طبيعة التكنولوجيا
التكنولوجيا هي دراسة الأساليب الفنية «التقنيات» البشرية في صناعة وعمل الأشياء، وإذا شئنا الدقة — خاصة أن اللغة الإنجليزية نادرًا ما تستخدم بمثل هذا التحديد الدقيق في هذه النقطة — فإننا نقول: إن التكنولوجيا ليست معنيةً بامتلاك ناحية التقنيات التي هي موضوع دراستها، إذ يستلزم هذا على الأرجح قدرًا هائلًا من المعارف المتخصصة التي لا يتسنى اكتسابها إلا بعد تلمذة صناعية طويلة الأمد. وإنما تعالج التكنولوجيا بدلًا من هذا: متى؟ وأين؟ ولماذا هذه التقنيات؟ بمعنى أنها تهدف إلى تفسيرها داخل سياق اجتماعي، وبيان كيف ظهرت وازدهرت، والطريقة التي تترابط بها في علاقات متداخلة فيما بينها، وأسلوب تشعبها وانتشارها، وأسباب تدهورها وانحسارها. ومن ثَم فإن التكنولوجيا معنية بفهم التقنيات داخل البيئة التي شهدت نموها اجتماعيًّا. وعلى الرغم من أن البراعة في مجال التقنيات موضوع الدراسة مسألة ليست مرفوضة، فإنها نادرًا ما تكون مستهدفة، فضلًا عن أنها ليست أبدًا بالشيء الجوهري.
ومع أن جميع التقنيات البشرية هي الموضوع الأصيل لدراسة التكنولوجيا، إلا أن النهج الدراسي الشائع ركز الانتباه على بعض التقنيات دون الأخرى، وبات مألوفًا على وجه الخصوص قصر نطاق التكنولوجيا على هذه التقنيات الإنتاجية والصناعية وتقنيات التشييد والنقل والاتصالات التي هي مجال استخدام هذه الطاقة. والملاحظ أن جميع التقنيات الأخرى ذات الطبيعة اللسانية أو الفنية أو الثقافية، أو أي طبيعة أخرى خاصة بها، اكتسبت ضوابطها وقواعدها المميزة، ولم تعد تحظى من مؤرخي التكنولوجيا إلا باهتمام هامشي فحسب. وهذا التقييد أمر محمود؛ ذلك لأن هذا التصور المحدود للتكنولوجيا يتضمن — على محدوديته — مجالًا واسعًا هائلًا. وتعتبر دراسة مصادر الطاقة هي لب تاريخ التكنولوجيا، بيد أن هذا الموضوع ذاته له أوجه عدة، ويعتبر ذا أهمية حاسمة في فهم التاريخ الإنساني. وإذا ما اشتملت الدراسة على استخدام الطاقة أو القوى المحركة في جميع صور الإنتاج والنقل والاتصالات، مقترنةً بالحاجة إلى فهم هذه العمليات في سياقها الاجتماعي فسوف يكون تاريخ التكنولوجيا، كما هو واضح، موضوعًا جوهريًّا ومهمًّا.
وهكذا يمثل تاريخ التكنولوجيا جزءًا مهمًّا من دراسة التاريخ. ويعتبر، بوصفه كذلك، خاضعًا لجميع قواعد الدراسة العلمية التاريخية. معنى هذا أنه يعتمد على الدقة والحذر في طرح الأسئلة التي يتعين الإجابة عنها بعد دراسة نقدية ودقيقة لجميع المصادر المتاحة التي نستمد منها شواهدنا وبيناتنا. وقد تكون هذه الشواهد والبينات متنوعة الأنماط — وثائقية ومادية طبيعية وشفاهية وثقافية. والمعروف أن التاريخ التقليدي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على البينات والشواهد الوثائقية؛ السجلات والوثائق المكتوبة والمطبوعة التي خلفها المشاركون في حقبة تاريخية أو حدث تاريخي، وقد تكون هذه الوثائق شخصية أو إدارية، وذات طبيعة رسمية أو غير رسمية، ولكنها جميعها تخضع لاختبار الدقة والمصداقية وبيان الدلالة والأهمية، وذلك وَفقًا لمبادئ مؤسسة ومعتمدة للبحث التاريخي. ولكن يحق لنا القول إن جميع صور الشواهد والبينات التاريخية الأخرى — المادية والطبيعية والشفاهية والثقافية — لا بد من تحويلها إلى صورة وثائقية في شكل تقرير أو بيان مكتوب قبل استخدامها في البحث والتحقيق التاريخيين، ولكن جدير بنا الاحتفاظ بها كفئات مستقلة منفصلة؛ وذلك لأنها تُذكِّر المؤرخ بالحاجة إلى النظر إلى ما وراء الوثائق — بالمعنى الضيق المحدود — التي تقع بين يديه، وأن يتساءل عما إذا كانت هناك أي معلومات إضافية يتعين تجميعها من بين البينات المادية في الطبيعة، وأنماط الاستيطان والمباني والفنون الصناعية، وكذا البينات والشواهد الشفاهية على لسان مشاركين في الأحداث التاريخية ممن لا يزالون على قيد الحياة، أو من تراث ثقافي وممارسات ثقافية ميسورة يمكن بحثها ودراستها من قِبَل علماء الأنثروبولوجيا وغيرهم من الخبراء. ويطرح المؤرخ تساؤلاته هذه قبل أن يضطلع بإعادة بناء صورة الماضي، وهو ما يمثل الغرض من ممارسة الدراسة التاريخية، وهذا النهج مهم للغاية بالنسبة لمؤرخ التكنولوجيا؛ ذلك لأن مادة موضوعه تتألف أساسًا من مصنوعات مادية يتعين فهمها وتفسيرها. وها هنا تتضح الأهمية الخاصة التي تميز الشاهد والدليل المادي الذي تمثله هذه المصنوعات، سواء من خلال مشاهدتها مباشرةً، أو من خلال رسوم وصور فوتوغرافية، أو من خلال تسجيل أو تقرير يكتبه باحث آخر. ونجد في الحقيقة، وعلى مدى أحقاب طويلة من التطور التكنولوجي القديم، أن الشواهد المادية هي النوع الوحيد المتاح أمام المؤرخين، ولهذا فإن تجميعها وتقييمها أمران لا غنى عنهما عند أي محاولة لإعادة بناء الصورة التاريخية.
ودلالة هذا التأكيد على أن البنية المادية مهمة لمؤرخ التكنولوجيا هي أن ثمة بعدًا أركيولوجيًّا ضروريًّا لموضوع الدراسة، وأن الأركيولوجيا ذاتها يتعين فهمها فهمًا صحيحًا باعتبارها جزءًا من التاريخ، فالتاريخ معنيٌّ بالماضي في شموله، ومن ثم معنيٌّ بأي نوع من الشواهد والبينات التي تمثل محاولة مقبولة عقلًا لإعادة بناء الصورة. وعلم الآثار، أو الأركيولوجيا، معنيٌّ بتفسير الشواهد والبينات المادية خلال عملية إعادة بناء الصورة التاريخية. وتيسرت لهذا العلم بعض التقنيات الدقيقة والمكينة مثل: حفريات طبقات الأرض، وعمليات تحديد التاريخ بالكربون المشع، وتحديد الحقب الزمنية للأشجار، وكذا تحليل غبار طلع الأشجار بغية إنجاز ذلك الهدف. وتعتبر هذه الوسائل ذات أهمية خاصة بالنسبة لأحقاب التاريخ البشري التي توصف خطأً بعبارة «ما قبل التاريخ»، نظرًا لعدم وجود شواهد وبينات وثائقية غير ما يفيدنا به علم الآثار، ولكنها مهمة أيضًا لبعض أوجه التاريخ المسجل، والتي أولاها المؤرخون التقليديون أوفى اهتمام، ونجد من بينها التقنيات الصناعية التي تمثل معلمًا بارزًا؛ ولهذا أضحت أركيولوجيا حضارة التصنيع بمنزلة امتداد مهم لنطاق دراسة الفنون الصناعية لتاريخ التكنولوجيا.
ومثلما أن التكنولوجيا ذات علاقة وثيقة بالأركيولوجيا وبالتاريخ، فإنها وثيقة الصلة أيضًا بالعلم. والمألوف عادةً في حديثنا اليومي أن نستخدم عبارة «العلم والتكنولوجيا» وكأنهما اسمان مترادفان عمليًّا، وهذا تصور مضلل؛ نظرًا لأن كلًّا من الاسمين يمثل شيئًا متمايزًا عن الآخر، إذ بينما تُعنَى التكنولوجيا بصناعة وعمل الأشياء، نجد العلم معنيًّا بالفهم النسقي والمنهجي الذي يحققه الإنسان، رجلًا كان أم امرأة، في بيئته التي يعيش فيها. والملاحظ أن البشر قد يشرعون في صنع وعمل أشياء وهم لا يعرفون — ولزمن طويل — سوى تفسيرات بدائية وجزئية عن الخامات المتاحة لهم، ولهذا نقول إن التكنولوجيا أقدم من العلم. والقول إن العلم في صورته المتعارف عليها هو الفهم الذي حققه البشر رجالًا ونساءً في بيئتهم بفضل تفسير نسقي، إنما هو قديم قِدَم الحضارة التي لا يزيد عمرها على أربعة أو خمسة آلاف عام، وذلك لأن تقنيات الكتابة والحساب إنما ظهرت في المجتمعات المتحضرة فقط لتهيئ لهم دقة القياس والتسجيل، مما يسر لها وضع الأسس لجميع الدراسات العلمية، والتزم العلماء المحدثون دراسة هدفهم تأسيسًا على مفاهيم ومناهج دقيقة ومتطورة يتسع مداها باطراد، وقد بات إطار بحثهم أرحب كثيرًا مما كان في الماضي، وإن ظل الهدف هو ذاته دائمًا: النفاذ إلى حقائق الكون الذي تشكل البشرية جزءًا منه. وأدت التكنولوجيا على مدى هذه الممارسة دورًا مهمًّا بأن زودت العلماء بالأدوات وطرق البحث، ومن ثم تأثروا تأثرًا واضحًا وعميقًا بالنجاحات التي حققها العلم، ولكنها ظلت ولا تزال مختلفة كيفيًّا عن العلم، مما يبرر لنا دراسة تاريخ التكنولوجيا باعتباره دراسة متمايزة على تاريخ العلم، حتى إن اضطررنا مرارًا وتكرارًا إلى التعليق على مظاهر العلاقة المشتركة بينهما، وهي العلاقات التي تقاربت وازدادت قربًا باطراد على مدى القرون الثلاثة الأخيرة.
أسفرت هذه العملية عن بقاء الإنسان الأول على قيد الحياة ونجاحه، وعلى الرغم من أنه كان ضعيفًا هشًّا يعيش على حواف الغابات شبه الاستوائية والأراضي العشبية، وكان فريسة للنمور ولغيرها من الأخطار الطبيعية، فإنه بنى ما من شأنه أن يقيه، ويزيد من طاقاته على جمع الطعام. وهكذا تزايدت أعداد البشر وانتشرت وسكنت بيئات تنطوي على تحديات أكثر، حيث اخترعت أدوات جديدة هيأت للبشر إمكان البدء في الزراعة، عن طريق تمهيد وتسوية وحرث الأرض، واستخراج المياه وتصريفها، وحصاد الثمار، ومعالجة المحاصيل التي تجري زراعتها، وتحولت الحياة البدوية التي تعتمد على البحث عن الطعام إلى مجتمعات مستقرة من مزارعين ومربين للماشية. ويصف علماء الآثار هذا التحول بأنه «ثورة العصر الحجري الحديث»؛ لأنه يمثل علامة على آخر مراحل (ومن ثم أحدث مراحل) العصر الحجري، ولأنه يمثل أيضًا تحولًا هائلًا في أنماط الحياة التي يجدر مقارنتها بالثورات الاجتماعية الأخرى. وبدأت هذه الثورة أول ما بدأت على ضفاف الأنهار الكبرى في المنطقة القريبة من المنطقة الاستوائية — نهر النيل ودجلة والفرات والإندوس والجانج والنهر الأصفر — حيث التربة الخصبة التي تضاف إليها بشكل منتظم تربة جديدة تغني خصوبتها، تحملها إليها مياه فيضان الأنهار، فضلًا عن أنها تربة لا تغطيها غابات كثيفة.
وكانت هذه الظروف ملائمة بوجه خاص لطبيعة التقنيات التي استخدمها المشتغلون بالزراعة في العصور الباكرة؛ ولهذا بدأت هنا وعلى مدى آلاف السنين منذ العام ١٠ آلاف ق.م. ثورة العصر الحجري الحديث، والتي امتدت رويدًا رويدًا إلى غالبية مناطق الكتلة اليابسة في أوراسيا وأفريقيا. واقترن التحول إلى المجتمعات الزراعية المستقرة بالتسارع في زيادة المهارات التقنية، ومن ثم اتسع نطاق تشكيل الحجر لصناعة الأدوات والأسلحة، وازداد أسلوب صناعتها صقلًا. كذلك فإن امتلاك حيوانات أليفة عزز من مهارات تحويل صوف الماشية إلى ألياف لصناعة النسيج. وأدى التقدم في استخدام النار والتحكم فيها إلى ابتكار القمائن والأفران لصناعة الآجُرِّ والسيراميك، ثم بعد ذلك لتشكيل المعادن. وتهيأت للإنسان تقنيات صناعة الأدوات المعدنية، واستخراج المعادن من خاماتها الطبيعية، ثم تشكيلها على هيئة أدوات وغير ذلك من مصنوعات يريدها. وهكذا أصبحت المجتمعات البشرية في وضع يمهد لحدوث تحول عميق آخر ينتقل بها إلى بداية المجتمعات الحضرية.
ولعل أبعد النتائج أثرًا التي ترتبت على ثورة العصر الحجري الحديث هي اتساع نطاق انتشار التجمعات السكانية البشرية، وتحقق هذا بفضل توفير ظروف حياة أكثر أمنًا، وضمان موارد غذائية منتظمة، وحماية ضد عمليات النهب والسلب، بما في ذلك الحماية من المجتمعات المنافسة. واستلزمت مثل هذه الظروف والأوضاع قيام نظام اجتماعي يكفل توزيعًا متكافئًا للطعام، كما يكفل أسباب الدفاع. وحفز هذا إلى ظهور مهارات فنية متخصصة بحيث يستطيع المحاربون حماية المجتمع، ويستطيع الحرفيون أن يعكفوا على مهارتهم وقد تحرروا من الحاجة إلى زراعة طعامهم، وهي المهنة التي كانت لا تزال ضمان حياة المجتمع. وكانت الغالبية العظمى من المهارات القديمة في ثورة العصر الحجري تقوم بها النساء عادةً في المجتمع الزراعي، ومن هذه المهارات صناعة النسيج والخزف، وحرف الخبز والتخمير والتقطير وغيرها. ولكن إضافة حرف الصناعات المعدنية عزز قيام علاقات اجتماعية جديدة، واعتمدت صناعة المشغولات المعدنية على بذل جهد عضلي شاق، كما حظيت السلع المعدنية بتقدير كبير، واعتاد الرجال أداء هذا الضرب من المهارات، ومن ثم الاستئثار بمكانة وتقدير اجتماعيين متميزين. علاوة على هذا فإن البحث عن الموارد المعدنية تضمن أعمال الاستكشاف والتجارة؛ نظرًا لندرة وجود هذه الموارد بكميات وفيرة وكافية حيث تكون الحاجة ماسة إليها تحديدًا. واتسمت بعض المعادن، مثل الذهب والفضة، بالندرة مما أسبغ عليها قيمة دائمًا وأبدًا، ولكن بعض المعادن الأخرى ذات الفائدة العامة، مثل القصدير اللازم لصناعة البرونز (الذي هو مزيج من النحاس والقصدير)، كان من الصعوبة الحصول عليها في منطقة شرق المتوسط، ومن ثم كان لزامًا البحث عنها في أماكن أخرى بعيدة.
ويبدو لنا أن عصر الحديد بدأ خارج مراكز الحضارة السابقة حيث توجد الآن آسيا الوسطى، وقد ظهر حوالي العام الألف ق.م. وتميز باختراع تقنيات تشكيل خام الحديد، ويوجد هذا الخام في مناطق واسعة جدًّا وسط أراضٍ سَبِخة كأنها «مستنقعات حديد»، بحيث يمكن استخراجه بسهولة، كما كان يوجد في صورة ترسبات وسط صخور صُلبة، وكانت المشكلة هي ضرورة تحمل درجات الحرارة العالية للغاية داخل أفران الصهر لمدة ساعات طويلة؛ بغية تحويل الخام إلى معدن حديدي قابل للطرق والتصنيع. معنى هذا أن بداية عصر الحديد كانت رهن نجاح عمال صناعة الحديد الأوائل في بناء أفران على قدر من الفعالية والكفاءة، والتي كانت تقام عادةً فوق قمم تلال مكشوفة في العراء للاستفادة من تيارات الرياح الطبيعية، أو استخدام منفاخ يحركه العمال باليد أو بالقدم لتندفع منه تيارات هواء اصطناعية. وما أصبح بالإمكان السيطرة على هذه التقنيات وإجادتها حتى حلت سريعًا السلع المصنوعة من الحديد محل الأدوات والأسلحة المصنوعة من البرونز، وهكذا تهيأت ميزة حاسمة أفادت الإنسان في إزالة الغابات وفي خوض المعارك. وسرعان ما انتشرت هذه التقنيات في الشرق الأوسط وفي شمال وغرب أوروبا. ونذكر أن أبطال ملاحم هوميروس الأسطوريين حوالي العام ١٢٠٠ق.م. كانوا من محاربي العصر البرونزي، ولكن حضارتَي اليونان والرومان في العصر الكلاسيكي، أي ابتداءً من القرن الخامس ق.م. تنتميان يقينًا إلى عصر الحديد. واستُخدم الحديد سريعًا، على عكس المعادن السابقة، في العديد من الاستخدامات اليومية، مثل: صناعة أوانٍ وأوعية للطبخ، أو صناعة المسامير لجميع أغراض البناء. صفوة القول أن الحديد أثَّر بوضوح في نوعية حياة الإنسان على نحو لم ترقَ إليه المعادن السابقة.
ولكن ليس من الواقعية في شيء النظر إلى معدن الحديد باعتباره هو الذي أفضى إلى نمو الديمقراطية بأي معنًى من المعاني الحديثة لها؛ وذلك لأن تأثيره كان ضعيفًا جدًّا في تحول العلاقات السياسية في الحضارتين الكلاسيكيتين لليونان القديمة وروما. لقد تحددت هذه العلاقات بفعل عوامل عدة؛ أولًا: المسافة الفاصلة بين هذه المجتمعات الجديدة وبين مصر وفارس، وثانيًا: طبيعة الكثير من التقاليد الثقافية التي تولدت نتيجة التأثير المتبادل، وثالثًا: افتقاد التلاحم السياسي فيما بين الدول – المدن التي ازدهرت بفضل الروابط التجارية الناجحة على امتداد محيط حضارات الشرق الأوسط القوية المتماسكة. كذلك فإن الدول – المدن في اليونان القديمة، وفي الإمبراطورية الرومانية ارتضت، شأنها شأن الحضارات القديمة الأخرى، نظام العبودية باعتباره عنصرًا ضروريًّا في البنية التحتية للمجتمع لتوفير قوة العمل اللازمة للأعمال شديدة الوضاعة، والتي تقتضي إجهادًا بدنيًّا. وليس من اليسير التوفيق بين هذا والرأي القائل إن استخدام معدن الحديد عزز الديمقراطية، حتى إن كان انتشار المصنوعات الحديدية أسهم، وعلى مدى فترة زمنية طويلة، في ظهور تقييم اجتماعي واسع النطاق لفوائد التحسينات التقنية. ولعل الحجة الأقرب إلى موضوعنا، في إطار الحضارات الكلاسيكية، هي الحجة القائلة بأن النظام العبودي كان بمنزلة كابحة تعرقل التجديد التكنولوجي، ويؤكد هذا واقع وجود مجموعات كبيرة من الأيدي العاملة من العبيد، مما جعل المخططات التي تستهدف توفيرها كأيدٍ عاملة أمرًا ثانويًّا وزائدًا عن الحاجة؛ ولهذا لم يكن ثمة حافز قوي لتخصيص مواد كبيرة وأساسية من أجل تطوير، مثلًا، القوى المائية حتى على الرغم من أن الرومان كانوا يعرفون جميع التقنيات اللازمة لذلك. ويمكن القول أيضًا، كحجة إضافية، إن امتلاك العبيد فرض التزامًا بضرورة إيجاد عمل لهم يشغلهم، حتى ولو على سبيل إبعادهم عن التفكير في أي إجراءات تضر بالمجتمع، الأمر الذي يعتبر دافعًا للحيلولة دون تطوير واستحداث آلات تسهل الأعمال الروتينية المعتادة.
ويستحيل إثبات أو دحض هذه الحجة، ولكن المرجح — على أقل تقدير — هو أن الاعتماد الكبير على العمل العبودي في الحضارات القديمة تسبب في تأخير التطور التكنولوجي، إذ من الوقائع اللافتة للنظر أن القدر الأعظم من القدرات والفعاليات الفكرية لتلك المجتمعات كانت مكرسة لأهداف غير الأهداف التقنية، وهي أهداف ذات طبيعة سياسية ودينية وثقافية. من ثم تمثلت مظاهر التقدم الكبير في العالم القديم في القدرة على استغلال التكنولوجيا لتحسين القدرات الحربية، أو لتشييد بنايات ذات روعة وجلال، أما المجالات التقليدية لتوفير طاقة العمل، وكذا مجالاته الإنتاجية الصناعية فلم تشهد سوى تقدم ضئيل جدًّا. ولكن ينبغي ألا ننسى أننا الآن بصدد معالجة فترات زمنية أقصر أمدًا تعد بالقرون، وليست دهورًا تمتد آلاف السنين، ومن ثم فإن مجمل سرعة التقدم التقني كانت أكبر كثيرًا مما كانت عليه في ثورة العصر الحجري الحديث، أو العصر الحجري القديم السابق عليه.
الملاحظ عند مناقشتنا لموضوع تطور التكنولوجيا منذ أقدم المجتمعات الإنسانية وحتى عصر الحديد؛ أننا انزلقنا بسهولة نحو استخدام مفهوم «الحضارة»، وجدير بنا أن نتريث لحظة للتأكد من أننا نفهم ما نتحدث عنه، ذلك أن الحضارة تنظيم اجتماعي كبير ومعقد، له فعاليته وتأثيره في مساحات شاسعة من الأقاليم على مدًى طويل من الزمان، علاوة على ما هو مشترك من تقاليد ثقافية كثيرة. وتتميز الحضارة عن المجتمعات الأكثر بدائية بتعقد وتقدم نظمها ومؤسساتها، علاوة على درجة عالية من التخصص الوظيفي بين أعضائها. وتتميز كذلك بنسق واضح المعالم من التقسيم الطبقي الاجتماعي، وامتلاك ناصية القراءة والكتابة والحساب، وكذا ظهور ابتكار السجلات التاريخية، وبداية النشاط العلمي المنظم. إن جميع الحضارات قائمة على نظام متطور من خلق الثروات التي يمكن لها أن تكفل إنتاج وتوزيع الغذاء وغيره من ضرورات الحياة، ويشتمل هذا عادة على العلاقات التجارية والتحضر. وتقوم التكنولوجيا بدور حيوي عند هذا المستوى، في صورة تقنيات زراعية ومهارات في مجال البناء والتشييد من أجل توفير المباني وأعمال الري وقنوات المياه، وأيضًا تحسين الطرق والسفن.
والملاحظ أن غالبية المجتمعات البشرية كانت منذ الألف الرابع قبل الميلاد تمثل جزءًا من هذه الحضارة أو تلك من الحضارات التي ازدهرت آنذاك، واستطاع المؤرخون دراسة ظهور وسقوط الكثير من تلك الحضارات. كما أن الانهيار المأساوي المفجع الذي لحق بين الحين والآخر بإحدى الحضارات كان يمثل مناسبة لإعادة تجميع وحشد الموارد البشرية بصورة جيدة وفعالة، وقع مثل هذا الانهيار عندما اكتسح البرابرة الغزاة الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي، ولكن انبثقت حضارة جديدة متميزة من بين أطلال الفوضى المترتبة على ذلك في أوروبا الغربية، ونعني بذلك الحضارة الغربية التي كانت لها ريادة التقدم التكنولوجي العالمي على مدى الألف سنة الأخيرة. وسوف تكون المراحل الأخيرة من هذه العملية هي موضوع اهتمامنا الرئيسي في هذا الكتاب، ولكن من الأهمية بمكان أن نعرض تخطيطًا موجزًا للخطوط الرئيسية للتطور، بغية تفسير طبيعة الجذور التي انبثقت عنها التكنولوجيا الحديثة.
كانت الحضارة الغربية، تأسيسًا على التقسيم الزمني الأركيولوجي التقليدي الذي التزمنا به، لا تزال تعيش في عصر الحديد عندما ظهرت ككيان مستقل في صورة النظام المسيحي الوسيط. والملاحظ أن المجتمعات التي اندمجت مع بعضها لتؤلف وحدات سياسية مستقرة نسبيًّا، بعد عصر من الفوضى شهدته أكثر أنحاء أوروبا إثر انسحاب فرق الجيوش الرومانية، واستقرار القبائل البربرية الوافدة من وراء نهر الراين والدانوب، كانت تستخدم تقنيات من مصنوعات حديدية لم يطرأ عليها أي تقدم واضح على مدى الألفي عام الأخيرة. وظهرت استخدامات مهمة جديدة للحديد، مثل صناعة حدوة الحصان، ولكن لم يطرأ تغير كثير على طُرق صهر خام الحديد «الزهر»، ووسائل طَرق وتشكيل الأدوات والأسلحة المصنوعة من الحديد. ونجد بوجه خاص أن كل الحديد المتوافر في مدى عصر الحديد خلال الفترة السابقة على نهاية العصور الوسطى، إنما كان على هيئة ما نعرفه اليوم باسم الحديد «المطاوع»، إذ لم تكن ثمة وسيلة معروفة لإنتاج سبائك الحديد بكميات كبيرة. ولكن خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر ظهرت تقنية جديدة مهمة ضاعفت كثيرًا من إمكانات استعمال الحديد في أغراض كثيرة ومتنوعة، ونعني بهذه التقنية «الأفران عالية الحرارة» أو «أفران الصهر»، وهي أبنية أضخم كثيرًا من الأفران التقليدية لتشكيل الحديد، ويمر بها تيار هوائي مستمر تحركه قوًى مائية لزيادة درجة الحرارة إلى أكثر من درجة صهر الحديد، وهو ما يعني أنه أصبح بالإمكان إنتاج حديد مصهور ثم سبكه في صورة عديد من الأشكال المتنوعة، بما في ذلك المدافع الثقيلة وأعمدة لأعمال البناء.
وأصبح هذا معروفًا باسم الطريقة غير المباشرة في إنتاج الحديد، وسبب هذه التسمية أنه للحصول على الحديد التقليدي «المطاوع» أو «المطروق» الذي يمكن تصنيعه عن طريق الدرفلة والطرق حسب الأشكال المطلوبة، أو زيادة تنقيته لصناعة الصلب؛ لا بد أولًا من بذل جهد كبير لإعادة معالجة الحديد المسبوك الذي أنتجته أفران الصهر. ومع هذا فإن حالة الطلب على الحديد المسبوك (الزهر) أدت إلى أن العملية الجديدة تجاوزت سريعًا الطريقة التقليدية المباشرة، ومن ثم طرأ في المقابل توسع في استخدام الحديد. لقد كان التغير من طريقة إلى أخرى عملية ملحوظة ومميزة، بحيث إذا ما ضاهينا ذلك بالعصرين الحجريين «القديم» و«الحديث» نجد ما يبرر لنا وصف هذا التغير بأنه نقلة من تكنولوجيا «عصر الحديد القديم» إلى «عصر الحديد الحديث»، ويجيز لنا هذا أيضًا تفسير الوضع في مجتمعنا، بكل ما انطوى عليه من تعقيدات متقدمة كثيرة في استخدام المعادن والمواد الأخرى، بأنه في جوهره جزء من عصر الحديد الحديث المشار إليه.
وبينما بقيت الحضارة الغربية — ولا تزال — حضارة قائمة على تقنيات تشغيل وتصنيع الحديد، إلا أنها تميزت بانتشار التجديدات التقنية في الكثير من الجوانب الأخرى للحياة. مثال ذلك أن الإنتاجية الزراعية تحولت بفضل استخدام الماكينات والتقنيات الجديدة. ويعود هذا إلى تحسين نظم الدورات المحصولية، واستخدام الخيل مصدرًا رئيسيًّا للقوة الحيوانية في العصور الوسطى، واستمراره من خلال المحاصيل الجديدة، وطرق تربية ورعاية الحيوانات، وصولًا إلى المؤسسة الزراعية المتقدمة للزراعة الحديثة. وبالمثل كانت تقنيات توليد الطاقة والنقل والصناعة التحويلية في حالة ثورة مستمرة على مدى قرون عدة. وحري بنا أن ننظر إلى مجتمعنا التقني المعاصر في ضوء هذه الخلفية من الاستجابة إلى التجديد، مع بيان أن تفسير الظاهرة ليس أمرًا يسيرًا. حقًّا لقد تطورت الحضارة الغربية من دون قاعدة من العبيد، وهو ما اتصفت به الحضارات القديمة (إلا كأداة للاستغلال الاستعماري)، ولهذا عانت دائمًا من نقص في قوة العمل، الأمر الذي خلق طلبًا على أساليب توفير القوى العاملة. ولكن لعل أحد العوامل الأكثر أهمية أن الحضارة الغربية افتقرت إلى التجانس الذي تميزت به الحضارات القديمة، إذ كانت تتألف من مجموعة متنافرة من الدويلات الصغيرة التي تتطور في إطار من التنافس الديني الحضاري بعد حركة الإصلاح الديني الأوروبي في القرن السادس عشر، وعملت هذه المنافسة كحافز إلى التجديد، ومن ثم فإن الدول التي تميزت بقدر أكبر في الحَراك الاجتماعي، أو هيأت إمكانات أخرى للمجد والنجاح؛ أصبحت تحظى بميزة فائقة تميزها على تلك الدول التي سدت أبوابها دون هذه المؤثرات.
وإن وجه التباين المذهل مع الحضارة الغربية يبدو لنا واضحًا عند مقارنتها بالحضارة الصينية، وهي واحدة من الثقافات العالمية العظمى المعاصرة لها. فهذه الحضارة هي، بطبيعة الحال، أقدم كثيرًا من الحضارة التي ظهرت على الساحل الغربي لأوروبا، إذ سبقتها بحوالي ألف عام، إذ تشتمل حضارة الصين على سلسلة كاملة من التطورات التي جرت على ساحة واحدة، وامتدت على مدى ثلاثة آلاف عام على أقل تقدير، ومن ثم لنا الحق في النظر إليها باعتبارها مجموعة من الحضارات المختلفة لولا هذا التجانس الثقافي المذهل الذي بقي واطرد على مدى هذه الحقبة، ويتمثل أحد أوجه هذا التواصل في تطور التكنولوجيا الصينية التي فاقت كل ما أُنجز في الحضارة الغربية حتى نهاية العصور الوسطى الأوروبية. لقد امتلك المشتغلون بالصناعات المعدنية في الصين ناصية تقنية رفع حرارة الأفران بالقدر الكافي لإنتاج الحديد الزهر، وسبقوا الغرب في هذا بزمن طويل، ولكن تحقق لهم هذا دون أن تكون له أصداء اجتماعية عميقة الأثر، بحيث إن التمييز بين عصر للحديد «قديم» وآخر «حديث» ليس له دلالة أو أهمية في الصين. وبالمثل فإن استحداث الطباعة والورق والبارود والبوصلة وغيرها من الابتكارات المهمة، إنما أُنجزت في الصين قبل الغرب ولكن دون أن تتسبب في حدوث أي تحولات عميقة.
ولعل أفضل تفسير لهذا النمط التطوري القول إن المجتمع الصيني في مجمله ظل خاضعًا على مدى الثلاثة آلاف عام لسلطة «الماندارين» أو طبقة كبار الموظفين، ويمثل هؤلاء أرستقراطية مثقفة لا تتوارث السلطة، وتخضع عند الاختيار لتولي مناصبها لاختبارات وامتحانات قائمة على المنافسة، ويمارسون سلطة وقوة عظيمتين باسم الإمبراطور الذي عهد إليهم بهما للعمل في خدمته. والشيء المهم الذي نتوخاه من حديثنا عن هذه الطبقة من الحكام هو استقرارها، إذ على الرغم من تحكمها في جميع مشارب الحياة في الصين، فإنها لم تكن معادية لظهور تجديدات تقنية بين الحين والآخر، شريطة أن تخدم هدفًا يفيد هذه الطبقة، كما يمكن أن يتمثله النظام الاجتماعي القائم بسهولة. وهكذا تطورت التكنولوجيا الصينية ببطء ولكن في ثبات، بحيث يمكن لأي تجديد أن يدخل بسهولة ويسر ضمن نسيج المجتمع. بيد أن هذه العملية عند مقارنتها بسرعة نمو الحضارة الغربية بدت وكأنها راكدة في ظاهرها، ومن ثم أضحت الحضارة الصينية في موقف الدفاع إزاء التوسع القاطع للغرب. واضطرت الصين الحديثة، شأن بقية العالم غير الغربي، إلى ممارسة «التغريب» رغبة منها في التماس وفرة الثروة المادية التي تبدو في صورة الإنجاز المادي المميز للغرب. ووصولًا إلى هذا تنظر بعين التقدير إلى الدينامية التقنية، وترى فيها الخاصية المميزة للحضارة الغربية.
وعند مقارنة الحضارات الأخرى بالحضارة الصينية نجد أن الغالبية العظمى منها لم تكن لتستجيب سريعًا للتجديدات التكنولوجية. مثال ذلك أن الثقافة الإسلامية التي امتد نطاقها إلى أنحاء واسعة في العالم، قامت بدور مهم للغاية في سبيل نقل وتعزيز تقنيات العالم القديم والصين المعاصرة لها، ووصولها إلى الغرب. هذا علاوة على أنها كانت صاحبة الفضل فيما أحدثته من تجديدات مهمة في بعض مجالات الرياضيات وبناء السفن والملاحة. ولكن الحضارة الإسلامية، شأنها شأن الحضارة الصينية، عجزت عن مواكبة التوسع الانفجاري للتكنولوجيا الغربية، وتبنت أساليب كثيرة لتغريب المجتمع بغية المشاركة في المنافع التي تفيض بغزارة بفضل امتلاك ناصية تكنولوجيا الغرب الدينامية. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الحضارات الهندية التي حفزتها العقيدة الهندوسية أو البوذية، إذ استحدثت هذه الحضارة تقاليد ثقافية غنية وذات عمق فلسفي، كثيرًا ما افتقدها الغرب، بيد أنها لم تعول كثيرًا على الأداء التقني، ومن ثم فإن المحدثين من أبناء هذه الحضارات العظيمة وجدوا أنه من الضروري — ابتغاء زيادة قدراتهم على إنتاج الثروة — أن يتجهوا إلى الحضارة الغربية يستوحونها ويسترشدون بها.
وهكذا، فإن الحضارة الغربية وحدها — دون الثقافات الدنيوية الأخرى — أصبحت لها سطوة وسلطان على جيرانها وعلى بيئتها بفضل الاستخدام الجاد والنشط لتكنولوجيا دينامية، شجعت على تطورها ظروف اجتماعية توافرت في كل بلد من بلدان الغرب. وسادَتْها — دون الحضارات العالمية الأخرى — عملية ثورة تكنولوجية مستمرة. وكانت هذه عنصرًا فاعلًا ومثيرًا للتصدع الاجتماعي والمنافسة الحادة فيما بين بلدان الغرب. ومن ثم لم تكن هذه أبدًا حقبة راحة وهدوء في التاريخ العالمي، وإنما كانت على العكس زاخرة ومشحونة بالغيرة الحادة بين الدول المتنافسة. وتفجر هذا كله في صورة سلسلة من الحروب العنيفة، وعانت من ضغوط غير مسبوقة في التاريخ بسبب الزيادة السكانية في ظروف حراك اجتماعي آخذٍ في التوسع باطراد. وواجهت كذلك تحولات عميقة في الثقافة والتوجهات والتطلعات العامة. ومع هذا فإنها حقبة تقتضي تفسيرًا تاريخيًّا؛ نظرًا لما تتصف به من قسمات كثيرة فريدة. وحيث إنها حقبة صاغت معالم وشكل المجتمع المعاصر، فإن التفسير التاريخي يغدو ضروريًّا بغية تقييم آفاق المستقبل لمجتمعنا. وإن دراسة الثورة التكنولوجية التي سادت الحضارة الغربية منذ العام ١٧٠٠م؛ يمكن أن تسهم في فهم الحالة الاستثنائية المشحونة بالمخاطر والاحتمالات، وتحيط بمواطني الكوكب الأرضي مع نهاية القرن العشرين.