المعضلة التكنولوجية
هكذا كان أثر التكنولوجيا المروِّع حجمًا ونطاقًا في المجتمع الحديث، والذي أطلق المؤرخون لأنفسهم العنان لوصف صوره من واقع الأساطير، ولعل إحدى الصور المجازية الأثيرة هي أسطورة بروميثيوس الذي سرق النار من أرباب السماء ليعطيها هدية لبني البشر، وعوقب لتجرُّئه على السماء عقابًا أبديًّا، ولكن لم تُنتزع النار وتُسترد من البشر. ونقرأ أسطورة أخرى، هي أسطورة الملك ميداس الذي أحالت لمستُه صانعةُ الثراء كلَّ شيء إلى ذهب، وأسطورة تلميذ الساحر الذي أطلق عرَضًا قوًى من عقالها، ولم يَعُد ثمة من سبيل للتحكم فيها. وما سيف ديموقليس المُصلَت على عالم منقسم لإصدار حكم القضاء، ولا وحش فرانكشتين سوى أسطورتين أُخرَيَين ذواتَي دلالة. ونحن في هذا الفصل نستخدم صورة المعضلة ظاهرية التناقض التي يواجه فيها صاحبها — وهو هنا العالم الحديث قاطبةً — توقعاتٍ بديلةً لا سبيل إلى التوفيق بينها، ووثيقة الصلة بعضها ببعض بحيث يتعذر، إن لم نقل يستحيل، إصدار حكم فاصل لمصلحة أي منهما. وهكذا يجد الضحية نفسه محصورًا داخل قياس أَقْرن، أي: عليه أن يختار أحد اثنين، ولكنه عاجز عن التخلي عنهما معًا، وهذه هي الأزمة التكنولوجية؛ لأن التكنولوجيا هي التي تهيئ نموذج العلاقة بين بديلين ميسورين.
ويمكن أن نحدد في صيغة مُحكَمة طبيعة المعضلة التكنولوجية؛ لقد أصبح العالم الحديث معتمدًا اعتمادًا تامًّا على التكنولوجيا من نواحٍ كثيرة، أخَصُّها أنها أضحت الوسيلة لتوليد الثروة حفاظًا على مستويات المعيشة، بيد أن هذه التكنولوجيا — في الوقت ذاته — تحمل خطر تدمير المجتمع. والمعضلة هي أن نتجنب التدمير التكنولوجي مع الحفاظ على منافع الاعتماد على التكنولوجيا. وتهيأت لنا الفرصة لملاحظة العديد من مظاهر الاعتماد على التكنولوجيا، وكذا مظاهر أخطارها في العالم الحديث، وعرضنا وصفًا وافيًا ليس بحاجة إلى مزيد لأوجُه الرَّفاه التي تحظى بها وتكفل مستوًى عاليًا للمعيشة في الغرب، وكذا لأوجُه الصراع الرهيب المحتمل عند استخدام الأسلحة التكنولوجية المعقدة، ولكن قد يكون من المفيد — على سبيل التوضيح — أن نستعرض بإيجاز شديد طبيعة قَرنَي المعضلة التكنولوجية قبل أن نمضي في بيان ما نراه سبيلًا لحسمها.
إن خير تعبير موجز عن إحساسنا بالاعتماد المتزايد على العلم هو ما نجده عند ديريك دي سولا برايس متمثلًا في عنوان كتابه المثير «علم صغير، علم كبير». لقد انتقلنا باطراد على مدى القرنين الأخيرين من حالة كان فيها الاكتشاف العلمي والابتكار التكنولوجي ضربًا من الهواية في الأساس، ونشاطًا محدود النطاق، وإن حظي قسط كبير منهما بتشجيع الظروف الاجتماعية التي ظهَرا في كنفها؛ إلى حالة أصبحا فيها نشاطًا واسع النطاق ومنظَّمًا على مستوًى رفيع، ويحظى بموارد اجتماعية موضوعية كبيرة، وقد تخصص للعلم فيهما جيش من الخبراء المهنيين. واستعان برايس ببعض الدراسات الإحصائية البارعة ليبرهن على هذا التحول من «العلم الصغير» إلى «العلم الكبير»، واستنتج منها بعض الاستدلالات الباهرة عن دلالات التغير بالنسبة للمجتمع الحديث. ويكفينا هنا، تحقيقًا للغرض، أن نلحظ أننا شاركنا في خلق عالم تهيمن عليه تكنولوجيا «العلم الكبير»، وذلك أولًا بالاعتماد عليه من حيث وسائل الدفاع في مجتمع عالمي لا يزال مقسَّمًا بين دول قومية يناصب بعضها بعضًا عداءً لدودًا لا ينتهي. وثانيًا بالتسليم بأنها أداة دعم لا غنى عنها لمستويات المعيشة المرتفعة نسبيًّا في بلدان الغرب. وها قد أصبح الاعتماد على التكنولوجيا الآن اعتمادًا كاملًا بحيث إن الحياة إذا لم نقل لا يمكن تصورها من دونها، فإنها يقينًا ستكون حياةً تعافُها نفوسنا. ونحن نشك في أن الزيادة المطردة للسكان في العالم يمكن إعالتها من دون الاستمرار في الاعتماد بشكل أساسي على المواد والأدوات والعمليات التي هيَّأتها التكنولوجيا الحديثة.
وإذا كانت تكنولوجيا «العلم الكبير» حققت وفرة في الثروة المائية لأصحاب الحظ في الاستمتاع بها من الأمم الغربية، وضَمِنت الكفاف للغالبية الساحقة من سكان العالم المحرومين من تلك المزايا، فإنها خلقت أيضًا مشكلات تمثل تهديدًا خطيرًا لوجود مجتمعنا ذاته، وهذا هو القرن الثاني للمعضلة التكنولوجية:
أولًا: إن نجاحات التكنولوجيا في مجالَي الطب والصيدلة والمهارات المقترنة بهما هيأت الظروف التي حدث في إطارها الانفجار السكاني المذهل خلال القرن التاسع عشر، والذي لا يزال مستمرًّا حتى اليوم دون أن تخفَّ حدته. وإذا كانت التكنولوجيا وفرت أيضًا وسائل ضبط النسل عن طريق موانع الحمل الميكانيكية والكيميائية إلا أن أثرها حتى الآن لا يزال محدودًا حيث الحاجة ماسة إليها. وعلى الرغم من أن البلدان المتقدمة استطاعت منذ زمن أن تحد بصورة ملحوظة من معدل الزيادة السكانية فيها، فإن التحيزات الثقافية والدينية الراسخة تَحُول دون تطبيق قيود مماثلة في البلدان النامية؛ الأمر الذي يحمل في طياته نُذرًا كارثية للاقتصاد العالمي.
ثانيًا: إن إمكان وَزْع أدوات الحرب التكنولوجية للتدمير الذاتي الشامل يمثل سيفًا مُصلَتًا فوق رقاب النوع البشري، منذ إلقاء أول قنبلتين ذريتين انشطاريتين على هيروشيما وناجازاكي في أغسطس ١٩٤٥م. وإن تكديس هذا النوع من القنابل ووسائل أخرى أشد تدميرًا (هي القنابل الهيدروجينية الانشطارية) داخل ترسانات الأسلحة في العالم، من شأنه أن يجعل فناء النوع البشري احتمالًا واردًا، معنى هذا أنه إن لم نضع في الحسبان المخزون الرهيب من أسلحة كيماوية وبيولوجية مثل الغازات السامة والبكتيريا القاتلة، وما يُسمى بالأسلحة «التقليدية» فإن هذا كله يزرع الخوف، ويحمل إمكانات تدمير لا رجعة فيه. وهناك الخطر الماثل نتيجة انتشار إشعاعات من محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالقوى النووية؛ إذ لا يضمن أحد أمانًا كاملًا لها في أثناء الحرب. وهناك أيضًا الأخطار الرهيبة التي يمكن أن تقع بسبب حادث عارض في واحدة من هذه المحطات المخصصة لتوليد القوى. والمعروف أن صناعة توليد القوى النووية بدأت في الخمسينيات واعدةً بتقديم حل طويل الأمد لأزمة الطاقة حال نفاد الوقود الأُحفوري، ولكن بعد سلسلة من الحوادث المأساوية التي بلغت ذروتها فيما أصاب محطة تشيرنوبيل لتوليد القوى في روسيا اهتزت بشدة ثقةُ الناس في أمان القوى المتولدة عن الانشطار النووي، وتضاعَف القلق العام بسبب مشكلة لا تزال من دون حل، وهي البحث عن وسيلة آمنة للتخلص من النفايات النووية لهذه المحطات. ومن المشكوك فيه الآن إمكان استعادة الثقة ما لم نكتشف تقنيات ملائمة للتحكم في قوى الانشطار النووي، وهو حل لا يزال بعيدًا، وقد لا نصل إليه قبل مرور بضعة عقود، وإلى أن يتحقق هذا، فإن وجود القنابل النووية ومحطات القوى النووية يشكلان تهديدًا بتدمير البشرية وبالتلوث الإشعاعي. وإذا كانت البشرية تجاوزت هذا الخطر وبقيت على قيد الحياة نصف القرن فإن هذا لا يكفي برهانًا يقلل من احتمالات الخطر، وأنه خطر ماثل وليس بحاجة إلى دليل.
إن أخطار الانفجار السكاني والفناء النووي هما أخطر ما ورثناه عن الثورة التكنولوجية التي يتعين أن نعايشها، ولكنهما ليسا الخطرين الوحيدين؛ فثمة سلسلة من المشكلات البيئية التي نتجت عن استخدام التكنولوجيات الجديدة منذ الحرب العالمية الثانية، وتُعتبر العالمة الأمريكية راشيل كارسون من أوائل من نبَّهوا الرأي العام إلى هذه الأخطار، وذلك في كتابها المستقبلي «الربيع الصامت» الصادر العام ١٩٦٢م. ويقدم الكتاب وصفًا حيًّا للآثار الخبيثة المترتبة على العوامل الكيميائية الجديدة التي تفسد حياة الريف والحضر. وواجهت الكاتبة إدانة واسعة من زملائها العلماء الذين اتهموها بأنها تعمل على إثارة الذعر لأنها تقول إن استخدام المبيدات الحشرية مثل «دي دي تي» دون تمييزٍ عملٌ تترتب عليه آثار عدة إلا أن يكون ذا نفع كبير، ومن ثم تهز ثقة الناس في استعمالهم لهذه المبيدات، ولكن أصبح من المُسلَّم به بعد هذا ببضع سنوات أن هذه المبيدات تُسمِّم سلسلة من الأغذية الأساسية اللازمة لبقاء العديد من صور الحياة النباتية والحيوانية، وأنها على الأرجح ضارة بالحياة البشرية أيضًا. وهكذا أصبحت راشيل كارسون رسول هداية للوعي الإيكولوجي. وبدأ على الفور فرض ضوابط صارمة على الكيماويات الخطرة التي لفتت كارسون إليها الأنظار.
وثمة سلسلة من الأخطار البيئية المقترنة بالتلوث الناجم عن حرق الوقود الأُحفوري، ولكن أصبح بالإمكان منذ الحرب العالمية الثانية التحكم فيما أحدثه الاستهلاك الكبير لإحراق الفحم في الهواء الطلق من أقذار لا يصدقها عقل، وذلك باتخاذ عدد من الإجراءات التشريعية، مثل قوانين الهواء النظيف البريطانية، وحثِّ الناس على استخدام الوقود الزيتي والكهرباء بدلًا من الفحم، ولكن المشكلة أخذت شكلًا عامًّا ومطردًا، وهو ما تجلى واضحًا باعتراف علماء البيئة في الربط بين انبعاثات الكبريت من المحطات الكبرى لتوليد الطاقة باستخدام الفحم أو الزيت، وبين المطر الحمضي (الذي يفسد الغابات، ويؤدي إلى استنزاف سلالات السمك في الأنهار والبحيرات). وهناك احتمال بوجود علاقة إيكولوجية مماثلة بين عوادم السيارات وبعض عناصر الحياة النباتية؛ إذ تُسبِّب العوادم ذبولًا تدريجيًّا للكساء النباتي في الغابات المجاورة، ولكن آلية هذه الظاهرة أكثر غموضًا من ظاهرة المطر الحمضي، ولكن الشيء اليقيني أن تركُّزات الرصاص في الغلاف الغازي المحيط بالمناطق القريبة من طرق السيارات وغيرها من طرق النقل البري الكثيف تشكل خطرًا يَتهدَّد الصحةَ العامة، وأدى هذا إلى التعجيل باستخدام البترول الخالي من الرصاص. وأصبح واضحًا بناء على شواهد كثيرة أن تكنولوجيات النقل وتوليد القوى تَنتُج عنها كمياتٌ كبيرة من الملوثات الضارة حتى بعد القضاء على الدخان الأسود وآثاره الضارة.
ولكن الشيء الأكثر مدعاةً للتشاؤم هو تلك الرابطة التي تأكدت بين انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من إحراق الوقود الأُحفوري وبين ما بات يُعرف باسم «الاحترار الأرضي» أو «الاحتباس الحراري». ويبدو أن قرنين من الاستهلاك الكثيف للفحم والخُث والوقود الزيتي أَدَّيا بالفعل إلى زيادة قدرة الغلاف الغازي على الاحتفاظ بالحرارة التي تصله من الشمس، ومن هنا جاء الوصف المجازي بكلمة «الدفيئة» أو «الصوبة». وتألفت هذه الظاهرة بفعل عديد من الآثار الجانبية الإيكولوجية المختلفة، والتي تمثلت في استنفاد طبقة الأوزون المحيطة بالأرض الناجم عن انطلاق غازات الكلورو فلورو كربون — وهي غازات ذات أساس كلوريدي (ملح حمض كلوريدريك) — ومستخدمة في أجهزة التبريد (الثلاجات)، كما تستخدم قوة ضغط داخل علب رش دهانات الشعر. وحدد العلماء حديثًا جدًّا ثقوبًا واسعة في طبقة الأوزون تسمح بنفاذ قدر أكبر من الأشعة فوق البنفسجية الضارة إلى سطح الأرض. ويبدو جليًّا أن نتيجة هذا كله زيادة ملحوظة في إجمال درجة الحرارة، مما سيكون له آثاره الخطرة في التغيرات المناخية وفي درجة خصوبة الأرض، وفي الإنتاجية الزراعية، وفي كل ما هو مرتكز عليها. وثمة نتائج أخرى تثير القلق، منها احتمال أن يسهم الاحترار المزمن في ذوبان الغطاء الجليدي القطبي، وهو ما من شأنه أن يرفع مستوى مياه البحر، ويشكل خطرًا على كل الأماكن المأهولة الآن قرب شواطئ البحار.
ويبدو أن الإنسان الحديث باعتماده على التكنولوجيا من ناحية، ومعايشته من ناحية أخرى لمجموعة من الأخطار التي تَتهدَّده بسبب استعمال أو إساءة استعمال هذه التكنولوجيا بات محصورًا بين شِقَّي الرَّحى. واشتد عليه الحصار إزاء قَرنَي المعضلة التكنولوجية. ولا تشير علينا دروس التاريخ الحديث برأي واضح بشأن قدرة الناس أو إرادتهم الْتِماسًا للخلاص من هذه المعضلة، ولكن يجدر بنا أن ندرس دراسة فاحصة المعلومات المتاحة لعلنا نصل إلى تقييم للموقف؛ فالملاحظ أن آراء بعض المعلقين ذوي الحصافة والحنكة لا تبعث على التشجيع. مثال ذلك ما ذهب إليه «إتش جي ويلز»، وهو أحد الكُتاب الرُّواد في مجال الخيال العلمي؛ إذ قدَّم بعض التكهنات الرشيدة ولكنها مفزعة عن التطورات المحتملة، ورأى الناس في ويلز رسولًا مبشرًا بمجتمع طوباوي، أو لنَقُل مدينة فاضلة جديدة على أساس من العلم والتكنولوجيا، ولكن الفيلم الذي يصور قصته «أشكال الأشياء مستقبلًا» صوَّر لنا العالم في الأربعينيات وقد عمَّته حرب مروِّعة، ودَهَمته الأوبئة. وامتد العمر بويلز حتى أفاق من وهمه تمامًا بشأن فكرة التقدم حين ألَّف كتابه «العقل عند نهاية حدوده» مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وعرض ألدوس هكسلي أيضًا بعض التنبؤات المتشائمة عن تطورات المستقبل، وذلك في كتابه «عالم جديد شجاع»، والذي يصور عالمًا تسوده تمييزات اجتماعية صارمة بناءً على فوارق بيولوجية من صنع الهندسة الوراثية. وها هو جاك إيلول وريث حركة المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية يطرح بدوره نظرة سوداوية في كتابه «المجتمع التكنولوجي» الصادر في الخمسينيات، وذهب إيلول إلى أن المجتمع التكنولوجي قوة ماحقة تقمع الشخصية تحت ضغوط بيروقراطية مركزية، أو كما عبَّر عن هذا في جملة واحدة: «سيكون الإنسان مُدجَّنًا طيِّعًا شأن سروال تحت مكواة.» وكشف إيلول عن بصيص أمل للبشرية من حيث إمكان بعث للنظرة الروحية. ولكن جورج أورويل في روايته «العالم العام ١٩٨٤م» الصادرة العام ١٩٤٩م فإنه لا يقدِّم أي بصيص من الأمل في ظل كابوس جاثم، حيث تعاني البشرية وإلى الأبد من نُظم حكم استبدادية تملك تحت إِمْرتها وسائل قهر تكنولوجية. ويستقرئ أورويل حال نظم الحكم الشمولية خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها فلا يرى سوى «الأخ الأكبر» الذي يستأثر بكل المزايا التكنولوجية فيسحق كل مظاهر الفردية البشرية … إلى الأبد.
وأعرب كُتاب كثيرون أقل شأنًا عن نظرة مماثلة في تشاؤمها إزاء قوة القهر التي توفرها التكنولوجيا، وذهب بعضهم بنظرته إلى أقصى مدًى، إلى حد إنكار أي إمكان لممارسة نفوذ بشري على مسار الهيمنة التكنولوجية المحدد مسبقًا. حقًّا إن مثل هذه الجبرية التكنولوجية الكاملة نادرة، ولكن حريٌّ بنا ألا نغفلها تمامًا؛ إذ من الضروري، على أقل تقدير، الاعتراف بوجود ما سماه توم هوغيس «قوة الدفع التكنولوجية»، وهي مَيل مغروس في طبيعة أي نظام تكنولوجي صناعةً كان أم شبكة قوًى أم نظام دفاع قومي، لكي يطَّرد في الاتجاه المُبرمَج له في نهاية المطاف، والذي يمكن أحيانًا أن ينحرف عنه فقط بصعوبة كبيرة. وعلى الرغم من أن هذه النظرة تنطوي على قدر من الحتمية، فإنها ليست حتمية تكنولوجية؛ نظرًا لأنها تفترض وجود مهندس معماري أو مُبرمِج قرر مسبقًا ما عسى أن ينجزه البرنامج، ومن الذي يحتفظ ببعض السلطات لتوجيه أو ضبط هذه العملية. والخلاصة أننا عدنا بذلك إلى التكنولوجيا باعتبارها طائفة من الأدوات بين أيدي البشر يُحسِنون أو يسيئون استخدامها. ونظرًا لأن هذه الأدوات أصبحت منظومات شديدة التعقيد فقد أصبحت السيطرة عليها أكثر صعوبة، كما أصبح إمكان إساءة استعمالها أشد خطرًا مما كانت عليه الحال بالنسبة للأدوات الأبسط، وإن ظلت الطبيعة الجوهرية للعلاقة واحدة. ولا تزال المبادرة الإبداعية خاصية بشرية، والأمر موكول للبشر أن تكون لهم السيطرة على الأدوات التي ملك أيديهم، وليس على البشر إلا أن يعرفوا وجهتهم وهدفهم حتى يتسنَّى لهم السيطرة بكفاءة وفعالية. إن رؤية بيكون عن سيطرة الإنسان على الطبيعة تَحقَّق قدر كبير منها بالوسائل التكنولوجية، ولكن البشر بحاجة الآن إلى التفكير فيما يريدون إنجازه بها.
هناك إذن استجابة أكثر إيجابية إزاء المعضلة التكنولوجية، وهي أن أسوأ مراتب المعضلة يمكن تجنبها بفضل السيطرة المُحكَمة على النُّظم المعقدة للمجتمع التكنولوجي وتوجيهها. وحيث إن البدائل غير مقبولة منا فإن من الحمق تبديد هذا الإمكان. وإن عددًا من الخبرات التاريخية والمعاصرة تهيئ أسبابًا للأمل في الالتزام بهذا النهج، وذلك لأسباب عدة؛ أولًا: بات واضحًا في ضوء الماضي أن قرارات الأفراد كانت مهمة وفعَّالة في عمليات الثورة التكنولوجية. حقًّا لقد نبعت هذه القرارات من خلال سلسلة كبيرة من الدوافع، ولم يكن لأغلبها سوى وزن ضئيل. وظل الخيار دائمًا محدودًا بالنسبة للملايين؛ الضغوط الشرسة للمجاعة، والالتزام بنظام المصنع، والعبودية الأجيرة، علاوة على مظاهر القهر السياسي بشكل أكثر سفورًا، كل هذا حرم الملايين من التمتع بقدر من الحرية ذي بال في هذا المجال. وإن أصحاب القرارات الرئيسية والابتكارات في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر إنما فعلوا ما فعلوه بتأثير مزيج من الدوافع المختلفة، من بينها الكسب المالي، وحب السلطة، والرغبة في تحسين أوضاع جمهرة البشر، ولكن لا يقلل من أثر وشأن هذه القرارات حقيقةُ أن نتائجها لم تكن أبدًا على نحو ما قصد إليه أصحابها. وتظل هذه الشهادات مؤشرًا مهمًّا على قدرة الأفراد على التأثير في مسار الأحداث.
ولكن أيًّا كان الدافع المهيمن في حالة بذاتها فإن القرارات الأكثر فعالية هي تلك التي اتخذها التجار وأرباب الصناعات والساسة ورجال الإدارة، الذين توافر لديهم حس قوي بالانضباط الذاتي الذي تمتد جذوره في الغالب إلى عقيدة نابعة من دوافع وأهداف واضحة، ومن عزم وحسم على الإفادة الكاملة بالإمكانات التبشيرية المميزة لمختلف تيارات تراث البشرية. وبعث هذا الضرب من التفكير الصادق العزيمة لدى المجتمعات الرهبانية التي طورت الزراعة والصناعة في براري أوروبا في العصر الوسيط، وهيأت القوة الدافعة لمنظمي المشروعات في باكورة مرحلة التصنيع لكي ينذروا أنفسهم للعمل الشاق دون انتظار لجزاء سريع عن عملهم، ولكن أصبح هذا الالتزام، حين ارتبط بالعقائدية الجامدة والتعصب، مسئولًا عن بعض نُظم الحكم الاستبدادية البشعة، وعن إساءة استخدام السلطة، ولكنه في صورته الإبداعية استطاع أن يحوِّل المجتمع ويصوغه صياغة جديدة. ولعل من المهم أن ندرك أن قوة الحفز الآن أضعف مما كانت عليه في المراحل الأولى للتصنيع. وإذا عبَّرنا عن ذلك بلغة تنطوي على تبسيط لا يخلو من خطر، نقول: هناك الآن استعداد أقل للتضحية في سبيل مكاسب مستقبلية، أو لإعادة توظيف الأرباح، أو للتفكير في موضوعات بعيدة المدى؛ إيثارًا لمظاهر الراحة على المدى القصير. وإذا صادف هذا التحليل بعض الصواب فإنه يعزز الدعوى لدعم وتقوية عامل الحفز البشري ليكون بمنزلة الخطوة الأولى على الطريق لضمان سيطرة صحيحة وسليمة على مسار التطور التكنولوجي.
ومع التسليم بالأهمية القصوى لهذا العامل الدافعي في سبيل ضمان السيطرة على التطور التكنولوجي، هناك أيضًا شواهد أخرى كثيرة على أن استجابة المجتمع الحديث إزاء المعضلة التكنولوجية لم تكن مجرد استجابة سلبية استسلامية. ويدور جدل بين جمهرة المفكرين عن الحتمية في مجال النظرية، أما في النطاق العملي فقد توافرت لنا مجموعة من القواعد لتوجيه التكنولوجيا. وسبق أن رصدنا نجاح الوعي الإيكولوجي في توفير جهاز للإنذار المبكر في هذا الصدد. وبدَّد الباحثون قدرًا كبيرًا من التفكير، خصوصًا في الأدب الأمريكي، بشأن «تقييم التكنولوجيا» كأداة للتحكم في تشغيل التكنولوجيا. وتقييم التكنولوجيا تقنية خاصة بالتحليل الدقيق عن كَثَب للأحداث التاريخية التي تمثِّل سوابق محتملة للمشكلات العصرية. والمعروف أن دافيد كولنجريد قارن بين جهلنا الراهن بمستقبل الصناعة الإلكترونية الدقيقة والوضع في مُستهَل القرن إزاء السيارة عندما رأت لجنة ملكية بريطانية العام ١٩٠٨م أن أخطر مشكلات هذه التكنولوجيا الوليدة هو ما تثيره من غبار الطرق غير المغطاة بطبقة من «الأسفلت». وهكذا كانت العواقب الاجتماعية أكثر عمقًا والمترتبة على السيارة خارج نطاق التنبؤ الموثوق به. ولا يرى كولنجريد أملًا كبيرًا في زيادة قدرتنا على التنبؤ زيادة مهمة، ومن ثم ينتقد محاولة أنصار تقييم التكنولوجيا حين يتطلعون إلى تحقيق مرادهم، ولكن حريٌّ بنا ألا نتخلى عن التعلم من الخبرات التاريخية فنطرحها جانبًا وكأن لا قيمة لها؛ إذ إن الأمل في الإفادة بها لاستصدار أحكام أكثر نضجًا لا يزال أملًا واعدًا بشكل حقيقي.
وثمة عبارتان، هما «التكنولوجيا البديلة» و«التكنولوجيا الملائمة»، تعبِّران عن جهود أخرى تهدف إلى توفير قدر من السيطرة على التطور التكنولوجي. وتُعنَي التكنولوجيا البديلة بوضع تصور لسُبل تجنب الاعتماد على الوقود الأُحفوري وغيره من المواد غير المتجددة، مثل المعادن النادرة، وذلك باستحداث تقنيات وماكينات بديلة. وتهدف التكنولوجيا الملائمة إلى إشاعة التقنيات الملائمة لتنتشر مع تطبيقاتها بين المجتمعات الريفية الصغيرة، ومن هذه التقنيات المحراث المتطور، والمعدات الآلية التي تجرها دراجة، والسواقي الصغيرة لاستعمالها بالنسبة لمجاري المياه الجبلية سريعة الدفق. وأبرز الداعين إلى هذا «إي شوماخار» الذي صكَّ عبارة «كل صغير جميل» لتكون عنوانًا لكتابه الرائد في هذا الصدد. ويؤمن شوماخار بوجهة نظر، مُؤدَّاها أن التكنولوجيا الغربية في سبيلها إلى أن تصبح عملاقًا هائلًا من حيث تأكيدها على الحجم والفعالية، وأن المشروعات الصناعية العملاقة التي من هذا النموذج ليس لها سوى علاقة ضئيلة جدًّا بحاجات المجتمعات الريفية في البلدان النامية، مثل الهند. ودعا إلى إبداله بمشروعات صغيرة كثيرة تلائم المجتمعات الريفية الصغيرة المحدودة، واستخدام التكنولوجيا ذات النطاق الصغير أو «المتوسطة». وراجت آراؤه على نطاق واسع بحيث ترى أن هناك أملًا حقيقيًّا في إمكان توفير درجة من التحكم في التكنولوجيا الجديدة مع دخولها إلى البلدان النامية.
ومن المشكوك فيه أن أيًّا من آليات التحكم هذه التي تهدف إلى تحديد وجهة المجتمع التكنولوجي يمكن أن تُحدِث أثرًا يتجاوز حدود الأثر السطحي في النُّظم التكنولوجية الكبرى التي لها الهيمنة على العالم، وأن محاولات نادي روما في السبعينيات لاستخدام الكمبيوتر لعمل تحليلات تفيد في التنبؤ بمستقبل التطورات التكنولوجية واجهت انتقادات من بحوث مختلفة. وثبت أن هذه التنبؤات إنما حددها أساسًا البرنامج الذي غُذِّي به الكمبيوتر في البداية. وأدى الاعتراف بقابلية الخطأ لمثل هذه الطريقة في التحكم إلى فقدان قدر من الثقة في طرق أخرى. ويعود بنا هذا من جديد إلى أهمية العامل الإنساني ليكون قوة حفز فعَّالة من أجل السيطرة. لقد حققت البشرية هيمنتها على الطبيعة من خلال التكنولوجيا، إذن ما الهدف الذي نريد أن نحققه باستخدامنا لها؟ تحاشي تدمير الذات، واستقرار الوضع السكاني، والمساواة في الثروة بين الأمم، وفي السعي من أجل المعرفة، وإن بَذْل جهد محدد لإنجاز هذه الأهداف سوف يمضي بنا على الطريق المؤدي إلى حسم مشكلة المعضلة التكنولوجية.
ويتعيَّن أن يكون لهدف تحاشي تدمير أنفسنا الأولويةُ القصوى على قائمة الأهداف الأخرى؛ إذ من دونه ستصبح الأهداف الأخرى غير ذات موضوع. وطَبَعي أن تجنُّب حرب كارثية مدمرة هو في جوهره مشكلة سياسية، ولكن حلها يفترض توافر سيطرة فعَّالة على تلك النُّظم التكنولوجية التي تمثلها الدفاعات القومية والقدرات التنافسية على صنع أسلحة الانتقام النووية. وإن الضمان الوحيد، في نهاية المطاف، لتحقيق أمن نسبي بالقدر الذي نبتغيه إنسانيًّا هو إقامة مجتمع عالمي لا يرى فقط أن فكرة شنِّ هجوم عسكري من دولة ضد أخرى أمر غير ضروري، بل مستحيل عمليًّا؛ لأن الوسائل التكنولوجية اللازمة لشنِّ مثل هذا الهجوم تخضع لسلطة سياسية مهيمنة، ولها الكلمة النافذة. وسوف يلزم أن يكون مثل هذا المجتمع تنظيمًا دوليًّا أكبر حجمًا وأكثر تعقُّدًا من أي تنظيم عرفناه حتى الآن، ولكن يظل المبرر والنتيجة المنطقية لأي قرار هما تجنُّب تدمير أنفسنا، وذلك بضمان السيطرة على التكنولوجيا والتحكم فيها؛ إذ إننا إذا ما شئنا البقاء على قيد الحياة كمجتمع عالمي فلا بد أن يتحقق الآن، قبل الغد، تنظيمٌ دولي عالمي قادر على تحمل هذه المسئولية.
وعندما نُقِر ونُسلِّم بالهياكل السياسية للبقاء على قيد الحياة في ظل حضارة تكنولوجية سوف يصبح بالإمكان استخدام موارد العالم بطريقة أكفأ وأكثر فعالية مما هو حادث الآن، في سبيل حسم الجوانب الأخرى من المعضلة التكنولوجية، وسوف نحسم على وجه الخصوص تلك الجوانب الداعية إلى فرض ضوابط اجتماعية واقتصادية من أجل اتخاذ التدابير اللازمة لاستقرار الوضع السكاني، والمساواة في الثروات بين الأمم. وهذه أهداف سياسية أكثر منها تكنولوجية، ولكن نعود لنقول إن التكنولوجيا تهيئ الكثير من الأدوات التي تيسِّر لنا تلك الأهداف إذا ما توافر الحافز إلى ذلك. إن المشكلة مروِّعة، وتقتضي استخدام موارد هائلة مع الالتزام الدائم، وتقتضي أيضًا إدخال تعديلات جوهرية سريعة على العادات والأعراف البشرية، التي لا تزال تركِّز في كثير من بلدان العالم النامي على تكوين عائلات غير محدودة العدد، وعلى التمييز العرقي أو التمييز على أساس الثروات. ونحن نغالي كثيرًا إذا ما توقعنا من جميع البلدان النامية أن تفرض سياسة شديدة القسوة على نفسها من أجل تحديد عدد أفراد الأُسر على نحو ما فعلت الصين حين قررت ألا يزيد عدد الأبناء عن واحد فقط. ويكفي أن ندرك أنه لا يزال أمامنا عشرون عامًا قبل أن يحدث انخفاض مهم في معدل الزيادة السكانية في بلد يبلغ تعداده ربع سكان العالم. وبالمثل سيكون من المستحيل أيضًا أن نطبِّق بين يوم وليلة سياسات تحطم الحواجز الطبقية والعرقية عن طريق فرض تدابير تقضي بالمساواة الاجتماعية، وتمحو مظاهر اختلال التوازن بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم؛ إذ إن مثل هذا الالتزام يقتضي توافر قوة حفْز مجتمعية فريدة.
وهكذا، فإن تحديد الإجراءات اللازمة للإفلات من ورطة المعضلة التكنولوجية يكشف عن قسوة وفداحة المشكلات التي تواجه الحضارة الحديثة، ولكن من المُجدي أن نتحايل على هذه القضايا؛ فهذه المشكلات إنما هي وليدة الثورة التكنولوجية. وها نحن الآن في نهاية القرن العشرين نقف عاجزين عن تجنب بذل الجهد، والمحاولة من أجل حسمها؛ لأن البديل عن حسمها قاتم كئيب. ولعل دراستنا تفيد ضمنًا أن الحلول ميسورة، وأننا بهذه الروح المتفائلة بوسعنا التصدي لهذه المشكلات جميعها. ولنا أن نقول بمعنًى من المعاني إن العامل الحاسم نستمده من بين نسيج النظام التكنولوجي. وهذا هو الحافز المُستمَد من حرصنا على الْتِماس المعرفة؛ فهي الباعث والمنهل الرئيسي للاكتشاف العلمي والابتكار التكنولوجي. إن هذا الهدف إذا ما سمَوْنا به إلى مستوى الرسالة الإنسانية لاكتشاف الكون؛ سوف يمثل المفتاح الذي يهيئ لنا كل إمكانات البقاء. وهذا هو موضوع الفصل الختامي من كتابنا.