كلب سابع
لم يكن ثمة شيء غير اللون الأبيض ممتدًّا على مرمى البصر، فقد كان الثلج والجليد يغطيان كل شيء أميالًا وأميالًا، وبدا المكان أكثر وحشة بسبب الأشجار التي أسقطت عنها الرياح الشديدة أوراقها. لذلك كان من الصعب أن يصدق المرء أن هناك من يقدر على العيش في ذلك المكان؛ أي في برِّيَّة الشمال الموحشة القاسية.
كان قطيع من الكلاب يجر مزلجة على طول النهر المتجمد في بطء شديد، وكان هناك شخص يسير أمام الكلاب وآخر خلف المزلجة، وكانوا جميعًا يتحركون حركة بطيئة؛ إذ كان السير على هذه الأرض ضربًا من الصعوبة.
كان الرجلان يرتديان أحذية ثلوج واسعة ومعاطف كبيرة ثقيلة وقبعات وقفازات من الصوف، وقد تجمدت أنفاسهما في الهواء لتغطي رموش أعينهما ووجنتيهما بطبقة من البلورات الثلجية، ولم تكن هناك أي أصوات غير أصوات وقع أقدامهما على الثلج. شعر الاثنان بالوحشة الشديدة في هذه الأرض البيضاء القفار، وبدآ يشعران بالقلق من أنهما قد لا يصلان مطلقًا إلى حدود المدينة التالية.
قرعت آذانهما صرخة خافتة في ذلك الهواء الساكن، ثم لم تلبث أن تلاشت تدريجيًّا في الوقت الذي تصاعد فيه صدى صرخة أخرى. أدار الرجل الذي يقود الركب رأسه لينظر إلى صديقه. كانت الصرخات آتية من مكان ما خلفهما.
قال هنري الذي يقود الركب: «أعتقد أنها تتعقبنا يا بيل.»
رد بيل وقد بدا عليه القلق: «أعلم ذلك. اللحوم هنا نادرة للغاية، فأنا لم أر أرنبًا منذ أيام.»
واصل الرجلان السير في صمت، ينصتان إلى عواء الذئاب من خلفهما، وقد أدركا أن هناك أسبابًا كافية للشعور بالفزع؛ فقد كانت مجاعة شديدة تجتاح البرية.
كان قطيع من الذئاب البرية يجوب الأرض منذ أسابيع بحثًا عن الطعام، وكان فرد جديد في ذلك القطيع هو من أدرك وجود الرجلين وفريق الكلاب الذي يجر المزلجة، وكان هذا الفرد كلبة حمراء قد تركت قرية الهنود الحمر التي تنتمي إليها عندما بات الطعام نادرًا، لذلك كان مرأى البشر ورائحتهم مألوفة لها.
كان النهار قصيرًا جدًّا في فصول الشتاء في الشمال، ولما أرخى الليل سدوله، قاد الرجلان الكلاب والمزلجة قرب بعض الأشجار، وأوقدا النار بعد ذلك، ثم بدآ في تناول العشاء. كان بيل وهنري قد سافرا في رحلات عدة على طول ذلك النهر، وكانا معتادين على السفر أثناء ساعات النهار القليلة وعلى نصب المخيمات إذا جنَّ الليل. مع ذلك كله، كانت هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، فقد زاد قلقهما في هذه الرحلة بعينها لمّا كانت الذئاب تتعقبهما عن قرب فيها.
تجمعت كلاب المزلجة على الجانب الآخر من النار وقد شرع كل منها يهِرُّ في وجه الآخر ويدفعه دون أن يبدي أي منها أي نية للهرب في جنح الليل، فقد أدركت جميعها أن النار هي الدفء والأمان داخل البرية.
بعد أن أطعم بيل الكلاب، عاد ليتناول عشاءه. ناوله صديقه طبقًا من الفاصوليا.
قال بيل: «هنري، كم عدد الكلاب التي معنا؟»
رد هنري: «ستة. لمَ؟»
– «أخرجت ست سمكات لإطعامها لكنها لم تكن كافية لإطعام الكلاب جميعًا.»
قال هنري: «لا بد أنك أخطأت في عدّ السمك.»
قال بيل: «لا، لا، كان بحوزتي ست سمكات، وكانت هناك سبعة كلاب. وقد رأيت واحدًا منها يهرب بعد أن أخذ سمكة.»
– «إذن فأنت تظن أنه كان …»
قطع كلام هنري صرخة أخرى دوت في قلب الظلام، فجلس الاثنان في سكون تام منصتين إلى الصرخة. بدأت علامات الهلع تظهر على كلاب المزلجة في الوقت الذي أحاطها فيه عواء الذئاب. ألقى بيل بمزيد من الخشب إلى النار.
أشار هنري إلى الظلام: «فأنت تظن أن الكلب السابع كان ذئبًا من ذاك القطيع؟ لا شك أنه شديد الشجاعة ليقترب منا على هذا النحو.» أومأ بيل برأسه قائلًا: «لكنه لم يبدُ ذئبًا في عيني، بل أشبه بالكلاب منه إلى الذئاب.»
قال هنري: «كلب! وما الذي يفعله كلبٌ هنا؟»
شرع بيل في الرد، لكن أوقفه فجأة ظنه أنه رأى شيئًا ما يتحرك على مقربة شديدة من ضوء النار. دفع بيل هنري بكوعه ليجذب انتباهه إليه، ثم كان أن أطال الاثنان النظر في الظلام ليريا عيونًا — أزواج كثيرة من العيون — تحدق فيهما.
كانت الكلبة الحمراء تتقدم قطيع الذئاب البرية، وكانت قد قضت ساعات عديدة بالقرب من نار المخيم، وذاقت شعور الدفء والراحة الذي تبعثه النار فيمن يقترب منها. مع ذلك، كان لهب النار يبث الرعب في قلوب الذئاب؛ فقد كانت النار مرادفًا للخطر داخل البرية؛ بل كانت شيئًا يجب تجنبه تمامًا. غير أن ذئاب ذلك القطيع كانت تتضور جوعًا، فحذت جميعًا حذو الكلبة الحمراء، وحاولت أن تقترب من النار.
قال هنري: «تأكد من طلقات الرصاص يا بيل. انظر كم بقي منها معنا؟»
رد بيل: «ثلاث، بقي معنا ثلاث طلقات فقط.» أدرك الرجلان أنهما في مشكلة كبيرة دون أن ينطق أي منهما ببنت شفة.
حاول الاثنان أن يظلا مستيقظين لكنهما كانا منهكين، وقد أدركا كذلك أن اليوم التالي سيكون على الدرجة نفسها من الصعوبة وأنهما سيحتاجان إلى قدر كبير من الطاقة لمواصلة السفر فوق الجليد. لذلك، دخل كل منهما حقيبة نومه، وناما وهما على يقين من أن نار المخيم ستبقي الذئاب بعيدًا عنهما.