عملية الثورة التكنولوجية
تميزت الحضارة الغربية على مدى القرون الثلاثة الأخيرة بخاصية تواصل واستمرارية الثورة التكنولوجية. وهذه الخاصية هي نتاج العديد من التطورات التي تلاقت لتصبَّ معًا في هذا الاتجاه. وأشرنا سابقًا إلى بعض هذه التطورات في الفصل الأول من هذا الكتاب، بينما كنا نستعرض قسمات التطور التقني على مدى آلاف السنين الماضية، وصولًا إلى القرن الثامن عشر. ووضح أن من أهم العوامل ابتكار الزراعة المنظمة التي هيأت إمكان قيام المجتمع المستقر، وخلقت إمكانًا للتوسع السكاني، وكذا ظهور المجتمعات «المتحضرة» الكبيرة التي تميزت بوجود فوارق طبيعية اجتماعية متخصصة، علاوة على فنون الكتابة والحساب. ومن هذه العوامل أيضًا امتلاك مهارات مطردة التقدم دائمًا في مجال صناعة وتشكيل المعادن واستخدام المصنوعات المعدنية، ونشوء وتطور روح البحث العلمي التي رصدت طاقتها لاستكشاف المزيد والمزيد من طبيعة البشر في بيئتهم، ثم أخيرًا — ومع قيام الحضارة الغربية — التنافس الشديد بين الفرق السياسية والدينية المتصارعة، والذي خلق مجالًا لازدهار الآراء التي تلاقت معًا، وحفزت التجارة الداخلية والخارجية وأدت إلى التوسع الاستعماري. وسوف نحاول في هذا الفصل من الكتاب أن نتأمل — عن قرب أكثر — عملية الثورة التكنولوجية التي تحدثنا عنها. وهدفنا هنا أن نفهم طبيعة الابتكار وانتشاره، وأن نستعرض من جديد الطريقة التي أثرت بها هذه العوامل المختلفة في مجتمعنا على مدى القرون الثلاثة الأخيرة.
حاول بعض المؤرخين التمييز بين الابتكار الذي يمثل نشأة منتج صناعي جديد، والتجديد والتطوير، حيث يصف مصطلح «التجديد» تحويل ابتكار ما إلى موضوع تجاري قابل للتطبيق والحياة. ويصف مصطلح «التطوير» ما يلي من مراحل استهدفت تحسين المنتج الصناعي ليكون منتجًا ناجحًا. ولكن مؤرخين آخرين أبرزوا جانب اللاتماثل في التاريخ التكنولوجي إلى حد كتابة هذا التاريخ برمته من منظور الابتكارات الناجحة، وذهبوا إلى ضرورة أن نُولِي الابتكارات الفاشلة قدرًا من الاهتمام. وهاتان النقطتان صائبتان، ويلزم الإقرار بهما. ذلك أن التمييز بين الابتكار، والتجديد والتطوير هو تمييز ملائم، وسوف نلتزم به هنا. وما دمنا نبحث مسألة التماثل فسوف نجد لزامًا علينا الاهتمام بالابتكارات الناجحة دون الفاشلة، ذلك لأن المنتجات الصناعية الناجحة هي المسئولة عن تحول العالم الحديث، ولكن في المقابل إن الابتكارات الفاشلة مهما كانت أفكارها مهمة ومُوحِية إلا أنها تاريخيًّا غير ذات صلة بموضوعنا. ولكن لدينا ما يبرر لنا اعتبار بعضها عوامل مثيرة لمزيد من الأفكار الناجحة، أو القول إنها كانت احتمالات بديلة لتطورات أخرى وقعت فعلًا.
وإذا أخذنا عملية الابتكار إلى غايتها، كتطور ناجح، حيث تمثل القوة الأولى الدافعة للتغير في المجتمع الحديث فسوف يكون بالإمكان أن نُمايِز بين عدد من الأنماط لها في التاريخ. وثمة ما يغرينا في واقع الأمر بالبحث عن نظرية عن الابتكار قادرة على تفسير آليات العملية، بل وقادرة على أداء بعض الوظائف التنبئية. ولكن يتعين مقاومة هذا الإغراء؛ لأن أي نظرية من هذا النوع تنزع إلى تشويه التنوع الفريد للابتكارية البشرية عن طريق تبسيطها، كما تنزع إلى استعمال التحليل التاريخي في غير موضعه الصحيح؛ إذ تستخدمه أداةً للتكهن بالتطورات المستقبلية. ويكفينا هنا، وفاءً لأهدافنا، أن نُمايِز العوامل التي يتكرر ظهورها دائمًا وبانتظام على مدى عمليتَي الابتكار والتجديد. ونبدأ بالقول إنه لُوحِظ مرارًا وتكرارًا أن الابتكار يأتي استجابةً إلى حافز الحاجة الاجتماعية، أو كما يفيد القول المأثور «الحاجة أم الاختراع». بيد أننا إذا ما نظرنا إلى الحاجات الاجتماعية الكثيرة، الضاغطة في عالم اليوم، والتي لاقت استجابة ابتكارية ناجحة؛ سوف يبدو واضحًا لنا أن «الحاجة أو الضرورة» هي إلى حد كبير مسألة إدراك. إذ يتعين أن تحتل الحاجة بؤرة الشعور من حيث هي حاجة اجتماعية، كما يتعين أن يتوافر الإدراك بأنها قادرة على إدخال قدر من التحسين في التطبيق العملي بشكل أو بآخر. ومن ثم فإن المجتمع القادر على إدخال هذا التطبيق سوف ينتج الابتكار وفاءً للحاجة المعينة، ومثلما لم يكن من المرجح بالنسبة للمزارع الشرقي الذي يعمل في حقل الأرز أن يكشف عن حاجة اجتماعية في مواقف ارتضاها قدرًا محتومًا، فإن الصانع الغربي الذي يحظى بمستوًى معيشي أكثر راحة سوف يبذل كل طاقته وبقوة في سبيل حل مشكلة آلية أو تنظيمية تحدُّ من إنتاجيته.
إن الفارق بين الموقفين الشرقي والغربي في هذه الصورة التخطيطية العامة؛ ليس مجرد فارق يتعلق بالشروط الاجتماعية الحاكمة، على الرغم من أهميتها دون أدنى شك، إنه أيضًا فارق في الموارد الاجتماعية، ذلك أن الأوروبي أو الأمريكي الشمالي يعرف أنه حين يكون إزاء موقف يستلزم تطويرًا أو تغييرًا فإنه يستطيع أن يلوذ بسلسلة من الموارد الاقتصادية والاجتماعية. وها هنا تكون «عوامل الإنتاج» في الاقتصادات التقليدية — أعني رأس المال وقوة العمل والأرض — ميسورة له كي يستخدمها، علاوة على العامل الاجتماعي الذي تمثله المهارة المكتسبة عن طريق التعليم والتدريب. وكمْ من الأفكار الابتكارية لم تجد سبيلها إلى التحقيق العملي بسبب تعذر هذه الموارد!
ونذكر هنا واحدًا من أكثر العقول الإبداعية التي عرفتها الحضارة الغربية، ونعني به ليوناردو دافنشي، إذ يبدو لنا واضحًا من أوراقه أنه تصور أفكارًا عن آلات تطير في الهواء وغواصات، ولكن ظروف إيطاليا في القرن السادس عشر — من حيث رأس المال والمواد الخام والمهارات اللازمة — لم تكن ميسورة له، ولهذا لم تجد أفكاره سبيلها إلى التحقق. وبعد هذا بقرنين من الزمان تهيأت للفنان الاسكتلندي جيمس وات تجربة مماثلة بفضل أفكاره العبقرية، وتصور وات طرازًا جديدًا لآلة بخارية، بيد أنه كان سعيد الحظ جدًّا إذ شاركه رجل من رجال الصناعة من أبناء برمنجهام يُدعى ماتيو بولتون، واستطاع بولتون أن يوفر له رأس المال اللازم والآلات والصنَّاع الحرفيين المدرَّبين. وهكذا تهيأت كل الضرورات اللازمة لكي يحول وات أفكاره إلى منتجات صناعية ناجحة. وبات واضحًا أن أي اختراع لا يمكن أن يصادف قبولًا عامًّا إلا بعد أن تتوافر له مثل هذه الموارد الاجتماعية والاقتصادية.
وإذا ما اعتبرنا الحاجة الاجتماعية والموارد الاجتماعية والاقتصادية شروطًا ضرورية مسبقة لأي ابتكار ناجح، فإن مجرد وجودها فقط لن يكون كافيًا لكي يتحقق. إن كل ابتكار هو وليد فكرة بالضرورة، ومعنى هذا أن أي مبتكر لا بد أن يكون لديه إلهام، وأننا ملزمون بأن نكون عند تحديد ظروف وملابسات هذا الإلهام أقل توفيقًا مما نحن عليه عند تحديد الشروط المادية المسبقة اللازمة للابتكار. والذي لا ريب فيه أن توماس ألفا إديسون كان على صواب حين اعتبر ابتكاراته نتاج ٩٩ في المائة من الجهد والعرق، وأن واحدًا في المائة نتاج إلهام. ولكن من دون شرارة الإلهام لا ضمان لكي يجد أي جهد سبيله لتحقيق النتيجة المنشودة. لقد حظي إديسون بهذه العبقرية الابتكارية، والذي لا شك فيه أن كل مخترع ناجح له نصيب منها. ونحن لسنا على يقين مما إذا كان جيمس وات حرص فعلًا على مراقبة ومتابعة غليان الماء في إبريق الشاي، وأنه فكر كثيرًا في قوة البخار، ولكنه يقينًا وصف لنا كيف واتته فكرة إنشاء مكثف منفصل وكأنها ومضة أشرقت بينما كان يسير الهُوَينَى بعد ظهر يوم من أيام السبت في حديقة جامعة جلاسجو، وهذه هي الفكرة التي أحدثت تغييرًا ثوريًّا في الآلة البخارية القديمة الفجة. وحدث الشيء نفسه مع كل من ويلبور وأورفيل رايت، إذ دأبا على مراقبة حركات طائر النورس، ومن ثم تصوَّرا المبادئ الأساسية للطيران الموجَّه. وكم من الملاحظات والمشاهدات التي تبدو لنا بسيطة في ظاهرها — ما لم يكن المرء لديه المبادرة لاتخاذ موقف محدد ومسبق بشأنها — قادت أصحابها إلى ابتكارات تاريخية فاصلة.
ويبدو من المرجح أن الابتكارات تأتي لأصحاب العقول المهيأة لذلك. فالشائع أن بريند لي صارع وكافح في سبيل حل المشكلات الخاصة بإنشاء قنال، حتى لازمته المشكلة في نومه وصحوه بحثًا عن حل لها. وثمة شواهد كثيرة تؤكد أن مثل هذا الكشف أو الإلهام إنما يتوافر لعقل مهيأ جيدًا للصراع مع مشكلة غير مألوفة. وطبيعي أن المشكلة حين تكون مشكلة غير مألوفة فسوف يكون عسيرًا أن تحدد بالضبط أي الاستعدادات هي الأكثر ملاءمة، بحيث تقود الباحث إلى الحل الصحيح. وهناك أمثلة لاختراعات تقتضي اشتراك عديد من المباحث العلمية، وتستلزم من المخترع خبرة جديدة للتصدي لمشكلة تستعصي على الحل. والملاحظ أن المشروعات الصناعية الحديثة عمدت إلى مواجهة هذه الاحتمالات عن طريق إنشاء فرق بحث من ذوي المهارات المشتركة، للعمل من أجل استثمار الأفكار الجديدة. ولا شك في أن هذه المناهج حققت نتائج مجزية جدًّا في مجال الإلكترونيات والصيدلة والهندسة الكيميائية، علاوة على مجالات بحوث أخرى. ولكن يظل الابتكار في نهاية المطاف ظاهرة شخصية إلى حد كبير جدًّا. فالإلهام يحدث لشخص بذاته، وفي حالة خاصة للعقل، ومع درجة مميزة من الاستعداد، ولكن المفهوم البشري الحيوي، أعني ومضة العبقرية، فهي بحكم طبيعتها الجوهرية شيء لا يمكن التنبؤ به.
وهكذا لا يمكن اختزال الابتكار إلى مجموعة من المقولات النظرية الخالصة، ونظرًا لأنه يرتكز على الإلهام عند المبدعين فإننا نجد الكثير من الأوجه المشتركة بينه وبين الفن، وهو — شأن الفن — لا يمكن التنبؤ به. وجدير بنا أن نركز على علاقة الترابط هذه، لأن الناس عادةً ما يغفلونها في عصرنا المعتمد على الميكانيكا. ونحن نعرف أن الابتكار الخيالي عند تصميم محرك السيارة أو هيكل كوبري ضخم أو ابتكار خصائص مادة بلاستيكية جديدة؛ إنما هو عمل له خصوصياته الجمالية التي يتبدى فيها الجمع بين الإبداع وأناقة الأداء الوظيفي، إذ لا بد أن يكون المهندس القائم بالتصميم راضيًا، لأن هذا الابتكار أو ذاك يعطي «إحساسًا» بأنه صواب، حتى إن تعذر عليه تفسير هذا الشعور الحدسي. وليس بالإمكان استحضار هذه الخصوصيات حسب ترتيب خاص، ولكن يمكن تشجيعها. ولعل أهم شرط في الشروط الأولية اللازمة لتحقيق ابتكار ناجح هو شرط وجود وسط اجتماعي متعاطف معها ولها. ولقد قيل عن حق: إن «ابتكار الابتكار» هو من أهم القسمات المميزة للحضارة الغربية الحديثة، ونعني بذلك قيام نظام اجتماعي داعم للمبدعين ولأفكارهم. ونذكر من بين عناصر هذا النظام خلق نظام للحماية القانونية عن طريق شبكة ملائمة لقواعد منح براءة الاختراع حتى يمكن للمبتكر أن يتمتع بالعائد المادي الذي يستحقه عن أفكاره. ونذكر من بينها أيضًا وجود مجتمع متسامح وقابل لأن يمنح المبتكر جوائز أخرى في صورة ترقٍّ اجتماعي وتقدير عام. ويشتمل مع هذا كله على التشجيع النشط من جانب هيئات ومؤسسات المال، وعلى قدر من الرعاية عند النهوض بمخططات كبيرة. وهكذا، وعلى الرغم من عدم إمكان تحديد «نظرية عن الابتكار» تحديدًا صحيحًا، فإن من الواضح أن ثمة نمطًا من الشروط الأولية التي يلزم توافرها للابتكار الناجح الذي يجعل من الممكن الإقرار بمجموعة من الظروف والملابسات، التي من دونها لا يمكن للابتكار أن يزدهر.
مثال آخر عن السجال بين النزعة الانتشارية والتوالد التلقائي نجده في محاولة المستكشف وعالم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال للبرهنة على وجود نوازع انتشارية على نطاق الكوكب الأرضي كله، إذ دُفع مؤكدًا أنه كان بالإمكان تقنيًّا أن يعبر شعب بولينيزيا جنوب المحيط الهادي فوق أطواف معتمدًا فقط على تيارات المحيط والقوة البحرية البدائية. وأكد أيضًا أنه كان بإمكان الصناع الحرفيين الذين تعلموا في مصر أن يعبروا شمال المحيط الأطلسي فوق أطواف مماثلة. وبرهن على صدق نظرته بأن قام بنفسه بالعبور هنا وهناك، وانتهى إلى أن لا مناص من التسليم بأن الثقافة البولينيزية قد عبرت على الأرجح المحيط الهادي من جنوب أمريكا إلى نيوزيلندا، وأن مهارات التشييد والبناء عند أهل حضارات المايا والأزتيك والأنكا إنما اكتسبوها على الأرجح من مصر القديمة. وإن القول بإمكان انتقال التكنولوجيا من مصر إلى أمريكا يحظى باهتمام خاص من وجهة نظرنا. ولكن يتعين القول إننا لم نضع أيدينا بعد على برهان حاسم يؤكد حدوث هذا الانتقال على هذا النحو، وإنه من الغريب أننا لم نعثر على دليل مكتوب في المخطوطات الهيروغليفية — وهي كثيرة — يحدثنا عن مجتمعات العالم الجديد لو كان هناك أي تأثير مصري، لذا نقول مرة أخرى إن من الأفضل تعليق الحكم آملين أن يتوافر لنا المزيد من الأدلة والبراهين.
وإن مسألة انتشار الابتكارات الصينية وانتقالها إلى الغرب مسألة شديدة الحساسية؛ لأنها تشي بأن الحضارة الغربية مستمدة في بعضها من هناك، وهو الأمر الذي أحجم المؤرخون الغربيون بعامة عن قبوله. بيد أننا سبق أن لاحظنا أن الحضارة الصينية واحدة من أقدم الحضارات العظمى، وأنها تطورت في مسار متصل ومتجانس نسبيًّا ابتداءً من الألفية الثانية قبل الميلاد. ولاحظنا مع هذا أنه قد تيسرت لها في ظل الأرستقراطية غير الوراثية من كبار موظفي الدولة إمكان تبنِّي ابتكارات نافعة ووضعها موضع التنفيذ في مجالات اجتماعية بناءة. واستطاع الصينيون أن يمتلكوا، قبل الحضارة الغربية، ناصية استخدام عديد من التقنيات، من بينها تقنيات استخدام الحديد الزهر، وصناعة البارود والخزف، والتصميم الهندسي للساعات الميكانيكية، وطواحين الهواء، والطباعة المتحركة. ونظرًا لأسبقية الصين المؤكدة في الكثير جدًّا من مجالات الكفاءة التكنولوجية فإن من الممكن على أقل تقدير القول إن هذه القدرات انتقلت إلى الغرب، وإن هناك في الواقع دلائل قوية جدًّا — وإن افتقرت إلى دليل حاسم — على أن مثل هذا الانتقال حدث بالفعل في أغلب الحالات. مثال ذلك البارود، إذ يبدو يقينًا أن المخترعين الأوروبيين استلهموا وسائل التجريب مع عدد من التركيبات التي أحضرها بعض الرحالة عند عودتهم من الصين، ولكن الأمر ليس بمثل هذا الوضوح بالنسبة لحالتَي طواحين الهواء والطباعة. أما عن آليات أو حيل الساعة الميكانيكية فقد طورها الأوروبيون بناءً على تصميمات تحكُّم مختلفة عن تلك المستخدمة في الصين. والملاحظ فيما يتعلق بالخزف فإن الغرب لم يحاول إخفاء رغبته في محاكاة وتقليد الطرق الصينية. وإن الشيء الذي لا يدانيه شك تاريخي الآن هو أن أوروبا تأثرت بالتفوق التقني الصيني فكان حافزًا قويًّا لها إبان العصور الوسطى. وظل هذا الأثر قويًّا فيما بعد في مجالات عدة، من بينها الخزف. هذا على الرغم من أن الغرب تهيأت له قوة دفع ذاتية في مجال الابتكار التكنولوجي بعد العام ١٥٠٠م.
وفي مقابل النظريات التي تُحدثنا عن انتقال الاختراعات من مصدر أو مصدرين رئيسيين؛ نجد تفسيرًا بديلًا يؤكد أساسًا على عالمية الاختراعات. وتقضي هذه النظرة بأن الاختراعات تميل إلى أن تحدث طبيعيًّا وعلى نحو متزامن ما دامت الشروط ملائمة لذلك. ومن الأهمية بمكان أن نعترف بأهمية هذه الحُجة؛ ذلك لأنها تعتمد على خصائص الفضول المعرفي وقابلية التكيف، وهي خصائص — كما رأينا في السابق — كانت قسمات حاضرة دائمًا لدى الأنواع الشبيهة بالبشر، ونخص بالذكر منها الإنسان العاقل. ومن المحتمل علاوة على هذا أن البشر رجالًا ونساءً راودتهم دائمًا أفكار تحفز إلى الابتكار ثم ضاعت أو طواها النسيان، وأن هذا هو السبب في تواتر الابتكارات وتكرارها على مدى الزمان. بيد أن تطور وظهور المجتمعات المتمدنة نزع إلى إسباغ طابع مؤسسي على التكنولوجيات من خلال الكتابة والقراءة والحساب والتعليم، ومن ثم أصبحت الابتكارات أقل عرضة للضياع، واتسع نطاق احتمالات محاكاتها. ويعني هذا أن آليات الانتقال يمكن أن تكون فاعلة ومؤثرة بالنسبة لجميع الابتكارات، سواء كانت حديثة أصيلة أم مستمدة من تراث قديم، ومع الاعتراف بإمكانية أن يحدث الابتكار المتزامن في أي زمان أو مكان في المجتمع البشري؛ يصبح لزامًا أن نضع في الاعتبار واقع أن الابتكارات في المجتمعات المتمدنة في الأقل انتقلت لأسباب عدة ومتباينة — وهو ما يمكن أن نسميه «آليات الانتقال».
وتشتمل هذه الآليات على هجرة الصناع الحرفيين، وتسويق المنتجات الصناعية، ونقل المعلومات عن طريق الرحالة، وكذا المعلومات التي تنشرها الصحف السيارة أو التي تتضمنها براءات الاختراع وغير ذلك من منشورات وسجلات. وإن لنا كل الحق في أن نرصد جميع هذه العمليات في التطبيق.
ولكن من المفيد أن نُمايِز بينها كعوامل في الثورة التكنولوجية، فإن قدرة الصناع على نقل مهاراتهم من بيئة إلى أخرى كانت واحدة من أقوى وسائل النقل، وكان بالإمكان حثهم على الانتقال بوسائل عدة، من بينها الرشوة أو ما ينتظرهم من جزاء مالي. وكانوا يُنقلون غصبًا بسبب الاسترقاق أو النفي كعقوبة، أو يهربون خوفًا من اضطهاد سياسي أو ديني، أو ينتقلون لا لشيء سوى الرغبة في الْتِماس حياة جديدة في مكان آخر. وأيًّا كان سبب الانتقال فقد كانوا يرحلون ومعهم مهاراتهم، وإذا أعوزتهم لسبب أو لآخر الأدوات أو المواد الملائمة واللازمة فإنهم يكونون قادرين على إعادة ابتكار خبرتهم التقنية في بيئتهم الجديدة. ولعل من أهم الأمثلة الموثقة والدالة على هذا حالة صمويل سلاتر وآخرين، الذين حملوا معهم عبر الأطلسي في نهاية القرن الثامن عشر مهاراتهم بشأن تشغيل ماكينات النسيج الحديثة، واستطاعوا بذلك أن يُعجِّلوا من حركة تطوير صناعة النسيج في الولايات المتحدة.
ويمكن أيضًا أن تكون المصنوعات ذاتها مصدر إلهام لنقل التكنولوجيا. مثال ذلك أن البحارة الغربيين حين شاهدوا لأول مرة البوصلة الصينية كابدوا في سبيل الإفادة بها، ومحاكاة هذه الأداة ذات النفع الكبير الذي يفوق كل تقدير في مجال الملاحة. ونلاحظ على مدى تاريخ البشرية أن رؤية واستعمال منتج صناعي جديد جمِّ النفع حفَّز المنتفعين به إلى بذل الجهد لتقليده وصناعة مثيل له، حتى إن جاء التقليد غير مطابق في بعض مواصفاته. ويحدث أن يأتي المنتج المقلَّد أفضل عمليًّا من الأصل، ومن ثم يمثل منتجًا مغايرًا أو أجود من سابقه. وأكثر من هذا أن مجرد نموذج كامل للمنتج الصناعي يكون كافيًا ليعرف منه الصانع الذكي ما الذي يحتاج إليه لكي يحاكيه ويصنع مثلًا له. وأفادت نماذج السفن حتى عهد قريب جدًّا في أداء هذا الدور في مجال صناعة السفن. ونقول مرة ثانية إن عودة الرحالة من البلدان الأجنبية ظلت دائمًا مصدرًا مهمًّا للمعلومات بشأن نقل التكنولوجيا. وهكذا نجد دور هؤلاء الرحالة — من أمثال مارك بولو الذي زار الصين خلال القرن الثالث عشر — دورًا بالغ الأهمية للحصول على المعارف الخاصة بعجائب تكنولوجيا الشرق. ونعرف أن رحالة من جميع المشارب والاهتمامات — ديبلوماسيين وتجارًا وسواحًا — جابوا كل أنحاء الغرب، وتنقلوا من هذا البلد إلى ذاك فكانوا مصدرًا مهمًّا للغاية لنقل الخبرات التكنولوجية. وربما جلبوا هذه الخبرات بطرق غير مشروعة، ولكنها في جميع الأحوال كانت ذات فائدة جمة في هذا الاتجاه، ونضيف إلى هذا مصادر المعلومات المنشورة في صورة وثائق رسمية، مثل مواصفات براءات الاختراع، والأوراق الرسمية، مثل الصحف والدوريات التجارية، وغير ذلك كثير جدًّا من صور المعلومات المطبوعة، إذ كان لهذه المصادر أيضًا أثرها الفعال كوسيلة لنقل التكنولوجيا.
وتُعتبر جميع هذه الوسائل المشار إليها في نقل التكنولوجيا هي وسائل وحِيلًا اجتماعية، إنها موجودة لأن التكنولوجيا يجري إنجازها داخل إطار اجتماعي محدد تمامًا بحيث يشجع — أو إنه على أقل تقدير يجيز — التبادل الميسور للعاملين، وللمعلومات والمنتجات الصناعية. ويشير هذا النموذج للعلاقات الاجتماعية إلى مجال آخر رئيسي له أهمية في تاريخ التكنولوجيا، إذ بعد مشكلات الابتكار ونقل المعلومات التكنولوجية يبقى لدينا الانتشار الاجتماعي للتكنولوجيا. قد لا يكون ثمة مجال للشك في أن الابتكار التكنولوجي كان عاملًا مهمًّا من عوامل التغيير الاجتماعي، على الرغم من أن طبيعة هذه العلاقة تبدو لنا أحيانًا شديدة التعقد للغاية، بحيث يتعذر علينا تفكيك الروابط العلمية وبيان أيها علة للآخر. إن الابتكار التقني من شأنه أن يشوش أو يغير من الآليات «الطبيعية» للسكان، مثال ذلك أن ييسر الابتكار إنتاج المزيد من غلة مساحة منزرعة، أو أن يقضي على أسباب مرض ما، وهذا من شأنه أن يحفز بدوره حركة التحضر، ومن ثم يزعزع الأنماط التقليدية للحياة وسبل تنظيم العمل. ونجد بالمثل أن التقدم في التكنولوجيا العسكرية يغير من موازين القوى السياسية، ويشجع بالتالي على المنافسة والحرب، بينما تحسين سبل النقل والمواصلات يكسر حدود الزمان والمكان. وطَبَعي أن هذا التقدم في صوره المختلفة يعزز عملية التغير الاجتماعي. وكثيرًا ما يحدث هذا بطرق غير متوقعة وغير مستهدفة، ويؤثر تأثيرًا مباشرًا في نسق القيم للعقائد التقليدية، وفي الخيال الفني والأدبي. ويتحمل مؤرخو التكنولوجيا مسئولية استكشاف عواقب موضوع دراستهم حتى إن تعذر عليهم الوصول إلى إجابات شافية بشأن ما ينطوي عليه هذا الموضوع من مشكلات.
وحاول معلقون كثيرون، سواء قبل مامفورد أو بعده، وضع تفسيرات نسقية للثورة التكنولوجية. ونجد النسق الماركسي من أبرز الأنساق الفكرية الباكرة. ولقد غالى، إلى حد الإفراط، كلٌّ من ماركس وإنجلز في تأكيد العنصر التكنولوجي في عملية التغير الاجتماعي، خاصةً فيما يتعلق بدور «المكننة» في تحول أنماط العمل من أنماط عمل منزلي إلى تنظيم للمصانع. وتركز تأكيدهما دائمًا وأبدًا على الثورة السياسية التي تأتي ثمرةً لهذه التطورات. وأفسد فعاليةَ حُججهما إصرارُهما على استقطاب العناصر المشتركة في الطبقات الاجتماعية المتنازعة، وأدى هذا الاستقطاب إلى المغالاة في تبسيط العلاقة وإلى التقليل من شأن المشاركة المباشرة من جانب الأفراد في العملية. وحاول الكُتاب اللاحقون الملتزمون بهذا التقليد تأكيد معامل ارتباط بين تواتر الابتكارات ودرجة التحول الاجتماعي السياسي، غير أن النتائج لا تزال تمثل إشكالية.
والجدير ذكره أن غالبية المناقشات بشأن الأنساق التكنولوجية وعلاقتها بالمجتمع جاءت على أيدي علماء اجتماعيين — من علماء اقتصاد توَّاقين إلى تطبيق تقنيات رياضية في القياس والتحليل، ومن علماء اجتماع تحدوهم رغبة شديدة في إثبات طبيعة «البنية الاجتماعية» للتحول التكنولوجي. وقدم كل فريق بعض الأفكار المفيدة، وإن لم يقدم أيٌّ منهما نسقًا تفسيريًّا مقنعًا لعملية الثورة التكنولوجية. ولقد كان التحليل الاقتصادي ذا قيمة رفيعة المستوى في تأكيده على أهمية التقديرات الكمية الدقيقة كأساس للتأمل النظري. بيد أن تطبيقه لنظرية الاحتمال المقابل (بمعنى محاولة تحديد ما كان يمكن أن يحدث لو أن ابتكارًا بذاته لم يرَ النور) في سبيل تفسير مشكلات في التاريخ التكنولوجي، مثل إحلال الطاقة البخارية محل الطاقة المائية، وكذلك إحلال النقل بالسكك الحديدية محل النقل المائي إنما كان أقل فائدة. ويرجع هذا إلى أن الحسابات لا يمكن أبدًا أن تكون دقيقة تمامًا بحيث تشمل ما تنطوي عليه هذه العملية من متغيرات لا حصر لها. أما عن إسهامات أنصار «البنية الاجتماعية» للتكنولوجيا فإنها استثارت حماسة كبيرة وسخونة، ولكنها لم تلقَ بعد سوى أضواء قليلة. والعقبة هنا هي أن علماء الاجتماع نزعوا إلى تناول المشكلات في تاريخ التكنولوجيا على مجموعة أسس واسعة من التصنيفات النظرية و«إطار فارغ من المفاهيم»، ملئوه بالمادة التاريخية المتاحة. وها هنا يتعذر الوصول إلى الدليل ما لم يكن ملائمًا ومتسقًا مع هذه الأُطر المتصوَّرة مقدمًا، وغالبًا ما يأتي «الحل» لأي مشكلة تاريخية في صورة حل مفترض ضمن بنية النظرية التي يجري بحث المشكلة تأسيسًا عليها. وإذا كنا على يقين من أن كل بحث تاريخي يستلزم توافر معيار ما ينبني عليه التنظيم النظري الأولي، فإنه يتعين ألا نسمح لهذا بالهيمنة على عملية البحث. وها هنا تحتاج جهود علماء الاجتماع إلى صقل وتشذيب.
وأكد أرنولد باسي منذ عهد قريب جدًّا فكرة مماثلة في كتاب «التكنولوجيا في الحضارة العالمية». ولكنه التزم هنا جانب الدراسة العلمية الأكاديمية أكثر من بيرك، وقدم تفسيرًا متسقًا بشأن تاريخ التكنولوجيا. وتتمثل قوة هذا العمل في برهنته على اتصال واستمرار عمليات التغير المتبادلة في مجال التطور التكنولوجي بين الثقافات الرئيسية في العالم. ونجده في تتبعه لهذا «الحوار أو الجدل التكنولوجي» ينجح في بيان الكيفية التي انتقلت بها الابتكارات بين الحضارات الآسيوية والصينية والإسلامية والهندية والأفريقية والأمريكية، وأيضًا وبطبيعة الحال الحضارة الغربية. ويمثل الكتاب إنجازًا مثيرًا للانتباه، ولكن تعتوره أحيانًا حالات من الهبوط وعدم الإثارة، وذلك أن الابتكار التكنولوجي يرده إلى حالة من الألفة التي لها تفسيرها مع إدراك ضعيف للخاصية الثورية غير العادية، التي تتسم بها غالبية التكنولوجيا الحديثة. بيد أن هذه هي تحديدًا القضية موضوع الجدل، إذ حين يؤكد كلٌّ من بيرك وباسي على الترابطات المتبادلة في التاريخ التكنولوجي فإنهما يفعلان هذا عن طريق إغفال خصائص التكنولوجيا الغربية الحديثة. هذا بينما نجد مفهوم الثورة التكنولوجية معنيًّا بتركيز الانتباه على هذه الخصائص باعتبارها أهم جوانب السرد التاريخي.
ويشدد جورج بازالا في كتابه الصادر حديثًا تحت عنوان «تطور التكنولوجيا» على إمكان النظر إلى الثورة كنوع من التطور المتسارع، وإلى تاريخ التكنولوجيا كعملية تطورية. ويؤكد قائلًا: «إذا كان لا بد للتكنولوجيا أن تتقدم فلا بد أن تظهر الجِدة واضحة وسط ما هو متصل ومستمر» (ص٨ من المقدمة). ويدرك بوضوح استحالة عقد مناظرة دقيقة مع التطور الدارويني لأنواع النباتات والحيوانات، وذلك لسبب بشري أساسًا، وهو أن التطورات التكنولوجية تتفاعل بعضها مع بعض على نحو مغاير تمامًا لما يحدث من تفاعل بين الأنواع النباتية والبيولوجية. بيد أنه مع هذا يشدد على فائدة الاستعارة المجازية في تفسيره التاريخي لبيان وجود بنية أساسية لعملية الاتصال، وهذا هدف يمكن قبوله. ولكن ليس ضروريًّا من أجل تحقيقه أن ننكر أن بعض الابتكارات أكثر جِدة من سواها، وأن بعضها أفضت إلى نتائج جذرية أو مثيرة للتشوش، بينما أمكن استيعاب البعض الآخر وتمثله دون أي مشكلات. أو لنقلْ بعبارة أخرى إنه بينما يمكن التأكيد على أن التاريخ التكنولوجي بعامة يكشف عن خصائص قوية تثبت حالة الترابط التطوري المتداخل، إلا أن هذا لا يحول دون إمكان القول إن التطورات التي شهدتها الحضارة الغربية على مدى ثلاثة قرون انطوت على شيء ثوري أصيل.
ولم تكن الثورة التكنولوجية العامل الوحيد للتحول الاجتماعي في الحضارة الغربية. وليس فيما نقول محاولة لإحياء نهج بالٍ يعتمد على تفسير كل ظواهر التاريخ الحديث في ضوء علة واحدة. ومع هذا، فإذا كنا نجد عوامل أخرى — مثل حياة المدينة، واقتصاد السوق، والضغوط السكانية، والدافع الديني وغيرها — قد ظهرت واضحة في جميع الحضارات في أزمنة وأمكنة مختلفة، فإن الاستغلال المنهجي المنظم للابتكار التكنولوجي على نطاق واسع لا نجده إلا في الحضارة الغربية وحدها. وهذه الحقيقة هي التي تبرر لنا أن نركز انتباهنا بشكل خاص على ظاهرة الثورة التكنولوجية. ونلحظ في جميع الأحوال أن التزام الثقافة العالمية للحضارة الغربية بالتكنولوجيا هو الذي حددها على نحو غير مسبوق، ولذا فإن اكتشاف علل ونتائج هذا الالتزام هو القضية الرئيسية في كتابنا هذا.
وجدير بالملاحظة أن مصطلح «الثورة التكنولوجية» نستخدمه هنا بصيغة المفرد لوصف عملية تتصف بالشمول والاستمرارية. وهناك من يعترض بأن هذا الاستعمال يُعوِزه ما يفيد ضمنًا حدوث انقطاعات فجائية في الممارسة مقترنة ببعض الثورات السياسية. وردُّنا على هذا أنه يتعين علينا ألا ننسى أن الكثير من هذه الانقطاعات التي تحدث لأسباب سياسية في الظاهر هي أقل جذرية مما تبدو عليه للوهلة الأولى. هذا علاوة على أن التحولات العميقة المقترنة بالثورة التكنولوجية جديرة بأن نعتبرها ثورية، شأنها شأن أي تطورات أخرى في التاريخ. ولا يستحق الأمر منا الدخول في جدال واسع بشأن الدلالة اللغوية، ولكننا نتبنى هنا وجهة نظر محددة تقضي بأن الثورات التاريخية كان تأثرها بالانقطاعات أقل من تأثرها بالابتكارات الجديدة والتحولات الاجتماعية. وواضح أن العملية التي نحن بصدد معالجتها تتضمن يقينًا الكثير من هذه العوامل التي سوف نعرضها. موجز القول أن الحُجج المتعلقة بالانقطاعات التكنولوجية والتطور التكنولوجي، وخاصية الترابط المتبادل، وهو ما عرضنا له توًّا؛ جميعها من الأمور المسلَّم بها هنا. ولكن من المقرر أن التحولات الاجتماعية الناجمة بفعل هذه التطورات تتسم بالعمق والتلاحم بحيث تستحق أن نراها جزءًا من عملية الثورة التكنولوجية المتصلة.
ومفهوم الحزمة هو توسيع لهذه الفكرة، وهدفه الإشارة ليس فقط إلى أهمية التفاعل المتبادل بين الأفكار في عملية الابتكار والتجديد والتطوير، بل الإشارة كذلك إلى وجود علاقات اجتماعية داعمة، إذ يلزم لنجاح الابتكار أن يتجاوز حدود الفكر للتقنية الجديدة. إنه يستلزم مساندين يوفرون له رأس المال والأيدي العاملة والمهارات، ويحتاج أيضًا إلى ظروف تسويق مواتية، ويعتمد كذلك على بيئة يتوافر فيها مناخ مشجع بحيث يمكن حث وإقناع أصحاب المشروعات لتوفير الموارد والأسواق، دون خوف من وقوع اضطهاد سياسي أو ديني. وإن توافُر هذه المجموعة من الشروط معًا يؤلف حزمة من العوامل المُفْضية إلى ثورة تكنولوجية، بينما نقصها يجعل أي تطوير جديد أمرًا عسيرًا، إن لم يكن مستحيلًا. ونجد خير مثال على هذه الظروف السائدة في الصين المعاصرة، إذ تتوافر في الصين الرغبة في جني المنافع المادية للثورة التكنولوجية، ولكن دون أن يتوافر حتى الآن قدر كافٍ من الفهم لطبيعة الحزمة الاجتماعية اللازمة لتحقيق تلك المنافع. وليس معنى هذا أن الحزمة لا بد أن تكون هي نفسها دائمًا وفي كل مكان، إذ هناك يقينًا نطاق واسع جدًّا من الظروف التي تدعم التطوير خاصةً حين يكون الحافز مرتبطًا بقوة مع قضية الدفاع واحتمال اندلاع حرب. بيد أن هذه الظروف في أغلب الحالات العادية تشي بدرجة كبيرة من التحرر بحيث يجد المبتكرون وأصحاب المشروعات أسباب التشجيع اللازم. لذا فإن من الأهمية بمكان أن نكون على وعي بهذه الحزمة عند القيام بأي محاولة لفهم نجاح الابتكارات من عدمه.
وليسمح لنا القارئ بأن نوجز هنا رؤيتنا التي عرضناها في هذا الفصل: انطلقنا من افتراض أساسي في تناولنا لموضوع تاريخ التكنولوجيا، وهو أننا نعالج عملية الثورة التكنولوجية، بمعنى أننا بصدد سلسلة من التحولات المطردة والمترابطة على نحو وثيق جدًّا، والتي تجد دعمًا وتعزيزًا بفضل الابتكارات التكنولوجية، وأنها ذات طبيعة مميزة بحيث تغدو أساسية لتفسير خاصية تطور ونمو الحياة في مجتمعنا. ووضح عن يقين في ضوء حركة التاريخ أن هذه العملية مطردة منذ بضعة قرون؛ بدأت بطيئة ولكن ثابتة الخطوات منذ نهاية العصر الوسيط، ثم تسارعت على نحو مثير منذ القرن الثامن عشر. علاوة على هذا أننا سلمنا بأن الحضارة الغربية هي رائدة هذا التطور المتسارع، إذ راجت وانتشرت في كل أركان المعمورة على مدى القرون الثلاثة الأخيرة، بحيث يمكن النظر إلى الغرب باعتباره آلة أو محرك الثورة التكنولوجية العالمية منذ العام ١٧٠٠م. ويترتب على هذه الفروض القول إن موضوع دراستنا هذه ينطوي على أهمية حاسمة من أجل تفسير التاريخ المعاصر، وكذا لفهم مشكلات عالمنا المعاصر. وهكذا يضفي مفهوم الثورة التكنولوجية على الحقبة التاريخية منذ العام ١٧٠٠م طابعًا متلاحمًا، بحيث يجعل منها حقبة واحدة جديرة لأن نعمل على استكشافها وتحليلها.