النقل قبل عصر القطار
وجود شبكة نقل جيدة يمثل قَسَمة جوهرية مميزة لوجود مجتمع صناعي متقدم؛ إذ تسهل الشبكة الحركة السهلة لنقل البضائع والناس بتكلفة معقولة، وبأقصى قدر من الراحة. وليس لنا أن ندهش كثيرًا إذا عرفنا أن ظهور مثل هذه الشبكة العالمية للنقل كان عنصرًا بارزًا في التحول الذي أحدثته الثورة التكنولوجية خلال القرون الثلاثة الأخيرة. تتابعت التحسينات الواحدة تلو الأخرى في سلسلة من الإنجازات التقنية الرائعة التي يسَّرت نقل كميات هائلة من المواد الخام والسلع المصنعة، من وإلى جميع أقطار الأرض، وخفضت الوقت اللازم للسفر إلى بضع ساعات فيما بين أوروبا والأمريكتين وأقاصي الأرض على الطرف الآخر من الكوكب. وتغيرت آليات التشغيل مرارًا وتكرارًا مع التغير التكنولوجي السريع؛ إذ حدث التغير حيثما — وفقط حيثما — توافرت مجموعة المتطلبات والموارد والمشروع الاقتصادي، وحيثما تهيأت الظروف الاجتماعية السياسية لإحداث هذا التغيير. علاوة على هذا فإن التطور كان في المرة بعد الأخرى يفيد في تمهيد السبيل لتحسينات جديدة حلت محل التطور الأصلي، أو جعلته زائدًا على الحاجة. ونلاحظ على مدى عملية التغير المعقدة هذه أن العوامل البشرية والعارضة ظلت قائمة لا سبيل إلى تغييرها أو تخفيفها؛ فالأولويات الاستراتيجية لدى الحكام الطموحين، وتصورات المهندسين اللامعين تركت جميعها بصمتها على الإنجازات. هذا بينما بعض المخططات الإبداعية والقابلة للتطبيق والاستمرار — مثل فكرة عمل «السكك الحديدية الجوية»، وهي قطارات يدفعها فراغ جزئي داخل أنبوب أسطواني موجود بين القضبان — استُبعدت باعتبارها كارثة تجارية. وسوف نستعرض في هذا الفصل ثورة النقل حتى منتصف القرن التاسع عشر، وسوف نتابع الموضوع في الفصل التالي حتى وقتنا الحاضر.
كم هو عسير أن نتخيل عجز غالبية الناس عن الحركة والتنقل قبل حلول شبكات النقل الحديثة، خاصةً أن الروايات التاريخية التقليدية تميل إلى تأكيد أنشطة عدد قليل من التجار والإرساليات التبشيرية والجنود والمغامرين السياسيين وأمثالهم، الذين اعتادوا التنقل بحرية. بيد أن الغالبية الساحقة من الناس نادرًا ما ارتحلوا بعيدًا عن مجتمع القرية الذي وُلدوا فيه. ويصدق هذا حتى في المجتمعات التي لا يسودها نظام الرق وغير ذلك من قيود، مثل الفقر وحياة الكدح المتواصل، والتي أبقت على شعوبها رهينة مكان العمل. نعم ربما تحدث بين الحين والآخر زيارات للسوق المحلية في المدينة، أو رحلة خاطفة إلى عاصمة الإقليم، أو يتوافر إمكان الحج المقدس مرة واحدة في العمر، ولكن الغالب الأعم أن الحياة في غرب أوروبا كانت شبه جامدة منذ أن استقرت غزوات قبائل التيوتون والفايكنج حوالي العام ١٠٠٠ ميلادية. وساد بين الناس حتى أواخر القرن الثامن عشر نزوع إلى الاستقرار، ولو حتى بسبب الصعوبة المادية التي تحول دون الحركة والانتقال نظرًا لعدم وجود وسائل نقل موثوق بها. وحدثت سلسلة من الابتكارات الحاسمة والمذهلة غيرت من هذا الوضع. وتتابعت عمليات التغير تدريجيًّا على مدى مائتي عام، وتمثل في مجموعها جزءًا مهمًّا من عملية التصنيع والثورة التكنولوجية.
كان النقل البري داخل البلاد هو المشكلة الرئيسية. والملاحظ أن السفر والارتحال كان أيسر وأفضل بالنسبة لمن اعتادوا الحياة والسكنى قرب البحار أو الأنهار الصالحة للملاحة. واعتمد النقل البري في الداخل على الحيوانات والطرق، وحيثما تتوافر الخيل على الأقل للميسورين من أبناء المجتمع المحلي. وظلت الطرقات مهملة منذ عصر الإمبراطورية الرومانية. ويرجع هذا الإهمال لأسباب سياسية واجتماعية؛ ذلك أن الولايات الأوروبية خلال العصر الوسيط ومطلع العصر الحديث كانت تفتقر إلى الموارد، ولم يكن هناك سبب عسكري مُلح يدفعها إلى عمل شبكة طرق دائمة. هذا فضلًا عن أن مسئولية صيانة الطرق الطويلة كانت متروكة للسلطات المحلية ولمجتمعات القرية، وجميعهم تُعوِزهم المصلحة والخبرة لبناء طرق جيدة. والنتيجة أن غالبية طرق أوروبا كانت — في أحسن أحوالها — مرقعة متعددة الأشكال، مع محاولات متباعدة لوضع أساسات صالحة أو عمل سطح مُعبد مرصوف، وتبدو في غالب الأحيان عبارة عن ممرات مليئة بالحفر والمطبات، ويتعذر المرور فوقها حين يسوء الطقس. وهكذا كان من رابع المستحيلات نشوء أي شكل من أشكال مرور المركبات يمكن أن يتصف بالدوام. وكانت أي مركبات تبدو ثقيلة فظة للغاية مثل عربة ريفية بدولابين يجرها حصان، وذلك حتى تقوى على تحمل الأسطح الوعرة. معنى هذا أن حركتها بطيئة جدًّا، فضلًا عن أنها تتسبب في مزيد من تكسير سطح الطريق وزيادته وعورة؛ ولهذا اعتاد الناس الارتحال والتنقل على صهوات جيادهم، واعتادوا نقل بضائعهم في سلال مربوطة بالحبال فوق ظهور الخيل. وطَبَعي أنْ جَعَل هذا عملية نقل كميات كبيرة من السلع أمرًا باهظ التكلفة، بل شبه مستحيل. وكانت العربات، إن وُجدت، امتيازًا مقصورًا على الأمراء والنبلاء. وحتى هذه كانت بطيئة الحركة، وتعتمد على مساعدة فرق إضافية من الخيل أو الثيران لتقوى على جرها فوق ممرات طرق سيئة للغاية.
والمقارنة بين مشكلات النقل في الأرض المحصورة داخل قارة أوروبا ولا تطل على بحار، وبين سهولة الحركة نسبيًّا للمواطنين الذين يعيشون على شاطئ البحر أو على ضفاف أنهار كبيرة مقارنة تكشف عن فارق مذهل بين الوضعين. ونعرف أن القوارب ظهرت منذ فترة باكرة جدًّا كابتكار تكنولوجي في المجتمعات النهرية. وهيأت القوارب — مع تطورها المطرد — وسيلة فعالة لنقل الناس والسلع حيثما تسمح بذلك مجاري المياه الطبيعية. وكانت المراكب في المناطق المطلة على البحار كبيرة الحجم، فالسفن البحرية معروفة منذ أقدم العصور. ودخلت على عمليات بناء السفن تحسينات متوالية على مدى القرون، وتهيأت للمجتمعات الغربية فرص للمزيد من السيطرة على تقنيات الملاحة البحرية. واستطاعت السفن البحرية التي لم تكن بحاجة إلى وقود بعد الانتهاء من بنائها أن تحمل حمولات كبيرة عبر بحار العالم. وحققت هذه السفن ثروات تجارية مهمة، والتي لم يكن من الممكن من دونها بدء الثروة الصناعية، ولكن لم يكن لها إسهام مباشر في حل مشكلة النقل داخل البلاد، وربما لم يكن لها من أثر سوى مزيد من الإحباط الذي أصاب المنتجين داخل البلاد نظرًا لعجزهم عن نقل بضائعهم إلى السوق، الأمر الذي حفزهم إلى البحث عن وسائل لتحسين وضعهم.
قوبلت فكرة القنوات المائية التجارية بحماسة خاصة من جانب منظمي المشروعات المنتجة للسلع في المناطق الداخلية، مثل مصانع إنتاج الأواني الفخارية في ستافورد شاير وبرمنجهام. ولم تمضِ سوى بضعة عقود حتى كانت بريطانيا تمتلك شبكة واسعة من القنوات التي تربط جميع شبكات الأنهار الأساسية بعضها ببعض، وتهيئ سبلًا للوصول إلى البحر لغالبية المناطق المحصورة في الداخل، ولديها موارد لتطوير الصناعة فيها. وكان الفحم والحديد والطَّفْل الصيني والأواني الفخارية المصنعة والرمل والأواني الزجاجية والحبوب والأحجار وبالات القطن والصوف، كانت جميعها من بين الحمولات الضخمة التي يمكن أن تنقلها هذه الشبكة الجديدة وبطريقة ملائمة تمامًا. وهكذا أصبحت إضافة مهمة للغاية إلى مجموع النشاط الاقتصادي للبلاد، وأسهمت في التطور السريع لعمليات التصنيع في بريطانيا.
وتميزت القنوات المائية الأولى في بريطانيا بأنها من شئون المنفعة العامة، فلم يكد مسار القناة يتحدد وفقًا للقانون البرلماني حتى يتسنى للشركة القانونية أن تشتري الأرض إلزاميًّا، ولكن كان من الصعب جمع كميات رأس المال الضخمة اللازمة. معنى هذا أن القنوات المائية يجري إنشاؤها مع الالتزام بأدنى حد من الكماليات، فضلًا عن ضرورة الاقتصاد في الأعمال الهندسية؛ ولهذا كانت أكثرها قنوات «ضيقة» ذات أهوسة باتساع سبع أقدام، مما أدى إلى ظهور طراز مميز من المراكب الصغيرة القادرة على استخدامها. واتسمت مجاري هذه القنوات بالتعرج تبعًا لطبيعة الأرض التي تمر بها بهدف تحاشي إدخال تغييرات لا لزوم لها على مستوى القناة، علاوة على استخدام أنفاق بدلًا من حفر مجارٍ عميقة إذا ما اعترضت طريقها سلسلة من التلال يتعين اختراقها. وحرص القائمون على إنشائها على أن تكون المجاري غير مسامية بحيث لا يتسرب منها الماء، وذلك بأن يدكوا بداخلها أحمالًا من الطَّفْل، وهي العملية المعروفة باسم «التطيين»؛ أيْ سد المنافذ بالطين. وإذا ما اعترض طريقها مجرى نهر ويتعذر تجنبه يجري بناء قنوات اصطناعية حجرية لمد الخندق المغطى بطبقة من الطَّفْل.
وكان بناة القنوات المائية من العناصر المتميزة الجديرة بالتقدير، ويكفي أنهم أسهموا موضوعيًّا في خلق مهنة الهندسة في بريطانيا. واستخدم الدوق بريدج ووتر الميكانيكي جيمس بريندلي لبناء هذه القنوات، وسرعان ما كشف بريندلي عن عبقرية طبيعية تؤهله لهذا العمل، وأصبح أسطورة هندسية. كان بريندلي من نوع الإنسان العملي الذي يعنيه الهدف قبل المظهر، وهو من أصول متواضعة، رقيق الحال اجتماعيًّا، ولكنه بليغ الخطاب عندما تحدث إلى لجان البرلمان عن ميزات القنوات، وكشف عن تمكنه من أسس الهندسة التي تركز عليها عملية تشييد أول مجرًى مائي، وأول نفق مائي في بريطانيا. واقتدى به كثيرون ممن أصبحوا مهندسين متخصصين في هندسة القنوات المائية، وتدرب أكثرهم في خلال العمل معه في حفر تلك القنوات، ويرجع أكثرهم إلى أصول متواضعة؛ إذ كانوا ميكانيكيين أو عمال بناء بالأحجار أو غير ذلك من الأعمال الحرفية، على الرغم من أن القليلين منهم كانت لهم خلفية مهنية. ونذكر هنا روبرت ميلون، وهو مهندس معماري، وجون سميتون المتحدر من أسرة تعمل بالقانون. والجدير ذكره أن سميتون هو الذي جمع شمل هذه المجموعة العشوائية من الرجال ليشكلوا معًا أول تنظيم مهني للمهندسين، وهو «جمعية المهندسين المدنيين»، والتي لا تزال موجودة كنادٍ يتناول فيه كبار المهندسين البريطانيين الطعام، ولكن فورة بناء القنوات هي التي هيأت لهم عملًا دائمًا، كما هيأت لهم الفرصة ليميزوا أنفسهم كأصحاب مهنة جديدة.
وبلغت فورة بناء القنوات المائية في بريطانيا ذروتها في تسعينيات القرن الثامن عشر؛ إذ بحلول هذا الوقت أصبح يسيرًا جدًّا زيادة رأس المال اللازم لمشروعات بناء القنوات. وهكذا ظهر الجيل الثاني من بناة القنوات من رجال مثل جون ريني وتوماس تلفورد الذين استطاعوا أن ينجزوا إنشاءات على نطاق أكبر من سابقيهم، وحرصوا بوجه عام على أن يكون اتساع الهويس ضعف الهويس التقليدي الضيق، وشيدوا مجاري مائية حجرية ضخمة، وشرعوا في استخدام الحديد الزهر لمجرى القناة فوق دعامات حجرية ضخمة، واستخدموا أسلوب القطع والحصر لضمان استقامة مسار المجرى قدر المستطاع. وأمكن إحلال بعض القنوات محل القنوات القديمة الضيقة، ولكنهم بوجه عام قدموا إضافات مهمة إلى الشبكة الموجودة، ومن ثم هيئوا إمكان الوصول إلى مزيد من الأراضي الداخلية البعيدة بفضل وصول المجاري المائية الصناعية إليها.
وسرعان ما وجد المهندسون الجدد الذين نهضوا ببناء القنوات البريطانية عملًا بديلًا في مشروعات النقل خاصة في مجال تحسين الموانئ وأعمال الطرق؛ إذ كانت غالبية المرافئ مع مطلع القرن الثامن عشر مجرد أرصفة بسيطة مقامة على ضفاف ومصبات الأنهار، ولكن تعاظُم التجارة داخل الموانئ، مثل ميناءَي لندن وبريستول أدى إلى حدوث اختناقات حادة في هذه المرافق؛ إذ اعتادت السفن أن ترسو في لندن أيامًا طويلة في عرض النهر قبل أن تتمكن من تفريغ حمولتها، مما كان يجعلها ضحية خسائر ضخمة بسبب السرقات الصغيرة المتتالية. وجاء الحل بالنسبة لهذا الوضع وللمشكلات المترتبة عليه في صورة إنشاء أحواض سفن مغلقة مما يهيئ مزيدًا من إمكان عمل أرصفة ترسو إليها السفن في أمان وسط مياه دائمة الارتفاع. هذا علاوة على توفير مزيد من الأمان بفضل إنشاء مخازن كبيرة تحيط بها أسوار عالية. ونذكر من بين المهندسين الذين باشروا بناء أحواض السفن الكبيرة المغلقة على طول نهر التيمز عند منعطف القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر؛ كلًّا من جون ريني ووليام جيسوب وتوماس تلفورد. وتوافرت في ليفربول أحواض سفن مماثلة شيدها مهندسان محليان، هما توماس ستيرز وهنري بيري. وتبعتها بريستول إذ شيدت «المرفأ العائم» — وهو عبارة عن حوض مرتفع المياه عن طريق إقامة سدود تسد مسار النهر في وسط المدينة. وشيد هذا المرفأ وليام جيسوب في مطلع القرن التاسع عشر. وهكذا تهيأت الموانئ البريطانية الكبرى وتزودت بالمعدات اللازمة للتعامل بنجاح مع حركة المرور التجارية المتعاظمة باطراد، ولم يمنع هذا إدخال إضافات منتظمة على شبكة أحواض السفن المغلقة كلما دعت الضرورة.
وعمل المهندسون أيضًا في مجال تحسين الطرق البريطانية، غير أن مساهماتهم هذه تأجلت بعض الوقت بسبب مشكلات سبق أن أشرنا إليها والخاصة بزيادة الموارد اللازمة لبناء الطرق وصيانتها؛ ولهذا لم يكن ممكنًا النهوض بأعمال كبيرة في مجال إنشاء الطرق. وبدأت أول محاولة للتغلب على هذا القيد بأن تولت المسئولية جهات أخرى قادرة على تحمل الأعباء، وحققت بالفعل أول الأمر نجاحًا جزئيًّا في سبيل تحسين الطرق. وعُرفت هذه الجهات باسم «صناديق بوابات المكوس»، وتضم ملاك الأراضي المحليين، ومنظمي المشروعات الذين كانوا يحجمون عن إلزام أنفسهم بتحمل مبالغ مالية ضخمة؛ ولهذا بدت التحسينات الأولى ذات طبيعة شديدة التواضع. وطَبَعي أن الطرق الجديدة بحاجة إلى مشرف، وهو ما كان بالإمكان استئجاره للعمل من الإقطاعات المحلية. وقاومت الجهات المسئولة فكرة تعيين مهندس مهني يتولى المسئولية، ولكن إذا ما تعلق الأمر بأعمال هندسية خاصة ببناء جسر كبير مثلًا فقد كان تعيين مهندس أمرًا لا مندوحة عنه، ومن ثم توافق الجهات المسئولة على ضرورة البحث عن توجيه مهني جيد. هذا علاوة على أن بعض المشرفين اكتسبوا خبرة جيدة في مجال التقنيات الأساسية الخاصة ببناء الطرق. ونذكر هنا أنه عندما دعت الحكومة إلى توفير طرق عسكرية في مرتفعات اسكتلندا على سبيل المثال، فإن جنرال ويد عمد إلى تدريب مشرفين ومتخصصين في بناء الطرق من بين أعضاء الجيش، وأدى هؤلاء المهمة بمهارة في منتصف القرن الثامن عشر. وظهر أيضًا خبراء عصاميون دربوا أنفسهم، بل نجحوا في تخطيط مسارات عدد من الطرق الجيدة.
وتوافرت الموارد الحكومية أيضًا لتوماس تلفورد، سواء لبناء طريق هولي هايدرود ابتداءً من شروز بيري، أو لتنفيذ برنامجه المكثف لبناء مرافئ، وبناء قناة كاليدونيان علاوة على عدد من الجسور والطرق في اسكتلندا. وفضل تلفورد طريقة خاصة في بناء الطرق تشتمل على استخدام أساسات ثقيلة؛ الأمر الذي جعل هذا الطراز من الطرق المحسنة يفوق الطاقة المالية لأكثر مؤسسات بوابات المكوس، ولكن هبطت عليهم منة من السماء عندما تقدم مشرف اسكتلندي يُدعى جون لودون ماك آدم بتخطيط لشكل أسهل في عملية التشييد مما جعلهم يستغنون عن الأساسات الثقيلة التي اقترحها تلفورد. وتتألف هذه الطريقة من سطح خارجي أو قشرة كتيمة مصمتة تغطي مجرًى تحتيًّا جيد الصرف. وميزة هذا النوع من الطرق أن له فائدة إضافية يتفوق بها على النوع الذي اقترحه تلفورد؛ ذلك أن السطح هنا له قدر من المرونة، مما يجعله يتحمل أكثر من سطح طريق قائمة على أسس غير مطواعة. وسرعان ما تأكدت الحاجة إلى خبرة ماك آدم في كل أنحاء البلاد، وأصبح هو وأسرته بحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر مسئولين عن إنشاء طرق محسنة طولها مئات الأميال.
وهكذا بدا في الظاهر أن مشكلات النقل المزمنة التي تعاني منها حركة النقل داخل البلاد بدأ التغلب عليها في بريطانيا؛ إذ أنشئت شبكة من القنوات قادرة على نقل سلع ثقيلة إلى جميع أنحاء المملكة، علاوة على شبكة مقابلة من الطرق الدائمة التي سهَّلت حركة الناس والبضائع الخفيفة. زد على هذا أن الطرق المُحسَّنة هيَّأت فرصة لنقل الركاب. واغتنم هذه الفرصة أصحاب المشروعات الذين بدءوا في تقديم خدمات نقل الركاب عن طريق مركبات سريعة. وتطورت هذه الحافلات، إذ طرأت عليها تغييرات سريعة منذ منتصف القرن الثامن عشر، واستخدمت هذه المركبات دواليب مقعرة وزنبركات جيدة التحمل فضلًا عن تغييرات منتظمة في مجموعات خيول الجر، وهيأت لها هذه التحسينات إمكان الحركة بسرعات غير مسبوقة لمسافات طويلة، واعتادت أن تحمل البريد والركاب القادرين على تحمل أعباء مختلفة من العربات الأصغر حجمًا لأداء أغراض أخرى داخل المدينة أو الأقاليم. وأصبحت مهنة بناء هذه الحافلات والعربات صناعة حرفية مزدهرة. وبحلول العقد الثاني من القرن التاسع عشر تركز الاهتمام بجدية على أسلوب التنقل عن طريق استخدام قوة البخار لجر الحافلات الأكبر حجمًا، وظهرت تصميمات عدة لحافلات لا تجرها الخيل، وإنما تتحرك بقوة دفع البخار فوق الطرق، ولقيت هذه التصميمات قدرًا كبيرًا من الاهتمام على الرغم من حدوث حالات انفجار للغلايات بين الحين والآخر مما أفسد صورتها في عيون الناس، ولكن ظهرت عوامل أخرى بدأت تهدد مركبات السفر التقليدية، وتهدد المرور عبر القنوات آنذاك؛ ذلك أنه مع بداية العقد الثالث من القرن التاسع عشر بدأت الطرق والقنوات تعاني بقسوة من خطر شكل جديد للنقل، ويمثل منافسًا خطيرًا، وهو السكك الحديدية.
وسرعان ما استعادت الطرق مركزها واعتبارها بفضل المحرك داخلي الاحتراق، ولكن كانت هذه المنافسة هي القاضية تقريبًا على القنوات المائية بالنسبة لرخائها التجاري؛ إذ بعد فورة إنشاء القنوات في تسعينيات القرن الثامن عشر توقفت حركة الإنشاءات بسبب الحروب النابوليونية، ولكنها استؤنفت على نطاق محدود جدًّا بعد معركة ووترلو العام ١٨١٥م، واكتملت آنذاك عمليات بناء عدد من القنوات الكبرى مع عدد قليل من القنوات الجديدة، ولكن المستثمرين أحجموا عن رصد أموال للمشروعات الجديدة بعد أن طال انتظارهم لجني أي أرباح أو عوائد عن أسهمهم، وقنعوا بعد ذلك بالشبكة القائمة دون اهتمام بتحسينها أو حتى صيانتها. وكانت النتيجة أن أضحت القنوات في حالة يُرثى لها وعاجزة عن مقاومة المنافسة الجديدة من السكك الحديدية. وتدهورت حالة النقل، وخسرت الشركات المالكة للقنوات أموالها، ورأى أغلب المساهمين تعويض ذلك بالاتجاه إلى شركات السكك الحديدية أو التخلي عن كل شيء. ومع نهاية القرن التاسع عشر تضاءل شأن القنوات، وتوارت في الظل، واطردت حالة انهيارها بقسوة شديدة. وقيل آنذاك: لو أن القنوات بُنيت منذ الشروع فيها على نحو أوسع وأعمق لأمكن لها البقاء والاستمرار في أداء دورها لنقل السلع الثقيلة، علاوة على السكك الحديدية، أسوةً بما هو حادث في ألمانيا وإقليم الفلاندرز، ولكن مثل هذا الرأي يغفل طبيعة الظروف التي مرت بها القنوات المائية في بريطانيا، فضلًا عن أنه يفترض توافر موارد لم تكن متوافرة آنذاك، ويمكن القول إنها — بمعنًى من المعاني — تعاني من ظروف نشأتها وإبداعها أصلًا، وإن أفادت في تعليم الآخرين من بناة القنوات المائية كيف يمكنهم أداء دورهم بصورة أكثر اكتمالًا وشمولًا، ولكن يبدو من المحتمل أيضًا أن بريطانيا بحكم ظروفها كجزيرة منعزلة، وطوبوغرافيتها غير المستوية، هي أكثر ملاءمة لبناء شبكة من السكك الحديدية من عمل قنوات مائية اصطناعية، ولكن أيًّا كانت الأسباب، فقد انهارت القنوات المائية سريعًا فور بناء خطوط السكك الحديدية.
وجدير بالملاحظة أن السكك الحديدية في أول عهدها أفادت موضوعيًّا فائدة كبيرة من خبرة مهندسي القنوات المائية؛ ذلك أن المهندسين المدنيين المسئولين عن تشييد القنوات امتلكوا، مع مطلع القرن التاسع عشر، ناصية جميع تقنيات شق الطرق والأنفاق وبناء السدود، وجميعها أعمال ضرورية لعمل مسار مستقيم ومستوٍ إلى حد كبير للقناة. وطَبَعي أنها أيضًا أعمال ملائمة تمامًا لبناة السكك الحديدية، علاوة على التقنيات الإدارية لإقامة شركات قانونية وتنظيم مصانع البناء الضخمة، وزيادة وتوجيه قوًى عاملة مهاجرة كبيرة العدد. وحدث في حالات كثيرة أن كان المهندسون أنفسهم هم المسئولين عن القنوات وعن السكك الحديدية مما سهَّل نقل الخبرة المتراكمة. كذلك أفادت خبرة بناء الطرق رجال السكك الحديدية خاصة عندما كانت حافلات الركاب مطلوبة للسكك الحديدية. وها هنا اتجه المسئولون عن التصميم إلى المسئولين عن صناعة الحافلات، واستخدموا في الغالب العناصر نفسها المسئولة عن صناعتها. وإذا نظرنا إلى مجمل عملية التحول في مجال تكنولوجيا النقل في بريطانيا خلال العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر؛ نجد أمامنا صورة واضحة للإبداع التكنولوجي في ارتباطه خطوة خطوة بالتكنولوجيا الجديدة المتداخلة مباشرة مع التكنولوجيا القائمة في صورتها المكتملة، والتي تستعير منها الكثير من تقنياتها الأساسية. والخلاصة أن الأرض باتت مهيأة تمامًا لعصر السكك الحديدية الذي طلع فجره آنذاك.
وإذا كانت السكك الحديدية تمثل ابتكارًا مذهلًا في مجال تكنولوجيا القرن التاسع عشر، فإنها لم تكن شيئًا غير مسبوق برمتها؛ إذ كانت هناك قبل ذلك امتدادات لقضبان مزدوجة من الخشب أو الحديد الزهر داخل المناجم، ويسجل أجريكولا بعض هذه المسارات في رسومه التي يرجع تاريخها إلى منتصف القرن السادس عشر، ولكن الجديد هو الجمع بين مسار بقضبان حديدية مع قاطرة ميكانيكية في صورة محرك بخاري. وظهرت القاطرة ذات المحرك البخاري كتطبيق للبخار عالي الضغط. وكان المحرك ذو الضغط المنخفض هو المهيمن على سوق المحرك البخاري حتى العام ١٨٠٠م، وهو تاريخ انتهاء براءة اختراع بولتون ووات. وعلى الرغم من الخصائص المميزة لمحرك وات فإنه كان ضخمًا جدًّا بحيث يصعب نقله أو تحريكه، ومن ثم لا يلائم أغراض صناعة القاطرة. هذا على الرغم من أن وليام موردوخ نجح في صنع عربة ذات ثلاث عجلات ولها محرك بخاري صغير ناقل للحركة، ولكن وات ضاق بهذه التجربة، ولم يكن ثمة احتمال لتطويرها إلى مركبة ذات نفع. وظلت الحال على هذا الوضع حتى مطلع القرن التاسع عشر حتى نجح تريفيثيك في صنع ماكينة صغيرة عالية الضغط، وعمل على تنفيذها كقاطرة أو ناقلة للحركة فوق مسار لترام داخل منشآت منجم للفحم في جنوب ويلز. وواجه تريفيثيك مشكلات هائلة، مثال ذلك أن القضبان المصنوعة من الحديد الزهر كانت تتكسر من ثقل القاطرة، وأدت هذه المشكلات إلى التخلي مؤقتًا عن هذا النظام. ولم تبدأ القاطرة تحقق تقدمًا حقيقيًّا إلا في خلال العقد الثاني من القرن. ومرة أخرى جاء التطور الرئيسي داخل منطقة منشآت منجم الفحم؛ إذ وقعت أهم التطورات داخل حقول فحم تاينسايد البريطانية، فقد استطاع جورج ستيفنسون بالتعاون مع عدد من المخترعين العاملين في هذا الحقل أن يُدخلوا تحسينات حاسمة، من ذلك تحويل البخار الخارج من الأسطوانة إلى أنبوب عادم الفرن لزيادة قوة الدفع، وكذلك تقوية المسارات باستخدام عوارض حجرية أو مخدات على مسافات متقاربة. وهكذا استطاع ستيفنسون أن يضع محركه الناقل للحركة رقم ١ للخدمة الفعلية في سكك حديد ستوكتون ودارلونجتون وقت افتتاحها العام ١٨٢٥م. وبعد أربع سنوات نجح ستيفنسون وابنه روبرت في صنع قاطرة جديدة باسم الصاروخ، والتي أضحت نموذجًا للسكك الحديدية في ليفربول ومانشستر. وكانت هذه هي أول سكك حديدية كاملة في العالم وقت افتتاحها العام ١٨٣٠م؛ إذ ضمت قاطرات ركاب وقاطرات شحن تعمل وفقًا لجدول مواعيد منتظمة. وهكذا أهلَّ عصر السكك الحديدية.
الصاروخ، بأسطواناته المائلة خارج الإطار، يُمثِّل مرحلة انتقالية فيما بين القاطرات الأولى بأسطواناتها الرأسية داخل هيكل الماكينة، وبين القاطرات الأكثر كفاءة وفعالية، التي بدأ ستيفنسون في إنتاجها فورًا بأعداد كبيرة للسكك الحديدية الأولى في العالم. وأخذت أسطوانات هذه الماكينات آخر الأمر النمط الأفقي، وهو ما أصبح أسلوبًا عامًّا؛ إذ كانت توضع في البداية داخل الهيكل تحت الغلاية لنقل الحركة إلى محور له ذراع، ولكن وُضعت بعد ذلك خارج الهيكل مع ربطها بعجلات الدفع بواسطة أذرع «كرنكات» خارجية. وبهذه الصورة بدأت القاطرة البخارية قرنًا من التطوير المفيد دون التخلي عن شيء مهم من النظام الذي وضعه جورج وروبرت ستيفنسون. وزادت المحركات زيادة ضخمة من حيث الحجم والقوة، ولكن القاطرات البخارية التي لا تزال تنتجها جمهورية الصين الشعبية، وهي آخر معاقل القوى البخارية في السكك الحديدية، كانت على النمط الرئيسي نفسه مثل تلك التي نفَّذها ستيفنسون في ثلاثينيات القرن.
وحدد آل ستيفنسون أيضًا العرض المعياري لمسار خط السكك الحديدية بحيث يكون ٤ أقدام و٨.٥ بوصات، وهو العرض المعياري لمسار تاينسايد في منشآت الفحم حيث قاموا بأول تجاربهم. ونظرًا لأنهم تولوا هندسة العديد من خطوط السكك الحديدية البريطانية في عهدها الباكر، مثل سكك حديد لندن وبرمنجهام، فقد أكدوا أن هذا المقياس هو المقياس المعياري لكل المسارات التي تمت بعد ذلك. وطَبَعي أنه في ظل ظروف السوق الحرة التي تطورت خلالها خطوط السكك الحديدية في بريطانيا؛ لم يكن هناك إلزام للشركات بأن تلتزم بمقياس العرض نفسه؛ ولهذا حاولت شركات عدة أن تختار مقاييس عرض مغايرة، سواء أكبر أم أصغر، ولكن خط السكك الحديد القومية الوحيد الذي بدأ بمقياس العرض المعياري الذي حدَّده ستيفنسون هو خط السكك الحديد الغربية العظمى الممتد من لندن إلى بريستول، ثم إلى الجنوب الغربي. وتحت تأثير مهندسها الشاب اللامع آي تي برونيل بُني هذا الخط على مقياس عرض «أعرض» بلغ سبع أقدام؛ إذ كان برونيل يتطلع إلى خدمة مركبة ركاب سريعة «إكسبريس»، وليس خط سكك حديدية خاص بمنشآت مناجم الفحم، ووضع حساباته لهذا الشأن. ورأى أن تحقيق هذا الهدف لا يستلزم فقط مسارًا مستويًا للغاية، وهو ما نفَّذه بالنسبة للقطاع الأكبر من الخط الرئيسي، بل يستلزم كذلك مقياس عرض واسعًا يمكن أن يعوض عن حالة المرونة الضعيفة لضغوطات الزنبركات المتاحة آنذاك للمعدات الدارجة على الخط الحديدي. وهكذا تبنى أهدافًا معقولة ونجح تمامًا في إنجازها، ولكن الفاصل في مقياس العرض في مسار السكك الحديدية الغربية العظمى، كشبكة قومية، وفي خطوط أخرى، سرعان ما تبين أنه كارثة تجارية. وترددت الحكومة في التدخل لمنع إنشاء خطوط أخرى تلتزم بالانحراف الذي حدث في مقياس عرض خطوط السكك الحديدية الغربية العظمى، ولكن ضغط المنافسة من جيران ومنافسي هذه الخطوط أجبرها على التحول والعودة إلى مقياس العرض المعياري في العام ١٨٩٢م.
وصدَّر آل ستيفنسون مقياس العرض المعياري إلى أوروبا نظرًا لدعوتهم لبناء أول خط حديدي في بلجيكا وفرنسا، ولكننا نجد تنوعًا أكثر في بلدان أخرى. مثال ذلك مقياس عرض أوسع قليلًا جدًّا في أيرلندا.
واستخدمت خطوط السكك الحديدية في الهند مقاييس عرض متعددة، ولا تزال هناك حتى اليوم مقاييس مختلفة لخطوط السكك الحديدية في الولايات المتحدة وكندا، كما أن الولايات الأسترالية تنفذ مقاييس عرض متنافرة إلى حد ما، ولكن باستثناء الأخطار والعقبات الناجمة عن التغييرات في مقياس العرض، فقد أثبتت خطوط السكك الحديدية نجاحًا باهرًا على مدى أكثر من مائة عام لتوفير شبكة نقل شملت كل أنحاء المعمورة. وأزاحت هذه الشبكة النقل البري والمائي عن وضع الهيمنة الذي تهيأ لهما بحلول العام ١٨٣٠م، وأصبح لشبكة السكك الحديدية أثرها القوي في تحول المجتمعات التي تنعم بخدماتها. ونعود لنقول كانت بريطانيا مهد الخبرة المتحققة عن هذا التحول؛ لأنها كانت الحاضنة لخطوط السكك الحديدية الوليدة، وهيأت سبل تطوير التقنيات الجديدة مع إمكانات اختبارها فيما بين العامين ١٨٣٠م و١٨٥٠م. ولم يتوانَ المهندسون البريطانيون عن استثمار الطلب المتزايد على خبرتهم في بناء خطوط السكك الحديدية في أنحاء أخرى من العالم، وأن ينشروا منافع هذه الشبكات عبر البحار.
ولم يبدأ بناء الخط الرئيسي للسكك الحديدية في بريطانيا إلا خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ولكن بحلول منتصف القرن كانت الشبكة كلها كاملة. واستلزم هذا الإنجاز أولًا وقبل كل شيء زيادة غير مسبوقة في رأس المال المتاح للاستثمار الجديد. وقدم مستثمرون أفراد القسط الأكبر منه. ويشير هذا إلى تراكم الثروات في الاقتصاد البريطاني مع منتصف القرن التاسع عشر، كما يشير إلى حذر المستثمرين الذين عزفوا في السابق عن تقديم مواردهم للاستثمار الذي ينطوي على قدر من المضاربة. وهكذا كانت فورة انتعاش السكك الحديدية بمنزلة خط فاصل نفسي اتسمت به المواقف تجاه استخدام الثروة، وأدت إلى خلق سوق رأسمالية أكبر حجمًا، وأكثر مرونةً من تلك التي كانت في السابق. واستلزم هذا الإنجاز ثانيًا بُعدًا هندسيًّا جديدًا؛ فالمعروف أن خطوط السكك الحديدية تولى بناءها أساسًا مهندسون مدنيون هم خلفاء سميتون وتلفورد وآخرين ممن تولوا مسئولية بناء شبكة القنوات المائية، ولكن الملاحظ في ظل ظروف فورة الانتعاش خلال العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر زاد الطلب عن العرض، وحشد الرجال من مهن وصناعات أخرى ليزينوا النشرات الأولية الداعية إلى المساهمة، ولكي تكون تلك الإنجازات عملًا يستهوي لجان البرلمان.
علاوة على هذا، ومع اكتمال الطريق الدائم، حدث تحول في الشروط الهندسية؛ إذ إن السكك الحديدية، على خلاف القنوات المائية، لا يمكن أن تقع فريسة للإهمال، كما أن الحاجة الملحَّة المستمرة لقاطرات جديدة وللمعدات الدارجة على خطوط السكك الحديدية، كل هذا أدى إلى ظهور جيل جديد من مهندسي السكك الحديدية الذين كانوا في الأساس مهندسين ميكانيكيين. حقًّا كان هناك مهندسون ميكانيكيون بين الأعضاء المؤسسين لمؤسسة المهندسين المدنيين، واستمر كثيرون في الانضمام إليها كأعضاء، ولكن بحلول العام ١٨٤٧م تأكدت الحاجة إلى تشكيل رابطة لمهندسي السكك الحديدية، وترتب على هذا تشكيل مؤسسة المهندسين الميكانيكيين، وكان جورج ستيفنسون أول رئيس لها. وعلى الرغم من أن هذه الرابطة الجديدة لم تكن مقصورة فقط على السكك الحديدية فقد هيمن عليها مهندسون عاملون لدى شركات السكك الحديدية، وكان أكثرهم يعملون في ورش السكك الحديدية الجديدة الكبرى، والتي اضطُرت جميع الشركات إلى تأسيسها لضمان الصيانة الكافية وتجديد المعدات، وأصبحت ورش السكك الحديدية هذه بمنزلة مصانع كبرى لإعداد المهندسين، ولتطوير الماكينات وتقنيات الإنتاج الكبير. وأفاد هذا كله فروعًا أخرى للهندسة، مثل هندسة صناعة السيارات والطائرات في مرحلة تالية.
وبينما كان توفير رأس مال جديد، وإنشاء منظور هندسي جديد نتيجتين ضروريتين ترتبتا على فورة انتعاش حركة بناء السكك الحديدية، فقد كانت هناك أيضًا نتائج اجتماعية مختلفة نبعت منها، نذكر من بينها سرعة وشدة التطور الحضري، ونوع العلاقات الاجتماعية القائمة عليها، وهذه نتائج من الأهمية بمكان، لذا سنعود إليها مرة أخرى في فصل تالٍ، ولكن الجدير ملاحظته في إطار ظهور وتطور حركة النقل بالسكك الحديدية الطبيعة العامة والبعيدة المدى لأثرها في المجتمع. لقد وفرت خطوط السكك الحديدية مرفقًا جديدًا وفريدًا للنقل الشخصي الذي حظي بتقدير كبير ليس فقط في البلدان الصناعية المتقدمة، بل أيضًا في بلدان أخرى مثل الهند. وأدى هذا بدوره إلى نشوء الحاجة إلى خدمات السكك الحديدية، مثل تشييد مبانٍ للمحطات وبوفيهات وتوفير مطبوعات للقراءة. وليس من قبيل المبالغة القول إنه مع نهاية القرن التاسع عشر دخلت السكك الحديدية في نسيج خيال أكثر سكان العالم خلال فترة وجيزة، على عكس الحال بالنسبة لأي ابتكار تكنولوجي سابق.