه فورلوي. بدأتْ تقول: «ماثين …» وكان صوتها غيرَ سعيد. كانت تُحدق في الأرض، وتقطف قطعًا من العشب الأرجواني وتمزِّقها، ولم تلحظ أن ماثين استدار لينظر إليها عندما سمع صوتها غيرَ السعيد. إذ لم يبدُ صوتها هكذا منذ أسابيع، وكان سعيدًا لأن الأمر كان ينبغي أن يكون كذلك.
وتابعتَ: «لماذا … لماذا لم يتحدَّث فورلوي معي قَط، قبل أن … قبل أن تبدأ أنت في تعليمي التحدثَ بلُغتِكم؟ هل يكره الأغرابَ للغاية؟ ولماذا تعلَّمَ لغتي من الأساس؟»
التزم ماثين الصمت إذ أخذ يُفكر فيما يمكن أن يقوله لصديقته الجديدة دون أن يخون صديقَه القديم. ثم قال: «لا تحكمي على فورلوي — أو على نفسك — بقسوةٍ مُفرطة. عندما كان في مِثل عمرك وقبل أن يُصبح فارسًا، وقع فورلوي في حبِّ امرأةٍ التقى بها في معرض الربيع في إيستن. لقد ولدَت ونشأت في الجنوب، وذهبت للخدمة لدى عائلة من الأغراب هناك؛ وعندما أرسَلوا إلى إيستن، ذهبت معهم. وفي العام الثاني، خلال المعرض التالي، عاد ووافقَت هي على الذَّهاب معه إلى أرض التلال. لقد أحبَّت فورلوي، على ما أعتقد، وحاولَت أن تُحب بلده من أجل خاطره، لكنها لم تستطع. وعلَّمَته لغةَ أرض الأغراب، حتى يُمكنها تذكرُ حياتها هناك عبر ترديد الكلمات. ولم تكن لتتركَه؛ لأنها تعهدَت بنفسها أن تعيش معه في أرض التلال، لكنها ماتت بعد سنواتٍ قليلة فقط. وظل فورلوي يتذكر لغتها إكرامًا لذِكراها، لكن هذا لا يعني أنه يحبُّ تلك اللغة.» سكت، وأخذ يُراقب أصابعَها التي استرخَت، وتركَت السيقانَ الأرجوانية لتسقط على الأرض. ثم تابع: «لا أظن أنه قال أيَّ كلمات من تلك اللغة طَوال سنواتٍ عديدة، وكورلاث لم يكن ليطلب منه التحدثَ بها إلا لسببٍ مهم للغاية.»
قالت هاري لنفسها: كورلاث. إنه يعرف قصة … الشابَّة الأجنبية التي لم تزدهر عندما زُرعت في أرض سكَّان التلال. وقد وُلدت ونشأت في داريا، وقد جاءت بكاملِ إرادتها. ثم قالت لماثين: «وكورلاث؟ كيف تعلَّم كورلاث لغةَ الأغراب؟»
قال ماثين بعد تفكيرٍ عميق: «يؤمن كورلاث بضرورةِ معرفة … مُنافسيه. أو أعدائه. فهو يُمكنه أيضًا التحدثَ بلغة أهل الشمال، وقراءتَها وكتابتها، بالإضافة إلى لغة الأغراب، وكذلك لغة أرض التلال. هناك قليل منا ممَّن يستطيعون قراءة لغتنا وكتابتَها. وأنا لستُ واحدًا منهم. فأنا لا أتمنى أن أصبح ملكًا.»
لم يتبقَّ سوى أيام قليلة للتدريب قبل منافسات لابرون. وقد استغلَّ ماثين أوقاتَ الراحة بين دروسهما التي أصبحَت أكثرَ نشاطًا لتعليمها مزيدًا من لغة أرض التلال، وبدا أن كلَّ كلمة علَّمها إيَّاها قد أيقظت خمسًا أخرى من المكان الذي تكمن فيه داخل الجزء الخلفي من عقل، حسبما كانت تعتقد هي، يتشارك الآن في مساحة التفكير والنهايات العصبية مع عقلها. لقد تقبَّلت هذا العقل؛ فهو مفيد، حيث سمح لها بالعيش في هذه الأرض التي أحبَّتها، حتى لو أحبتها دون سبب، وقد بدأت تعتقد أنه سيُمكنها بدورها من أن تُصبح مفيدةً لهذه الأرض. وقد أكسبها صديقًا. لم يكن بإمكانها أن تشعر بالزهو بذلك العقل؛ لأنه ليس عقلها، لكنها كانت ممتنَّةً له، وكانت تأمُل، لو كان لمسة من إيرين-سول أو الكيلار، أن يُسمح لها بالاحتفاظ به حتى تفوز بحقِّها في البقاء.
ومع دروس اللغة، أخبرها ماثين عن أرض التلال التي كانوا فيها، وفي أي مكان تقع المدينة من الوادي الصغير الذي هما فيه الآن، وأخبرها عن نوع الحطب الذي يحترق على نحوٍ أفضل، وكيف تجد الماء عندما يبدو أنه غيرُ متوفر، وكيفية مواصلة الرحلة مع حصانٍ مصاب بالتهاب الحوافر. وقد عزَّزَت دروسُها في أساليب الحرب ذاكرتَها، أو قدرتها على الاستفادة من تلك الذاكرة الأخرى؛ لأنها تذكرَت ما قاله لها. ومما أثار دهشتها أنه أخبرها أيضًا بأسماء جميع الزهور البرِّية التي رأتها، والأعشاب التي يمكن تحويلها إلى شاي ومربًّى، وتحدث عن هذه الأشياء مع التعبير اللطيف على وجهه الذي تراه فقط عندما ينحني فوق نار الطبخ، وحتى هذه الأشياء تعلَّمَتها. وأخبرها أيضًا عن أفضلِ أوراق النباتات لوقف تدفُّق الدم من الجروح، وثلاث طرق لإشعال نار في البرية.
نظر إليها على نحوٍ غير مباشر بينما كان يتحدث عن إشعال النار. وقال: «هناك طريقةٌ رابعة، يا هاري. قد يُعلمها لك كورلاث يومًا ما.» كانت هناك دعابة هنا أشعرَته بالمرح. فتابع: «أنا شخصيًّا، لا أستطيع.»
نظرت إليه هاري بصبرٍ قدْرَ استطاعتها. كانت تعلم أن سؤاله عندما يُثير فضولها على هذا النحو لن يُفيدها. وفي مرة، بعد يوم أو يومين من السقوط غير المتوقَّع لماثين، كانت قد سمحَت لبعض من إحباطها بالظهور بقدرٍ أكبر مما كانت تقصده، وقد قال ماثين: «يا هري، يا صديقتي، هناك أشياءُ كثيرةٌ لا أستطيع إخبارَكِ بها. سأخبرك ببعضها في الوقت المناسب، وسيُخبرك آخرون بالبعض الآخر، وبعضٌ ثالث قد لا تعرفينه أبدًا، أو قد تُصبحين أولَ من يعثر على إجابات له.»
نظرَت عبر نارهما الصغيرة نحوه، وفوق رأس ناركنون. كان كلاهما جالسَين متربِّعَين بينما ترعى الخيولُ بنحوٍ مريح على مقربة، بحيث يمكن سَماع صوتِ فكوكها على الرغم من طقطقةِ النار. كان ماثين يُعيد ربط حلقةٍ مفكوكة على سُترته المرصَّعة بالسلاسل.
فقالت: «حسنًا. فهمت قليلًا، ربما.»
ضحك ماثين بصوتٍ عالٍ، فتذكرت كيف كانت تظن أنه متجهِّم وصامت، هو على وجه التحديد من بين جميع فرسان الملك. وقال: «أنت تفهمين الكثير، يا هريماد-سول. أنا لن أحسدَ الآخَرين عندما يرَونك مرةً أخرى. فقط كورلاث هو من يتوقَّع على نحوٍ صحيح ما سأعود به من هذه التلال.»
كانت هذه المحادثة قد جعلَت الأمرَ أسهل بعضَ الشيء بالنسبة إليها عندما أخبرها بمكرٍ عن أشياء، مثل الطريقة الرابعة لإشعال النيران، التي رفض توضيحها. لم تفهم الأسباب، لكنها كانت أكثرَ استعدادًا لتقبُّل وجود سبب. لقد فاجأها مقدارُ ما أخبرها به عن نفسه؛ لأنها علمَت أنه لم يجد الحديث معها عن هذه الأمور سهلًا، لكنها فهمَت أيضًا أنها كانت طريقتَه للتعويض، قليلًا، عمَّا كان يشعر بأنه لا يستطيع أن يُخبرها به. كما أن هذا، مثلما لا بد أنه كان يقصد، جعلها تشعر كما لو أنَّ سكان التلال مألوفون لها؛ أن ماضيَها لم يكن مختلفًا كثيرًا عن ماضيهم، وبدأت تتخيَّل كيف سيُصبح الحال لو نشأَت في هذه التلال، وأن تراها دائمًا باعتبارها وطنها.
كان أحد الأشياء التي سيُخبرها ماثين بالقليل عنها هو إيرين، قاتلة التنانين والسيف الأزرق. كان سيُشير إلى العصر الذهبي لدامار، عندما كانت إيرين ملكة، لكنه لن يُخبرها متى كان ذلك، أو حتى ما الذي جعله ذهبيًّا. لقد علمَت أن إيرين كان لها زوجٌ اسمه تور، وقد حارب أهلَ الشمال؛ لأنهم أعداءُ دامار منذ الأزل وأرضِ التلال، وكان لكلِّ عصر داماري قصتُه عن الصراع بينهما، وأن الملك تور كان لقبُه هو العادل.
قالت هاري: «يبدو الأمر مُملًّا للغاية، عندما تقتل زوجتُك التنانين، بينما أنت العادل»، وبينما سمح ماثين لنفسِه بابتسامة، لم يكن ليسمحَ لها بأن تُجرجره ليُخبرها بالمزيد.
لقد اقتنصَت منه شيئًا آخَر. إذ قالت: «ماثين. يظن الأغراب أن اﻟ … اﻟ … كيلار الخاصة بأرض التلال يمكن أن تتسبَّب، أوه، في منع الأسلحة النارية من إطلاق مقذوفاتها، وسقوط الفرسان بدلًا من الاشتباك مع العدو، و… أشياء من هذا القبيل.»
لم يقُل ماثين شيئًا؛ كان قد نقع قِطعًا من لحم أحدثِ الظِّباء التي اصطادتها ناركنون في صوصٍ حريف للغاية، وكان يشويها الآن على عودَين فوق النار الهادئة. فتنهَّدَت هاري.
نقل ماثين نظره من عودَيه إلى أعلى، رغم أن أصابعه استمرَّت في تقليبهما ببطء. وقال: «إنها لحكمةٌ من جانب الأغراب أن يُصدقوا الحقيقة.» ومن ثَم غرس أحدَ العودين، من طرَف المقبض، في الأرض، وغرَس سكِّينه القصير في القطعة الأولى من اللحم. وراح يتأكَّد بدقةٍ من اكتمال نضجها بتذوُّقِ بعضها، مع تقطيب جبهته في تركيزٍ مثل فنانٍ يُقيِّم عمله. ثم استرخى وجهه وأعطى هاري العودَ الآخَر. لكنه لم يقل المزيد عن الكيلار.
لم يسقط ماثين عن صهوة حصانه مرةً أخرى، وبحلول منتصف الأسبوع السادس شعرَت هاري أنها قد نسيَت دروسها الأولى؛ حيث قد مرَّ عليها وقتٌ طويل. لم تستطع أن تتذكر وقتًا لم تكن فيه راحةُ يدها اليمنى تحمل خطوطًا جلدية متيبِّسة بسبب مقبض السيف، ولم تشعر فيه بأن السترة الثقيلة كانت عبئًا عليها وغير مألوفة، أو وقتًا لم تكن فيه قد ركبَت تسورنين كل يوم.
كانت تتذكر بالطبع أنها قد وُلدت في بلدٍ أخضر بعيد لا يُشبه البلد الذي تسكنه الكيلار الذي وجدَت نفسها فيه الآن، وأن لديها أخًا اسمه ريتشارد لا تزال هي تُسميه ديكي، مما يُثير استياءه الشديد — أو كان سيفعل ذلك، إذا كان بإمكانه أن يسمعها وهي تُناديه به — وتتذكَّر الكولونيل جاك ديدام، الذي أحبَّ أرض التلال حتى مثلما كانت تُحبها هي. سبَحَت فكرةٌ في عقلها؛ ربما سنلتقي مرةً أخرى، ونخدم دامار معًا.
في اليوم الرابع من الأسبوع السادس، قالت بتردد لماثين: «أظن أن المدينة تقع على بُعد مسيرة يوم واحد من هنا.»
أجاب ماثين: «إن ظنَّك في محله، ولكن ليست هناك حاجةٌ إلى وجودك في اليوم الأول من المنافسات.»
فنظرت نحوه، مطمئنَّةً قليلًا، ولكن قلقة كثيرًا بعض الشيء.
قال ماثين: «لا تخافي، يا صديقتي التي يُشرفني خدمتها. ستصبحين أشبهَ بصاعقة من السماء، وسيُعمي جانبا تسورنين أعينَ أعدائك.»
ضحكت. وقالت: «إنني أتطلع إلى ذلك.»
فقال: «ينبغي أن تتطلعي إلى ذلك. لكنني، أنا الذي أعرف ما سيحدث، أتطلع إلى ذلك حتى أكثر.»